بُنية الرسالة إلى العبرانيين ومحتواها

YouTube player

 


المقدمة


غالباً نجد أنفسنا أمام ظروف تولّد فينا الرغبة في إقناع الناس بأن يتّفقوا معنا حول أمرٍ ما. وثمّة طرق عديدة للقيام بذلك، لكن إحدى أنجح هذه الطرق هي أن نبني قدر المستطاع على المعتقدات المشتركة بيننا. ثمّ، على قاعدة هذه الأرضيّة المشتركة، نحاول أن نقنعهم بالمسائل الأخرى. من عدة نواحٍ هذا ما فعله كاتب الرسالة إلى العبرانيين. فقد كتب إلى كنيسة كانت مجرّبة بالعودة إلى التعاليم التي اعتقد بها المجتمع اليهودي المحلّي لكي تبقى في مأمن من الاضطهاد. وبهدف إقناعهم بالبقاء أمناء للمسيح، بذل الكاتب جهده لصياغة قضيّة مبنيّة على المعتقدات المشتركة بينه وبين مستلمي رسالته.

هذا هو الدرس الثاني في سلسلتنا الرسالة إلى العبرانيين وقد وضعنا عنوانًا لهذا الدرس هو “المحتوى والبنية”. سننظر في هذا الدرس كيف اتبع الكاتب هذه الاستراتيجيّة المُقنعة وهو يحضّ قرّاءه على تجديد عهدهم مع المسيح.

ينقسم درسنا حول محتوى وبنية الرسالة إلى العبرانيين إلى قسمَين. أوّلاً، ننظر في المحتوى المتكرّر الذي يظهر في كلّ قسمٍ رئيسيٍّ من الرسالة. ثانيًا، نستكشف البنية الإنشائية الأدبية للعبرانيين، وكيف وظّف الكاتب هذه العناصر المتكرّرة في تقديم إيضاحاتٍ مقنعة. لننظر أوّلاً إلى المحتوى المتكرّر في الرسالة إلى العبرانيين.

 


المحتوى المتكرر


قمنا في درسنا السابق، بتلخيص القصد الرئيسي من الرسالة إلى العبرانيين بهذه الطريقة:

كان هدف كاتب العبرانيين أن يحضّ مستلمي رسالته على نبذ التعاليم اليهوديّة المحلّيّة وعلى بقائهم أمناء ليسوع.

في هذه المرحلة من درسنا، سننظر كيف تمّم الكاتب قصده بالرجوع إلى العناصر عينها مرّة تلو المرّة.

نظرة عن كثب إلى المحتوى المتكرّر في الرسالة إلى العبرانيين تُظهر لنا أنّ الكاتب قد حقّق قصده الرئيسي من خلال تكراره لثلاثة عناصر أساسيّة. أوّلًا، لفت النظر إلى أنّ التاريخ وصل إلى أيّامه الأخيرة في يسوع. ثانيًا، قدّم الكاتب دعمًا كتابيًّا من العهد القديم لهذا الاعتقاد. ثالثًا، أعطى مستلمي رسالته عددًا من التحذيرات للثبات في إيمانهم المسيحي. لنبدأ بإيمان الكاتب بأنّ الأيّام الأخيرة قد جاءت في يسوع.

الأيام الأخيرة في يسوع


غالباً، عندما يسمع أتباع المسيح عبارة “الأيام الأخيرة”، تحملهم أفكارهم مباشرةً إلى أحداث متعلّقة بعودة المسيح في مجده. كثيرون منّا صرفوا وقتاً ومجهوداً كبيراً في محاولةٍ لفهم أحداثٍ مثل الضيقة العظيمة، والاختطاف، والمُلك الألفي. لكن حين نتكلّم عن “الأيام الأخيرة” في الرسالة إلى العبرانيين، في ذهننا ما هو أبعد بكثير من أحداث متعلّقة مباشرة بمجيء المسيح ثانية.

غالبًا ما يشير اللاهوتيون المسيحيّون إلى تعليم الكتاب المقدّس عن الأيّام الأخيرة بالتعبير “إسكاتولوجي أو الأمور الأخيرية”. وهذا المصطلح العلمي مشتقّ من الاسم اليوناني إسخاتوس (ἔσχατος) والذي يعني “الأخير” أو “النهائي”. والأمر المثير للاهتمام هو أنّ مصطلح العهد الجديد هذا يظهر باكرًا في العهد القديم مع الحديث عن “آخِرِ الأَيَّامِ” في التثنية 4: 30. هناك حذَّر موسى بني إسرائيل من أنهم سيساقون إلى السبي إن هم تمرّدوا على الله. لكنّه أكّد لهم أنّه “في آخر الأيام”، إن هم تابوا، سيعودون من السبي ليختبروا بركات الله التي لا تُضاهى. كما تكلّم أنبياء العهد القديم عن أحداث مرتبطة بعودة إسرائيل من السبي على أنّها أحداث “الأيام الأخيرة”.

ليس من الصعب أن نرى من عبرانيين 1: 1–2 أنّ التعليم حول الأمور الأخيرية كان في ذهن الكاتب عندما كتب رسالته. استمع إلى أولى الكلمات التي كتبها:

اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ (العبرانيين 1: 12).

لاحظ كيف أنّ هذه الأعداد الافتتاحيّة تشير إلى ما عمله الله في المسيح على أنّه يحدث “في الأيّام الأخيرة” ماذا قصد كاتب العبرانيين بذلك؟ لماذا كانت الأمور الأخيريّة مهمّة بالنسبة إليه؟

لكي نفهم الأمور الأخيريّة في العبرانيين، لا بدّ أن نشق طريقنا عبر بعض المنعطفات والتحوّلات في تاريخ إسرائيل في الفترة نحو نهاية العهد القديم، وخلال حقبة ما بين العهدَين القديم والجديد. فخلال فترة الملكيّة، غاصت إسرائيل أكثر فأكثر في عصيانها لله، فأرسل الله أخيرًا جيوش الأشوريّين فسبوا معظم سكان المملكة الشماليّة. ثمّ بعد فترة، أرسل الله جيوش البابليين فلحق بيهوذا ما لحق بالمملكة الشماليّة. ثمّ حوالي العام 538ق.م عادت بقية من سكان إسرائيل ويهوذا إلى أرض الميعاد وهم يتوقعون أنّ الله سوف ينزل دينونته ويسكب بركات الأيام الأخيرة. لكن لم تحصل توبة على نطاقٍ واسع في صفوف الشعب، فحُكم على إسرائيل بالرزوح مدّة خمسة قرون تحت طغيان مادي وفارس، واليونانيين، وأخيرًا تحت نير الإمبراطورية الرومانية.

في فترة ما بين العهدَين، تمسّكت معظم الجماعات اليهوديّة بثبات بأملها بأنّ دينونات الله وبركاته النهائيّة المتعلقة بالأيام الأخيرة سوف تتم. وهذا الأمل كان مهمًّا جدًّا بالنسبة إليهم لدرجة أنّهم قسّموا التاريخ برمّته إلى حقبَتين كبيرتَين. فدعوا الزمن الذي كانوا يعيشون فيه “هذا الدهر”، دهر الخطيّة التي كانت نتيجتها سقوط إسرائيل وسبيها. وتكلّموا أيضًا عن “الدهر الآتي”، الدهر الذي سيصبّ فيه الله دينوناته النهائيّة على أعدائه ويغدق بركاته النهائيّة والمجيدة على شعبه الأمين. وانطلاقًا من نبوّات العهد القديم، علّموا أنّ الله سوف يرسل ابن داود العظيم، المسيح المنتظر، فتكون به مرحلة الانتقال من هذا الدهر إلى الدهر الآتي.

بتركيزه على الأمور الأخيريّة، انطلق كاتب العبرانيين من فكرٍ مشترك بينه وبين مستلمي رسالته والمجتمع اليهودي الأوسع وبنى عليه. لكنّه في الوقت عينه، أراد مرّة أخرى أن يوضّح أنّ ثمّة من آمن بيسوع وثمّة من لم يقبله، وهذان طريقان منفصلان. فاليهود غير المؤمنين تمسّكوا بالرأي القائل بإنّ مجيء المسيح المنتظر سوف يُحدِث تحوّلاً جذريًّا ويقلب الأمور رأسًا على عقب بين هذا الدهر والدهر الآتي. لكنّ أتباع يسوع تعلّموا أنّ يسوع يحقق الأيّام الأخيرة على ثلاث مراحل: الأولى، تدشين ملكوته المسيحاني بمجيئه الأول، واستمرار ملكوته المسيحاني طوال تاريخ الكنيسة، واكتمال ملكوته المسيحاني عند عودته في مجده. يصف كُتَّاب العهد الجديد هذه المراحل الثلاث جمعاء على أنّها “الأيام الأخيرة” في مقاطع مثل أعمال الرسل 2: 17 و2 بطرس 3: 3.

