إذا كان المؤمن يخلص بالنعمة وحدها، وبالإيمان وحده، فهل يجوز له أن يخطئ بحرية كما يريد؟ وإذا أظهر الله مجده في خلاصنا على الرغم من خطايانا، فهل يكون مجده أعظم إذا واصلنا فعل الخطية عمدًا بعد أن آمننا بالإنجيل؟
تتعلق هذه الأسئلة بما يسمى في تاريخ الكنيسة واللاهوت بمذهب اللاناموسية.[1] ربما يكون وقع المصطلح غريبًا بعض الشيء على مسامعك. لكن ما قد يدهشك، هو كون المعنى مألوف وشائع، والأهم هو كونه مُدمِّر للحياة الروحية المسيحية ولمفهوم حياة القداسة التي دعانا الله لنحياها: حياة الإنجيل!
ما هي هرطقة اللاناموسية؟
كلمة Antinomianism تعني حرفيًا: “ضد القانون”، وتُستخدم للتعبير عن أي موقف لاهوتي أو تعليم يؤكد أنه يمكننا التواصل مع الله والمُضيّ قُدُمًا في الحياة الروحية دون طاعة أي شكل من أشكال الوصايا الأخلاقيّة. وهكذا ترفض اللاناموسية أي دور لوصايا الله في حياة المؤمن اعتمادًا على إساءة فهم لعدد من الآيات الكتابية التي تتحدث عن تتميم الرب يسوع للناموس وتحررنا كمؤمنين من لعنة الناموس (رومية ٤:١٠؛ غلاطية ٢٣:٣-٢٥؛ أف١٥:٢). على سبيل التبسيط لا أكثر، تقول اللاناموسية: “بما أنني قد خلصت بالفعل، فإن الله يحبني محبة أبوية، وقد فدى روحي، ولا يهم أنني أعيش في الخطيّة”.
ومن ثم فهذه بدعة كان على الكنيسة أن تتعامل معها منذ القرن الأول. على سبيل المثال، كتب الرسول يوحنا، محذرا المؤمنين من هذا التعليم الخاطئ:
“كُلُّ مَنْ يَفْعَلُ ٱلْخَطِيَّةَ يَفْعَلُ ٱلتَّعَدِّيَ أَيْضاً. وَٱلْخَطِيَّةُ هِيَ ٱلتَّعَدِّي. وَتَعْلَمُونَ أَنَّ ذَاكَ أُظْهِرَ لِكَيْ يَرْفَعَ خَطَايَانَا، وَلَيْسَ فِيهِ خَطِيَّةٌ. كُلُّ مَنْ يَثْبُتُ فِيهِ لاَ يُخْطِئُ. كُلُّ مَنْ يُخْطِئُ لَمْ يُبْصِرْهُ وَلاَ عَرَفَهُ. أَيُّهَا ٱلْأَوْلاَدُ، لاَ يُضِلَّكُمْ أَحَدٌ. مَنْ يَفْعَلُ ٱلْبِرَّ فَهُوَ بَارٌّ، كَمَا أَنَّ ذَاكَ بَارٌّ. مَنْ يَفْعَلُ ٱلْخَطِيَّةَ فَهُوَ مِنْ إِبْلِيسَ، لأَنَّ إِبْلِيسَ مِنَ ٱلْبَدْءِ يُخْطِئُ. لأَجْلِ هَذَا أُظْهِرَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ لِكَيْ يَنْقُضَ أَعْمَالَ إِبْلِيسَ.”(1 يوحنا 3: 4-8).
كما حذر آخرون من كتبة الوَحي، مثل بطرس ويهوذا (ليس الإسخريوطي) من المعلمين الكذبة الذين يروجون لأشكال من اللاناموسية (2 بطرس 2: 2؛ يهوذا 4-19).
الرد على هرطقة اللاناموسية
طوال تاريخ الكنيسة، كان على المسيحيين أن يتعاملوا ليس فقط مع التعاليم الزائفة لللاناموسية، ولكن أيضًا مع الاتهامات الباطلة الموجهة إليهم باللاناموسية. على سبيل المثال، النقد الشائع للكاثوليكيّة الرومانيّة لتعليم اللاهوت الإنجيلي البروتستانتي هو أن تعليم التبرير بالإيمان وحده يؤدي إلى اللاناموسية.
