المقدمة
ليس هذا اسمَها الحقيقيّ. إنه الاسمُ الذي تَستخدِمُه لتُخفيَ هويتَها الحقيقيةَ عن الأصدقاءِ وأفرادِ العائلةِ الذين يُهدّدون بقتلِها، لأنها تؤمنُ الآنَ بيسوعَ. تنتمي صوفيا إلى بيئةٍ فيها يؤدي الإيمانُ بيسوعَ أحياناً إلى الاضطهادِ. وكما كانت الحالةُ في القرنِ الأولِ للميلادِ، هكذا هي الحالةُ اليومَ في أماكنَ عديدةٍ من العالمِ. ففي زمنِ الرسولِ يوحنا، كان الذين يؤمنون بيسوعَ من اليهودِ يُطردون من المجامعِ بسببِ إيمانِهم بأنه يتمِّمُ الوعودَ التي قَطعها اللهُ لأسلافِهم في القديمِ. كان هؤلاء يُبعَدون عن عائلاتِهم وتاريخِهم وديانتِهم. وقد كتبَ يوحنا ليؤكدَ لأولئكَ المؤمنينَ المُضطهَدين بأن يسوعَ هو حقاً ابنُ اللهِ. كما أراد أن يشجِّعَهم أن يبقوا أمناءَ ليسوعَ حتى في ظروفِهم القاسيةِ، وأن يتمتعوا بالحياةِ الفيّاضةِ معه.
هذا هو الدرس الخامس في سلسلتنا الأناجيل. في هذه السلسلة، نحن نبحث في كتب أربعة توجد في الكتاب المقدس وتخبرنا كيف أعلن يسوعُ ملكوتَ الله ومجدَه في التاريخ على الأرض. وقد أعطينا هذا الدرس العنوان “الإنجيل حسب يوحنا”. في هذا البحث، سندرس إنجيل يوحنا بطريقة تساعدنا على قراءته بفهم أعمق، وتزيد من محبتنا لله، وتجعلنا نتمتع بحياتنا مع المسيح بشكل أفضل.
سنتناول في درسنا هذا إنجيل يوحنا من ثلاث نواح هامة. أولاً، سننظر في خلفية إنجيل يوحنا. ثانياً، سنفحص بنيته ومحتواه. ثالثاً، سننظر في المواضيع الرئيسية في إنجيل يوحنا. فلنبدأ في درس خلفية إنجيل يوحنا.
الخلفية
سنتناول خلفية إنجيل يوحنا من خلال البحث في كاتب الإنجيل، ومناسبة الكتابة. لنبدأ بكاتب إنجيل يوحنا.
المؤلف
عبر تاريخ الكنيسة، نسب المسيحيون هذا الإنجيل باستمرار إلى يوحنا تلميذ يسوع، وأخي يعقوب بن زبدي. وكان يوحنا أحد رفاق يسوع المقربين، وقد وضع يسوع ثقته بهم بشكل خاص، وكان يوحنا من أعمدة الإيمان في الجماعة المسيحية الباكرة. وتتضمن كتاباته في العهد الجديد بالإضافة إلى الإنجيل الرابع، رسائل يوحنا الأولى والثانية والثالثة، وكتاب الرؤيا.
سندرس من هو كاتب إنجيل يوحنا على مرحلتَين. أولاً، سنبرهن أن الموقف التقليدي الذي يعتبر أن الرسول يوحنا كتب هذا الإنجيل، موثوق به. وثانياً، سنتناول سيرة يوحنا الشخصية. لنبدأ بالنظر في الموقف التقليدي القائل بأن الرسول يوحنا هو كاتب الإنجيل الرابع.
الموقف التقليدي
إنّ إنجيل يوحنا هو أحد كتب الكتاب المقدّس التي لا يرد فيها اسم مَن كتبها. وسنبدأ من هذه النقطة. فأنا أعتقد أنّنا كمسيحيّين مؤمنين بالكتاب المقدّس، في الواقع، لا نملك تصريحاً مؤكّداً حول هويّة الكاتب. وفي القرن الثاني، نسبه ترتليانوس وإيريناوس وآخرون بلا ريب إلى الرسول يوحنّا. وعلينا أن نطرح السؤال التالي: لماذا كانوا يعتقدون ذلك في وقت قريب من زمنه؟ والجواب هو، إما لأنهم كانوا على تواصل مع آخِر الرسل الأحياء، أو على الأقل مع الجيل التالي، ما جعلهم متأكّدين إلى هذه الدرجة. ثم نقرأ الإنجيل، ونبحث عن الأدلّة الداخلية في الكتاب نفسه، فنجد رواية شهود عيان، فأياً كان الكاتب فهو يخبرنا بما عاين من أحداث. على سبيل المثال، في عشاء الربّ، كان الذي يُدعى التلميذ الحبيب على المائدة، جالساً هو نفسه مع التلاميذ، وهذا أمر بالغ الأهمية.
—د. ستيف هاربر
يمكننا أن نؤكد أن يوحنا هو على الأرجح كاتب الإنجيل الرابع، مستندين إلى ثلاثة أنواع من الأدلة الباكرة. أولاً، سننظر في المخطوطات القديمة لإنجيل يوحنا.
المخطوطات. إن الكثير من المخطوطات القديمة للإنجيل الرابع، تذكر اسم يوحنا ككاتب لهذا الإنجيل. على سبيل المثال، البرديتان ٦٦ و٧٥ ويعود تاريخهما إلى حوالي عام ٢٠٠م، يدعوان الإنجيل إيفانجلِيون كاتا يُوانّي، أي “الإنجيل حسب يوحنا”. أما المخطوطة السينائية والمخطوطة الفاتيكانية، ويعود تاريخ كتابتهما إلى منتصف القرن الرابع للميلاد، فتُسميان الإنجيل ببساطة “حسب يوحنا”.
بالطبع، كان اسم يوحنا شائعاً، لكن من الواضح من خلال كتابات الكنيسة الباكرة، أن المُراد بهذه التسمية هو “يوحنا” الرسول، أحد الشخصيات البارزة المذكورة في الكتاب المقدس.
ولا تشير المخطوطات القديمة إلى أن يوحنا هو كاتب الإنجيل الرابع فحسب، بل يمكن أن نستنتج أيضاً من الدليل الداخلي، أي الأدلة من الإنجيل نفسه، إلى أن يوحنا على الأرجح هو الكاتب.
الدليل الداخلي. يذكر كاتب الإنجيل جدالات حصلت بين يسوع والقادة اليهود حول نقاط محدّدة في الشريعة اليهودية. وتُظهر هذه الجدالات أن للكاتب فهماً عميقاً بالشريعة اليهودية، فهماً لا يمتلكه سوى يهودي كان يعيش في فلسطين، مثل يوحنا الرسول.
علاوة على ذلك، يوجد دليل قوي على أن كاتب الإنجيل هو يهودي فلسطيني. فالطابع الفلسطيني للإنجيل ظاهر في وصفه لخدمة يسوع. على سبيل المثال، يشير الكاتب في ٧: ١٥ إلى أهمية التدريب الديني في نظر القادة اليهود في فلسطين.
كما يذكر كاتب الإنجيل الرابع مواضيع دينية، ويستخدم مفردات شبيهة بتلك التي كانت مستخدمة في كتابات يهودية أخرى في القرن الأول في فلسطين. على سبيل المثال، أشار عدد من الدارسين إلى أوجه الشبه بين لغة إنجيل يوحنا وكتابات قمران، المعروفة عامة بمخطوطات البحر الميت. فعبارة “أَبْنَاءَ النُّورِ” مثلاً تَظهر في مخطوطات قمران وفي إنجيل يوحنا ١٢: ٣٦. كما تَرد عبارة “نُورُ الْحَيَاةِ” في كتابات قمران وفي يوحنا ٨: ١٢. وتدل أوجه شبه مماثلة، على أن كاتب الإنجيل الرابع كان معتاداً على الحوار الديني في فلسطين في القرن الأول.
ولا يعطي نص الإنجيل الانطباع بأنه كُتب على يد يهودي فلسطيني فحسب، بل يعطي أيضاً الانطباع بأن كاتبه هو شاهد عيان. وهذا ينطبق على يوحنا الرسول، فهو كان شاهدَ عيان على حياة يسوع. وهناك أدلة على كون الكاتب شاهد عيان في مواضع عدة. فمثلا بعد موت يسوع، نقرأ في يوحنا ١٩: ٣٥:
وَالَّذِي عَايَنَ شَهِدَ، وَشَهَادَتُهُ حَق، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ لِتُؤْمِنُوا أَنْتُمْ.
هنا، أشار الكاتب بوضوح إلى كونه شاهد عيان على موت يسوع. ونجد تصريحاً مماثلاً في ٢١: ٢٠-٢٤، حيث وردت إشارة إلى شاهد العيان هذا بعبارة التلميذ الذي كان يسوع يحبه، ما يدل على أن للكاتب علاقة صداقة ودية بيسوع.
