تعريف
يشير الأساس الرسولي للكنيسة إلى الدور الفريد للرسل في التصميم العام للكنيسة: ويتمثل هذا الدور في أن يكونوا رُسلًا مباشرين ليسوع من أجل ممارسة سلطته والكرازة بالإنجيل بأمانة.
موجَز
تتألَّف الكنيسة من أعضاء متنوعة. ويذكر الكتاب المقدَّس أن يسوع هو حجر الزاوية الرئيسي (أفسس 2: 20؛ 1 بط 2: 4، 6-7)، مما يعني أن وجود الكنيسة والغرض منها يعتمدان، بل وينبعان من شخص يسوع المسيح وعمله. أيضًا يذكر الكتاب المقدَّس أن الرسل هم أساس الكنيسة (أفسس 2: 20). وهدفنا في هذا المقال، هو أن نحاول فهم طبيعة وعمق ما يعنيه هذا التصريح حقًا. مَن هم الرسل؟ وما الذي يميِّزهم عن غيرهم ليجعلهم أساس الكنيسة؟ وماذا يعني هذا الأساس بالنسبة لنا اليوم؟ وفيما نقيِّم طبيعة وآثار الأساس الرسولي للكنيسة، فإنَّ ما نلاحظه هو أن يسوع ورسالة إنجيله يتمركزان في قلب هوية ودعوة الرسل، وهما أساس الكنيسة.
مقدمة
ما مِن مهندس معماري يمكن أن يدَّعي أن الأساس في أيِّ مبنى هو شيء قليل الأهمية. بل في الواقع، يمكن للمرء أن يدلل بسهولة على أنَّ الأساس هو الجزء الجوهري والأكثر أهمية في أي بناء. في أفسس 2: 20، يستخدم بولس تشبيه البناء هذا للتأكيد على قوة الوحدة التي لدى الكنيسة بامتلاكها يسوع كحجر الزاوية الرئيسي، والرسل والأنبياء كأساسٍ لها.[1] ولكن ماذا قصد بولس بهذا التصريح؟ وبشكل مفصَّل، مَن هم الرسل وما الذي يجعلهم مهمين بما يكفي لاعتبارهم أساس الكنيسة؟ وما هي تطبيقات ذلك على الكنيسة اليوم؟ إنَّ الهدف من هذه المقالة هو إجراء تقييم دقيق لطبيعة وآثار هذا المنصب الرسولي.
طبيعة هذا الأساس الرسولي
إنَّ مصطلح رسول يعني أن يكون المرء “سفيرًا”. وفي العهد الجديد يشير هذا المصطلح في المقام الأول إلى هؤلاء الرجال الذين كلَّفهم يسوع أن يمثِّلوه أمام العالم ويكونوا متحدثين باسمه. وهكذا، كان من شروط هذا المنصب أن يكون المرء قريبًا من يسوع في فترة خدمته الأرضية، وشاهد عيانٍ على قيامته (أعمال 1: 21-22). كان عددهم الإجمالي، ولأسبابٍ رمزية، هو اثنا عشر رسولًا. وعلى خلفيَّة إسرائيل في العهد القديم، كان هذا العدد بمثابة إشارةٍ إلى بدايةٍ جديدة لشعب الله (راجع متى 19: 28؛ لوقا 22: 29-30). ومن ثم، ظهر الاحتياج إلى متياس ليحل محل يهوذا (أعمال 1: 23-26). أما بولس فكان حالة استثنائيَّة، حيث تلقَّى رسوليته بطريقةٍ مختلفة بعض الشيء (1 كورنثوس 9: 1؛ غلاطية 1: 1، 11-12).
ويمكن استخدام مصطلح “رسول” -بمعنى أكثر مرونة- للإشارة إلى “رُسل [حاملي رسائل] للكنيسة” (2 كورنثوس 8: 23؛ فيلبي 2: 25)، ولكن هذه الشواهد الكتابيَّة لا تشير إلى المنصب الرسولي على هذا النحو، ولن نتوقف عندها كثيرًا.