ولكن، إذا كنا قد صدقنا الإنجيل لا يمكننا أن نعيش عمدًا في الخطيّة، لأننا قد وُلِدنا مِن جَديد لحياة القداسة. يمكن التعبير عن الاتهام بهذه الطريقة: “بما أنكم أيها البروتستانت تُعلِّمون أن الله يبررنا بالنعمة فقط من خلال الإيمان وحده، فلم يعد لديكم أي دافع لطاعة الله والسعي للعيش في القداسة. إذًا ما تؤمنون به يقود إلى الاستباحة والفجور.”
في مواجهة هذا الاتهام الشائع، يمكننا تلخيص رد الفكر الإنجيلي البروتستانتي على النحو التالي: نعم، نؤمن حقًا أن التبرير هو فقط بالإيمان وحده، بدون أعمال الناموس (رومية 3 :28)، ولهذا السبب بالتحديد نريد أن نعيش في حياة طاعة وعبادة له من أجل الخلاص العظيم الذي أنعم به الله علينا مجانًا في المسيح (رومية 12: 1-2).
فلم يعد بوسعنا أن نعيش في الخطيّة عمدًا إذا كنا قد صدقنا الإنجيل لأننا ولدنا ثانيةً (رسالة يوحنا الأولى 3: 9)، وسكن فينا الروح القدس الذي يقودنا حتمًا إلى الطاعة (رومية 8: 1-11)، وبهذا نعرف أننا في المسيح (رسالة يوحنا الأولى 2: 5-6).
يتبع هذا الرد نفس منهجيّة رد الرسول بولس في رومية 6 على تهمة اللاناموسية. بعد الحديث عن التبرير بالإيمان، يسأل بولس، ” فَمَاذَا نَقُولُ؟ أَنَبْقَى فِي ٱلْخَطِيَّةِ لِكَيْ تَكْثُرَ ٱلنِّعْمَةُ؟”(رسالة رومية١:٦). إنه يُعلِّم أن بشارة الإنجيل قد تبدو مناقضة للمنطق في أذهان بعض الناس. لكن على من يفكر بهذه الكيفيّة أن يستمع إلى رد بولس الرسول: “حَاشَا! نَحْنُ ٱلَّذِينَ مُتْنَا عَنِ ٱلْخَطِيَّةِ، كَيْفَ نَعِيشُ بَعْدُ فِيهَا؟” (رسالة رومية٢:٦).
في بقية الإصحاح، يقول بولس أن المؤمن متحد بالإيمان بالمسيح وأن حياته مُختلِفَة الآن. على الرغم من أن الخطيّة لا تزال موجودة فينا، فقد تحررنا من قوة استعبادها ونسعى للعيش في قداسة. “وَأَمَّا ٱلْآنَ إِذْ أُعْتِقْتُمْ مِنَ ٱلْخَطِيَّةِ، وَصِرْتـُمْ عَبِيداً لِلَّهِ، فَلَكُمْ ثَمَرُكُمْ لِلْقَدَاسَةِ، وَٱلنِّهَايَةُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ.” (رسالة رومية٢٢:٦) حقًا، إن كلمة الله واضحة في إظهار أن حفظها واجب على المؤمن، وأن علينا أن نميز أنفسنا بذلك. على سبيل المثال، نقرأ في كورنثوس الأولى 6: 9-11:
“أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ ٱلظَّالِمِينَ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ؟ لاَ تَضِلُّوا! لاَ زُنَاةٌ وَلاَ عَبَدَةُ أَوْثَانٍ وَلاَ فَاسِقُونَ وَلاَ مَأْبُونـُونَ وَلاَ مُضَاجِعُو ذُكُورٍ، وَلاَ سَارِقُونَ وَلاَ طَمَّاعُونَ وَلاَ سِكِّيرُونَ وَلاَ شَتَّامُونَ وَلاَ خَاطِفُونَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ. وَهَكَذَا كَانَ أُنَاسٌ مِنْكُمْ. لَكِنِ ٱغْتَسَلْتُمْ، بَلْ تَقَدَّسْتُمْ، بَلْ تَبَرَّرْتـُمْ بِـٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ وَبِرُوحِ إِلَهِنَا.”
