سُلطة الكتاب المقدَّس والتقليد المسيحيّ

تعريف

للكتاب المقدَّس السلطة الأهمُّ في تاريخ الكنائس المسيحيَّة.

موجز

الكتاب المقدَّس هو كلمة الله المكتوبة المُعلَنة. كتاب تنبع سُلطته من سُلطة الله ذاته واضعه ومؤلِّفه. وعليه فإنَّ نزاهته من الزلل شكلّت عقيدة مركزيَّة وسط كنائس الإصلاح الإنجيليّ.


سُلطة الكتاب المقدَّس الفريدة (الكتاب وحده)

كتب مارتن لوثر (1483-1546) المُصلِح البروتستانتيُّ قائلاً: “بادئ ذي بدء، عليكم إدراك أنَّ الكتاب المقدَّس يُنزِل من حكمة كلِّ الكتب الأخرى إلى درك الحماقة، إذ لا يوجد كتاب يعلِّم عن الحياة الأبديَّة إلاَّ الكتاب المقدَّس وحده”. فالكتاب وحده بنزاهته يعلِّمنا كيفيَّة خلاصنا (الإيمان وحده) وكيفيَّة معيشتنا. وعليه، فالأسفار القانونيَّة هي “المعيار” الكافي لإيماننا وسلوكنا. فالكتاب المقدَّس هو المعيار الحاكم على كلِّ أفكار الإنسان وإيمانيَّاته وتقاليده وفلسفته وعلومه. ولا يُحكَم عليه [الكتاب المقدَّس] من أحد أو أيِّ شيءٍ.

المصدر الإلهيُّ للكتاب المقدَّس

الله هو مؤلِّف الكتاب المقدَّس. وسُلطة الكتاب تنبع من سُلطة الله نفسه، كما نقرأ: “كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ، لِكَيْ يَكُونَ إِنْسَانُ اللهِ كَامِلًا، مُتَأَهِّبًا لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ” (2 تيموثاوس 3: 16-17). أمَّا كَتَبَتُه البشريُّون قد استخدموا مواهبهم، وأوحى لهم الروح القدس: “لِأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ” (2 بطرس 1: 21).

بؤرة تركيز الكتاب المقدَّس

كان قد كتب مارتن لوثر قائلاً: “كلُّ أصحاحات أسفار الكتاب المقدَّس لا تتحدَّث سوى عن المسيح الربِّ”. فالربُّ يسوع، ابن الله، هو بؤرة تركيز الكتاب المقدَّس وهو [الربُّ يسوع المسيح] مانحه سلطته. فقد قال لتلاميذه بأن يفتِّشوا الكتب التي سيجدون فيها حياةً أبديَّةً وهي ذاتها الكتب التي تشهد له وعنه (يوحنَّا 5: 39). وكان قد استشهد بالمكتوب في مواجهته للشيطان (متَّى 4: 1-11). كما عَلَّم بحقِّه دالاًّ بأنَّ “إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ لَا يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ” (متَّى 5: 18).

“حقُّ” المكتوب

كان القدِّيس أُغسطينوس (354-431) من أهمِّ مَن صاغوا عقيدة الكنيسة بأنَّ الكتاب المقدَّس هو كلمة الله الحقَّة المُعلنة المكتوبة المنزَّهة عن أيِّ زلل. فكان في زمنه قد واجه انتقادات أثارت شكوكًا حيال ادِّعاءات تناقضات بين البشائر الأربع. وفي ردِّه خطَّ كتابه بعنوان “وحدة البشائر” الذي فيه طرح دليلاً لفكِّ إرباك مفارقات البشائر.

وقد أشار مارتن لوثر إلى أنَّه اتَّبَعَ وجهات نظر القدِّيس أُغسطينوس حيال إخضاع إيمانه لكلمة الله وحدها فقال: “أتبع مثال القدِّيس أُغسطينوس الذي من ضمن أمورٍ أخرى كان الأوَّل وتقريبًا الوحيد الذي، رافضًا إعلاء كتابات الآباء والقدِّيسين، رغب في إخضاع ذاته للكتاب المقدَّس وحده”. وكان قد ذكر اتِّفاقه مع خطاب كان فيه دافعَ القدِّيس أُغسطينوس عن حقِّ المكتوب قائلاً:

