منذ فترة قريبة، كنت أتدرّب في إحدى الأندية مع مدربٍ خاص. وقد كان شاب ينحدر من عائلة إنجيليّة، لكنه توقف عن الذهاب إلى الكنيسة بعدما جرفته مشاغل الحياة، وزواجه بفتاة من ديانة أخرى. في كل مرة كنا نتقابل فيها، كان يدور النقاش حول السمات المشتركة والاختلافات بين الأديان المُختلفة. تارة كان دافع النقاش هو حب التعلُّم والبحث عن الطريق، وتارة أخرى كان ينجرف النقاش نحو محاولات مستمية لإثبات وجهة نظره بأن جميع البشر يعبدون نفس الإله، ويُعلّمون نفس القيّم والمبادئ، ولكن الاختلاف هو في طريقة تفكير أرباب كل ديانةٍ في فِعل ذلك.
وذات مرةٍ، كُنا نتحدث عن البوذيّة، فطرح عليّ أطروحة كثيرًا ما تُردد في الكتابات والنقاشات الأكاديمية وهي أن حياة سيدهارتا جوتاما، أو من يُعرف بالبوذا، أو المُستنير، تتشابه في الكثير من الأحداث والمواقف مع حياة يسوع المسيح. وعلى الرغم من أن هذا الادعاء يستند في الأساس على التركيز على بعض النصوص الانتقائية من بعض كتب سيرة البوذا، كمحاولة لإثبات كما لو أن الكنيسة الأولى قامت بسرقة أفكارها عن قصة المسيح إلا أننا قد رأينا أن علينا مناقشة مثل هذا الادعاء وامتحانه في ضوء كل من الكتابات البوذية والتاريخ المسيحيّ والمنطق.
نظرة مُختصرة على هذا الادعاء
في كتابه “البوذية: مقدمة قصيرة جدًا” من إصدار أوكسفورد، يُشير داميان كيون، مثلًا، إلى التشابه بين ميلاد بوذا المُعجزيّ، والنبوات والأحلام حول ميلاده، وبين ميلاد المسيح المذكور في بشارتيّ متى ولوقا.[1] ويذكر الراهب البوذيّ نانامولي في كتابه “حياة البوذا“، الذي أعتمد فيه على ترجمة نصوص من شريعة بالي (Pāli Canon)، بعض الأمور المعجزية التي صاحبت ميلاد سيدهارتا جوتاما.
فيذكُر أنه قبل أن يولد البوديساتفا، أي من سوف يُصبح البوذا فيما بعد، كان في سماء سودهافاسا، وهو مكانٍ سام تسكنه كائنات بلغت مستويات كبيرة من النقاء الروحي والرضا. وأنه في لحظة دخوله إلى رحم أمه، والتي كان أسمها مايا، أو مهامايا، ظهر نور عظيم، فاق بهاء الآلهة، وجاء أربعة آلهة لحراسته من الاتجاهات الأربعة من أي أذى قد يلحقه به أي بشر أو غير بشر. كما أن ما أن حبلت به أمه حتى صارت طاهرة طهارة “جوهرية”.[2] كما حلمت عند الحبل به حُلمًا، كان تفسيره من قِبَل ست وأربعون راهب هندوسيّ بأنه سيكون له مصير عظيم إما كإمبراطور عالميّ أو كمُعلّم دينيّ.[3]
وإذا تركنا ميلاده وذهبنا إلى فترة شبابه، لوجدنا قصة تُشبه كثيرًا قصة تجربة المسيح في البرية من قِبَل الشيطان (متى 4، لوقا 4)، حيث في مرات ومواقف عديدة حاول “مارا”، وهي شخصية تُمثّل الشر في البوذيّة، تجربة بوذا.[4] فيقول هارفي: “في تشابه غريب مع تجربة يسوع في البرية، يقال إنه [بوذا] رفض إغراء مارا بتحويل جبال الهيمالايا إلى ذهب.” [5] وكذلك تُخصص كُتب سيرة البوذا قسمًا كبيرًا منها لعظة بوذا الأولى، والتي وإن اختلفت في شكلها ومضمونها مع شكل ومحتوى عظة المسيح على الجبل، فإن لكلاهما وضع مركزيّ كمُلخّصٍ لتعاليم كل من يسوع وبوذا. كما أن المُشككون في تاريخية المسيح كثيرًا ما يقتطعون بعض المشاهد من سيّر البوذا المختلفة للتدليل على أن معجزات المسيح ليست أصيلة، وإنما مقتبسة من الأساطير المعجزية للبوذا.