يؤكد يسوع الدور التأسيسي للرسل، في متى 16: 18، حيث قال لبطرس: “أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْني كَنِيسَتِي”. والصورة هنا واضحة: المسيح، باني الكنيسة، يؤسس كنيستَه على الرسل. وهذا بالضبط ما يؤكده بولس في أفسس 2: 20، حيث يقول إن الكنيسة مبنيةٌ “عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ” (راجع رؤيا 21، 14؛ وأيضًا 1 كورنثوس 3: 10-11، في ضوء القرينة).
يوضِّح يسوع في يوحنا ١٣-١٧ طبيعة الدور “التأسيسي” للرسل. إذ كان لابد أن يكون هؤلاء الرجال معيَّنين منه كمتحدثين باسمه. فهؤلاء الذين سمعوه وهو يعلّم، سيحظون بتعليمٍ إضافي منه عن طريق الروح القدس، وسيقدِّمون بدورهم كلمة المسيح للعالم (راجع يوحنا 14: 24-26؛ 16: 12-15؛ 17: 8، 18، 20). وهذا يعني أن الرسل، بمعنى حقيقي للغاية، يعطوننا المسيح نفسه. بل أنَّ الرسل حين يتحدثون فإنهم يتحدثون نيابةً عن المسيح، وبسلطته المفوَّضة إليهم (مثلما في: 2 تسالونيكي 3: 6؛ 1 كورنثوس 14: 37؛ إلخ). فتعاليمهم هي تعاليم المسيح، وفي المسيح جاء كمال الإعلان، وهذا التعليم الرسولي قد أُودِع أو “سُلِّم” إلى الكنيسة “مرة واحدة وإلى الأبد” (1 تيموثاوس 6: 20؛ يهوذا 3، إلخ). كل هذا يُنير فهمنا لدورهم “التأسيسي” (أفسس 2: 20؛ وراجع متى 16: 18، وأيضًا رؤيا 21: 14؛ وأيضًا 1 كورنثوس 3: 10-11 [في ضوء القرينة]).
نجد صدى هذا التفكير نفسه يتردد في ١ يوحنا ١: ١-٣
“اَلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ – فَإِنَّ الْحَيَاةَ أُظْهِرَتْ، وَقَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ بِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الآبِ وَأُظْهِرَتْ لَنَا- الَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ، لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ أَيْضًا شَرِكَةٌ مَعَنَا. وَأَمَّا شَرِكَتُنَا نَحْنُ فَهِيَ مَعَ الآبِ وَمَعَ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.”
هنا يؤكِّد الرسول يوحنا أن الرسل تسلَّموا تعاليمهم وسلطانهم من الرب يسوع نفسه، وأنهم (أي الرسل) ينقلون إلينا إعلان المسيح. باختصارٍ، فإن الشهادة الرسولية هي الطريق الوحيد إلى المسيح.
آثار هذا الأساس الرسولي
إن فهم طبيعة الأساس الرسولي للكنيسة، يترتب عليه الآتي:
- بسبب معايير التفرُّد التي ذكرناها منذ قليل، فإنه لا يجوز تكرار المنصب الرسولي أو تحديثه. وبينما يحمل جميعُ أتباع المسيح الدعوةَ ليكونوا سفراء المسيح (2 كوررنثوس 5: 20)، فإن دور الرسل ومهمتهم، المتفرّدَين في تاريخ الفداء، لا يُشاركهما فيه أيّ من المسيحيين. يوجد اليوم العديد من التقاليد التي تريد الادِّعاء بوجود رسل حاليين معيَّنين حديثًا من اللهأ أو خلفاء لهم من أجل مهامٍ وإعلانات مجدَّدة. يفترض هذا الاتجاه في