يبدو لي أنَّ أجسم عواقب الإيمان بوجود أيِّ زيفٍ أو تضليلٍ في الأسفار المقدَّسة هو الادِّعاء بأنَّ الرجال الذين عُهِد إليهم كتابة الكتاب المقدَّس ومن خلالهم أُعطيناه، قد زيَّفوا وكذبوا في ما كتبوه. وإن صادفت في هذا المؤَلَّف عالي القداسة أيَّ كلمة زيف، فلن يثبت أيُّ حرف من حروف أسفاره التي إن بدت عسرة التطبيق ويصعب تصديقها لا يُقبَل النكس بالمعيار القاتل عينه كأنَّه بيان يعلن فيه المؤلِّف عمدًا ما هو ليس حقًا.

وفي خطاب القدِّيس أُغسطينوس إلى فاوستوس المنشيني بدأ بما ينبغي للمؤمنين فعله إذا وقفوا أمام معضلة في الكتاب المقدَّس، فقال:

أقرُّ بفضل تعليمك إيَّاي تبجيل أسفار الكتاب المقدَّس وتقديرها وحدها: فهي وحدها ما أومن إيمانًا راسخًا بأنَّ كاتبيها حين كتابتها كانوا معصومين من الخطأ. وإذا انتابتني الحيرة في أيٍّ من هذه الكتابات يبدو أنَّه يعارض الحقَّ، فلن أتردَّد في الظنِّ بخطأٍ في النسخ، أو في الترجمة لعدم فهم المُترجم المقصود، أو أنِّي أنا شخصيًّا لم أفهم ما يقوله النصُّ.

وقد أضحت إرشادات القدِّيس أُغسطينوس اللبنات الأساسيَّة لـ “النقد الأدنى للكتاب المقدَّس” -أي دراسات نقديَّة داعمة للكتابات الأصليَّة للكتاب المقدَّس.

في مجمع وورمز عام 1521، أعلن مارتن لوثر اعتقاده في سُلطة الكتاب المقدَّس (الكتاب وحده). وتحدَّى مباشرةً سُلطة الكنيسة الكاثوليكيَّة الغربيَّة قائلاً:

ما لم أقتنع بشهادة الأسفار المقدَّسة أو بالمنطق المحض (لأنِّي لا أثق بالبابا أو المجامع، إذ معروف أنَّهم خطَّاؤون ويناقضون أنفسهم)، فأنا متمسِّك بالأسفار المقدَّسة التي اقتبستُ منها وضميري مأسور بكلمة الله. فأنا لا أستطيع بل لن أتراجع عن أيِّ شيءٍ لأنَّه ليس آمنًا أو من الصواب مخالفة ضميري… فليعينني الله، آمين.

كان لوثر يؤمن بكفاية الكتاب المقدَّس وأنَّ “الكتاب المنزَّه عن الزلل” ينبغي أن يفسِّر نفسه تفسيرًا معصومًا.

وبدوره جون كالفن (1509-1564)، مُصلِحٌ بروتستانتيٌّ آخر، شدَّد على عقيدة الكتاب وحده ونزاهة الكتاب المقدَّس من الزلل. وأشار إلى أنَّه على الرغم من وجود أسباب وجيهة تُظهِر أنَّ الكتاب المقدَّس هو كلمة الله المُعلَنة، يؤمن المسيحيُّون بهذه العقيدة بفضل شهادة الروح القدس داخلهم. كما أشار إلى أنَّ الروح القدس يُيَسِّر المكتوب لنستوعبه. وقد حضَّ الرعاة على تركيز وعظهم على كلمة الله. ففي النهاية “لِأَنَّ كَلِمَةَ اللهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ النَّفْسِ وَالرُّوحِ وَالْمَفَاصِلِ وَالْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ الْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ” (عبرانيِّين 4: 12).

وكذلك المُصلِح وليم تِندِل (1494-1536) استشهد بشاهد عبرانيِّين 4: 12 حين أرسل سرًّا ترجمته الإنجليزيَّة للكتاب المقدَّس إلى إنجلترا.