يمكننا أن ندرك أهمّيّة هذا الموضوع عندما نلاحظ أنّ كاتب العبرانيين استخدم تعابير مألوفة للإشارة إلى “الأيام الأخيرة” في ستّ مناسبات على الأقلّ. فكتب في العبرانيين 2: 5 عن “العالم العتيد” حين سيعود المسيح في مجده. وفي 6: 5، أشار إلى “قوّات الدهر الآتي” التي اختبرها العديد من قرّائه. وكتب في 9: 11 عن المسيح كرئيس كهنة “للبركات السماوية (التي) قد تحققت” (ترجمة كتاب الحياة) وأشار في 9: 26، إلى زمن خدمة يسوع الأرضيّة بعبارة “انقضاء الدهور”. أمّا في 10: 1، فتحدّث عن البركات التي هي نتيجة ذبيحة المسيح مستخدمًا عبارة “الخيرات العتيدة”. وفي 13: 14، وصف الرجاء النهائي لأتباع المسيح بـ”المدينة العتيدة”. إنّ تكرار هذه التعابير المألوفة للإشارة إلى الأيام الأخيرة أعطانا لمحة عن مدى أهمّيّة هذا الموضوع بالنسبة إلى قصد الكاتب.

والآن بعد ان رأينا كيف تضمن المحتوى المُتكرّر في العبرانيين التركيز على الأيام الأخيرة في يسوع، لا بدّ أن نلتفت إلى عنصر ثانٍ متكرّر في الكتاب: الدعم الكتابي من العهد القديم لآراء الكاتب اللاهوتيّة.

دعم من العهد القديم


تُظهر معظم الحسابات أنّه يوجد في الرسالة إلى العبرانيين نحو مئة اقتباس من العهد القديم أو إشارة أو تلميح إليه. وهذا التفاعل مع أسفار العهد القديم كان مهمّاً جداً بالنسبة إلى قصد الكاتب لدرجة أنّه يظهر في كلّ جزء أساسي من الرسالة. وبالطبع ليس من الصعب أن نفهم السبب. فلكي يتصدّى لتعاليم المجتمع اليهودي المحلّي، لجأ كاتب العبرانيين إلى مرجع يؤمن جميع الأطراف بمصداقيّته ويعتبرونه مقدساً وهو العهد القديم.

1. خلفيّات واقعيّة

من أجل أهداف هذا الدرس يساعدنا أن ننظر إلى خمسة طرق أساسيّة تناول فيها كاتب العبرانيين بشكلٍ متكرّر اقتباسات من العهد القديم. أوّلاً، لفَتَ الأنظار إلى خلفيّات واقعيّة في العهد القديم.

استعاد الكاتب، ببساطة، بعض التفاصيل التاريخيّة الواردة في الأسفار المقدسة العبرية مقتبسًا بضع عبارات. ثمّ دمج الوقائع التي تدل عليها في تقديمه للإيمان المسيحي. على سبيل المثال، في العبرانيين 7: 2 شرح الكاتب أنّ اسم “ملكي صادق، ملك ساليم”، الوارد في التكوين 14: 18، يعني “ملك البرّ” و”ملك السلام”. فهذه الخلفيّة الواقعيّة عزّزت المقارنة بين يسوع وملكي صادق.

كمثال آخر، في العبرانيين 12: 20–21، ذكر الكاتب ارتعاد إسرائيل على جبل سيناء الوارد في الخروج 19: 12–13 والتثنية 9: 19. ثمّ قابل بين خوف إسرائيل وفرح أتباع المسيح في أورشليم السماوية.

2. آراء لاهوتيّة

ثانيًا، ذكر الكاتب آراء لاهوتيّة ثابتة نشأت في العهد القديم وكانت لا تزال متداولة حتّى في زمنه ذاك.

في حالاتٍ كهذه، عوضًا عن ذكر وقائع تاريخيّة بسيطة، كان الكاتب يركّز على معتقدات لاهوتيّة مثبتة في الأسفار المقدسة العبرية – معتقدات عن الله نفسه ومسائل أخرى تتعلّق بالله مباشرة.

فمثلاً في العبرانيين 1: 5، ذكر الكاتب ما جاء في 2 صموئيل 7: 14 أو ما يوازيه في 1 أخبار الأيام 17: 13. هنا، أعلن الله أنّ كلّ ملك في سلالة داود سوف يُدعى “ابن” الله من أيّام داود فصاعدًا.

وفي العبرانيين 1: 7، اقتبس الكاتب من المزمور 104: 4حيث وُصفت الملائكة بأنّها أرواح خادمة.

وفي العبرانيين 2: 6–8، استشهد كاتب العبرانيين بـالمزمور 8: 4–6 وناقش مسألة تعيين الله البشرَ ليكونوا أقلّ من الملائكة، وذلك فقط إلى النهاية حين سيملك البشر، لا الملائكة، مع المسيح على كلّ الخليقة.

أمّا في العبرانيين 2: 13 فثمّة إشارة إلى إشعياء 8: 17–18. حيث تبرهن هذه الأعداد أنّ بركات تبرير الله سوف تكون من نصيب سلالة إبراهيم، أَي البشر وليس الملائكة.

وفي العبرانيين 6: 13–14، ذكر الكاتب قَسَم الله لإبراهيم الوارد في التكوين 22: 17، وبه برهن الله أنّ وعده لإبراهيم باقٍ ومستمرّ حتّى في أزمنة العهد الجديد.

وفي العبرانيين 12: 29، اقتبس الكاتب من التثنية 4: 24 واصفًا الله بالنار الآكلة. وقد ذكر هذا العدد ليدعم تعليمه ويؤكّد على أنّ الله لا يزال نارًا آكلة بعد المسيح.

وأمثلة مشابهة ترد في العبرانيين 4: 4–7، 8: 5، 9: 20، 10: 30–31، 10: 38، 13: 5. في هذه المقاطع كلّها، شدّد كاتب العبرانيين على كون بعض الآراء اللاهوتيّة التي نشأت في العهد القديم لا تزال حقيقة حتّى في أزمنة العهد الجديد.

3. فرائض أخلاقيّة

ثالثًا، أورد كاتب العبرانيين أيضًا فرائض أخلاقيّة ثابتة. يبيّن الكاتب، فيما يورده، أنّ الله كان قد وضع على شعبه مطالب أخلاقيّة معيّنة في زمن العهد القديم. وهذه الالتزامات لا بدّ أن تستمرّ مقياسًا أخلاقيًّا لشعب الله في أيّام العهد الجديد.

على سبيل المثال، أشار الكاتب في العبرانيين 3: 7–15 إلى أنّ المزمور 95: 7–11 يعلّم شعب إسرائيل عدم التمرّد على الله.

أمّا ما ورد في العبرانيين 12: 5–6 فيُظهر لنا أنّ ما جاء في الأمثال 3: 11-12 يحثّ شعب إسرائيل على عدم اليأس عند تأديب الله لهم.

وفي العبرانيين 12: 13 يعلّم الكاتب مستلمي رسالته أن يتبعوا كلام الأمثال 4: 26 ويتمسّكوا بمسالك الاستقامة.

وفي العبرانيين 13: 6، يقتبس الكاتب من المزمور 118: 6-7، ويحثّ مستلمي رسالته على إعلان ثقتهم في الله.

كلّ هذه المراجع تبيّن أنّ الفرائض الأخلاقيّة في العهد القديم لا تزال تنطبق بقوّة على أتباع المسيح.

4. النبوّات حول الأمور الأخيريّة

رابعًا، استشهد الكاتب بعددٍ من النبوّات حول الأمور الأخيريّة من العهد القديم.