التفكير أنَّ إعلان الله يحتاج إلى التحديث والتجديد من سياقٍ إلى آخر وأنه ينبغي علينا أن نكون منتبهين إلى أحدث إعلانٍ يرغب الله في إيصاله إلينا. وفي حين أن هناك بالتأكيد حاجة لأنْ يكون تطبيق الإنجيل مراعيًا وملائمًا للسياق الموضوع فيه، فإنَّ الكتاب المقدَّس يذكر مرارًا وتكرارًا أن إعلان إنجيل يسوع المسيح بات معروفًا بالفعل على نحوٍ كامل. يُعبِّر يهوذا عن هذه الفكرة في رسالته حين كتب: “اضْطُرِرْتُ أَنْ أَكْتُبَ إِلَيْكُمْ وَاعِظًا أَنْ تَجْتَهِدُوا لأَجْلِ الإِيمَانِ الْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ.” (يهوذا 1: 3). وكذلك يقدِّم بولس نُصحًا لتيموثاوس بأن يَثبت على الأمور التي سبق أن تعلَّمها وتيقَّن منها (انظر 2 تيموثاوس 3: 14). إن التأكيد على الحاجة إلى إعلانات جديدة إنما هو استخفافٌ بسلطة الرسل، ما يعني في نهاية المطاف استخفافًا بسلطة يسوع. ولكن القيمة الفريدة والدائمة للمنصب الرسولي نجدها مؤكَّدة في رؤيا 21: 14 عندما تذكر رؤيةُ السماء الجديدة والأرض الجديدة إنه يوجد “اثْنَا عَشَرَ أَسَاسًا، وَعَلَيْهَا أَسْمَاءُ رُسُلِ الْخَرُوفِ الاثْنَيْ عَشَرَ”. هذا يعني أن التأسيس الأوَّل للأساس الرسولي سيحظى بأهميَّة أبديَّة في كنيسة الله. وهذا الأمر لن يجري تغييره أو تحديثه أو تجديده.
- تحتاج الكنيسة دائمًا أن تتذكر وتتمسَّك بما تمسّكَ به الرسل: أي إنجيل يسوع المسيح. في بعض التقاليد، يتحدثون عن خلافةٍ رسوليَّة بهدف إرجاع أصل تاريخهم وتقليد الأساقفة إلى رسل العهد الجديد الأوائل. فعلى سبيل المثال، تفهم الكنيسة الكاثوليكيَّة الرومانيَّة أنَّ البابا هو الخليفة الشرعي لبطرس. وبهذه الطريقة يُعتبر بطرس الرسول هو البابا الأول. إنَّ هذا الفهم يُخفق في الاعتراف بالهويَّة الجوهريَّة للرسل: أي الكرازة الأمينة برسالة الإنجيل والحفاظ عليها. يُعلِّق إدموند كلوني على ذلك فيقول: “لقد أصبحوا [الرسل] حجارة الأساس للكنيسة، فقط لأن المسيح هو حجر الزاوية الرئيسي … فالرسل ليسوا مشرِّعين بل شُرّاح ومُرسَلين”[2]. هذا يعني أن طبيعة الأساس الرسولي للكنيسة لا تستند إلى ما يستطيع أن يفعله الرسل بقدراتهم الخاصة، وإنما إلى ما دُعِيوا إلى القيام به من خلال سلطتهم المستمدة [من يسوع]. لهذا السبب، عندما يدافع بولس عن رسوليته في رسائله إلى عدة كنائس، فإنه عادةً ما يتصدى إلى محتوى التعاليم الكاذبة التي تسللت إلى حياة الكنائس التي زرعها (غلاطية 1: 6-9). إنه لا يُجبِر الناس على اتِّباع سلطته الرسوليَّة اتِّباعًا أعمى. بل إنه باستمرارٍ يُظهر سلطته الرسوليَّة بالهجوم المضاد على المعلمين الكذبة، ومن ثم يحافظ على نقاء الإنجيل الذي دُعِيَ لتمثيله ونقله للآخرين بأمانة (غلاطية 3). فبدون إنجيل يسوع المسيح، سوف ينهار هذا البناء، أي الكنيسة، مثل بناء بلا أساسٍ راسخ.