ليس وحدهم المصلحون البروتستانت من اتَّفقوا مع تعليم القدِّيس أُغسطينوس عن “حقِّ” المكتوب، فلاهوتيُّو الكنيسة الكاثوليكيَّة الغربيَّة الذين عاصروا هؤلاء المصلحين قد اتَّفقوا بدورهم مع رأي القدِّيس أُغسطينوس. فعندما افترض إيراسموس (1466-1536)، كاثوليكيٌّ يتبع مذهب الإنسانيَّة وجامع ليونانيَّة العهد الجديد (1516)، أنَّ بشارة متَّى قد تحمل خطأً تبديلَ اسمٍ بآخر (إشعياء بدلاً من إرميا)، نهره اللاهوتيُّ الكاثوليكيُّ الألمانيُّ يوهان ماير فُن إِك قائلاً بوداعة: “أنصِت عزيزي إيراسموس، أتظنُّ أنَّ أيَّ مسيحيٍّ سيتحمَّل بطول أناةٍ أن يُقال له إنَّ كُتَّاب البشائر الأربع قد أخطؤوا؟” ثمَّ استشهد بقول القدِّيس أُغسطينوس: “إذا بلغ الأمر مرحلة التشكيك في سُلطة الكتاب المقدَّس، هل من نصٍّ آخر أسمى من الاشتباه في صدقيَّته؟ استنتاج بَلَغَه القدِّيس أُغسطينوس بعد تسلسل بليغ من الاستدلال المنطقيِّ”. فبالنسبة إلى إِك كان تبديل كلمة واحدة يعدُّ خطأً وتشويهًا لسُلطة الكتاب المقدَّس.

سُلطة الكتاب المقدَّس والتقليد

في مجمع ترنت (1545-1563)، حدَّدت الكنيسة الكاثوليكيَّة الغربيَّة عقائدها وممارساتها. فيه أصدر المجمع أنَّ الكتاب المقدَّس والتقليد متساويان في مصدريَّتهما للإعلان الإلهيِّ. كما عَدَّ أنَّ الترجمة اللاتينيَّة للكتاب المقدَّس “ترجمة الفولجاتا للقدِّيس جيروم” هي الترجمة “الصحيحة” للكتاب المقدَّس.

في عام 1588، السنة التي فيها توجَّه الجيش الإسبانيُّ الكاثوليكيُّ إلى اجتياح إنجلترا، نشر وليم وايتكر (1547-1595)، أستاذٌ أنجليكانيٌّ في كلِّيَّة القدِّيس يوحنَّا بجامعة كمبريدج، كتاب “جدالات حيال الكتاب المقدَّس”. في هذا الكتاب انتقد حُجج السُلطة الكتابيَّة التي دافع عنها الكاردينال روُبرت بِلارمِن (1542-1621)، أحد أساتذة علم الدفاع المخضرمين. 1) كلَّما ادَّعى بِلارمِن أنَّنا لا بُدَّ أن نضيف “التقليد” إلى الكتاب المقدَّس لكي نفهم فهمًا كاملاً مكوِّنات خلاصنا، ردَّ عليه وايتكر بأنَّ الكتاب المقدَّس وحده “كافٍ” لتزويدنا بكلِّ ما نحتاجه إلى معرفةٍ عن “الإيمان ومعيشته”. فنحن لسنا بحاجة إلى التقليد حيال هذا الشأن. 2) كلَّما ادَّعى بِلارمِن أنَّ ترجمة الفولجاتا للقدِّيس جيروم هي الترجمة “الصحيحة” للكتاب المقدَّس، ردَّ عليه وايتكر بأنَّ الكتاب المقدَّس منزَّه عن أيِّ زلل في كتابته الأصليَّة، العبريَّة واليونانيَّة، الموحى بها.

كان قد افترض مارتن لوثر أنَّ سبب عدم فهم كثير من اللاهوتيِّين الكاثوليك للإيمان المسيحيِّ يعود إلى عدم درايتهم باللغة اليونانيَّة. فقد كان هو شخصيًّا يشكر الله ويمتنُّ له على تعلُّمه لتلك اللغة. في عام 1394-1395، بدأ مانويل كريسولوراس من بيزنطة إعادة تقديم اللغة اليونانيَّة في فلورنسا بإيطاليا.