في مقاطع عديدة، يتنبأ كتّاب العهد القديم عن “الأيّام الأخيرة”. يكتبون عمّا سيصنعه الله عندما سيعود شعب إسرائيل نهائيًّا من السبي وينتشر ملكوت الله الظافر في العالم أجمع. فيستخدم كاتب العبرانيين نبوّات عديدة عن الأيّام الأخيرة اقتبسها من العهد القديم ليظهر أنّ دينونة الله وبركاته النهائيّة قد تحقّقت في المسيح.

على سبيل المثال، يقتبس كاتب العبرانيين 1: 6 من التثنية 32: 43 كما ترد في الترجمة السبعينيّة، وهي الترجمة اليونانيّة للعهد القديم. ويخبرنا في هذا العدد أنّ الملائكة سوف تسجد بخشوع حين يحقّق الله انتصاره النهائي على أعدائه.

بطريقة مماثلة، يقتبس الكاتب في العبرانيين 1: 10–12 من المزمور 102: 25–27. يتنبّأ هذا المقطع بأنّ الترتيب الحالي للخليقة، الذي تُعظَّم فيه الملائكة، سوف يزول في نهاية الأيّام.

ويقتبس الكاتب في العبرانيين 1: 13 من المزمور 110: 1 ليُظهر أنّ نبوّة داود عن السيادة الشاملة للابن الذي يأتي من نسله ترفع المسيح فوق الملائكة.

وفي العبرانيين 5: 6 و7: 17 يشير الكاتب إلى المزمور 110: 4، ويركّز على النبوّة القائلة بأنّ ابن داود لن يأخذ كهنوته الملكي بنفسه، لكن سيُعطى له من الله.

في العبرانيين 8: 8–12 يقتبس الكاتب من إرميا 31: 31–34. تتنبأ هذه الأعداد، أنّه بعد السبي، سينتصر العهد الجديد على مشكلة فشل الإنسان في العهد الذي قطعه الله مع موسى.

ويستشهد الكاتب في العبرانيين 10: 16-17 مرّةً أخرى بـإرميا 31 ليُظهر كيف أنّ العهد الجديد في المسيح أزال كلّ حاجة إلى المزيد من الذبائح.

كما يستعين الكاتب بنبوّات مشابهة عن الأيّام الأخيرة ونهاية الأزمنة أو الدهر الأخير (الأخيري)، في العبرانيين 7: 21، 10: 37، 12: 26.

5. المُثل العليا للسلالة الحاكمة

خامسًا، يشير الكاتب إلى عددٍ من المُثل العليا للسلالة الحاكمة التي وضعت لذرّيّة داود في المزامير.

تعبّر هذه المقاطع عن معايير الأمانة لله وخدمته التي يجب أن يلتزم بها كلّ فرد في سلالة داود الحاكمة. لكن في أحسن الأحوال، لم يعشْ المتحدرون من سلالة داود في العهد القديم، على مستوى هذه المعايير، إلّا جزئيًّا. فيشدّد كاتب العبرانيين على أنّ يسوع هو الإتمام الكامل والأسمى للمُثل العليا لبيت داود الملكي.

على سبيل المثال، في العبرانيين 1: 5، يقتبس الكاتب من المزمور 2: 7 ومن 2 صموئيل 7: 14. وهذه الأعداد تشير إلى أنّ الله اختار سليلًا لداود بصفته ابنه الملكي ليسود على الشعوب التابعة.

ويستشهد العبرانيين 1: 8-9 بالمزمور 45: 6–7. هذا المزمور الذي قيل في مناسبة زواج الملك يُشيد بمُلك الله على الجميع من خلال تمجيد ملك من سلالة داود يحبّ البرّ ويبغض الإثم.

ويشير الكاتب في العبرانيين 2: 11-12 إلى المزمور 22: 22. حيث تعهّد داود بأن يشارك بهجة تزكيته مع باقي شعب إسرائيل. وقد استخدم الكاتب هذا العدد ليُظهر أنّ يسوع قد حقّق بشكلٍ تامّ هذه السلالة النموذجية بـمشاركة تزكيته مع نسل إبراهيم.

وفي العبرانيين 10: 5–7، يشير الكاتب إلى المزمور 40: 6–8. في هذه الأعداد، تعهّد داود بـأن يكرّس كامل جسده لله بدلاً من ذبائح الحيوان. وقد طبّق الكاتب هذا الكلام على يسوع الذي كانت ذبيحة جسده على الصليب المثال الأعظم والتحقيق النهائي لهذا المثال.

نظرنا حتّى الآن في المحتوى المتكرّر في العبرانيين والذي يتضمّن الأيّام الأخيرة بيسوع والدعم الكتابي من العهد القديم لوجهات نظر الكاتب اللاهوتيّة. وها نحن في طور الاطلاع بإيجاز على ثالثٍ متكرّر: تحذيرات الكاتب لضرورة الثبات.

 

تحذيرات للثبات


ذكرنا في درسنا السابق أنّ كاتب العبرانيين في العبرانيين 13: 22، يصف رسالته بـ”كلمة وعظ”. وهي تحتوي على حوالي 30 تحذيرًا واضحًا، وذلك يتوقف على طريقة عدّك لهذه التحذيرات. وكما سنرى، إنّ كلاًّ من هذه التحذيرات تطرّقت إلى مسألة محدّدة، لكنّها هدفت جميعها إلى مناشدة القرّاء الأوّلين على الثبات في ولائهم للمسيح.

في هذه المرحلة من درسنا، نحتاج إلى أن ننظر إلى ميزتَين أساسيتين في تحذيرات الكاتب لضرورة الثبات. أوّلًا سنعلّق على الاستجابات التي أمل الكاتب أن يحدثها في القراء. وثانيًّا، سنلاحظ الحوافز التي قدّمها لمستلمي رسالته لكي يثبتوا. لننظر أولاً إلى أنواع الاستجابات التي رغب الكاتب أن يحدثها في مستلمي رسالته.

1. الاستجابات

 إحدى أهمّ الميّزات في كتاب العبرانيين هي مدى الاستجابات التي استحثها الكاتب في مستلمي رسالته. عندما نتعامل مع لغة قديمة كلغة العهد الجديد اليونانيّة، يتعذّر علينا في أغلب الأحيان أن نميّز الفروقات الدقيقة في معنى عباراتٍ معيّنة. لذا سنحصر اهتمامنا ببعض الأمثلة الواضحة نسبيًّا. بشكلٍ عام، حثّت تحذيرات الكاتب قرّاءه على تطبيق رسالته على حياتهم عاطفيًّا وذهنيًّا وسلوكيًّا. وكان من الضروري بالنسبة لمستلمي رسالته لكي يثبتوا أن ينتبهوا إلى مجموعة الاستجابات هذه.

أولاً، غالبًا ما كانت تحذيرات كاتب العبرانيين لقرّائه تطال النواحي العاطفيّة لإيمانهم. في العبرانيين 3: 8–15 يقول، “لا تُقسّوا قلوبكم”. وفي العدد 13 من الفصل عينه نقرأ، “عِظُوا أَنْفُسَكُمْ كُلَّ يَوْمٍ، … لِكَيْ لاَ يُقَسَّى أَحَدٌ مِنْكُمْ”. وفي المقطع التالي، من 4: 1 يقول الكاتب، “لنكن حذرين” أو بالمعنى الحرفي- الذي يتلاءم مع السياق – “فَلْنَخَفْ من ألّا ندخل راحة الله”. ويشجّع القرّاء في 4: 16 بقوله فَلْنَتَقَدَّمْ “بِثِقَةٍ”، أو بجرأة إِلَى عَرْشِ النِّعْمَةِ لِكَيْ نَنَالَ عَوْنًا. ويناشدهم في 10: 22 بقوله “لِنَتَقَدَّمْ بِقَلْبٍ صَادِق فِي يَقِينِ الإِيمَانِ”. وفي 10: 35 يحذّرهم قائلاً “لا تطرحوا ثقتكم” أو شجاعتكم.

وبقدر ما كانت هذه الناحية العاطفيّة مهمّة لدى كاتب العبرانيين، كان يعظ مستلمي رسالته بأن يطبّقوا كلامه على المستوى الذهني. وكان يرغب في أن تؤثّر كلماته الموحى بها من الله في تعاليمهم ومعتقداتهم اللاهوتيّة. على سبيل المثال، في العبرانيين 2: 1 يدعو قرّاءه لـ”يتنبّهوا أكثر” إلى ما سمعوه. وفي 3: 1 يحثّهم على “أن يثَّبتوا أفكارهم على يسوع”. ويشجَّعهم في 6: 1 أن “يتركوا كَلاَمَ بَدَاءَةِ الْمَسِيحِ” وينموا في المعرفة والفهم.

