ذات مرة، تجاسر بطرس وسأل يسوع قائلًا: “هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. فَمَاذَا يَكُونُ لَنَا؟” فآتى جواب المسيح قائلًا:
ليْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَدًا أَوْ حُقُولاً، لأَجْلِي وَلأَجْلِ الإِنْجِيلِ، إِلاَّ وَيَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ الآنَ فِي هذَا الزَّمَانِ، بُيُوتًا وَإِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ وَأُمَّهَاتٍ وَأَوْلاَدًا وَحُقُولاً، مَعَ اضْطِهَادَاتٍ، وَفِي الدَّهْرِ الآتِي الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ” (مرقس 10: 28-30).
وحتى يتسنى لنا فهم أبعاد هذه الكلمات، ينبغي أن نتذكر أن المسيح قالها وسجّلها كتبة الوحي لأناس دفعوا ثمن اتباعهم له من حياتهم العائلية والاجتماعية. فقد طُردوا من بيوتهم ومن مجامعهم اليهودية لأجل ذلك الاسم. لذا، فإن أكثر ما لفت انتباهي في هذه الآية هو تأكيد الرب يسوع أن ما يفقده المؤمنون في هذه الحياة من أهل وإخوة، يعوّضهم عنه مئة ضعف في هذا الزمان: “إخوة وأخوات وأمهات وأولاداً”.
أتدري من هم هؤلاء الإخوة والأخوات؟ إنهم الكنيسة!
لقد أقام الله كنيسته وجماعة المؤمنين باسمه لتكون هي التعويض الإلهي عن العلاقات العائلية التي تهشّمت. والمؤلم أن الكنيسة التي يشتكي منها البعض اليوم ويعتبرونها مصدر معاناتهم، كان ينبغي أن تكون بحسب تصميم الله الملجأ والمشفى الروحي الذي فيه يتذوق المؤمنون عمق الشركة الحقيقية.
أولًا: المسيح يدعونا إخوة
يُعلن العهد الجديد أن يسوع، الابن الوحيد، المساوِي للآب في جوهره الأزلي، قد صار أخانا البكر، ونحن صرنا له إخوة، إذ تبنّانا الله في نعمته الأبويّة. ولهذا يكتب كاتب الرسالة إلى العبرانيين قائلاً:
وَهُوَ آتٍ بِأَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ إِلَى الْمَجْدِ… لأَنَّ الْمُقَدِّسَ وَالْمُقَدَّسِينَ جَمِيعَهُمْ مِنْ وَاحِدٍ، فَلِهذَا السَّبَبِ لاَ يَسْتَحِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِخْوَةً، قَائِلاً: “أُخَبِّرُ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي، وَفِي وَسَطِ الْكَنِيسَةِ أُسَبِّحُكَ” (عبرانيين 2: 10–12).
ويضيف بولس في رومية 8:29 أن المقصد الأسمى من عمل الفداء هو أن يتشكّل المؤمنون على صورة الابن: “مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ، لِيَكُونَ هُوَ بِكْرًا بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ.”
ولقد اعتاد الرب يسوع أن يدعو تلاميذه “إخوة”، معطياً إياهم تعاليم واضحة حول مسؤولية كل أخ تجاه أخيه في المحبة والرعاية. وهذه الأخوة ليست رابطة جسدية، ولا الكنيسة مجرّد طائفة أو بناء حجري، بل جماعة حية نابضة تشكّل جسد المسيح المتحد به بالروح.
ثانيًا: نحن مسؤولين تجاه بعضنا البعض
إن قصة السقوط وآثاره المدمّرة لا تتوقف عند أحداث تكوين 3 فحسب، بل تمتد لتشمل تكوين 4 وما بعده. ففي تكوين 3 نرى كيف دمّر عصيان آدم علاقة الإنسان بالله (آيات 8–11)، وعلاقة الأزواج بعضهم ببعض (آية 12)، وعلاقة الإنسان بالخليقة (آيات 17–19؛ رومية 8: 19-23). ثم يأتي تكوين 4 ليُظهر كيف خرّبت الخطية العلاقة بين الإخوة، إذ نسمع قايين ينطق بتلك العبارة الشهيرة: «أَحَارِسٌ أَنَا لأَخِي؟» (آية 9)، وهي العبارة التي لا تزال تعبّر عن روح الفردية والانعزالية في ثقافتنا المعاصرة. فكثيرًا ما يتردد المسيحيون بين نزعة السيطرة على الآخرين وبين تجاهل مسؤوليتهم تجاه نمو إخوتهم وسلامتهم الروحية.