فلنتأمل فيما كان شعور يوحنّا في العشاء الأخير عندما اتّكأ على صدر يسوع. لا شك في أن صداقة ودودة كانت تجمع بينهما. والدليل هو عندما كان يسوع يحتضر على الصليب لم يضَعْ مريم في عهدة أي كان، بل وضعها في عهدة الرسول يوحنّا. لا بدّ من وجود علاقة قُربى تجمع بين الفتى يوحنا ويسوع. وحتّى عندما يصف يوحنّا ذاته، لا يفعل ذلك بتكبّر أو غرور، بل كتلميذٍ كان يسوع يحبّه.
—القس تاد جيمز
وهذا “التلميذ الذي كان يسوع يحبه” يَرد ذكره هكذا بضع مرات في إنجيل يوحنا. فمثلاً، نقرأ في يوحنا ١٣: ٢٣، أن التلميذ الحبيب كان أثناء العشاء الأخير مُتَّكِئاً على صدر يَسُوعَ. في ١٩: ٢٦-٢٧، تحدث يسوع إلى تلميذه الحبيب من على الصليب، وأوكل إليه الاهتمام بأمه. وهذا التلميذ عينه ركض إلى القبر مع بطرس صباح القيامة في ٢٠: ٢-٨. وفي ٢١: ٧، كان التلميذ الحبيب أول من لاحظ يسوع واقفا على الشاطئ.
لم يُذكَر يوحنّا بالاسم قطّ في الإنجيل الذي كتَبَه لأنّه كان يفضّل التعريف عن نفسه بأنه الذي أحبَّه يسوع. وبذلك هو يُعبّر عن تواضعه من جهة، وعن الصداقة التي تربطه بالرب من جهةٍ أخرى. فعندما نقرأ الإنجيل؛ إنجيل يوحنا بالتحديد، نرى أنّه يذكر التلاميذ الآخرين كلّهم ولا يشير أبداً إلى نفسه بالاسم، وهذا أمرٌ معبِّر ومثير للاهتمام.
—د. لاري كوكريل
لا نجدُ في الإنجيلِ أيَّ إشارةٍ إلى يوحنا بالاسمِ. والمُدهشُ أن الشخصَ الذي ذُكِرَ مراراً في الأناجيلِ الأخرى، لا يُشارُ إليه إطلاقاً بالاسمِ في هذا الإنجيلِ. والتفسيرُ المرجَّحُ لذلك، هو أن يوحنا هو التلميذُ الحبيبُ الذي كتب هذا الإنجيلَ، وأنه بدافعِ التواضعِ امتنع عن ذِكرِ اسمِه. لكنه، شدَّد على حَقيقةِ أنه لم يكنْ ليُصبحَ تلميذاً ليسوعَ لولا تلك المحبةُ الإلهيةُ المدهشةُ للمخلّصِ من نحوِه.
لا يدعم الإنجيل الرابع فقط الاعتقاد بأن يوحنا هو كاتبه المرجّح، بل إن كتابات الكنيسة الباكرة تدعم أيضاً هذا الاستنتاج.
الكنيسة الباكرة. في الفترة ما بين العامين ١٧٠ و١٩٠م، كان الاعتقاد بأن الرسول يوحنا هو كاتب الإنجيل الرابع قد ترسّخ في الكنيسة. فأَكليمَندُس الإسكندري، وترتليانوس، وإيريناوس أكدوا جميعاً أن يوحنا ابن زبدي هو الكاتب. حوالي عام ٣٢٥م، وفي مؤلفه تاريخ الكنيسة، المجلد ٥ والفصل ٨ والجزء ٤، استشهد المؤرخ الكنسي يوسابيوس بقول إيريناوس:
ثم يوحنا تلميذ الرب، الذي ارتاح على صدره، هو نفسه أعطانا الإنجيل الرابع، بينما كان مقيماً في أفسس في آسيا.
شهادة إيريناوس مهمة بصورة خاصة لسببين على الأقل. أولاً، يخبرنا يوسابيوس بأن إيريناوس كان تلميذاً لبوليكاربُس أسقف سميرنا. وبحسب رسالة من كنيسة سميرنا تتعلق باستشهاد أسقفهم، يَظهر أن بوليكاربُس نفسه كان تلميذاً للرسول يوحنا. لذلك، يمكن أن يكون إيريناوس قد عرف أن الرسول يوحنا هو الكاتب، من شخص موثوق به، كان يعرف يوحنا شخصياً. ثانياً، تجوّل إيريناوس كثيراً في زمن الكنيسة الباكرة، ولذا كان على اطِّلاع على الكثير من المعلومات الإضافية التي يمكن أن تكون ساعدته على معرفة من هو كاتب الإنجيل الرابع.
كما أن الأمر الذي له دلالته، هو عدم وجود أي اعتراض على أن يوحنا ابن زبدي هو الكاتب. فلا يرد في كتابات الكنيسة الباكرة أي تلميح إلى كاتب آخر لهذا الإنجيل. في الواقع، يشير التاريخ فقط إلى جماعتين عارضتا إنجيل يوحنا، هما: الأَلوغوي والمارقيونيون. وهاتان الجماعتان رفضتا تعاليم إنجيل يوحنا، ولا يوجد دليل واضح أنهما رفضتا نسبة الإنجيل إلى يوحنا.
مع أنه لا يمكننا أن نبرهن بكل يقين أن هذا الإنجيل الذي لا يحتوي على اسم كاتبه قد كتبه يوحنا، فإن الموقف الأكثر إقناعاً يبقى التقليد القديم بأن يوحنا هو الكاتب.
والآن بعد أن نظرنا في الموقف التقليدي القائل بأن يوحنا هو كاتب الإنجيل الرابع ووجدنا أنه مقنع، فلننظر في سيرة يوحنا الشخصية.
السيرة الشخصية
في الواقع، ما نعرفه عن يوحنا هو أكثر مما نعرفه عن أي تلميذٍ من تلاميذ يسوع الآخرين. يُشار إلى يوحنا في الأناجيل مع أخيه يعقوب بـ”ابنَي زبدي”. ويَرِد يوحنا دائماً ثانياً، ما يدلّ على أنه الأصغر بين الاثنين. وحسب مرقس ١: ١٤-٢١ كانت الأسرة تعمل في تجارة صيد السمك قرب كفرناحوم على بحر الجليل. وكما نقرأ في العدد ٢٠، كانت التجارة مزدهرة بحيث كان عندهم مستخدَمون. بعد موت يسوع، كانت التجارة ما زالت نشيطة بحيث عادا إليها كما نقرأ في يوحنا ٢١: ١-١٤.
ونستخلص من مقارنة مرقس ١٥: ٤٠ مع متى ٢٧: ٥٦، أن اسم أم ابني زبدي هو سالومة، وأنها هي أيضاً تبعت يسوع ولو لفترة قصيرة. وقد طلبت مرة من يسوع أن يُعطي ولدَيها مركزاً مميّزاً في ملكوته كما ورد في متى ٢٠: ٢١. علاوة على ذلك، فإن مقارنة يوحنا ١٩: ٢٥ مع متى ٢٧: ٥٦ قد تشير إلى أن سالومة، أم ابني زبدي، هي في الحقيقة أخت مريم أم يسوع. وهذا يجعل يوحنا ابن خالة يسوع. وفي حال كان ذلك صحيحاً، فإنه يساعدنا أن نفهم لماذا طلب يسوع من يوحنا وهو على الصليب أن يعتني بأمه كما ورد في يوحنا ١٩: ٢٥-٢٧.
في مرقس ٣: ١٧، دُعي يعقوب ويوحنا “ابنَي الرعد”. ويبدو أن تلك كانت إشارة إلى طبعهما الناري. وكمثال على ذلك، يخبرنا لوقا عن مناسبةٍ حاول فيها يسوع أن يجد مكاناً يبيت فيه ليلته في مدينة سامرية. وعندما رفض السكان أن يسمحوا له ولتلاميذه بالمكوث، غضب يعقوب ويوحنا غضباً شديداً. استمع إلى لوقا ٩: ٥٤-٥٦:
فَلَمَّا رَأَى ذلِكَ تِلْمِيذَاهُ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا، قَالاَ: “يَا رَبُّ، أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ؟” فَالْتَفَتَ وَانْتَهَرَهُمَا… فَمَضَوْا إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى.
يبدو أنه في الفترة التي أمضاها يوحنا مع يسوع، تحول من إنسان سريع الغضب إلى إنسان ناضج في محبته، الأمر الذي جعله لاحقاً الكاتب الذي ركّز أكثر من أي كاتب آخر في العهد الجديد على محبة الله وشعبه.
يعتقدُ بعضُ النُقّادِ أن ميزةَ الرحمةِ الوافرةِ في الإنجيلِ الرابعِ تتناقضُ مع صورةِ يوحنا التي تَبرزُ في الأناجيلِ الأخرى. لكن المَنطِقَ يقولُ إنه لا يوجدُ تناقضٌ. أولاً، كان يوحنا إنساناً تغيّرَتْ حياتُه بمحبةِ اللهِ. ومحبةُ الله غيَّرتْ يوحنا ليُصبحَ رسولَ المحبةِ. ثانياً، عندما غيّرَ اللهُ يوحنا حادَّ الطِباعِ والعاطفيَّ لم يُغيّرْه ليصبحَ هيكلاً بشريّاً بِلا عاطفةٍ. بل غيّرَه إلى مُبَشِّرٍ بإنجيلِ المحبةِ بعاطفةٍ جياشةٍ. فقد استخدمَ اللهُ جوهرَ كِيانِه وأعادَ تَوجيهَه، من دونِ أن يمحوَ ذلك الجوهرَ.