من اللافت للنظر أنّ كاتب العبرانيين لم يشدّد في البداية على عناصر سلوكيّة محدّدة. بالتأكيد كان لتحذيراته في أغلب الأحيان تأثيرات سلوكيّة، إلّا أنّ معظم عظاته السلوكيّة الواضحة تركزت في نهاية رسالته. في العبرانيين 12: 16 حذّر قرّاءه من “أن يكون أحدٌ زانيًا”. وفي 13: 1–19 تكلّم عن أمور مثل الضيافة، والزواج، والاعتراف باسم المسيح، وفعل الخير.

إنّ مجموعة هذه التحذيرات تُظهر طُرُقًا متنوّعة أراد كاتب العبرانيين من خلالها أن يتفاعل قرّاؤه مع محتوى رسالته. فمن الواضح أنّه كان من الضروري أن يكونوا مدركين لحقيقة عواطفهم، ومفاهيمهم وسلوكيّاتهم إن كانوا يرغبون في أن يثبتوا في ولائهم للمسيح وخدمته.

رأينا أنّ تحذيرات كاتب العبرانيين لـ ضرورة الثبات أدت إلى مجموعة من الاستجابات. لنلاحظ الآن كيف يقدّم الكاتب حوافز إيجابيّة وسلبيّة للتشجيع على الثبات.

2. الحوافز

 من جهة، يجعل الكاتب العديد من تحذيراته مرتبطة بـحوافز إيجابيّة. فمثلاً في العبرانيين 4: 13–16 يشير إلى قبول النعمة والعون من المسيح. وفي 13: 16 يريد الكاتب تحفيز قرّائه بإخبارهم أنّ ثمّة أعمالًا تُسرّ الله. ومن وقت لآخر يتكلّم كاتب العبرانيين عن المكافآت الأبديّة كحافز لهم على العيش بأمانة. على سبيل المثال، يقول الكاتب في العبرانيين 10: 35:

 فَلاَ تَطْرَحُوا ثِقَتَكُمُ الَّتِي لَهَا مُجَازَاةٌ عَظِيمَةٌ (العبرانيين 10: 35).

 لكن من جهة أخرى، غالبًا ما يستخدم كاتب العبرانيين حوافز سلبيّة لتحذير قرّائه. وهذه التحذيرات كانت بالدرجة الأولى تهديدات وتنبيهات من الدينونة الإلهية. على سبيل المثال، في العبرانيين 2: 2-3، يذكر الكاتب أنّ أولئك الذين عصوا الملائكة قد نالوا جزاءهم. فكيف يتوقّع أولئك الذين أهملوا كلمة الخلاص في المسيح أن ينجوا من حكم الله؟ وينبّههم في 6: 4–8 قائلاً إنّ كلّ من سقط “هو قريب من اللعنة”. وفي 10: 26–31 يحذّرهم بهذه الكلمات: “بَلْ قُبُولُ دَيْنُونَةٍ مُخِيفٌ، وَغَيْرَةُ نَارٍ عَتِيدَةٍ أَنْ تَأْكُلَ الْمُضَادِّينَ”.

إنّ التهديدات بالدينونة التي يوجّهها كاتب العبرانيين إلى قرّائه غالباً أقلقت المفسّرين لأنّها تبدو كما لو كان من الممكن أن يخسر المؤمنون الحقيقيون خلاصهم. ورغم أنّ الوقت لا يسمح لنا هنا بمناقشة هذه المسألة اللاهوتيّة بشكلٍ أعمق، فإنه من المُجدي أن نعلّق على ناحيتين مهمّتين في هذه المسألة.

أوّلاً علينا أن نُبقي في ذهننا أنّ الرسالة إلى العبرانيين ليست كتاب علم لاهوت نظاميّ. ونعني بذلك، أنّ الكتاب المقدّس يستخدم مصطلحات، حتى مصطلحات عن الخلاص، بتنوع أكثر من تلك التي يستخدمها اللاهوتيون المسيحيون أو التي عرفها التقليد اللاهوتي. في الواقع، تميل كلّ فروع الكنيسة إلى استخدام مفردات لاهوتيّة معيّنة بطريقة أضيق من الطرق التي استُخدمت فيها هذه المفردات في النصوص الكتابية. وهذه الممارسة لا بد منها إن كنّا نريد أن نحصل على أنظمة لاهوتيّة واضحة، غير مربكة. غير أنّ هذه المقاربة تشكّل خطرًا لدى القارئ الذي يسهل عليه أن يقرأ في الرسالة إلى العبرانيين تعريفاته الخاصة الضيقة للكلمات والعبارات. ويبدو هذا الخطر جليًّا بصورة خاصة عندما نأتي إلى فهم الطريقة التي يصف بها كاتب العبرانيين أولئك المرتدّين عن الإيمان أو الذين ابتعدوا عن المسيح.

من جهة، من المفيد أن نذكر أنّ كاتب العبرانيين لم يصف قطّ المرتدّين بكونهم “قد تبرروا”. ففي العهد الجديد، اقتصر استخدام هذا التعبير دائمًا على المؤمنين الحقيقيين. لكن من جهة أخرى، استخدم كاتب العبرانيين بعض المصطلحات التي غالبًا ما يستخدمها الإنجيليون للمؤمنين الحقيقيين فقط، حتى وإن لم تستخدم في العهد الجديد بهذا المعنى. على سبيل المثال، في العبرانيين 6: 4–6، يحذّر الكاتب قراءه فيقول:

لأَنَّ الَّذِينَ اسْتُنِيرُوا مَرَّةً، وَذَاقُوا الْمَوْهِبَةَ السَّمَاوِيَّةَ وَصَارُوا شُرَكَاءَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَذَاقُوا كَلِمَةَ اللهِ الصَّالِحَةَ وَقُوَّاتِ الدَّهْرِ الآتِي وَسَقَطُوا. (أو يمكن أن يسقطوا) (العبرانيين 6: 46).

والصعوبة هنا، هي أن الكثيرين بيننا يستخدمون هذه العبارات وأخرى تشبهها من مفردات لاهوتية تقنية ليصفوا بها المؤمنين الحقيقيين دون سواهم. أمثلة أخرى ترِد في العبرانيين 10: 29 حيث يوصف المرتدّون بكونهم “تقدسوا” بدم العهد. أو في 10: 32 حيث يرد أنّهم “أنيروا”.

في الواقع، يستخدم العهد الجديد وصفًا مشابهًا لأولئك الذين يشتركون في ما يسمّيه اللاهوتيّون غالبًا “الكنيسة المنظورة”. وهذا مختلف تمامًا عن “الكنيسة غير المنظورة”، أو جماعة المؤمنين الحقيقيين. فالذين هم جزء من الكنيسة المنظورة ينتمون إلى الكنيسة في الظاهر، ولكن ليس بالضروري روحيًا من الداخل. وهذا التمييز ضمن الكنيسة يشبه الطريقة التي تميّز بها رسالة رومية 2: 28-29 بين اليهودي “في الظاهر” فقطphaneros φανερός – فانيروس في اليونانية – الذي يحمل في جسده علامة الختان الخارجية، واليهودي “من الداخل”- kruptos κρυπτός كروبتوس في اليونانية-المختون القلب.

ثانيًا، لا بدّ أن نتذكّر دائمًا أنّ التهديد بالدينونة الإلهية لأولئك المرتدّين عن الإيمان لا يقتصر على العبرانيين. إذ نرى تهديدات مماثلة في 1 كورنثوس 10: 1–13 و2 بطرس 2: 12 و22. بالإجمال، يعلّم العهد الجديد أنّ من كان له إيمانٌ خلاصيٌ بيسوع المسيح سوف يثبت إلى النهاية. أمّا أولئك الذين يرفضون المسيح تمامًا يُظهرون أنّ إيمانهم لم يكن يومًا إيمانًا خلاصيًّا. بل على العكس، كان إيمانهم ما يدعوه اللاهوتيون غالبًا بالإيمان “المؤقّت” أو “الإيمان الزائف”. كذلك يرد شرح في رسالة 1 يوحنا 2: 19 عن المرتدّين:

مِنَّا خَرَجُوا، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنَّا، لأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مِنَّا لَبَقُوا مَعَنَا. لَكِنْ لِيُظْهَرُوا أَنَّهُمْ لَيْسُوا جَمِيعُهُمْ مِنَّا (1 يوحنا 2: 19).