لقد أوصى الرب يسوع بطرس، في الليلة الأخيرة قبل أن يُسلَّم، أن يثبت إخوته متى رجع وتاب عن إنكاره له (لوقا 22: 32). فلم يقل بطرس آنذاك: “يكفيني أن أعتني بخلاص نفسي!” بل كان عليه مسؤولية نحو إخوته، أن يشدّدهم ويجمع شمل من تشتتوا وهربوا. ونجد الأمر ذاته يتكرر في الرسالة إلى العبرانيين، حيث يتخلل تحذيرات الكاتب المتكررة من خطر الارتداد دعوته للمؤمنين في الأصحاح العاشر بأن يتقدموا إلى الأقداس بقلب صادق ويقين الإيمان، وأن يتمسكوا بإقرار الرجاء بثبات. ثم يختم وصيته لهم قائلاً:
وَلْنُلاَحِظْ بَعْضُنَا بَعْضًا لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ، غَيْرَ تَارِكِينَ اجْتِمَاعَنَا كَمَا لِقَوْمٍ عَادَةٌ، بَلْ وَاعِظِينَ بَعْضُنَا بَعْضًا، وَبِالأَكْثَرِ عَلَى قَدْرِ مَا تَرَوْنَ الْيَوْمَ يَقْرُبُ (عبرانيين 10: 19–25).
والأمر ذاته نجده في خاتمة رسالة يعقوب، حيث يوصي الرسول كل عضو في جسد الكنيسة بأن يصلوا بعضهم لأجل بعض، وأن يعترفوا بعضهم لبعض بزلاتهم. ويختم رسالته بهذه الكلمات العظيمة التي تؤكد مسؤوليتنا تجاه إخوتنا:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ، إِنْ ضَلَّ أَحَدٌ بَيْنَكُمْ عَنِ الْحَقِّ فَرَدَّهُ أَحَدٌ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ مَنْ رَدَّ خَاطِئًا عَنْ ضَلاَلِ طَرِيقِهِ، يُخَلِّصُ نَفْسًا مِنَ الْمَوْتِ، وَيَسْتُرُ كَثْرَةً مِنَ الْخَطَايَا (يعقوب 5: 7–20).
هذا الدور الذي نؤديه تجاه إخوتنا يجب ألا تحركه نوازع التفوّق ولا الشعور بالبر الذاتي، بل من قلب ممتلئ بمحبة صادقة ووداعة (غلاطية 6: 1).
نعم، نحن مدعوون ككنيسة لنحمل أعباء بعضنا البعض، لكن ينبغي أن يُصاحب ذلك وعي عميق بأن كل خدمة نقدّمها للإخوة الأضعف هي في جوهرها خدمة نقدمها للمسيح نفسه، كما صرّح الرب يسوع في متى 25: 40:
فَيُجِيبُهُ الأَبْرَارُ حِينَئِذٍ قَائِلِينَ: يَارَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا فَأَطْعَمْنَاكَ، أَوْ عَطْشَانًا فَسَقَيْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيبًا فَآوَيْنَاكَ، أَوْ عُرْيَانًا فَكَسَوْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟ فَيُجِيبُ الْمَلِكُ وَيَقوُل لَهُمْ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ.
ثالثًا: اصطلح مع أخيك
ربط الرب يسوع في تعليمه حول وصية «لا تقتل» بين الغضب الداخلي وممارسة العبادة، إذ قال:
كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ . . . فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى الْمَذْبَحِ، وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئًا عَلَيْكَ، فَاتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ، وَاذْهَبْ أَوَّلاً اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ (متى 5: 21–24).
وهذا الترابط يضيء على مأساة قايين، الذي حمل الحسد والغضب في قلبه على أخيه فقتله، وكان ذلك في إطار العبادة نفسها! ولهذا يعلّمنا الرب أن تصالحنا مع إخوتنا ينبغي أن يسبق خدمتنا وعبادتنا: “وَاذْهَبْ أَوَّلاً اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ.”
رابعًا: المسيح ترك لنا مثالًا
في الطريق إلى أورشليم، دبّ جدال بين التلاميذ حول من فيهم الأعظم. وعندما دخلوا العُليّة وجلسوا لتناول الفصح، كانت العادة الجارية أن يقوم أحد الخدم أو العبيد بغسل أرجل الضيوف. وتشير السجلات اليهودية إلى أن التلميذ لم يكن مسموحًا له أن يغسل قدمي معلمه. لذلك، لم يرَ التلاميذ أنفسهم فقط أرفع من أن يغسلوا أرجل بعضهم بعضًا، بل وجدوا في أنفسهم عظمة تمنعهم من أن يغسلوا حتى قدمي معلّمهم.
لكن الرب يسوع، وهو عالم بهويته ومكانته، وأنه خرج من عند الآب، لم يقتصر على غسل أرجل تلاميذه المقربين كبطرس ويعقوب ويوحنا، بل انحنى ليغسل حتى قدمي يهوذا الذي أسلمه. وهكذا ترك لنا مثالًا لنقتفي أثره، إذ قال:
فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ، لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالاً، حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا (يوحنا 13: 14–15).
إن هذا العمل الذي فعله المسيح لم يكن طقسًا كنسيًا يُمارَس في بعض الكنائس مرة كل عام، بل قصد به أن يكون نهج حياة يومي لأعضاء كنيسته في كل زمان.
إن دعوة الرب يسوع لنا كإخوة هي امتياز ومسؤولية معًا: أن نخدم بعضنا بعضًا بمحبة صادقة ومن قلب طاهر وبشدة، وأن تكون الكنيسة الحضن الذي يجد فيه الخطاة التائبون تعويضًا عن ما فقدوه في هذا العالم الساقط.