تقودنا النعمة إلى الطاعة
في موضع آخر يخبرنا الرسول ذاته كيف أن نعمة الله المُخَلِّصة هي التي تُعَلِّمنا إنكار الفجور والشهوات، وليس كما يُفترى على الفكر الإنجيليّ الكتابيّ أنه يدعو للتراخي في الحياة الروحية. لنقرأ معًا:
“لأَنـَّهُ قَدْ ظَهَرَتْ نِعْمَةُ ٱللّٰهِ ٱلْمُخَلِّصَةُ لِجَمِيعِ ٱلنَّاسِ، مُعَلِّمَةً إِيَّانَا أَنْ نـُنْكِرَ ٱلْفُجُورَ وَٱلشَّهَوَاتِ ٱلْعَالَمِيَّةَ، وَنَعِيشَ بِـٱلتَّعَقُّلِ وَٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَى فِي ٱلْعَالَمِ ٱلْحَاضِرِ، ُنْتَظِرِينَ ٱلرَّجَاءَ ٱلْمُبَارَكَ وَظُهُورَ مَجْدِ ٱللّٰهِ ٱلْعَظِيمِ وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، لِكَيْ يَفْدِيَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ، وَيُطَهِّرَ لِنَفْسِهِ شَعْباً خَاصّاً غَيُوراً فِي أَعْمَالٍ حَسَنَةٍ.” (رسالة تيطس ١١:٢-١٤)
عندما نؤمن برسالة الصليب نشعر بالامتنان والعرفان لنعمة الله ورحمته، وهذا يدفعنا إلى محبته وطاعته من خلال الروح القدس الذي سكن فينا.
هكذا يشرح الرسول يوحنا الأمر: “نَحْنُ نـُحِبُّهُ لأَنـَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلاً.” (يوحنا الأولى 4: 19). ومحبة الله تُعَبِر عن ذاتها حتمًا من خلال الطاعة: “إِنْ كُنْتُمْ تـُحِبُّونَنِي فَـأحْفَظُوا وَصَايَايَ”(يوحنا 14: 15).
ليس علينا أن ننظر إلى وصايا الله على أنها وسيلة للخلاص، لكنها تكشف لنا كيف نعيش ونتصرف لأجل مجد الله.
لا تكمن مشكلة اللاناموسية في كونها لم تفهم الإنجيل بشكلٍ صحيح، ولكنها فقط توصّلَت إلى استنتاجات غير كتابية (“أن طاعة الله ليست مهمة”). على العكس من ذلك، فإن الخطأ الكبير في تعليم اللاناموسية هو أنه لم يفهم حقًا ما هو موضوع الإنجيل!
لم يأتِ يسوع فقط ليُخلّصنا من عقوبة الخطية؛ لقد جاء ليغيرنا لنكون مشابهين صورة ابنه باتحادنا معه وتجديد قلوبنا لنعيش حياة مختلفة عما كانت عليه من قبل.
لنُحارب اللاناموسية
نحن نحارب اللاناموسية، إذن، من خلال التبشير بالإنجيل بأمانة ودقة. بمعنى آخر، إذا كنت تعتقد أن الإنجيل يمنحك رخصة لممارسة الخطية، فأنت لم تعرف بعد محبة الله، ولم تؤمن بعد بالإنجيل!
بما أننا ما زلنا نجاهد ضد الخطيّة في حياتنا، يعني ذلك أنه إن كنا مُهمِلين وكسالى في حربنا ضد الخطية، فمن الممكن لقلوبنا أن تميل نحو اللاناموسية. نحن بحاجة إلى الرب باستمرار ليجعل قلوبنا أكثر حساسية لمجد إنجيله والعمل بروحه القدوس فينا ليقودنا إلى طاعة أكبر. بكلمات أخرى، يتمجد الله في حياتنا عندما نرغب في الحياة لأجله بكل القلب والفكر والسلوك استجابة لإنجيله (رومية 12: 1-2).
[1] يُترجِم موقع ويكيبيديا العربيّ مصطلح “Antinomianism” إلى إسقاط التكاليف أو تعطيل الفرائض. وتُقدِّم هذه الصفحة الكثير من الأخطاء والمغالطات حول علاقة الفكر الإنجيليّ المُصلّح بهرطقة اللاناموسيّة. قارن ما يُقدَّم في هذا المقال مع ما جاء عبر موقع ويكيبيديا: https://ar.wikipedia.org/wiki/ إسقاط_التكاليف