في روايات الأناجيل، يوحنا هو أحد التلاميذ المقرّبين من يسوع إلى جانب بطرس ويعقوب. وهؤلاء الثلاثة وحدهم كانوا مع يسوع في الأحداث الحاسمة مثل التجلي، وصلاة يسوع في جَتْسيماني ليلة القبض عليه. يذكر كتاب أعمال الرسل، أن بطرس ويوحنا كانا قائدَين بين التلاميذ. وفي غلاطية ٢: ٩، سمَّى بولسُ يوحنا عموداً من أعمدة الكنيسة في أورشليم.
نعلم من إيريناوس ومن مصادر أخرى كثيرة في الكنيسة الباكرة عن خدمة يوحنا الطويلة في أفسس بعد مغادرته أورشليم. وهناك تقليد قوي يروي أن يوحنا نُفي في النهاية إلى جزيرة بطمس. وبحسب بعض المصادر، أُطلق لاحقاً من منفاه وعاد إلى أفسس، حيث مات هناك إبان حكم الإمبراطور تراجان، نحو نهاية القرن الأول.
والآن بعد أن أثبتنا الموقف التقليدي أن يوحنا هو كاتب الإنجيل الرابع، وتعرّفنا قليلاً إلى تاريخ يوحنا الشخصي، دعونا نفحص مناسبة كتابة إنجيل يوحنا.
المناسبة
سنتناول مناسبة كتابة إنجيل يوحنا من أربع نواحٍ. أولاً، سننظر في المكان الجغرافي لكلا الكاتب والقرّاء. ثانياً، سننظر عن قرب أكثر في هوية القرّاء الأولين. ثالثاً، سنبحث في تاريخ الكتابة. ورابعاً، سنتأمل بالقصد من الإنجيل. لنبدأ بالنظر في مكان إنجيل يوحنا.
المكان
من المرجح أن يوحنا كتب إنجيله عندما كان في أفسس، وأنه كتب إلى جماعة تعيش خارج فلسطين، ربما في آسية الصغرى. لا يمكننا التيقن من هذه الأمور، لكن هناك عوامل عدة تدعم هذه الاستنتاجات. على سبيل المثال، تعليقات يوحنا على العادات اليهودية في فلسطين، تدلّ على أنه يكتب إلى قرّاء يعيشون خارج فلسطين. استمع إلى ما كتبه يوحنا في ٤: ٩:
فَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ السَّامِرِيَّةُ: كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ وَأَنَا امْرَأَةٌ سَامِرِيَّةٌ؟” لأَنَّ الْيَهُودَ لاَ يُعَامِلُونَ السَّامِرِيِّينَ.
في هذا العدد، أضاف يوحنا تعليقاً لقرائه حول العداوة بين اليهود والسامريين. لا شك أن هذه العداوة كانت معروفة جيداً عند الجميع في فلسطين، لذا نستنتج أن تعليق يوحنا يدلّ على أنه يكتب إلى أناس يعيشون في مكان آخر خارج فلسطين.
كما تدل كتابات الكنيسة الباكرة على أن الإنجيل كُتب في الأصل إلى جماعة تعيش خارج أورشليم. وسبق وأشرنا إلى يوسابيوس الذي اقتبس من إيريناوس قوله إن يوحنا كتب إنجيله في الأصل في أفسس في آسية الصغرى. وقد وافقت كل الكنيسة الباكرة تقريباً على هذا القول، ومن بينهم إيريناوس، بوليكراتس، إكلميندس الإسكندري، ويوستينيوس الشهيد. علاوة على ذلك، لا يشير أي مصدر قديم إلى قرّاء آخرين للإنجيل سوى المقيمين في آسية الصغرى.
كما يوجد ارتباط وثيق بين إنجيل يوحنا وكتاب الرؤيا. كتب يوحنا كتاب الرؤيا، وكان قراؤه بلا ريب في آسية الصغرى، فالكنائس السبع الموجهة إليها الرسائل في رؤيا ٢ و٣ هي في آسية الصغرى. والتشابه الكبير بين إنجيل يوحنا وكتاب الرؤيا يقود إلى الافتراض القوي بأن يكون القرّاء متشابهين. على سبيل المثال، إنجيل يوحنا له خط تعليمي مرتبط بالنزاع بين المهتدين من اليهود إلى المسيحية والمجامع اليهودية. وكتاب الرؤيا يعترف بهذه المشكلة. استمع إلى ما قاله الرب لكنيسته في رؤيا ٢: ٩ وفي ٣: ٩:
أَنَا أَعْرِفُ… تَجْدِيفَ الْقَائِلِينَ: إِنَّهُمْ يَهُودٌ وَلَيْسُوا يَهُوداً، بَلْ هُمْ مَجْمَعُ الشَّيْطَانِ… هنَذَا أَجْعَلُ الَّذِينَ مِنْ مَجْمَعِ الشَّيْطَانِ، مِنَ الْقَائِلِينَ إِنَّهُمْ يَهُودٌ وَلَيْسُوا يَهُوداً، بَلْ يَكْذِبُونَ، هنَذَا أُصَيِّرُهُمْ يَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَ رِجْلَيْكَ، وَيَعْرِفُونَ أَنِّي أَنَا أَحْبَبْتُكَ.
ونعلم، من جهة أخرى، من أعمال ١٩: ١-٧ أن أتباع يوحنا المعمدان كانوا لا يزالون في أفسس حتى ذلك الوقت. فإن كان يوحنا كتب إلى قرّاء من بينهم أتباعٌ ليوحنا المعمدان، فذلك يفسّر تشديد الإنجيل الواضح على تفوق يسوع على يوحنا.
مع أنه لا يمكننا الجزم في هذه المسألة، لكننا نرجح أن يوحنا كان في أفسس عندما كتب إنجيله، وقد لعبت الظروف في آسية الصغرى دوراً في تشكيل إنجيله.
أما بعد أن أشرنا إلى أن المكان الذي كُتب فيه الإنجيل كان على الأرجح أفسس، فلننظر عن قرب في طبيعة هؤلاء القرّاء الأولين الذين كتب إليهم يوحنا.
القراء
كما هي الحال بالنسبة لكل الأناجيل، فإن إنجيل يوحنا كان موجّهاً إلى كل الكنيسة عبر العصور. وله قيمة لامتناهية بالنسبة إلى كل شعب الله. لكن يبدو أن هناك أجزاء من إنجيل يوحنا لها قيمة خاصة بالنسبة للكنيسة في مكان وزمان معيّنين. على الأقل في بعض الأجزاء من إنجيله، كان في ذهن يوحنا أعضاء من المجتمع اليهودي الذين آمنوا أن يسوع هو المسيح الموعود، لكنهم استمروا يعبدون في المجمع، أو حافظوا على علاقات هامة مع الجماعة اليهودية. في الواقع، يتناول القسم الأوسط من الإنجيل بكامله تقريباً من ٥-١٢، الصراع الشديد بين يسوع واليهود.
ويُلقي يوحنا الضوء على هذا الصراع باستخدامه عبارة “اليهود” أكثر من ٧٠ مرة، والتي ترد أقل من ٢٠ مرة في الأناجيل الثلاثة الأخرى مجتمعة. واستخدم يوحنا هذا التعبير غالباً للإشارة إلى القادة الدينيين المقاومين ليسوع.
في المقابل، عندما تحدث يوحنا بشكل إيجابي عن شعب العهد القديم، استخدم على نحو نموذجي كلمات مثل “إسرائيل” أو “إسرائيلي”. على سبيل المثال، في يوحنا ١: ٤٧ دعا يسوع نثنائيل “إِسْرَائِيلِيٌّ حَقّاً لاَ غِشَّ فِيهِ”.
كما استخدم يوحنا أيضاً الكلمة اليونانية التي تشير إلى “المسيح” أكثر من أي كاتب إنجيل آخر. والتعبير “مسيح” هو ترجمة للكلمة اليونانية خريستوس والكلمة العبرية ماشياح وتعنيان الشخص الممسوح. فالمسيح هو الفادي الذي مسحه الله ليخلص إسرائيل من خطاياهم ويحرّرهم من الحكم الأجنبي.
والتعبير “مسيح” مهمٌ بصورة خاصة بالنسبة لليهود المسيحيين، لأن محور الاختلاف بين المجمع اليهودي والكنيسة المسيحية النامية، كان الإيمان بأن يسوع الناصري هو المسيح، مخلص شعب الله المنتظر منذ أمد بعيد، والذي أُنبِئ عنه في العهد القديم.