ما خطورة هذا الادعاء؟
يتركنا هذا الادعاء مع عدة تساؤلات حائرة: مَن الذي أخذ مِن مَن؟ هل تأثر يسوع بالبوذية؟ هل يمكن أن يكون يسوع هو نفسه بوذا وتم تشويه أو تحريف الفكرة لدى أتباع المسيح؟ أو هل أقتبس المسيحيون في قرون لاحقة حياة البوذا ونسبوها لمسيحهم؟
إن مثل هذه التساؤلات يجب ألا نتجاهلها لما لها من تابعات خطيرة. فهناك ثلاث فئات تستخدم هذا الادعاء ومثل هذه التساؤلات. الفئة الأولى هي فئة صديقي المُدرب، الذي حدثتكم عنه في بداية مقالي هذا. تلك الفئة ترى أن ربما يسوع هو نفسه بوذا، وأنه حدث تطوّر وتحريف للأفكار والروايات من بلد لأخرى ومن ثقافة لثقافة؛ وأننا في النهاية نعبد نفس الإله، أو دعني أقولها نعيش نفس الخدعة.
الفئة الثانية هي فئة الأكاديميين الليبراليين، خاصة جماعة سيمنار يسوع، والتي هي وغيرها يستخدمون مثل هذه التشابهات الشكليّة مع حياة البوذا، لزعم أن الجماعة المسيحية المبكرة قامت برسم صور مُلفقة ليسوع التاريخيّ، وبالتالي التشكيك في كل من تاريخية يسوع وموثوقية العهد الجديد.[6]
أما الفئة الثالثة فهي أحبائنا المسلمين الذين يستخدمون هذا الطرح للدفاع عن التشابهات التي تصل إلى حد الاقتباسات المُباشرة في كُتب سيرة نبيّ الإسلام محمد من حياة المسيح بحسب البشائر الأربعة. لذا، علينا محاولة الإجابة على هذا الادعاء.
كيف نُجيب على هذا الادعاء؟
أولًا، إذا نحينا لبرهةٍ إيماننا بوحي وخلو الكتاب المقدس من الأخطاء، وفكرنا في الأمر من منظور تاريخيّ واجتماعيّ بحت، لوجدنا أن تقليد إسناد المعجزات الخارقة للطبيعة إلى الأنبياء والملوك منتشر على نطاق واسع في مختلف الثقافات والأديان، بدءًا من مِصر القديمة وبلاد ما بين النهرين، وصولًا لجوزيف سميث وإلن هوايت في أمريكا.
فالبوذية، شأنها شأن العديد من الأنظمة العقائدية الأخرى، تقتضي تصوير البوذا باعتباره أكثر من مجرد فرد عادي عاش حياة عادية. ولكن بدلًا من ذلك، تم تصويره باعتباره كائناً خارقاً للطبيعة قادراً على بلوغ الاستنارة والنيرفانا. وسلسلة المعجزات هذه هامة جدًا لإثبات صحة البوذية، من منظور أتباع البوذا. إذ أن هذه المكانة الرفيعة مكنته من إرشاد أتباعه إلى طريق الاستنارة، بعكس الأديان والآلهة الهندوسية.
وعلى نحو مماثل، في العهد القديم، ارتبطت ولادة، وحياة، وخدمة الكثير من الأنبياء والملوك بأحداث خارقة للطبيعة أو معجزات، كانت بمثابة علامات على التدخل الإلهيّ. وبسبب انتشار مثل هذه القصص المعجزية في النصوص المقدسة لدى كافة الأديان تقريبًا، فإنه بإمكان أي شخص رسم توازيات ليس فقط بين حياة المسيح والبوذا، بل وبين بوذا وموسى النبيّ، وبين بوذا ويعقوب في سفر التكوين، بل وبين بوذا والرسول بولس، إن شئت.[7] لذا، من المهم أن ندرك هذه التشابهات المشتركة في كافة الأديان، دون محاولة ربط بعضها ببعض لنُثبت تأثر أو اقتباس أحدها من الآخر.
