على الرغم من شهرة اسم أوغسطينوس كأحد أعظم آباء الكنيسة وتناثُر أقواله في العظات وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن قليلون هم من يعرفون ما علّمه أوغسطينوس حقًا. وترجع أسباب ذلك أولًا إلى غزارة وضخامة كتاباته. فقد كتب أكثر من ثمانين كتابًا تراوحت أحجامها ما بين صفحات قليلة ومجلدات ضخمة. كما أن المكتبة العربيّة بصفة عامة هي مكتبة فقيرة تعيش على بعض الكتابات التي لا يميل أغلبها للطابع الأكاديمي الدقيق.
وثالثًا، هو عزوف الكثير من القرّاء عن قراءة كتابات الآباء ظانين أن لا علاقة لها بصراعاتهم الفكريّة وقضاياهم المعاصرة. والسبب الرابع والأهم، هو أن هناك حربًا تُشن ضد بعض كتابات وتعاليم أوغسطينوس والتي تتشابه مع الكثير من العقائد الأصيلة للإصلاح الإنجيلي، خاصة تعاليمه عن الخلاص والنعمة وحريّة الإرادة في صراعه مع بلاجيوس ويوحنا كاسيان.
هذا المقال هو محاولة لتوضيح ما علّمه أوغسطينوس حقًا عن الخلاص، وتصحيح بعض الأفكار المغلوطة والاتهامات غير الدقيقة عنه، من خلال الإجابة على بعض الأسئلة الهامة.
1. هل أنكر حريّة الإرادة؟
آمن أوغسطينوس بأن الله خلق الإنسان حرًا على صورته، لكنه ميّز بين حرية الإنسان قبل وبعد السقوط. فبحسب أوغسطينوس، إنسان ما بعد السقوط لا يقدروا سوى على أن يُخطئ. فصحيح أنه بعد السقوط لا يزال حرًا ليختار ما يشاء، لكنه أصبح لا يختار سوى الشر.[1] هو لا يقدر، لأنه لا يريد، كما أنه لا يقدر أن يريد من ذاته.[2]
ويعود السبب في ذلك إلى أن مشيئة الإنسان وإرادته أصبحت تتبع قلبه الذي فسد بالسقوط. أو كما قال توماس كرانمر، “إن ما يحبه القلب، تختاره الإرادة، ويبرره العقل.” وليس معنى ذلك أن يعمل الإنسان الشر بالضرورة؛ ولكن يعني أن حتى الخير الذي يعمله الشخص، هو خطأ في منطقه، وفي دوافعه وفي تطبيقه.
هذا الأمر لا يؤكده لنا الكتاب المقدس فقط في الكثير من المواضع،[3] لكن خبرتنا البشريّة كذلك تُقرّ، عن خبرة مريرة مرة تلو الأخرى، أن الإرادة ليست دائمًا هي سيدة قرارها.[4] فالسقوط في فكر أوغسطينوس، أشبه بحادثٍ فيه كُسر جناح عصفور. فالعصفور لم تُسلب حريته إنما أصبح غير قادر سوى ألا يطير.
لذا، فإن مفهوم النعمة لدى أوغسطينوس ليس أن الله يُسلب الإنسان إرادته ليُخلّصه رغمًا عنه، ولكن أن يُرَد للإنسان إرادته التي سُلبت منه في السقوط ليختار الله ويختار الصلاح! إنه ينزع عن الإنسان قلبه الحجري ويعطيه قلبًا جديدًا به يقدر أن يحب الله ووصاياه.[5] ي كتابه، نشأة التقليد الكاثوليكي، يُلّخِص ياروسلاف بيليكان مفهوم أوغسطينوس للنعمة على أنه: “معرفة الصلاح، والفرح في فعل الصلاح، والقدرة على إرادة الصلاح.”[6]
2. ماذا علّم عن النعمة والإرادة البشريّة؟
بناء على ما سبق، بحسب أوغسطينوس، كما يقول برادلي جرين: “لا يقوم الإنسان الساقط بأي تحرّك نحو الله، بعيدًا عن نعمة الله!”[7] فقد علّم أوغسطينوس بأن النعمة الإلهيّة تسبق الإيمان وتسبق أي استحقاق بشري. أي أن الله لا يتدخّل لخلاص الخطاة كرد فعل منه على أي صلاح أو حتى إيمان لديهم، إنما نعمة الله هي صاحبة المبادرة الأولى في تجديد الإنسان.[8] فيقول أوغسطينوس:
اسمع المسيح القائل: ليس أحد يأتي إليً ما لم يجتذبه الآب الذي أرسلني. لا يمكنك أن تُقبل إلى المسيح إلا مجتذباً… وإياك ان تقول جئت حراً بإرادتي… لا يسعك أن تذهب إلى المسيح ما لم يجتذبك الآب إليه… لأن الله هو الذي يعمل فيك الإرادة والعمل على حسب مشيئته.[9]
ويُقدم ألبرت أوتلير تعريفًا هامًا عن لاهوت أوغسطينوس قائلًا:
إن الموضوع الرئيسي في جميع كتابات أوغسطينوس هو سيادة إله النعمة ونعمة الله السياديّة! فالنعمة، بالنسبة لأوغسطينوس، هي حريّة الله أن يعمل دون الحاجة لأي عنصر خارجيّ على الإطلاق- أن يعمل في محبة تتجاوز فهم وسيطرة البشر… والنعمة هي محبة الله وإحسانه غير المستحقة، والحافظة، والمستمرة. وهي تلمس أعماق قلب الإنسان وإرادته.[10]
الإيمان هبة من الله
بالنسبة لأوغسطينوس حتى “الإيمان الذي به نحن مسيحيون [حقيقيون] إنما هو هبة الله.”[11] كما أنه يدافع عن ذلك بقوله: “إن قول إن النعمة هي من الإيمان، يجعل من الإيمان نوعًا من العمل. ولكن يسوع يقول إن الإيمان نفسه هو عمل الله [يوحنا 6: 28].”[12]
ويقدّم أوغسطينوس، في كتابه “عن التعيين المسبق”، العديد من النصوص والشخصيات الكتابيّة التي تُثبت أن الإيمان هو هبة الله [مثل رومية 11: 35؛ فيلبي 1: 29؛ كورنثوس الثانية 3: 5]. كما قدّم بولس كمثال لشخصٍ غيّرته النعمة، فيقول: “ليس فقط من شخص رافض أن يؤمن إلى مؤمن راغبٍ ويريد [A willing believer]، ولكن أكثر من ذلك، من مُضطهد إلى شخص يتكبد آلام الاضطهاد دفاعًا عن الإيمان الذي اضطهده قبلًا. لأن المسيح أعطاه لا فقط أن يؤمن به، بل أيضًا أن يتألم لأجله.”[13]
كما شرح ذلك لمعارضيه مستخدمًا أمثلة من حياة المسيحيين اليومية. فأشار إلى أن المؤمنين يُصلّون دائمًا أن ينمو إيمانهم، كما ويُصلّون عسى أن يُمنح الإيمان لغير المؤمنين، ويستخلص من ذلك قائلًا: “لذلك الإيمان في بدايته أو في نمّوه هو عطيّة الله.”[14] ويتساءل مستنكرًا: “لا أفهم لما لا يُنسب [الإيمان] كله إلى الإنسان؛ فمن استطاع أن يولِد لنفسه ما لم يكن لديه من قبل، يمكنه هو نفسه أن يُنمّي ما قد استهله؟!”[15]
النعمة والاستحقاق
وبناء على أن الله هو صاحب المبادرة وواهب الإيمان، فإن النعمة التي تعتق الإرادة البشريّة، يصفها أوغسطينوس بثلاث صفات هي: أنها حصريّة [تجاه من أحبهم الله وعيّنهم مُسبقًا للخلاص]، ولا تُقاوَم،[16] وسرائريّة [أي لا يمكن فحصها]![17] فيكتب قائلًا:
إياك أن تقول استحققت فأخذت. ولا تعتقد بأنك أخذت لأنك استحققت، أنت الذي، لو لم تأخذ أولًا لما كان بوسعك أن تستحق. سبقت النعمة استحقاقاتك، وليست النعمة من الاستحقاق، بل الاستحقاق هو من النعمة. لو صدرت النعمة عن الاستحقاق لكنت اشتريت ما اخذته ولما كان بلا ثمن. اعتصم بالإيمان ما اعطي لك أن تعيش، ولا تشك في عدل الله…. وستقتنع متى اكتمل إيمانك بأن ليس في الله ظلم… إن ما تعجز عن رؤيته في عهد الإيمان سوف تشاهده في زمن الرؤية. ومتى بلغت إلى المشاهدة رأيت عدل الله؛ وما عاد لك أن تقول: لم يلاطف هذا دون ذاك؟ … ولما يتوب هذا في مرضه مع أنه عاش في الإثم فتغفر خطاياه؟ تبحث عن الاستحقاق فلن تجد سوى العقاب، وتبحث عن النعمة: فيا لعمق غنى الله.[18]
أهمية هذا التعليم
كان هدف أوغسطينوس من هذا التعليم لا أن يكون بذرة لشجارات فلسفيّة، وإنما أن يكون انعكاسًا لما يُعلّمه الكتاب المقدس. فأهميّة هذا التعليم إنما ترجع لكونها تكشف موطن ضعف الإنسان الحقيقي وموطن قوته الحقيقي. فموطن ضعفه ليس في البيئة أو الظروف الخارجية، ولكن ضعفه أقرب إليه وملتصقًا به أكثر مما يتخيل، فهو قلبه!
إن هذا التعليم يسلب من الإنسان كل افتخار زائف وتباهي كاذب، وتعطي كل المجد للنعمة وحدها. وبالتالي فهو حق مفعم بالرجاء والأمل لكل مؤمن خارت قواه وهزمته الخطيّة، ألا يظل منحصرًا في ضعفه، بل أن يحوّل عينيه على مصدر القوة الوحيد. إنها رسالة أمل لكل خادم دب في قلبه اليأس من قلوب مقفلة فاترة، كما دب الرجاء في قلب بولس حين واجه مقاومة شديدة في كورنثوس، فسمع كلمات الرب المشجعة له أن يستمر رغم قساوة القلوب، والسبب: “لأَنَّ لِي شَعْبًا كَثِيرًا فِي هذِهِ الْمَدِينَةِ.” (أعمال الرسل 18: 10)