لم تُطلَق تسمية “المسيح” على المخلص الذي ينتظره اليهود إلا بعد وقتٍ طويل. غير أنّ الوعد بنسل امرأة ينتصر على الشرّ، أي على عمل إبليس ونسله، قد قُطِعَ في كتاب التكوين ٣: ١٥. حيث ذُكِر نسل المرأة الذي اتضح لاحقاً أنّه سيكون أيضاً نسل إبراهيم، ثمّ بعد ذلك أيضاً نسل يهوّذا، وأن الوعود التي قطِعت بدينونة الحيّة، وببركة كل الأمم من خلال نسل إبراهيم، ثمّ الوعود ليهوذا بأنّ صولجان الحكم لن يفارقه أبداً. هذه الوعود نراها محبوكةً معاً في أقوال بلعام، وهكذا كما كانت خطة الله منذ البداية، ينتصر المسيح الموعود على الشرّ ويفتح في النهاية من جديد الطريق إلى جنّة عدن وتَمْتَلِئُ الأَرْضُ مِنْ مَعْرِفَةِ مَجْدِ الرَّبِّ كَمَا تُغَطِّي الْمِيَاهُ الْبَحْرَ.
—د. جيمز هاملتون
نستنتج من الموضوعَين اللذَين تناولهما يوحنا ومن طريقة تناوله لهما، أن قراءه الأولين كانوا يهوداً مسيحيين، وأنهم كانوا يواجهون تحديات في اتباعهم ليسوع. لكن كما هي الحال بالنسبة إلى كل الكتاب المقدس، أراد الروح القدس أن يُستخدَم إنجيل يوحنا من قبل الكنيسة كلها عبر العصور. ففي يوحنا ١: ٤١ و٤: ٢٥، ترجم يوحنا الكلمة العبرية “مَسِيَّا” إلى اليونانية، ليفهمها قراؤه من غير اليهود. وأن التاريخ برهن أن إنجيل يوحنا له قيمة عظيمة للمؤمنين من اليهود والأمم على السواء.
والآن بعد أن نظرنا في مكان الإنجيل وقرائه، دعونا ننظر في تاريخ كتابته.
التاريخ
يمكننا أن نقول عامة، إن يوحنا كتب إنجيله على الأرجح بين عامَي ٨٥ و٩٠ م. وهناك عوامل عديدة تجعلنا نستبعد تاريخ الكتابة قبل عام ٨٥ م. الأول، يوحنا هو الإنجيل الوحيد الذي لا يتضمن نبوات عن دمار أورشليم والهيكل الذي حدث ٧٠ م. وهذا مردّه على الأرجح إلى أن فترة زمنية هامة قد انقضت منذ ذلك الحدث الفظيع.
ثانياً، يعكس الإنجيل زمناً كان فيه الشرخ بين الكنيسة والمجمع اليهودي مريراً جداً. فبعد سقوط أورشليم، باتت اليهودية صارمة جداً. وفي سبيل حماية نفسها من البدع، أعادت صياغة الصلوات اليومية في المجامع لتتضمن لعنة على الهراطقة كأولئك الذين يؤمنون أن يسوع هو ابن الله؛ وباتت ممارسة الحرمان الرسمي أكثر شيوعاً. ونرى صورة مسبقة عن هذا التوتر في مقاطع مثل يوحنا ٩، حيث يخبرنا يوحنا عن طرد الرجل الأعمى الذي شفاه يسوع من المجمع اليهودي. استمع إلى تعليق يوحنا على هذا الوضع في يوحنا ٩: ٢٢:
لأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا قَدْ تَعَاهَدُوا أَنَّهُ إِنِ اعْتَرَفَ أَحَدٌ بِأَنَّهُ الْمَسِيحُ يُخْرَجُ مِنَ الْمَجْمَعِ.
في هذا المقطع، الإخراج من المجمع كان يعني الحرمان، أي الإقصاء عن حياة الجماعة اليهودية.
ثالثاً، يبدو أن إنجيل يوحنا كُتب بعد الأناجيل الثلاثة الأخرى. هذا الرأي يعود على الأقل إلى القرن الرابع إلى المؤرّخ يوسابيوس. فبحسب هذا المؤرخ، أراد يوحنا أن يكون إنجيله تكملة للأناجيل الأخرى، لا سيما بمعلومات تتعلق بخدمة يسوع قبل يوحنا المعمدان. استمع إلى ما كتبه يوسابيوس في تاريخ الكنيسة، المجلد ٣، الفصل ٢٤ والجزء ١٢:
وفقاً لذلك، يدوّن يوحنا في إنجيله، أعمال المسيح التي قام بها قبل أن يُطرح يوحنا في السجن، لكن البشيرين الثلاثة الآخرين يشيرون إلى الأحداث التي حدثت بعد ذلك الوقت.
سرعان ما ينتبه كلّ مَن يقرأ الأناجيل الأربعة إلى أنّ متى ومرقس ولوقا متشابهة إلى حدٍّ كبير؛ فالقصص نفسها، وتتمتّع بالهيكليّة الأساسيّة نفسها فيما يتعلّق بخدمة يسوع. ثمّ يأتي الإنجيل الرابع، إنجيل يوحنّا، وهو يختلف عن الثلاثة إلى حد كبير. ويبدو أنّ هذا الإنجيل قد كُتِب في وقتٍ متأخّرٍ من القرن الأوّل، حين كانت الكنيسة تواجه تحدّياتٍ من خارجها من أعدائها اليهود ومن غير اليهود. وقد كانت هذه التحديات متعلّقة بالتأكيد بشخص يسوع. فمن الواضح أنّ ألوهية يسوع كانت عرضةً للهجوم لأنّ إنجيل يوحنا يركّز بشدّة على هذه. لم تكن هذه المسألة هامة في الأناجيل الإزائية لأنها لم تكن مثار جدل. أما المسألة الأخرى فكانت التعاليم المغلوطة التي نشأت في الكنيسة، ويتصدى إنجيل يوحنا لتلك التعاليم المغلوطة. أمّا المسألة الثالثة فهي العداء بين الكنيسة واليهود. فقد بدت المقاطعة جليّةً في ذلك الوقت بين المسيحيّين واليهود؛ وهي مقاطعة لا نراها بهذا الشكل الحادّ في الأناجيل الإزائية متّى ومرقس ولوقا.
—د. مارك ستراوس
كل هذا يقودنا إلى الاستنتاج بأن تقليد الكنيسة القديم القائل بأن إنجيل يوحنا قد كُتب في فترة متأخرة من حياة يوحنا أي بعد عام ٨٥م، هو صحيحٌ على الأرجح.
إن كان يوحنا بن زبدي هو كاتب هذا الإنجيل، فإن التاريخ الأبعد المحتمل محدّد بالمدة التي عاشها. كان يوحنا شاباً عندما تبع يسوع على الأرجح حوالي عام ٣٠ م. فلو كان يوحنا حينها في أول العشرينيات من عمره، لكان عمره يناهز ٨٠ في عام ٩٠ م. أما أن يكون قد عاش طويلاً بعد هذا التاريخ فهو أمر مستبعد جداً.
فتاريخ ٨٥ أو ٩٠ م هو التاريخ الأقصى المحتمل لكتابة يوحنا إنجيله، وهو يتفق مع دليل المخطوطات. فالمخطوطة الأقدم التي تحتوي على جزء من العهد الجديد هي البردية ٥٢، المسمّاة أيضاً بـبردية ريلاندز. وتحتوي هذه المخطوطة على جزء من يوحنا ١٨.
أما تاريخ البردية ٥٢ فهو ما بين عامَي ١٠٠ و١٥٠ م. وإذا افترضنا أن هذه المخطوطة الصغيرة كانت في الأصل جزءاً من إنجيل كامل، فهي تدلّ على أن الإنجيل كُتب في تاريخ مبكّر بصورة كافية لينتشر مع بداية القرن الثاني.
كما وُجدت مخطوطات ليوحنا تعود إلى فترة لاحقة من القرن الثاني. كل هذه المخطوطات مصرية في منشئها وتمثّل تقاليد مختلفة حول المخطوطات. من المشكوك فيه أن يكون هذا الانتقال الجغرافي من آسية الصغرى إلى مصر بالإضافة إلى تنوع المخطوطات، قد تمّ في أقل من ٤٠ أو ٥٠ عاماً. لذلك، يبدو من المنطقي أن نحدّد التاريخ الأقصى لكتابة إنجيل يوحنا بين عامَي ٩٠ و١٠٠ م.
الآن، بعد أن نظرنا في مكان كتابة إنجيل يوحنا وقرّائه وتاريخ كتابته، دعونا نركّز على القصد من كتابة يوحنا إنجيلَه.
القصد
كلُّ الكتُبِ ذاتِ الحجمِ الكبيرِ في العهدِ الجديدِ لها أهدافٌ متعددةٌ، وليس إنجيلُ يوحنا مختلفاً عنها. فكما تناولَ يسوعُ عدداً كبيراً من المواضيعِ خلالَ خدمتِه، فإن سجلَّ يوحنا عن خدمةِ يسوعَ تناول أيضاً قضايا عدة. لكن ما زال وصفُ تلك الأهدافِ بطريقةٍ موحّدةٍ ممكناً. في الواقعِ، لخّص يوحنا نفسُه قصدَه من أجلنا. فقد قال بالتحديدِ، إنه أرادَ أن يؤكدَ الإيمانَ بأن يسوعَ هو المسيحُ وابنُ اللهِ على حدِّ سواء. استمع إلى ما كتبه يوحنا في ٢٠: ٣٠-٣١:
وَآيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تَلاَمِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هذَا الْكِتَابِ. وَأَمَّا هذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ.