ثانيًا، هناك فرضية شائعة بأن من أتى بفكرة أولًا هو في الأغلب صاحب هذه الفكرة، وأن أي شخص يُقدِّم فكرة مماثلة لاحقًا يجب أن يكون قد استعارها أو سرقها؛ وهنا يكمن الخطأ. لأنه ليس بالضرورة أن الذي أتى لاحقًا يكون قد سرق أو استعار؛ خاصة إذا كُنا نفتقر لأدلة تُشير إلى روابط أو تفاعلات بين المسيحيين الأوائل وبين المجتمعات البوذية.
ولفهم هذه النقطة، دعنا نأخذ التشابهات الصارخة بين سيرة نبيّ الإسلام محمد كما نقحها ابن هشام وبين حياة المسيح في الإنجيل. فبمجرّد القراءة السريعة ستجد الكثير والكثير من التشابهات، خاصة فيما يرتبط بميلاد محمد، والنبوات حول مجيئه وغيرها الكثير.
فبعكس البوذية، لدينا أدلة تاريخية دامغة من خلال القرآن، والنصوص الإسلامية والمسيحية تؤكّد وجود جدالات دينية بين أهل الكتاب والمسلمين. فبينما انتقض المسلمون ونصوصهم المعتقدات المسيحية واليهودية وأقرت بعضها، شكك المسيحيون كذلك في مصداقية نبيّ الإسلام ووحيه. مما استدعى أن تُصاغ وتتأثر كتب سيرة محمد بسيرة المسيح المدوّنة في الإنجيل. فقد استعان كتّاب السيَّر برسم صورة لمحمد تتوازى مع صورة المسيح، للدفاع عن نبيهم وللتأكيد على أنه قد سار على درب النبوة ويحمل علامات ومعجزات الأنبياء الذين سبقوه. والذي يُعزز من هذا الارتباط والتأثير أيضًا هو أننا نعرف على الأقل أن ابن إسحاق أول من كتب سيرة محمد كان من عائلة مسيحية.
فلا نجد أي دليل تاريخيّ أو وثائقيّ، كالذي نجده بغزارة بين المسيحية والإسلام، يعزز من الادعاء بتلاقح الأفكار بين البوذيين والمسيحيين الأوائل. ففي حين كتبت الكثير من الكتب والمراجع عن تأثير الثقافة اليونانية-الرومانية على البوذية، فإن الأدلة حول تأثير البوذية عبر طريق الحرير على منطقة فلسطين والعالم اليوناني الروماني الذي انتشرت فيه المسيحية، لا تزال تحتاج إلى المزيد من البحث والاستقصاء حول ما إذا كان هناك تأثير على تلك المنطقة من العالم، خاصة فيما يخص بالكتابة عن حياة المسيح كما هي في البشائر الأربعة.
وهذا يقودنا للنقطة الثالثة، حول مَن الذي أخذ مِن مَن. ربما تظن أنه بسبب أن البوذا قد عاش قبل يسوع بخمسة أو ستة قرون، فأي تشابهات بين الإثنين هي في الأغلب نابعة من اقتباس، سواء يسوع نفسه، أو أتباعه، لتلك الأفكار من البوذية. ولكن من الجدير بالذكر أنه صحيح أن جوتاما قد سبق يسوع بزمن طويل، إلا أن أقدم نص معروف قد كُتب عن حياة البوذا، هو “بوذاكاريتا”، والذي يعود إلى القرن الأول أو الثاني الميلاديّ. تم تحديد هذا التأريخ من خلال التدقيق اللغوي والسياق التاريخي والمراجع النصية الداخلية.[8] كما أن السيرة التي ربما تذكر، مثلًا، إشباع بوذا لجمع من الرهبان بالمئات من بعض حبوب الأرز القليلة أو أنه قام بشفاء مريض، وهي “ماهافاستو”، فقد مرت، هي وأغلب سيّر حياة البوذا، بمراحل طويلة من التطوّر والتنقيح والإضافة. فقد بدأت كتابتها في القرن الثاني قبل الميلاد، واكتملت كتابتها في القرن الرابع الميلادي تقريبًا.[9]
وعليه، فإن احتمالية تأثر بعض الجماعات البوذية بما نادت به المسيحية حول شخص المسيح واقتبست منها وضمّها ضمن حياة البوذا، أمر وارد.[10] خاصة أن هناك بعض التلميحات التاريخية والأركيولوجيّة حول أن جذور الوجود المسيحي في الهند والصين عميق وقد يصل إلى القرون الأولى للميلاد. وبسبب ضيق الوقت، سأُشير في الهوامش السفلية إلى كتابين فقط يمكن للقارئ الإضطلاع عليهما لتتبع كيف انتشلارت المسيحية في الهند والصين في القرون الأولى للميلاد.[11] فربما تكون الجماعات البوذية، على غرار ما فعلوه كُتَّاب سيرة نبيّ الإسلام، قد صاغوا حياة قائدهم لتحاكي حياة المسيح، خاصة أن مقارنة سيَّر حياة البوذا المختلفة، تختلف القصص المعجزية المرتبطة بحياة البوذا باختلاف مكان وزمان كتابتها.