- تنبع وحدة الكنيسة، في النهاية، من الأساس الذي لدينا في يسوع المسيح. في 1 كورنثوس 3: 11، يقول بولس فعليًا إن يسوع هو أساس الكنيسة، وهو ما يبدو متعارضًا مع ما قيل في أفسس 2 [بأن الرسل هم أساس الكنيسة]. ومع ذلك، يجب النظر إلى الأمرين على أنهما يكملان أحدهما الآخر. فبما أن سلطة الرسل تأتي مباشرة من يسوع نفسه، وأن يسوع نفسه هو حجر الزاوية الذي يُمسِك به جميع أجزاء المبنى، فإن الآيتين تصفان الحقيقة ذاتها لكن مع التأكيد على جوانب مختلفة. بكلمات أخرى، إنَّ الإقرار بسلطة الرسل هو إقرارٌ بسلطة يسوع، ورفْض سلطة الرسل هو رفضٌ لسلطة يسوع. فيسوع ورسالته لا ينبغي وضعهما في منافسة مع الرسل ورسالتهم. بل أنَّ يسوع يرى نفسَه على أنه الابن الذي أُرسِل من الآب (انظر يوحنا 20: 21) وسوف يرسِل بعدها الاثني عشر. وإرسالُ الرسل هذا يستمد جذوره من فهم يسوع لذاته ورسالته (متى 15: 24، 21: 37؛ مرقس 9: 37، 12: 6). يُعلِّق كيم ريدلبارجر Kim Riddlebarger: “لم يؤسّس الكنيسةَ أتباعُ يسوع المحبطون في محاولة منهم للتستر على ارتباكهم. بل أسَّسَ الكنيسةَ يسوع المسيح نفسُه”[3]. من المهم بالنسبة إلينا أن نفهم بشكل صحيح الهويَّةَ المتفردة التي تميِّز أساس الكنيسة هذا. فالرسل، من خلال دورهم الفريد، يشهدون لهذه الهوية المتفردة: أي شخص يسوع المسيح وعمله.
تشجيعات للكنيسة اليوم
تحظى الكنيسة اليوم بامتيازٍ عظيمٍ وهو أنها تقوم راسخةً على أساس الكنيسة الذي لا يتزعزع وتنقل حقيقة الإنجيل إلى الآخرين مثلما نُقلت إلينا. ينبغي أن يمنحنا هذا الجرأة في نشر الإنجيل، حتى في عالم اليوم. إن المهمة ليست سهلة. فنحن دائمًا قد نشعر بأننا نخوض معارك ضارية. والأمر الذي يمكننا التمسك به هو أنَّ تقدم ملكوت الله بواسطة الإنجيل إنما يقوم في النهاية على جوهر الأساس الرسولي: أي شخص يسوع المسيح وعمله. وهذا الأساس قد وُضعَ وترسَّخ بالفعل. وليس هناك حاجةٌ لأن نضع مجدَّدًا هذا الأساس الموضوع مرةً وإلى الأبد. بل أنه بفضل قوة هذا الإعلان النهائي وذي السلطان، يمكن للكنيسة اليوم أن تتشجَّع وتتحفز لتتوسع أكثر فأكثر في عمل نشر الإنجيل. وكما قال د. أ. كارسون ذات مرة: “إن أفضل طريقة للحفاظ على الإنجيل هي بمنحه للآخرين”[4]. فلا بد أن ننخرط في خدمة الكلمة بشوقٍ وترقب ونحن نسعى لمشاركة الإنجيل مع كل مَن يتواصل معنا. ويمكننا أن نفعل بذلك بشجاعة وصمود بفضل امتيازنا العظيم في أننا كنيسة رسوليَّة قائمة على يسوع، حجر الزاوية الرئيسي في بنائنا. ومن خلال هذا كله؛ وفي مشاركة ونشر الإنجيل الرسولي، هذا العمل الذي يمجِّد الله، يضمن يسوع حضوره في المشهد إلى انقضاء الدهر (متى 28: 19-20).
[1] تجمع رسالة أفسس الأولى 2: 20 الرسلَ والأنبياء معًا عند وصف الدور التأسيسي للكنيسة. مَن هم هؤلاء “الأنبياء”؟ من المحتمل أنَّ بولس يشير إلى أنبياء العهد الجديد الذين تلقوا أيضًا وحْيًا إلهيًا في زمن الرسل ليعملوا جنبًا إلى جنب مع الرسل، و/ أو ليساعدوا في عمل الرسل.
[2] Edmond Clowney, Called to Ministry (Phillipsburg, P&R, 1976), 45.
[3] Kim Riddlebarger, “One Holy Catholic and Apostolic Church,” Tabletalk Magazine (June 2004).
[4] البيان الافتتاحي الذي أدلى به كارسون في المؤتمر العام لخدمة ائتلاف الإنجيل، عام 2019.