ببساطة، كتب يوحنا لكي يؤمن قراؤه بأن يسوع هو المسيح، ابن الله، ولكي ينالوا البركات التي تأتي من خلال الإيمان برسالة الإنجيل.
كان يوحنّا صريحاً في توضيح السبب الذي دفعه إلى كتابة هذا الإنجيل. ففي يوحنا ٢٠: ٣١ يُعلِن أنّ هذه الآيات كُتِبت لنؤمنَ بأنّ يسوع هو المسيح، ابن الله، ولكي تكون لنا حياةٌ باسمه. وهنا أتى على ذكر هدفٍ مزدوجٍ في هذه الآية. فقبل كلّ شيء، يؤكّد أنّ إنجيله بطبيعته تبشيريّ. ومن الواضح أنّه كتبه حتّى يؤمن قرّاؤه، في وقتٍ معيّن، بالرب الذي يجتذبهم إليه. وثانياً يَظهَر إنجيله بطبيعته دفاعياً. فقد أراد يوحنا إقناع قرّائه بأنّ يسوع هو فعلاً الإله المتجسّد.
—د. لاري كوكريل
إذاً يقول يوحنا، أنا أكتب هذا الإنجيل حتّى تتعرّفوا إلى هويّة يسوع. يسوع هو ابن الله. ويفسّر مَن هو ابن الله قائلاً إنّه الكلمة الذي كان مع الآب وصار بشراً، وإنّ يسوع هو المسيح الموعود، وهذه ليست مجرّد معلوماتٍ نظريّة نستند إليها، بل يقول يوحنا أريدكم أن تكونوا على إيمانٍ وثقة بذلك حتّى تكون لكم الحياة التي أعطاها الآب بيسوع المسيح.
—د. روبرت بلَمَر
كان تركيز يوحنا الرئيسي في كل إنجيله، على تعزيز الاعتقاد بأن يسوع هو المسيح الموعود وابن الله على حد سواء. هاتان هما النقطتان اللتان احتاج فيهما اليهود المسيحيون إلى الدعم الأكبر في نزاعاتهم مع المجمع اليهودي. فقد آمنوا بأن يسوع هو المسيح ابن الله، وكانوا بحاجة إلى أن يثبتوا في هذا الإيمان إن كان لا بد لهم أن ينالوا بركات الخلاص.
بالطبع، إنجيل يوحنا بمعنى ما هو لكل المؤمنين. على سبيل المثال، في الفصول ١٣-١٧ حاول يوحنا أن يُغذّي إيمان كل المؤمنين عن طريق التشديد على أنه رغم عدم تواجد يسوع على الأرض، فهو في الحقيقة حاضر في حياة شعبه من خلال الروح القدس. فكل تعليم يوحنا هدف إلى إغناء حياة جميع المؤمنين.
قال الدارسون إن إنجيلَ يوحنا هو “حوضُ سِباحةٍ يُمكنُ للأطفالِ أن يخوضوه، وللفيَلةِ أن تسبحَ فيه”. فرسالتُه الأساسيةُ بسيطةٌ وواضحةٌ: يسوعُ هو المسيحُ، ابنُ اللهِ. لكنَّ تفاصيلَ هذه الرسالةِ الرئيسيةِ ما زالتْ تُشكّلُ تحدياً أمامَ المفسّرينَ الذين درسوا الإنجيلَ من عقودٍ كثيرةٍ.
ولا شكَّ أن المسيحيينَ الأوّلين الذي قرأوا هذا الإنجيلَ، تشجعوا به. فقد علّمَهم أن يثبتوا في إيمانِهم المسيحيِّ رَغم نِزاعاتِهم مع خُصومِهم. وقد حثَّهم هذا الإنجيلُ على النموِّ في محبتِهم وتوقيرِهم للمسيحِ الذي كان المصدرَ الوحيدَ لحياتِهم الفياضةِ. ويضعُ إنجيلُ يوحنا أيضاً هذه التشجيعاتِ والتحديّاتِ أمام المسيحيينَ المعاصرينَ.
والآن بعد أن درسنا خلفية إنجيل يوحنا، لننتقل إلى بنية الإنجيل ومحتواه.
البنية والمحتوى
وصف الدارسون بنية إنجيل يوحنا بطرق متنوعة. في هذا الدرس، سنتبنى رأي القائلين بأنه يوجد ارتباط بين الخلاصة التمهيدية لحياة يسوع وخدمته ومحتوى إنجيل يوحنا. استمع إلى هذه الكلمات من يوحنا ١: ١٠-١٤:
كَانَ [يسوع] فِي الْعَالَمِ، وَكُوِّنَ الْعَالَمُ بِهِ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ. إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ. وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ … وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً.
يركّز هذا المقطع على أربع أفكار رئيسية: يسوع جاء إلى العالم؛ جاء ورفضه شعبه الخاص، أي إسرائيل؛ الذين قبلوه وآمنوا به أصبحوا أولاد الله؛ ثم أصبح هؤلاء المؤمنون شهوداً ليسوع.
تِبعاً لهذه الأفكار الرئيسية الأربع، سنوجز إنجيل يوحنا بهذه الطريقة:
- أولاً، افتتح يوحنا إنجيله بـمقدمة موجزة وصفت تجسد يسوع في ١: ١-١٨.
- ثانياً، دوّن يوحنا خدمة يسوع العلنية من ١: ١٩-١٢: ٥٠، حيث أظهر أن يسوع جاء إلى خليقته الخاصة ورُفض من قبل البشر الذين جاء ليُخلصهم.
- ثالثاً، ضمّن يوحنا إنجيله وصفاً لخدمة يسوع الخاصة للذين قبلوه وآمنوا به وذلك من ١٣: ١-٢٠: ٣١.
- ورابعاً، في خاتمة إنجيل يوحنا في ٢١: ١-٢٥، شدّد يوحنا على دور الرسل والتلاميذ الآخرين كشهود لمجد يسوع.
وسننظر في كل من هذه الأجزاء من إنجيل يوحنا، بدءاً من المقدمة.
المقدمة
في ١: ١-١٨ لخّص يوحنا بقوة وبشكل رائع الإنجيل بكامله. وقد علّم أن يسوع هو كلمة الله الذي خلق كل الأشياء، وهو مصدر الحياة. لكن أكثر من ذلك، جاء يسوع أيضاً إلى العالم كإنسان حقيقي من لحم ودم. وكونه ابن الله المتجسد، أعلن مجد الله للعالم الذي خلقه.
ووصف يوحنا ذلك في ١: ٤-٥ بقوله إن يسوع هو النور الذي جاء إلى عالم مظلم. وقد انتصر على ذلك الظلام كونه الإعلان الوحيد الكامل عن نعمة الله. وبينما يتحدث الكتاب المقدس أحياناً عن حجب يسوع مجده أثناء التجسد، شدّد يوحنا على حقيقة أن تجسد يسوع أظهر في الواقع مجده بطرق هامة. وبدل أن يُخفي تجسد يسوع وصيرورته إنساناً مجده، كشف في الواقع عن ذلك المجد. كتب يوحنا في يوحنا ١: ١٤:
وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً.
خدمة يسوع العلنية
بعد المقدمة، دوّن يوحنا خدمة يسوع العلنية من يوحنا ١: ١٩-١٢: ٥٠. في هذا الجزء ركّز يوحنا على حقيقة أن يسوع جاء إلى شعبه الخاص، أمة إسرائيل، لكن شعب إسرائيل رفض أن يقبل يسوع مسيحاً ورباً لهم. كما رأينا في يوحنا ١: ١١، قال يوحنا:
إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ [يسوع]، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ.
وبالرغم من وجود استثناءات هامة لهذه الخلاصة، فبصورة عامة هكذا تجاوبت إسرائيل مع خدمة يسوع العلنية في إنجيل يوحنا.
أما مخططنا لخدمة يسوع العلنية فينقسم إلى سبعة أقسام، بدءاً من الاستعداد للخدمة، ويستمر مع الأحداث التي تحيط بستة أعياد يهودية مختلفة. لننظر أولاً في استعداد يسوع للخدمة من يوحنا ١: ١٩-٢: ١٢.
الاستعداد للخدمة
يبدأ القسم الأخير المتعلق باستعداد يسوع للخدمة، بخدمة يوحنا المعمدان في ١: ١٩-٣٦. في هذا المقطع، شدّد يوحنا على كون المعمدان شاهداً هاماً لحقيقة كون يسوع ابن الله، وعلى كون يسوع حَمَلْ الله والذبيحة التي تكفِّر عن خطية العالم.
يخبرنا يوحنا، بعد ذلك، عن دعوة يسوع تلاميذه الأوائل في يوحنا ١: ٣٧-٥١. وكما هي الحال في روايته عن يوحنا المعمدان، فإن التشديد في هذا الجزء هو على هوية يسوع. فتلاميذه ينادونه “رَابِّي”، أي المعلم، في العدد ٣٨؛ و”مسيّا”، أي المسيح، في العدد ٤١؛ وعبارة “الَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى” وهي إشارة إلى النبي الذي أنبأ عنه موسى في العدد ٤٥؛ و”ابن الله” والتعبير الموازي “ملك إسرائيل” في العدد ٤٩. وأخيراً، في العدد ٥١ عرّف يسوع عن نفسه بـ”ابن الإنسان” الذي أُرسل ليدخلنا إلى محضر الله.