في كلّ وقت يتنكّر أحدهم للإيمان المسيحي، يُظهر أنّه لم يكن ينتمي حقيقة إلى الكنيسة غير المنظورة.

في درسنا حول محتوى وبنية الرسالة إلى العبرانيين، رأينا ثلاثة عناصر للـمحتوى المتكرّر في الكتاب. فلنتّجه الآن إلى الموضوع الرئيسي الثاني لدرسنا: البنية الإنشائية الأدبية لرسالة العبرانيين.

 


البنية الإنشائيّة الأدبيّة


كما رأينا في درسنا السابق، كان القرّاء الأولون لرسالة العبرانيين يواجهون اضطهاداً. فتجربة اعتناق التعاليم اليهوديّة المزّيفة في مجتمعهم المحلي كانت شائعة جدّاً. وقد كتب الكاتب ليقنع قرّاءه بعدم الاستسلام وعدم الابتعاد عن المسيح بسبب هذه التعاليم. فكيف صاغ كاتب العبرانيين محتوى رسالته ليحقّق غايته؟ وما هي هذه البنية البلاغيّة الأدبيّة التي استخدمها؟

بإمكاننا أن ننظر إلى البنية الإنشائية الأدبية للعبرانيين على عدّة مستويات. لكن من أجل أغراضنا في هذا الدرس، سننظر في خمسة أقسام رئيسيّة تحويها الرسالة. وتساعدنا هذه الأقسام على إدراك كيف حاول الكاتب أن يقنع قرّاءه بأن يبقوا أمناء للمسيح:

  • القسم الرئيسي الأوّل يركّز على معتقدات حول الإعلانات الملائكيّة من 1: 1 إلى 2: 18.
  • القسم الرئيسي الثاني يناقش سلطان موسى من 3: 1 إلى 4: 13.
  • الجزء الرئيسي الثالث يتناول كهنوت مَلْكِي صَادَقَ الملكي من 4: 14 إلى 7: 28.
  • القسم الرئيسي الرابع يركّز على العهد الجديد من 8: 1 إلى 11: 40.
  • القسم الرئيسي الخامس يتناول موضوع الثبات العمليّ من 12: 1 إلى 13: 25.

الإعلانات الملائكيّة (1: 1-2: 18)


وقد استخدم كاتب العبرانيين كلًّا من هذه الأقسام الرئيسية ليقنع قرّاءه أنّ عليهم أن يبقوا أمناء للمسيح، حتى وسط الآلام. لننظر أولاً كيف تناولت الرسالة إلى العبرانيين موضوع الإعلانات الملائكيّة من 1: 1 إلى 2: 18.

كما ذكرنا في درسنا السابق، أشار عددٌ من الكتابات اليهوديّة في قمران، وكتبٌ مثلُ رسالتي أفسس وكولوسي، إلى أنّ المجتمعات اليهوديّة في القرن الأول غالبًا ما مجّدت الملائكة باعتبارها مخلوقات قديرة ومجيدة حملت إعلانات إلهيّة إلى البشر الأدنى منها رتبة.

إنّ وجهات النظر التي تبنّتها المجتمعات اليهوديّة المحلّيّة تجد لها جذوراً في النصوص الكتابيّة، إلّا أنّهم أعطوا مجداً زائداً للملائكة. وهذا التعظيم المبالغ فيه للملائكة أنشأ تحدّيّاً خطيراً بالنسبة لأتباع المسيح. ففي النهاية، يعلم الكلّ أنّ يسوع هو من لحم ودمٍ، هو بشر. فكيف إذن لأي فرد أن يتبع ما علّمه هو بدلاً من اتّباع إعلانات الملائكة؟

يردّ كاتب العبرانيين على هذا الاعتراض على خمس مراحل. أوّلاً، في العبرانيين 1: 1–4، يكتب أنّه يجب على قرّائه اتباع يسوع لأنّه المصدر الأعلى للإعلان الإلهي. ويقرّ الكاتب أنّ الله كلّمنا بواسطة الملائكة وبأنواعٍ وطرقٍ كثيرة على مرّ أزمنة العهد القديم. لكنّه يشدّد على أنّ يسوع، رئيس الكهنة والملك الذي وعد الله به في الأيام الأخيرة، حمل إعلانًا فاق إلى حدٍّ بعيد كلّ إعلان جاء على لسان الملائكة.

في 1: 5–14، يبيّن كاتب العبرانيين أنّ يسوع أعظم من الملائكة لأنّه وحده المسيح ابن الله. ويذكر أنّ المسيح حقّق نموذجًا مثاليًّا لبيت داود. وفيه تحقّقت نبوّة داود عن انتصار المسيح ابن الله على أعداء الله. ويذكر الكاتب في المقابل أنّ الملائكة ليست سوى أرواح مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص في المسيح.

في 2: 1–4، يحذّر الكاتب قرّاءه لينتبهوا جيّدًا إلى رسالة الخلاص العظيمة المعلنة أوّلاً في يسوع. ويذكّرهم أنّ من عصى الرسائل التي أُعطيت بواسطة الملائكة في الماضي نال جزاءه العادل. فعلى قرّائه ألّا يظنّوا أنّ بإمكانهم أن ينجوا من عقاب الله إن هم أهملوا الخلاص العظيم المعلن في المسيح، الذي هو خلاصنا.

ويدعم ما جاء في عبرانيين 2: 5–9 الاعتقاد بتفوق المسيح ويُظهر أنّ يسوع الآن يسود على الملائكة. وفي المستقبل سيسود المؤمنون معه على الملائكة. ويذكر الكاتب أنّ الله قد وضع الإنسان قليلاً عن الملائكة مؤقّتًا، ليجعله يسود على الخليقة كلّها في العالم الآتي. وهذا المجد الذي سيُعطى للإنسان في النهاية هو متوقّع من خلال ملك المسيح الآن في السماء كرئيس الكهنة والملك المعيّن من الله.

وأخيرًا، في العبرانيين 2: 10–18، يبرهن الكاتب أنّ يسوع هو من نسل إبراهيم. وسيشارك مجده مع نسل إبراهيم وليس مع الملائكة. ويقتبس الكاتب في هذا الجزء من داود وإِشَعْيَاء ليُظهر ارتباط يسوع بنسب إبراهيم. ويشرح أيضًا أنّ يسوع، بطبيعته الإنسانيّة، أباد سلطة الملاك الساقط الأكبر، أي إبليس. ولم يكن ذلك من أجل تحرير الملائكة، بل من أجل تحرير أبناء إبراهيم من رهبة الموت. فطبيعة المسيح الإنسانيّة جعلت منه رئيس كهنة رحيمًا وأمينًا يكفّر عن خطايا شعبه.

 سلطان موسى (3: 14: 13)


 بعد أن رأينا كيف تناول الكاتب موضوع التعاليم اليهوديّة المتعلّقة بالإعلانات الملائكيّة، لننتقل إلى القسم الرئيسي الثاني من الرسالة. في العبرانيين 3: 1–4: 13، يردّ الكاتب على الاعتراضات التي تتعلّق بـسلطان موسى. لم يُكرَّم أحد في إسرائيل مثلما كُرِّم موسى.

بسبب الإكرام الذي أُعطي لموسى، يجب حقّاً ألّا نتفاجأ بهذه التعاليم اليهوديّة المحلّيّة. فلقد حفَّزت قرّاء العبرانيين على طاعة كلّ ما أعلنه الله بواسطة موسى، دون الاكتراث بالمسيح. وكما سنرى في هذا القسم، يكرم كاتب العبرانيين موسى أيضاً. ولكن على الرغم من كون موسى خادمَ الله الأمين، فالمسيح هو أعظم منه، إذ أنه الملك رئيس كهنة الله للأيّام الأخيرة.