كلمة أخيرة عن تعاليم كل منهما
علينا ألا ننسى أن الفرق الأعظم بين حياة المسيح وحياة البوذا تكمن في جوهر تعليم كل منهما. فقد عاش سيدهارتا جوتاما يبحث عن التحرر من الألم والمعاناة، والتي اعتقد أن وجود الرغبة هي السبب الجذري في هذه المعاناة، وأن التخلّص منها يأتي عبر الاستنارة حيث كَسر دائرة تناسخ الأرواح. ولكن على النقيض من ذلك، يُعلَّم الكتاب المقدس أن الرغبة ليست مشكلة أو شر في حد ذاتها، وإنما هي عطية من الله، وأن الخطية هي أصل الألم والمعاناة. وأن الانتصار الذي حققه المسيح، لم يكن من خلال محاولات مستميتة للتخلص من الألم، بل من خلال الألم أنجز ما لم يستطع كل البشر تحقيقه. فقد ذهب إلى الصليب، مقدمًا حياته طواعية، قابلًا أن يذوق آلام الموت لأجل كل واحد، وليُرسل المنسحقين في الحرية (عبرانيين 9:2؛ لوقا 18:4).
[1] Damien Keown, Buddhism: A Very Short Introduction (Oxford: Oxford University Press, 2013), 20.
[2] Ñāṇamoli Bhikkhu, The Life of the Buddha: According to the Pali Canon (United States: Pariyatti Publishing, 2013), 3.
[3] Peter Harvey, An Introduction to Buddhism (New York: Cambridge University Press, 2013), 16.
[4] Ñāṇamoli Bhikkhu, The Life of the Buddha: According to the Pali Canon (United States: Pariyatti Publishing, 2013), 36
[5] Peter Harvey, An Introduction to Buddhism (New York: Cambridge University Press, 2013), 26.
[6] Tom Harpur, The Pagan Christ: Recovering the Lost Light (United States: Dundurn Press, 2005); Lindsay Falvey, The Buddha’s Gospel: A Buddhist Interpretation of Jesus’ Words (Adelaide, South Australia: Institute for International Development, 2002).
[7] Charles Francis Aiken, The Dhamma of Gotama the Buddha and the Gospel of Jesus the Christ, a Critical Inquiry into the Alleged Relation of Buddhism with Primitive Christianity (United States: Marlier, 1900), 14.
[8] Irma Schotsman, “Intoduction,” in Asvaghosa’s Buddhacarita: The Life of the Buddha (Sarnath: Central Institute of Higher Tibetan Studies, 1995), i.
[9] J. J. Jones, “Forward,” in The Mahāvastu, Vol. I (London: Luzac & Company, 1949), xi.
[10] Charles Francis Aiken, The Dhamma of Gotama the Buddha and the Gospel of Jesus the Christ, a Critical Inquiry into the Alleged Relation of Buddhism with Primitive Christianity (United States: Marlier, 1900), 288–304.
[11] Stephen Neill, A History of Christian Missions (London: Penguin Books, 1986), 24-84; Philip Jenkins, The Lost History of Christianity: The Thousand-Year Golden Age of the Church in the Middle East, Africa, and Asia-and How it Did (New York: HarperOne, 2008), 45-70.