أما القسم الأخير لاستعداد يسوع للخدمة كانت معجزته الأولى، التي دوّنها يوحنا في ٢: ١-١٢. كانت تلك المناسبة، التي حوّل فيها يسوع الماء إلى خمر. لكن التركيز لم يكن على المعجزة نفسها. استمع إلى ما كتبه يوحنا في ٢: ١١:
هذِهِ بِدَايَةُ الآيَاتِ فَعَلَهَا يَسُوعُ فِي قَانَا الْجَلِيلِ، وَأَظْهَرَ مَجْدَهُ، فَآمَنَ بِهِ تَلاَمِيذُهُ.
إحدى النقاط الرئيسية التي أشار إليها يوحنا هي أن هذه المعجزة كانت علامة أو آية أعلن من خلالها يسوع مجده، ما جعل تلاميذه يؤمنون به.
استُخدِمَ التعبير “آيات” في سفر الخروج للإشارة إلى المعجزات التي صنعها موسى، وتحديداً كصفة للضربات. واستخدمت الآيات أو بالحري التعبير آية بعد ذلك للإشارة إلى المعجزات، وأعتقد أن يوحنا يستخدم هذا التعبير ليس لأنه يشبّه غالباً يسوع بموسى فحسب، بل أيضاً لأنّه على ما أعتقد، يشارك كاتب الخروج هدفه بإظهار أنّ المعجزات صُنِعَت لإثباتِ شيءٍ ما للبشر، لتزويدهم، إن شئت، بمعلومات يجدر بهم العمل بموجبها، وبالتحديد إعلامهم بأنّ الله يقول شيئاً للبشر وعليهم التجاوب مع ما يقول.
—د. ديفيد ردلينغ
يوحنا فريد بين الأناجيل بدعوته باستمرار معجزات يسوع بـ”الآيات”. فالغرض من المعجزات ليس لفت الانتباه إليها، بل لتشير إلى ما أبعد منها، أي إلى يسوع. فهي تهدف بشكل خاص إلى التعريف بيسوع بصفته “المسيح” و”ابن الله” على حد سواء، تماشياً مع القصد من الكتاب الذي لخّصه يوحنا في ٢٠: ٣٠-٣١.
استفاد الكثيرون من معجزات يسوع، ولكن مَن كان عندهم عيون ليبصروا استطاعوا أن يروا أنّ الشخص الذي أشارت إليه المعجزات هو بالتحديد مَن يحمل هويّة المسيح. أظنّ أنّ يوحنّا يستخدم كلمةً تعبّر نوعاً ما عن المعجزات، ليس كأحداثٍ خارقة، بل لأنها تشير إلى هويّة المسيح. وبالطبع يقول يوحنّا إنّ السبب الذي دفعه إلى الكتابة هو أن نؤمن بأنّ يسوع هو المسيح ولكي تكون لنا إذا آمنّا حياةٌ باسمه.
—د. سايمن فايبرت
الآية هي عمل خارق يصنعه يسوع ويشير بها إلى هويّته الحقيقية. وإن أنت فهمتها بالمعنى المادي كعمل خارق تكون قد أخطأت القصد أكانت في تحويل الماء إلى خمر، أو إطعام الجمع بوفرةٍ أو حتى في شفاء الأعمى، كما نرى في إنجيل يوحنا. فهذا الأخير لا يرى الآيات هذه كأعمالٍ خارقة فحسب، وإنّما إذا نظرنا إلى قصد الله من خلالها، تظهر أمامنا جليّاً هويّة يسوع صنعها، فنكتشف أنّ يسوع هو خبز الحياة، وأنّه هو الذي جاء ليعطينا البصر وهو من أتى بالخمرة الجديدة للدهر الآتي، ونحتفل معه بذلك.
—د. روبرت بلَمَر
الفصح الأول
أما الجزء الثاني المتعلق بـخدمة يسوع العلنية فهو يدور حول الاحتفال بالفصح في أورشليم. وسنشير إلى ذلك بـالفصح الأول لأنه الأول المُشار إليه بالاسم في إنجيل يوحنا. ويمتد هذا القسم من يوحنا ٢: ١٣-٤: ٥٤.
يبدأ هذا الجزء برواية يوحنا عن تطهير يسوع للهيكل وطرده للتجار في يوحنا ٢: ١٣-٢٥. ومرة أخرى، كان التشديد هنا على هوية يسوع. استمع إلى ما سأل اليهود يسوع في يوحنا ٢: ١٨:
فَأَجَابَ الْيَهُودُ وَقَالوُا لَهُ: “أَيَّةَ آيَةٍ تُرِينَا حَتَّى تَفْعَلَ هذَا؟”
أجاب يسوع عن طريق إنبائه بموته وقيامته، وهما الآية الأعظم في كل خدمته والدليل على كونه ابن الله.
في تعليقاته بعد هذا الحدث، المدوّنة في ٢: ٢١-٢٥، أشار يوحنا إلى أن يسوع صنع أيضاً الكثير من الآيات وآمن نتيجتها الكثيرون به ولو بصورة سطحية.
ثم أشار يوحنا بعد ذلك إلى محادثة يسوع مع نيقوديموس، وهو عضو في المجلس اليهودي الحاكم، في ٣: ١-٢١. مرة أخرى، التشديد هنا هو على هوية يسوع، هذه المرة على “ابن الانسان” و”ابن الله” على حد سواء، وعلى الدور الخلاصي الذي أرسله الله لينجزه.
نجد في يوحنا ٣: ٢٢-٣٦، رواية أخرى عن يوحنا المعمدان. هنا يشدّد الرسول يوحنا على أن يسوع هو المسيح، ابن الله. ويضيف أن يسوع جاء ليشهد عن الله والخلاص، ولكن لم يؤمن به أحد تقريباً.
في يوحنا ٤: ١-٤٢، يخبرنا يوحنا عن لقاء يسوع بالمرأة السامرية على بئر السامرة. مرة جديدة، التشديد هنا هو على هوية يسوع أنه المشيح، المسيح الموعود وهو الذي يأتي ويشرح لشعبه كل شيء. وبتشديده على أن الخلاص سيأتي من خلال اليهود، وبالتحديد من خلاله هو، تحدّى يسوع طريقة تفكير المرأة، ودعاها لتجد فيه الحياة وحقيقة الله اللتين طالما رغبت فيهما. وتجاوب الكثير من السامريين مع هذا التعليم ووضعوا ثقتهم بيسوع.
أخيراً، في يوحنا ٤: ٤٣-٥٤، دوّن لنا يوحنا آية يسوع المُعجزية الثانية. ومثل الآية الأولى، حصلت هذه الآية أيضاً في قانا. لكن هذه المرة شفى يسوع طفلاً، حتى دون أن يلمسه أو يراه. فلا عجب أن التشديد في هذه القصة هو على حقيقة أن القصد من المعجزة هي المصادقة على سلطان يسوع، وقد أدت إلى إيمان الذين عاينوها.
موضوع هام يدور في كل هذا الجزء حول الفصح الأول هو الإيمان. يخبرنا يوحنا في ٢: ١١ أنه بعد الآية الأولى آمن التلاميذ بيسوع. في ٤: ٤٢ آمن السامريون بسبب تعليم يسوع. وفي ٤: ٥٣ آمنت عائلة الصبي الذي شُفي. بعد ذلك، في يوحنا ٧: ٥٠ وفي ١٩: ٣٩، نجد ما يجعلنا نعتقد بأن نيقوديموس صار مؤمناً بيسوع. فآيات يسوع وتعليمه العميق كانت شهادات قوية لهويته وللخلاص الذي قدمه لنا، وكثيرون آمنوا به.
إنّ أحد المواضيع الرئيسية في إنجيل يوحنا هو الإيمان الخلاصي. فالإيمان هو فعلٌ مشدَّد عليه في كل إنجيل يوحنا. ويتركّز هذا التشديد على ناحيتين، الأولى هي أنّ الإيمان أو صيرورتنا أولاد الله، هو عمل الله نفسه، أما الناحية الثانية فيبدو الأمر تجاوباً من قبل الفرد. ويمكن فهم الإيمان الخلاصي بالتأكيد على أنه عطيّة. فمن نعمة الله في حياتنا أن نؤمن، ولكنه يعتمد على ما نقوم به، ولابد من وجود ناحية المعرفة. فمن الضروري أن نفهم أنّ المسيح مات على الصليب من أجل خطايانا. ومن المهمّ أن يكون لدينا القبول الفكري بالموافقة على ذلك. ولكنّ الأمر يتخطّى مفهومَيْ المعرفة والموافقة بأشواط. فلدينا الشعور بالثقة الذي يشكّل الناحية الأهمّ في الإيمان. وتتمثل هذه الثقة بِيَد الفرد الفارغة التي تمتدّ لاستقبال كلّ ما صنعه الله من خلال المسيح ابنه.