ينقسم هذا الجزء من الرسالة إلى ثلاثة أجزاء رئيسيّة، يتضمّن كلٌّ جزء حضًا على التمسك بسلطان يسوع فوق سلطان موسى. ففي الجزء الأول، في العبرانيين 3: 1–6 يدعو الكاتب القرّاء بوضوح إلى تمجيد يسوع أكثر من موسى. فيشير في هذا الجزء إلى أنّ موسى هو من بنى بيت الله، المسكن. في حين أنّ يسوع، كونه ابن الله الملك، هو الذي يملك على بيت الله، أي الكنيسة.

استمع إلى العبرانيين 3: 1–3 حيث يعظ الكاتب قرّاءه قائلاً:

 لاَحِظُوا … يَسُوعَ … [الذي] قَدْ حُسِبَ أَهْلاً لِمَجْدٍ أَكْثَرَ مِنْ مُوسَى (العبرانيين 3: 13).

يشدّد الكاتب هنا على كون يسوع أمينًا لله، نظير موسى، لكنّه “حُسب أهلاً لمجدٍ أكثر منه”.

في الأعداد التي تتبع، في 3: 7–19، ينبّه الكاتب قرّاءه ألّا يقسّوا قلوبهم أو يتمرّدوا كما فعل شعب إسرائيل إذ تمرّدوا على موسى. وقد دعم الكاتب تحذيره هذا حين أشار إلى أنّ غالبية الذين تبعوا موسى لم يدخلوا أرض الميعاد لأنّهم تمرّدوا على الله. وعلى غرار ما جرى لشعب إسرائيل، سوف يكون لأولئك الذين تبعوا المسيح نصيب مع المسيح فقط إن هم تمسّكوا بإيمانهم الأول وثبتوا فيه حتّى النهاية. فعدم الإيمان أبقى الإسرائيليين خارج أرض الميعاد، والأمر عينه يحصل للذين لم يؤمنوا بالمسيح.

في العبرانيين 4: 1–13، يتوسّع الكاتب في مقارنته بين أتّباع المسيح وأتّباع موسى. ويحثّ قرّاءه على أن يبذلوا كلّ مجهود ليدخلوا راحة الله. ويشرح، مستعينًا بالعهد القديم، أنّ راحة الله لا تزال أمرًا مستقبليًّا. فيجب أن يدركوا كيف أنّ كلمة الله تجعل كلّ شيء عريانًا أمامه. فهم لله سوف يؤدّون الحساب. لذا عليهم أن يجتهدوا ليدخلوا راحته ولا يسلكوا مسلك شعب إسرائيل في البرّيّة.

كهنوت ملكي صادق (4: 147: 28)


 بعد أن يتناول موضوع الإعلانات الملائكيّة وسلطان موسى، يعترض الكاتب على التعاليم اليهوديّة المحلّيّة المتعلّقة بـكهنوت ملكي صادق الملكي في العبرانيين 4: 14–7: 28.

في درسنا السابق، أتينا على ذكر نصً تم اكتشافه في قمران ويُدعى المصدر 11Q ملكي صادق أو المدراش حول ملكي صادق. وقد صوّر هذا النص ملكي صادق كشخصيّة سماويّة سوف تظهر في الأيام الأخيرة لتقدّم ذبائح كفّاريّة نهائيّة وتعلن ملكوت الله. ويبدو أنّ البعض من القرّاء الأصليين للرسالة قد ارتبكوا بهذا النوع من التعليم. فلماذا عليهم أن يتبعوا المسيح الملك رئيس كهنة الله في الأيام الأخيرة عوضاً عن انتظار مجيء ملكي صادق؟ لذا، أوضح كاتب العبرانيين أنّ المسيح هو الكاهن والملك الحقيقيّ.

يتشعّب هذا القسم من الرسالة إلى أربعة أجزاء. الجزء الأول والثالث يحثّان القرّاء على تقديم المسيح على ملكي صادق والقسم الثاني والرابع يُظهران بالحجج والبراهين لماذا ينبغي على القرّاء تبنّي هذا الفكر.

في العبرانيين 4: 14–16، يفتتح الكاتب موضوع ملكي صادق بحض مستلمي رسالته على التمسّك بحزم بالإيمان الذي اعترفوا به. ويشجّعهم على ذلك بتشديده على أن يسوع هو إنسان كامل، بلا خطيّة، ورئيس كهنة عظيم صعد إلى السماء حيث يشفع في المؤمنين لكي ينالوا رحمة ويجدوا نعمة، ويعينهم في أوقات الشدّة.

في 5: 1–10، يشرح كاتب العبرانيين كيف كان يسوع جديرًا بأن يكون رئيس الكهنة والملك المعيّن من الله على رتبة ملكي صادق. لقد توفرت في يسوع مؤهلات الكهنوت من خلال طاعته وآلامه. غير أنّه لم يرتقِ بنفسه إلى هذه الرتبة. وقد أظهر الكاتب من خلال اقتباسه من المزمور 2: 7 والمزمور 110: 4، أنّ الآمال التي وضعها شعب إسرائيل في ملكي صادق سوف تتحقّق في الواقع بالآتي من سلالة داود. فالله نفسه اختار يسوع ليكون رئيس كهنة وملكًا على رتبة ملكي صادق. وبهذا، أصبح يسوع مصدر الخلاص الأبدي للذين يطيعونه.

إنّ 5: 11–6: 12 هو عظة مطوّلة موجّهة إلى مستلمي رسالة العبرانيين ليرتقوا من التعليم الأوّلي البسيط إلى الأكثر عمقًا. ويقرّ الكاتب بأنّ جمهوره ليس مستعدًّا ليفهم بحثه في موضوع المسيح وملكي صادق. ولكنّه يشجّعهم على أن ينضجوا في الفهم حتّى لا يقعوا في خطر الارتداد. ويحذّرهم أنّهم إن رفضوا الإيمان برئيس الكهنة والملك الحقيقي لن تكون بعد كفّارة للخطيّة. يعد الكاتب قرّاءه بآمالٍ كبيرة، لكن عليهم أن يبتعدوا عن تباطئهم ويتمثّلوا بأولئك الذين يتحلّون بالإيمان والثبات ليرثوا ما وعد الله به.

في العبرانيين 6: 13–7: 28، يستمرّ الكاتب في كلامه على يسوع كمتمّم لكهنوت ملكي صادق الملوكي. ويشرح تحديدًا أنّ كهنوت يسوع الملكي قد حلّ محلّ الكهنوت اللاوي أو تخطّاه. كانت خدمة الهيكل في زمن كتابة العبرانيين لا تزال قائمة في أورشليم. وهذه الحقيقة قد أنشأت تحدّيًّا خطيرًا للمسيحييّن الذين أذاعوا أنّ موت يسوع قد أبطل الحاجة إلى ذبائح اللاويين في الهيكل. وليواجه هذا التحدّي، بنى الكاتب على الاعتقادات اليهودية المحلّية بأنّ ملكي صادق سوف ينهي كلّ الذبائح الكفّاريّة في الأيّام الأخيرة. ولكنّه ختم بقسم الله الوارد في المزمور 110: 4 أنّ يسوع، ابن داود العظيم، هو كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق. لذا أنهى يسوع النظام الذبائحي اللاوي.

ولكي يُظهر تفوّق كهنوت يسوع على الكهنوت اللاوي، يذكر الكاتب، أنّه في التكوين 14: 20، قدّم إبراهيم عشوره إلى ملكي صادق مُظهرًا بذلك أنّ ملكي صادق أعظم منه شأنًا. وبناءً على ما جرى، صار اللاويون وهم من صُلب إبراهيم يأخذون الأعشار لما في ذلك من رمزيّة للدور الذي لعبه ملكي صادق. فكان إذًا جديرًا بالمسيح، كرئيس كهنة وملك على رتبة ملكي صادق، أن يحلّ محلّ الكهنوت اللاوي. فما كان ممكنًا للذبائح التي بحسب النظام اللاوي أن تحقّق تكفيرًا تامًّا للخطايا، لكنّ يسوع، الذي فيه تحقّق كهنوت ملكي صادق الملوكي، حقَّق تكفيرًا عن خطايانا مرّة واحدة وإلى الأبد.

العهد الجديد (8: 111: 40)


 يركّز القسم الرئيسي الرابع في العبرانيين الممتدّ من 8: 1-11: 40 على العهد الجديد. هنا، يشرح الكاتب المزيد عن تفوق المسيح كرئيس كهنة وملك معيّن من الله من خلال إظهاره تفوّق العهد الجديد على العهد القديم.