فكتب لوثر:

… لم يكن من الحكمة بدء محاولة تعلُّم معنى المكتوب بقراءة شروحات الآباء وكتبهم وتفسيراتهم العديدة. إنَّما كان على هؤلاء الرجال وضع أنفسهم لتعلُّم اللغات الكتابيَّة. لكن لأنَّهم جهلاء باللغة على الرغم من تعب الآباء في ترجمة وتفسير وكتابة نصٍّ كَنِزٍ، بالكاد كانوا يستوعبون معناه… فبمقارنة جميع تفسيرات الآباء، فإنَّ اللغات هي كالشمس للظلِّ. ومنذ ذلك الحين، أضحى على المؤمنين الاعتماد على الكتاب المقدَّس باعتباره كتابهم الوحيد.

واصل وايتكر نقده: 3) كلَّما ادَّعى بِلارمِن بإيمانه بأنَّ ترجمة الفولجاتا ترجمة منزَّهة عن الزلل، ردَّ عليه وايتكر قائلاً:

إنَّ ترجمة الفولجاتا بكلِّ يقينٍ وبكلِّ وضوحٍ ترجمةٌ غير مكتملة. فالأخطاء التي أتحدَّث عنها ليست أخطاءً عَرَضيَّة أو طفيفة أو شائعة، مثل الأخطاء التي يقع فيها النُسَّاخُ سهوًا، إنَّما هي أخطاء في صميم النصِّ نفسه، ومؤثِّرة للغاية يصعب التغاضي عنها. ومن هنا تأتي الحجَّة الأقوى ضدَّ سلطة هذه الترجمة.

وعلى النقيض، فإنَّ النسخ الأصليَّة من الكتاب المقدَّس كُتبت بلا أخطاء:

فقد كتبوها [كتبة الأسفار المقدَّسة] تحت قيادة الروح القدس كما يخبرنا بطرس الرسول، 1 بطرس 1: 21. وكما قال بولس لتيموثاوس إنَّ كلَّ الكتاب موحًى به من الله، 2 تيموثاوس 3: 16. ولذا، في حين أنَّه لا يجوز ترديد أنَّ أيَّ خطأ قد يصيب الروح القدس، وذلك يترتب عليه أنَّ كتبته القدِّيسين لم يُخدَعوا أو يخطئوا قط. وعليه، ينبغي لنا الحرص على تجنُّب انتشار وجود مثل هذه الهفوات في الكتاب المقدَّس. فمهما كان رأي إيراسموس، فإنَّ أوغسطينوس سَلَّم جيروم إجابة قويَّة: “إذا ثُبت وقوع أيِّ خطأٍ، حتَّى ولو كان لا يُذكَر، في الكتاب المقدَّس، فإنَّ سلطته بأكملها تُعَدُّ غيرَ صالحةٍ وتُمحى”.

إنَّ مترجمي ترجمة الملك جيمس (1611) يثمِّنون تعليم وايتكر عن سُلطة الكتاب المقدَّس. وبالمثل كثيرون من اللاهوتيِّين البروتستانت يقدِّرون صياغته للنزاهة الكتابيَّة. وعليه اعتبر المؤمنون الأوربِّيُّون أنَّ الكتاب المقدَّس هو السُلطة الحاكمة لفهمهم للإيمان ومعيشته، وكذلك الحاكم في الأمور الدنيويَّة.

الكتاب المقدَّس و”النقد الكتابيُّ”

في القرن السابع عشر، كان يؤمن المسيحيُّون بأنَّ النصَّ الكتابيَّ الذي بين أيديهم مُنزَّهٌ عن الزلل. لكن بعض الباحثين اعتقدوا بخلاف ذلك. فاختلقوا دراسة النقد الكتابيِّ ساعين إلى استعادة النصوص “الأصليَّة” للكتاب المقدَّس من الوثائق الموجودة. وفي كتابه Histoire du Vieux Testament (تاريخ العهد القديم) (1678)، وصف ريتشارد سيمون، الذي كثيرًا ما يُشاد به بوصفه “أبا النقد الكتابيِّ”، هذا البرنامج الأخير:

ليس لإنسان التشكيك في أنَّ الحقائق التي يحملها الكتاب المقدَّس منزَّهة عن الزلل وبسلطة إلهيَّة، لأنَّها من لدن الله، الذي، لوصولنا إلى هذا الحقِّ، استخدم خدمة البشر لا سيَّما المترجمين والمفسِّرين… ولكن بما أنَّ البشر استؤمنوا على الأسفار المقدَّسة، فضلاً عن كتب أخرى، وأنَّ الأصول الأولى [les premiers Originaux] قد فقدت، فصعب للغاية وقوع تغييرات بسبب طول فقدانها، وكذلك تراخي النسَّاخ. ولهذا السبب يوصي القدِّيس أوغسطينوس قبل كلِّ شيء أولئك الذين يرغبون في دراسة الكتاب المقدَّس تعريض أنفسهم لنقد الكتاب المقدَّس وتصحيح الأخطاء (fautes) في نسخهم (كتاب أوغسطينوس الثاني من العقيدة المسيحيَّة).

وبعد أن شرح سيمون “النقد الكتابيَّ الأدنى”، شرع في الدعوة إلى ما أصبح يُعرف باصطلاح “النقد العالي للكتاب المقدَّس”. فنفى كتابة موسى لأسفاره الخمسة كلِّيًّا. وأشار إلى أنَّ “الكتبة العامَّة” المستنيرين أضافوا إلى أسفار موسى الخمسة نصوصًا ومقاطع. وزعم أنَّ نهجه أجاب الانتقادات الموجَّهة إلى سلطة الكتاب المقدَّس والتي افترضها سبينوزا في عمله المثير للجدل، Tractatus Theologico-Politicus (1670). وقد أمرت الحكومة بحرق 1300 نسخة من كتاب سيمون.

إبَّان ما دُعيَ بعصر التنوير (1680-1799)، تفشَّت وترسَّخت في دول أوروبِّيَّة أمثال ألمانيا وفرنسا وإنجلترا أساليب مختلفة من النقد الكتابيِّ المعارض للنظرة التقليديَّة لسلطة الكتاب المقدَّس.

رغم الانتقادات الشديدة التي وجَّهها ربوبيُّو إنجلترا إلى الكتاب المقدَّس في القرن الثامن عشر، ظلَّ الإيمان القويم بسلطة الكتاب المقدَّس “الرأي السائد” بين البروتستانت الإنجليز في النصف الأوَّل من القرن التاسع عشر. وفي كتابات صمويل تايلو كولريدج -الناقد الشرس لنزاهة الكتاب المقدَّس- المنشورة بعد وفاته “رسائل روح باحثة” (1841)، نشر اعترافًا لمتشكِّكٍ يقول في ما معناه:

اعتدتُ حضور اجتماعات دور الكتاب المقدَّس البريطانيَّة والأجنبيَّة، فيها استمعت إلى متحدِّثين من كلِّ طائفة… ولا أزال أسمع عن العقيدة ذاتها -أنَّ الكتاب المقدَّس لا ينبغي رؤيته أو الاعتقاد عنه أو الاقتراب إليه كما يحدث أو يمكن أن يحدث مع الكتب النافعة الأخرى… والأهمُّ أنَّ حججهم الأساسيَّة كانت متجذِّرة في الإقرار القائل بأنَّ كلَّ الكتاب المقدَّس موحًى به من الله كلِّيِّ المعرفة، وعليه فهو كلُّه من أكبر سفر إلى أصغر كلمة منزَّه عن الزلل وكلُّه حقٌّ، وأنَّ أسماء الرجال المصاحبة لاسم الأسفار أو مذكورة مقدِّماته، كانوا في الواقع كتبة مختلفين لمؤلِّف واحد، فالأقوال أقوال الله.

لكن بحلول ثمانينيَّات القرن التاسع عشر، تحسَّر تشارلز سبرجن (1834-1892) وجون تشارلز رايل (1816-1900)، أسقف ليفربول، على حقيقة ارتداد العديد من الإنجليز عن إيمانهم بسلطة الكتاب المقدَّس. فقد تأثَّروا بتعاليم نقد كولريدج، ونظريَّات تطوُّر تشارلز داروين التي أنقصت من شأن رواية الكتاب المقدَّس عن الخلق، والنقد العالي للكتاب المقدَّس وما على شاكلتهم. كما علَّق عدد من الصحف الأمريكيَّة على المعضلة عينها بالارتداد عن الإيمان بسلطة الكتاب المقدَّس التي تفشَّت في الولايات المتَّحدة لا سيَّما بين 1880 و1900. وفي عام 1881، نشر أ. أ. هودج وب. ب. وارفيلد من معهد برينستون اللاهوتيِّ مقالاً مؤثِّرًا بعنوان “الوحي”. وأكَّدا أنَّ عقيدة نزاهة الكتاب المقدَّس من الزلل تُعَدُّ لُبَّ التقليد الكنسيِّ الجوهريِّ للكنائس الغربيَّة.