—د. جف لومان
أكثر الأمور المخيّبة في عالمنا اليوم هو أنّ كلمة “إيمان” تُستخدَم بإهمالٍ وسطحية. فالكثير من الناس يتكلّمون عن الإيمان وكأنّهم يؤمنون بالإيمان. فالمسيحيّون لا يتكلّمون هكذا عن الإيمان. فهناك أنواع مختلفة من الإيمان. الآن أنا جالسٌ على كرسي، وعندي كل الثقة بأنّه يحملني. ولكنّي لا أؤمن أن هذا الكرسي يمكن أن يفعل أكثر من أن يحملني. فهو لا يُستخدَم لغرض آخر. فعندما نتكلّم عن الإيمان الذي يخلّص، نحن نعني الإيمان بالمسيح. فهو الثقة، وهو الراحة التي تنبع من تلك الثقة بأنّ المسيح قام بكلّ ما يلزم لخلاصنا. فالإيمان الذي يخلِّصنا هو عندما نؤمن بالمسيح ونعرف أنّه هو مَن دفع قصاص خطايانا، ونُدرك أن المسيح هو من اشترى خلاصنا، ونعرف أنه هو من صنع تكفيراً كاملاً لخطايانا، ونعرف أنّنا فيه ننال غفراناً كاملاً. فالإيمان الذي يخلِّص هو ببساطة الايمان الذي يعطينا الراحة والثقة في المسيح عالمين أنّه قام بذلك نيابة عنا، ولم يبقَ علينا ما نقوم به، وبأنّه يحفظ مَن يتبعه ويؤمن به إلى الأبد. فالإيمان الخلاصي أو الإيمان الذي يخلص، هو الإيمان الذي يمكن تعريفه بمعناه المجرّد والجوهري، بأنه الثقة بالمسيح. فليس عندنا شيء آخر. ولا نرغب في شيءٍ آخر. ونعلم أنّ المسيح وحده كافٍ لخلاصنا.
—د. آلبرت مولر
مع الأسف، لم يؤمن الجميع بيسوع. في ٢: ١٢-٢٠، طرد يسوع أولئك الذين كانوا ينجسون الهيكل. في ٢: ٢٤-٢٥، لم يأتمن يسوع عدداً كبيراً من الناس على نفسه، لأنه علم أنْ ليس لديهم الإيمان الحقيقي. وفي ٣: ١٨-٢١، نقرأ عن الدينونة القادمة على أولئك الذين يرفضون أن يؤمنوا.
عيد اسمه غير مذكور
أما الجزء الثالث من خدمة يسوع العلنية مرتبط بعيد لا يُذكَر اسمه، موجودٌ في يوحنا ٥: ١-٤٧.
في الأعداد ١-١٥، شفى يسوع رجلاً مقعداً من ٣٨ سنة. لكن بما أن ذلك حصل في يوم سبت، واجه اليهود يسوع بسبب كسره الشريعة التي تمنع العمل يوم السبت. ويدوّن لنا يوحنا ردّ يسوع في ٥: ١٦-٤٧، حيث أعلن أنه واهب الحياة الأبدية إلى جميع الذين يؤمنون به.
الفصح الثاني
يخبرنا الجزء الرابع في تفصيله لخدمة يسوع العامة عن احتفال يسوع بعيد فصح ثان، وذلك في يوحنا ٦: ١-٧١.
كان الفصح العيد الذي فيه يحتفل اليهود بالخروج من مصر. لذلك لم يكن مفاجئاً أن يتضمن هذا الجزء العديد من الإشارات إلى الخروج. في ٦: ١-١٥، أشبع يسوع خمسة آلاف بواسطة خمسة أرغفة من الخبز وسمكتين. ويذكّرنا هذا العمل بتوفير الله المنّ لأمة إسرائيل بعد تحريرهم من العبودية في مصر.
في يوحنا ٦: ١٦-٢٤، مشى يسوع على الماء، مظهراً سلطاناً أعظم على الماء مما كان لموسى عندما شق البحر الأحمر. ثم، في ٦: ٢٥-٧١ بعد عبور البحر الأحمر، قدّم يسوع نفسه أنه “الْخُبْزَ الْحَقِيقِيَّ مِنَ السَّمَاءِ”، الذي يفوق المن الذي قدّمه الله في زمن الخروج. وكالخبز الحقيقي، تمّم يسوع عيد الفصح بتقديمه الحياة الحقيقية للمؤمنين.
عيد المظال
الجزء الخامس من خدمة يسوع العلنية يدور حول احتفاله بعيد المظال في يوحنا ٧: ١-١٠: ٢١.
في يوحنا ٧: ١-٥٢، دون يوحنا كيف احتفل يسوع بعيد المظال وكيف تمّم القصد منه. فعيد المظال كان إحياء لذكرى إنقاذ الله إسرائيل من مصر وتوفيره لهم الماء في الصحراء. وهو أيضاً احتفال بتوفير الله المطر للحصاد. وفيه يتطلع المؤمنون إلى اليوم الذي فيه يتحقق خلاص الله النهائي لشعبه. في هذا العيد، يصوّر الكاهن نعمة الله الكريمة عن طريق سكبه الماء على مذبح الهيكل. ويسوع باستخدامه هذه الصورة الرمزية للماء، أعلن بوضوح أنه الشخص الذي يعطي “الماء الحي”.
في يوحنا ٨: ١٢-٥٩، اظهر يسوع البنوة الحقيقية بدعوته نفسه ابن الله، كما أنه أنكر أن اليهود غير المؤمنين هم أولاد شرعيون لإبراهيم.
في ٩: ١-٤٢، شفى يسوع رجلاً أعمى منذ ولادته، ما دفع الفريسيين لفحص ما قام به يسوع. فعدم إيمانهم دفع يسوع إلى التصريح بأن الفريسيين هم العميان الحقيقيون رغم ادعائهم بأنهم يرون.
وقد قدّم يسوع نفسه كراعٍ صالحٍ في ١٠: ١-٢١. وعلى نقيض الفريسيين، كان يسوع الراعي الصالح لأنه كان مستعداً أن يبذل حياته من أجل الخراف.
عيد التجديد
يدوّن لنا الجزء السادس من خدمة يسوع العلنية الأحداث التي تحيط باحتفاله بعيد التجديد من يوحنا ١٠: ٢٢-١١: ٥٧.
تدوّن لنا الأعداد ٢٢-٤٠ من يوحنا ١٠ احتفال يسوع بعيد التجديد وتحقيقه الهدف منه. فهذا العيد لم يتأسس في فترة العهد القديم. والاحتفال به بدأ عام ١٦٥ق.م، بعد أن نجحت ثورة العائلة المكابية ضد الملك اليوناني أنطيوخس أبيفانس. وقد أطلق أنطيوخس على نفسه لقب أبيفانس لأنه اعتبر نفسه تجلياً لله. وقد قتل أنطيوخس العديدين في أورشليم، ونجّس الهيكل، وأمر اليهود بعبادة زفس. لذا كان عيد التجديد احتفالاً بتطهير الهيكل الذي تمّ استرداده على يد المكابيين، وأعيد تكريسه من جديد. ويعرف هذا العيد اليوم باسمه العبري هانوقة، والذي يعني “تكريس” أو تجديد.
ونرى في هذا المقطع مقابلة تباينية بين أنطيوخس ويسوع. فمن جهة ادعى أنطيوخس كذباً بأنه إله بينما كان يقتل شعب الله وينجّس هيكله. أما يسوع فهو حقاً ابن الله الذي قام بعمل الله بأمانة، بما في ذلك تقديم الحياة الأبدية لشعبه. في يوحنا ١٠: ٣٦، أعلن يسوع أن الآب قدّسه أي “كرَّسه”، وأرسله إلى العالم. وهذه الكلمة تذكّرنا بتكريس الهيكل في عيد التجديد. وبالطبع، سبق ليسوع أن شبّه إعادة بناء الهيكل بقيامة جسده في يوحنا ٢: ١٩-٢١.
وهذه المواضيع انتقلت إلى قصة قيامة لعازر ١١: ١-٥٧، والتي تبرهن عن سلطان يسوع الإلهي على الموت. فقيامة لعازر من الموت هي بمثابة إعلان عن قيامة يسوع الشخصية في نهاية الإنجيل عندما تحققت أخيراً كل آمال عيد التجديد.
الفصح الثالث
يتركز الجزء السابع الذي يتناول خدمة يسوع العلنية حول الاستعدادات للفصح الثالث في يوحنا ١٢: ١-٥٠.
استعدادات يسوع للفصح الثالث التي أشار إليها يوحنا أعدّت الطريق لخدمة تلاميذه الاثني عشر في يوحنا الفصول ١٣-١٧، بالإضافة إلى تقديمه نفسه كذبيحة خروف الفصح في الفصل ١٩. وقد بدأت استعدادات يسوع بدهنه بالطيب كإعلان عن دفنه في ١٢: ١-١١. يدوّن لنا يوحنا في الأعداد ١٢-١٩ دخول يسوع كملك ظافر إلى أورشليم. وعندما بدأ اليونانيون يؤمنون إلى جانب اليهود في الأعداد ٢٠-٥٠، أعلن يسوع أن ساعة تمجيده قد أتت أخيراً. وقد استمر الكثير من اليهود في عدم إيمانهم. لكن عندما آمن الأمم إلى جانب اليهود المؤمنين، أخبر يسوع تلاميذه بأن ساعة موته قد دنت.