إنّ تسمية “العهد الجديد” ترجع إلى إرميا 31: 31. في هذا العدد، تنبّأ النبي أنّ الله سيمنح عهداً للتجديد نهائياً لإسرائيل ويهوذا في الأيام الأخيرة بعد فترة سبي إسرائيل. وهذا العهد الأخرويّ نفسه يدعى “عهد سلام” في إشعياء 54: 10 وحزقيال الإصحاحين 30 و34. لذا عند هذه المرحلة، انتقل كاتب العبرانيين من كلامه حول ملكي صادق في الأيام الأخيرة إلى التحدث عن العهد الجديد.

يتألف هذا القسم من العبرانيين من ثمانية أجزاء رئيسية. أوّلاً تقدّم لنا الرسالة إلى العبرانيين 8: 1–13 صورة يسوع كوسيط للعهد الجديد لكونه رئيس الكهنة الجالس على عرش السماوات.

في العددين 1 و2، يعلن الكاتب بوضوح ما هو “رأس الكلام”. ويبين أنّ يسوع، رئيس الكهنة والملك، هو في السماوات خادمًا “للْمَسْكَنِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي نَصَبَهُ الرَّبُّ لاَ إِنْسَانٌ”. بكلماتٍ أخرى، كان الكهنوت اللاوي يقوم بهذا الدور على الأرض. إلّا أنّ كهنوتهم كان مؤسسًا على الشريعة أي (الناموس). في العهد القديم، أقام العهد مع موسى الكهنوت اللاوي الأرضي، لكنّ هذا الكهنوت فشل بسبب خطيّة إسرائيل.

في المقابل، لا يمكن للعهد الجديد الذي نقرأ عنه في إرميا 31 أن يفشل، لأنّه كما تُخبرنا الرسالة إلى العبرانيين 8: 6:

 قد تَثبَّتَ على مواعيدَ أفضل (العبرانيين 8: 6).

وهذه “المواعيد الأفضل” هي وعد بتغيير كامل لشعب الله وبمغفرة أبديّة ونهائيّة لخطاياهم.

في العبرانيين 9: 1–28، يتوسّع الكاتب في حديثه عن حقيقة كون كهنوت يسوع الملوكي أعظم من الكهنوت اللاوي. وقد بدأ هذا القسم بإشارته إلى المسكن الأرضي بحسب الترتيب الموسوي، مُظهِرًا ميزات مشتركة بينه وبين مَقْدِس الله السماوي. إضافةً إلى ذلك، يأتي على وصف الممارسات الكهنوتيّة التي أمر بها الله في اللاويين 16: 34 فيما يتعلق بيوم الكفّارة السنوي. وهذا يدلّ على أنّ الذبائح التي كانت تُقدّم في المسكن الأرضي لا يمكنها أن تحلّ مسألة الخطيّة بشكلٍ كامل، بل هناك حاجة لتكرارها سنة بعد أخرى. فكان لا بدّ من أن تُقام هذه الذبائح حتى يصل التاريخ إلى ذروته في الأيام الأخيرة – وهو ما سمّاه الكاتب، في العبرانيين 9: 10، “وقت الإصلاح”. ثمّ يضيف الكاتب في العبرانيين 9: 11 قائلاً:

 ذَلِكَ أَنَّ الْبَرَكَاتِ السَّمَاوِيَّةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ فِي الْمَسِيحِ. فَهُوَ الآنَ كَاهِنُنَا الأَعْلَى (العبرانيين 9: 11، ترجمة كتاب الحياة).

ويشدّد هذا التصريح على أنّ الذين وضعوا إيمانهم في المسيح قد تحرّروا من الخطيّة بفضل كفّارة كهنوته الكاملة، وصار لهم الآن دخول إلى عرش النعمة السماوي.

ويشرح الكاتب أيضًا لماذا كانت ذبيحة المسيح ضرورية. كان ينبغي على المسيح أن يقدّم نفسه ذبيحة مستخدمًا مثال الوصيّة. فإنفاذ الوصايا المألوفة يستلزم موت الموصي. وهكذا كان عهد موسى يستلزم موتًا وسفك دمٍ. من هنا، وبالتحليل المنطقي، شرح الكاتب أنّ تدشين العهد الجديد يستلزم موتًا وسفك دم – دم المسيح في قدس أقداس الله في العرش السماوي. وفي هذه الحالة، إنفاذ حكم إرث “الوصيّة” هو الغفران. لذلك، لا ينال الناس الغفران إلّا عندما يتطهرون بدم ذبيحة يسوع. يعبر الكاتب في العبرانيين 9: 26 عن فكرته بهذه الطريقة:

 وَلَكِنَّهُ الآنَ قَدْ أُظْهِرَ مَرَّةً عِنْدَ انْقِضَاءِ الدُّهُورِ لِيُبْطِلَ الْخَطِيَّةَ بِذَبِيحَةِ نَفْسِهِ (العبرانيين 9: 26).

لقد أبطل يسوع الخطيّة مرّةً لأنّ دمه لم يُرشّ في أقداسٍ مصنوعة بيد إنسان. بل دخل السماء بذبيحة نفسه. وتمامًا كما وعد الرب في إرميا 31: 34:

 لأَنِّي أَصْفَحُ عَنْ إِثْمِهِمْ وَلاَ أَذْكُرُ خَطِيَّتَهُمْ بَعْدُ (إرميا 31: 34).

مات يسوع فدية عن شعبه ليحرّره من الدينونة. ويُنهي الكاتب هذا القسم بقوله إنّ المسيح سيعود، لكن لا ليحمل خطايانا مجدّدًا. لكن عندما سيظهر ثانيةً، سوف يأتي يسوع بالخلاص للذين ينتظرونه.

يواصل الكاتب في العبرانيين 10: 1–18 المقارنة والمقابلة بين عهد موسى والعهد الجديد. لكنّه هذه المرّة يجزم أنّه من خلال العهد الجديد، صار لنا مغفرة نهائيّة لخطايانا، بـيسوع رئيس كهنتنا. ثم يكرّر أنّ الذبائح التي كانت تُقدّم في يوم الكفّارة، كانت بمثابة تذكير سنوي بخطايانا، لكن ليس بإمكانها أن ترفع تلك الخطايا. ويؤكد بأنّ الذبائح الحيوانية لا يُمكن أن تُسرّ الله. ويقتبس من المزمور 40 حين قدّم داود نفسه كقدوة أمام الله ليفعل مشيئته. ويبين أنّ يسوع قد تمّم هذه المشيئة بتقديم جسده على الصليب. وبينما لم تقدر ذبائح اللاويين أن تأتي بالمغفرة النهائية لخطايانا، جاء وعد الله من خلال نبوّة إرميا بعهدٍ جديد سيصفح فيه الله عن خطايا شعبه إلى الأبد. وقد تمّم يسوع ذلك. وبالتالي لا توجد بعد حاجة إلى ذبائح حيوانية عن الخطيّة.

يشكّل 10: 19–23 من العبرانيين أول أقسام المناشدات الأربعة. أولاً، يدعو الكاتب قرّاءه إلى الاقتراب من الله والتمسّك بـرجائهم، موضّحًا أنّ المسيح، بدمه، قد هيّأ أمامهم الطريق إلى قدس الأقداس. وكما جاء في العدد 23، بإمكانهم أن “يتمسّكوا بإقرار الرجاء راسخًا” لأنّ الله أمينٌ.

وفي 10: 24–31، يحثّ الكاتب قرّاءه أيضًا على ملاحظة بعضِهم بعضًا لِلتَّحْرِيضِ “عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ”. ويذكر أنّه ينبغي أن يجتمعوا سويّةً، وبالأكثر على قدر ما يرون يوم الدينونة يقرب. ثمّ يتكلّم عن الدينونة المخيفة التي تنتظر من “دَاسَ ابْنَ اللهِ”، وَحَسِبَ دَمَ الْعَهْدِ الَّذِي قُدِّسَ بِهِ دَنِسًا، وَازْدَرَى بِرُوحِ النِّعْمَةِ. كما يشير إلى أن الرَّبُّ يَدِينُ شَعْبَهُ.

ويدعو الكاتب قُرّاءه، في العبرانيين 10: 32–35، إلى تذكّر الأيّام السالفة كما يدعوهم ألّا يطرحوا ثقتهم. ويذكّرهم بأنّهم صبروا على ضيقات كثيرة في الماضي بفرحٍ لأنّهم واثقون أنّ لهم مالاً أفضل في السماوات وباقيًا. وأنّهم إن جاهدوا واحتملوا سوف ينالون مجازاة عظيمة.