في ألمانيا، نكر نقَّاد الكتاب المقدَّس ولاهوتيُّون أمثال ديفيد ستراوشس (1808-1874) وأدولف فون هارناك (1851-1930)، المنظور القويم للنزاهة الكتابيَّة. وفي المقابل، في عام 1893، أعاد البابا ليو الثامن تأكيد عقيدة الكنيسة الكاثوليكيَّة الغربيَّة بالعصمة الكتابيَّة، وذلك في المنشور الباباويِّ الدوريِّ عند الدراسة الكتابيَّة “Providentissimus Deus”. فقد دعم البابا تعليمه باقتباسه من القدِّيس أُغسطينوس.

بنشوب الحرب العالميَّة الأولى (1914)، لم يبقَ كثيرون من علمانيِّي أوروبَّا يعتدُّون بالكتاب المقدَّس بصفته سلطة ذات أهمِّيَّة. فأشار توماس هكسلي، أحد مناصري دتروين المتحمِّسين، إلى أنَّ إبدال المعرفة المُعلنة بالمعرفة الطبيعيَّة ميزة مسيطرة للحياة العلميَّة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وبنهاية القرن العشرين، اكتسب الملحدون الطبعانيُّون سيطرة فاشية على مناهج تعليم العديد من الجامعات في كلٍّ من الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة وأوروبَّا.

في مجمع الفاتيكان الثاني (1962-1965)، ارتدَّت الكنيسة الكاثوليكيَّة الغربيَّة عن إيمانها بعصمة الكتاب المقدَّس وأشارت إلى أنَّ الكتاب المقدَّس منزَّه من الزلل حيال الإيمان والمعيشة، ولكن ليس بالضرورة حيال المعلومات التاريخيَّة والعلميَّة. وفي الأوساط الإنجيليَّة، تفشَّت ظاهرة مماثلة إذ حَدَّ بعض أساتذة اللاهوت من سلطة حقِّ الكتاب المقدَّس حيال الإيمان والمعيشة، لكن ليس حيال المعلومات التاريخيَّة والعلميَّة.

زعم عدد من المؤرِّخين البارزين أنَّ عقيدة عصمة الكتاب المقدَّس أحد اختلاقات الأصوليِّين العقائديَّة المختلَّة. لكن عارض العديد من الإنجيليِّين هذا الرأي. وردُّوا بأنَّ عصمة الكتاب المقدَّس مُتَضمَّنة في الكتاب المقدَّس نفسه وتمثِّل التقليد الجوهريَّ للكنائس الغربيَّة. ومثل القدِّيسين أغسطينوس ومارتن لوثر وجون كالفن، فإنَّهم آمنوا لا بأنَّ الكتاب المقدَّس كلمة الله فحسب، بل إنَّه قاعدة الإيمان والمعيشة فضلاً عن دقَّته التاريخيَّة والعلميَّة. ووافقهم الرأي ج. آي. باكر على أنَّه بعد سماع عظات الرعاة، لا بُدَّ من كلِّ فردٍ من الحضور الإقرار قائلاً: “لقد سمعت في العظة ما يقوله الكتاب المقدَّس”. كما اتَّفقوا جميعًا مع لوثر على أنَّ المزمور الأوَّل يقدِّم فهمًا لماهيَّة حياة البركة: إنَّها تأمُّل ناموس الله. واتَّفقوا أيضًا مع دليل أسئلة وستمنستر وأجوبته على أنَّ هدفهم [هدف البشر جميعًا] الرئيس في الحياة هو تمجيد الله والابتهاج به إلى الأبد.

شارك مع أصدقائك

أستاذ باحث في تاريخ الكنيسة وتاريخ الفكر المسيحي في كلية ترينيتي الإنجيلية للاهوت.