ثمّ يحثّ الكاتب قرّاءه في العبرانيين 10: 36–39 على المثابرة على عمل مشيئة الله. وقد دعم هذه المناشدة بتذكيره إيّاهم أنّ الله سوف يأتي ليجلب البركات والدينونة الأخيرة. ويحذّرهم بقوله إنّ الله لا يسرّ بالذين يرتدّون عن حياة الإيمان. لكنّه يضيف في العبرانيين 10: 39 فيقول:

 وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا مِنَ الاِرْتِدَادِ لِلْهَلاَكِ، بَلْ مِنَ الإِيمَانِ لاِقْتِنَاءِ النَّفْسِ (العبرانيين 10: 39).

بعد سلسلة العظات أو المناشدات هذه، يجعل الكاتب مضمون رسالته في 11: 1–40 يتمحور حول الإيمان الذي يُخلّص. وقد ذكرنا أنّ قرّاء العبرانيين قاسوا الاضطهاد في الماضي وهم أمام إمكانية مواجهة اضطهادٍ أشدّ في المستقبل. فكان الكاتب يحثّهم على أن يتحلّوا بإيمانٍ ثابت لا يتراخى في الأوقات العصيبة.

ثمّ يوضّح ما عناه بذلك من خلال تسمية قائمة طويلة من شخصيات العهد القديم تحلّت بأمانتها حتى في وقت الضيق والشدة. وهم في حياتهم لم ينالوا المواعيد، لأنّ مواعيد الله كانت للزمن الآتي. لكن كما يخبرنا الكاتب سوف يشتركون مع الكاتب وقرّائه بالكمال عند عودة المسيح.

 الثبات العمليّ (12: 113: 25)


إذ يأتي الكاتب، في الجزء الرئيسي الأخير من العبرانيين الممتدّ من 12: 1–13: 25، بالرسالة إلى نهايتها، يتوسّع في موضوع الثبات العمليّ. ويحتوي هذا الجزء على سلسلة طويلة من العظات والتفسيرات. لكن من أجل أهداف هذا الدرس، سوف نكتفي بتلخيص هذه العظات أو المناشدات.

إذ يأتي كاتب العبرانيين إلى نهاية رسالته، يذكر نصائح عديدة وسريعة حول نواحٍ معيّنة من الحياة. ومن عدّة جوانب، هذا القسم هو أكثر قسم عمليّ في رسالته حيث أنه يتطرّق بشكلٍ خاص إلى نوع السلوكيّات التي كان يأمل من مستلمي رسالته أن يتّبعوها. إلّا أنّ الكاتب ينتهز الفرصة أيضاً ليبعث في قرّائه الأمل والطاقة من خلال تذكيرهم بالامتيازات العظيمة التي ينعمون بها كأتباع للمسيح.

ويمكن أن تنقسم هذه المناشدات إلى خمس فئات عامّة تليها الخاتمة. يحثّ الكاتب قرّاءه في العبرانيين 12: 1–3 على المثابرة كما لو في سباق. ويمكنهم أن يحقّقوا الفوز من خلال طرح الخطيّة والنظر إلى المسيح الذي احتمل وجاهد مثلهم.

ثمّ يحثّ الكاتب قرّاءه في العبرانيين 13: 4–13، على احتمال المشقّات على أنّها تأديب الله لهم كأبٍ لبنيه. وقد دعم وجهة نظره مقتبسًا من الأمثال 3: 11–12، ويشرح أنّ تأديب الله “يُعطي الذين يتدرّبون به ثمر برٍّ للسلام”. إذن يشجّعهم على أن يتشدّدوا فلا يخوروا وقت الآلام.

أمّا في العبرانيين 12: 14–17، فيحثّ الكاتب قرّاءه مجدّدًا على أن يُشجّعوا بعضهم بعضًا. ويحرّضهم على العيش بسلام وقداسة. وكان عليهم أن يلاحظوا بعضهم بعضًا لئلّا يكون أحدٌ زانيًا أو مستبيحًا. وقد أظهر كم أنّ ذلك مهمٌّ مستعينًا بمثل عيسو الذي لم يستطع أن يستعيد بكوريّته بعد أن باعها.

في العبرانيين 12: 18–29، يحثّ الكاتب قرّاءه على أن يكونوا شاكرين على البركات التي نالوها في المسيح. ولكي يرفع نفوس قرّائه ويبعث فيهم الرغبة في المثابرة، يصف لهم البركات والامتيازات اللامحدودة التي نالوها. استمع إلى العبرانيين 12: 22–24:

 بَلْ قَدْ أَتَيْتُمْ إِلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ، وَإِلَى مَدِينَةِ اللهِ الْحَيِّ، أُورُشَلِيمَ السَّمَاوِيَّةِ، وَإِلَى رَبَوَاتٍ هُمْ مَحْفِلُ مَلاَئِكَةٍ، وَكَنِيسَةِ أَبْكَارٍ مَكْتُوبِينَ فِي السَّمَاوَاتِ، وَإِلَى اللهِ دَيَّانِ الْجَمِيعِ، وَإِلَى أَرْوَاحِ أَبْرَارٍ مُكَمَّلِينَ، وَإِلَى وَسِيطِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، يَسُوعَ، وَإِلَى دَمِ رَشٍّ يَتَكَلَّمُ أَفْضَلَ مِنْ هَابِيلَ (العبرانيين 12: 2224).

 وفي العبرانيين 13: 1–19، يشجّع الكاتب قرّاءه باختصار على أن يكونوا أمناء في حياتهم اليوميّة. فيشير إلى ضرورة محبّة بعضهم لبعض، وتذكّر الغرباء والمقيّدين، وجعل الزواج مكرّمًا. ويشجّعهم على أن يكونوا مكتفين ويذكروا مرشديهم. كما يذكّرهم بعدم الانسياق وراء التعاليم الغريبة التي كانت تعتقد بها المجتمعات اليهوديّة المحلّيّة، بل أن يقبلوا بفرح آلام المسيح في حياتهم. ثم يحضّهم على تقديم ذبائح التسبيح، وعلى فعل الخير، والتوزيع، ثمّ يختم هذا القسم طالبًا إليهم أن يصلّوا من أجله ومن أجل رفاقه.

أخيرًا، في العبرانيين 13: 20–25، يختم الكاتب رسالته. وفي العدَدين 20 و21 يباركهم طالبًا إلى الله الذي أقام يسوع من الموت أن يعمل فيهم ما هو لمجده. ثمّ في العدد 22، يطلب من قرّائه أن “يحتملوا كلمة وعظه”، أو مناشدته القوية لهم. ويختم رسالته بتحيّاتٍ عدّة.

 


الخاتمة


لقد قمنا في هذا الدرس بالنظر إلى محتوى وبنية الرسالة إلى العبرانيين. وأشرنا إلى المحتوى المتكرّر الذي يركّز على الأيّام الأخيرة الحاصلة بيسوع، والدعم الكتابي من العهد القديم لمعتقدات الكاتب، وتحذيراته العديدة للثبات. كما قمنا بدرس البنية الإنشائية الأدبية للرسالة ولاحظنا كيف حبك الكاتب هذه المواضيع المتكرّرة ليواجه بها التحدّيّات الآتية من التعاليم اليهوديّة المحلّيّة لزعزعة الإيمان المسيحي.

تقدّم الرسالة إلى العبرانيين كنوزاً عظيمة لأتباع المسيح. فآراؤها اللاهوتيّة تصل إلى عمق ما فعله المسيح لأجلنا. وتدخل إلى عمق معنى أن نتبع المسيح. فتدعونا الرسالة إلى العبرانيين إلى التوجّه نحو النصوص الكتابيّة والاعتراف بسلطانها وإلى قبول المسيح كمتمّم لكلّ ما وعد الله به. كما تحثّنا على محبّة المسيح وخدمته بقلوب ممتنّة، إلى ذلك اليوم الذي سنُمنح فيه الملكوت الذي يعدّه المسيح لنا، وهو الملكوت الوحيد الذي لن يتزعزع أبداً.

 


تم النشر بإذن من خدمات الألفيّة الثالثة.

شارك مع أصدقائك