يتناول القسم الرئيسي الثاني في إنجيل يوحنا خدمة يسوع الخاصة لأولئك الذين قبلوه وآمنوا به. وهذا الجزء يمتد من يوحنا ١٣: ١-٢٠: ٣١.
خدمة يسوع الخاصة
يتضمنُ هذا الجُزءُ من الإنجيلِ روايةَ يوحنا عن عشاءِ يسوعَ الأخيرِ مع تلاميذِه واعتقالِه وصَلبِه. وهي الروايةُ عن كيفيةِ إعلانِ يسوعَ مجدَه لشعبِه الخاصِ. وقد علّم يوحنا أن يسوعَ خدمَ بصورةٍ حميمةٍ أولئكَ الذين آمنوا به، وبذلَ طوعاً حياتَه من أجلِهم. وقد أظهرَ يسوعُ من خلالِ هذه الأحداثِ مجدَ اللهِ بطريقةٍ لم تُعرفْ من قبل.
يكشف هذا الجزء من إنجيل يوحنا الفكرة التي عبّر عنها يسوع في ١: ١١-١٢، حيث وردت هذه الكلمات:
إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ [يسوع] وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ. وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ.
في بداية الفصول ١٢ من إنجيل يوحنا، خدم يسوع العالم، لكن حتى خاصته لم تقبله. ثم، ابتداءً من الفصل ١٣، ركّز على أولئك الذين قبلوه: أي تلاميذه.
سنتناول هذا الجزء من إنجيل يوحنا على قسمين. أولاً، سنتأمل في أحداث العشاء الأخير. ثانياً، سننظر في ساعة المجد العُظمى ليسوع، أي ساعة موته وقيامته. لنبدأ بالأحداث المحيطة بالعشاء الأخير.
العشاء الأخير
ترد رواية خدمة يسوع لتلاميذه في العشاء الأخير في أربعة أقسام متميّزة. في القسم الأول، خدمهم يسوع بغسل أرجلهم في يوحنا ١٣: ١-٣٠.
الخدمة. وقد جسّد يسوع كامل خدمته الأرضية عندما غسل بتواضع أرجل تلاميذه. وقد صوّر هذا الحدث بصورة دراماتيكية تجسده وذبيحته الفدائية على الصليب. خالق الكون انحنى أمام شعبه الخاص وخدمهم عن طريق غسل أرجلهم الوسخة التعبة. وهي خدمة ستصل إلى ذروتها في اليوم التالي على الصليب عندما سيغسل أرواحهم الوسخة التعبة بدمه الطاهر. بعد غسله أرجلهم، أعلن يسوع أن واحداً من التلاميذ سيخونه. ثم بعد أن دخل الشيطان يهوذا، ترك الغرفة ليستكمل خيانته.
بعد خدمة يسوع تلاميذه بغسله أرجلهم، واساهم في يوحنا ١٣: ٣١-١٤: ٣١.
الراحة. بعد مغادرة يهوذا، بدأ يسوع ما يسمى بـ”التعليم الوداعي”، الذي فيه أعدّ يسوع تلاميذه الأمناء لحقيقة تركه لهم قريباً.
رغم أن هذا الكلام كان موجهاً إلى الرسل، نرى أنه يوجد سبب يدعو إلى حفظه لأجيال الخدمة الرسولية القادمة. بعبارة أخرى، يمكن أن يوجد هنا مفاهيم متناقلة لأيّ شخصٍ يريد العيش كرسول وكتلميذ، كشخصٍ يتعلّم ويفهم أنّنا مُرسَلون إلى العالم. فإذا أراد أيّ منّا فهم دعوته، يمكنه الاطّلاع على التعاليم الرائعة في خطبة العليّة. وأنا أعتقد أنّ هذا المقطع يتضمن تطبيقات خاصة للقادة. وأظنّ أنّ قراءة هذه الفصول لها منفعة عظيمة للرجال والنساء الذين دعاهم الله ليكونوا قادة في جسد المسيح. ولكن ما أقوله عادةً هو أنّ كلّ دافع مسيحي يتجسد في الحقيقة في يسوع في يوحنا ١٧، لأنّه يقسّم صلاته، فيصلي من أجل الرسل ثمّ يقول “وَلَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ هؤُلاَءِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضاً مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي بِكَلاَمِهِمْ”. إذاً، هذا المقطع كله في يوحنا ١٤، ١٥، ١٦، ١٧ موجّهٌ في الوقت ذاته إلى الرسل الإثني عشر وإلى الأشخاص الذين سيؤدّون الأدوار نفسها بعد رحيل الرسل. فهذا المقطع موجّه إلى كل المؤمنين.
—د. ستيف هاربر
بدأ يسوع تعليمه الوداعي بقوله إن الوقت قد حان بالنسبة له ليتمجد، أي أنه سوف يموت، ويقوم من الموت ويصعد إلى أبيه في السماء. وكان على تلاميذه أن يعيشوا دون حضوره في الجسد بينهم، حيث كان يسير ويتكلم ويعيش في وسطهم. كما أنبأ بأن بطرس على وشك أن يُنكِره ثلاث مرات. لكن يسوع عرف أن هذه الأخبار ستزعج تلاميذه، لذلك واساهم وطمأنهم بأنه سوف يأخذهم هم أيضاً في النهاية إلى الآب. وأخبرهم أنه لن يتركهم وحيدين، بل سيرسل الروح القدس ليخدمهم مكانه. استمع إلى وعد يسوع في يوحنا ١٤: ٢٦:
وَأَمَّا الْمُعَزِّي الرُّوحُ الْقُدُسُ الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ.
وعد يسوع تلاميذه أنهم لن يكونوا أبداً وحدهم. فسوف يجرّبهم العالم ويضطهدهم، ولكنهم لن يحتاجوا إلى أن يدافعوا عن اسم يسوع وعن أنفسهم بأنفسهم. فروح الحق سيقوّيهم ليتكلموا ويكتبوا عن يسوع بسلطان ودون أخطاء.
بعد مواساة يسوع لتلاميذه أعدّهم ليقوموا بخدمتهم المستقبلية كما نقرأ في يوحنا ١٥: ١-١٦: ٣٣.
الإعداد. في نهاية الجزء السابق، غادر يسوع وتلاميذه المكان الذي كانوا فيه، وبدأ يسوع جزءاً جديداً من تعليمه. بدأ بوصفه نفسه بـ”الكرمة الحقيقية” في يوحنا ١٥: ١-٨. وهذه الصورة المجازية تُذكّرنا بالمزمور ٨٠: ٨ وإشعياء ٥: ١-٧، حيث وُصفت أمة إسرائيل بكرمة مجيدة. وبسبب فشل إسرائيل وخطيئتها، تحوّلت لاحقاً إلى “كرمة برية فاسدة” في إرميا ٢: ٢١. لكن يسوع استخدم هذه اللغة المجازية ليؤكد لتلاميذه أنه كان يعيد بنفسه تأسيس أمة إسرائيل الحقيقية والأمينة، وأن التلاميذ هم جزء من هذه الخطة العظيمة. استمع إلى ما قاله يسوع في يوحنا ١٥: ١-٥:
أَنَا الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ … أَنَا الْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ. الَّذِي يَثْبُتُ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هَذَا يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ.
عن طريق إعلانه أنه الكرمة الحقيقية، قال يسوع إنه بمعنى أعمق، هو إسرائيل. فيسوع كان ممثلاً لإسرائيل ومتمماً لمصيرها. فقد أخفقت إسرائيل في تأسيس ملكوت الله على الأرض، لكن يسوع نجح. وتلاميذه كانوا أغصان الكرمة. فقد كانوا جزءاً من شعب الله، والأدوات التي من خلالها سينجز الله خطته للعصور اللاحقة.
لكن يسوع علِمَ أيضاً أن العالم سيكره التلاميذ، لأنه سبق وكرهه هو أيضاً. لذلك طمأنهم أنه سيصلي إلى الآب من أجلهم. فهم سفراؤه وممثلوه ذوو السلطان على الأرض. ولهذا السبب، سيسمع الرب صلواتهم كما لو أن يسوع نفسه يصليها. وكما قال لهم في يوحنا ١٦: ٢٣-٢٤:
اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ مِنَ الآبِ بِاسْمِي يُعْطِيكُمْ. إِلَى الآنَ لَمْ تَطْلُبُوا شَيْئاً بِاسْمِي. اُطْلُبُوا تَأْخُذُوا لِيَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً.
بعد إعداده لتلاميذه، صلى يسوع من أجلهم في يوحنا ١٧: ١-٢٦.
الصلاة. تُدعى صلاة يسوع في يوحنا ١٧ غالباً صلاة رئيس الكهنة، لأنه يشفع في أتباعه كما يفعل الكاهن. بصورة خاصة، صلى يسوع إلى الآب ليحفظ تلاميذه لكي يؤمن الكثيرون على أيديهم. كما صلى لكي يُحفظوا هم وتلاميذهم من قوى العالم، وأن يكونوا أقوياء في وحدتهم ويمجدوا الله في حياتهم.
يسوع كان يعرف أنّ الوقت المتبقّي له قصيرٌ وأنّ ساعته قد أتت ليعود ويكون مع الآب حيث كان قبل تأسيس العالم. في هذا الوقت قال يسوع، كما نعلم: “إن الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي حَفِظْتُهُمْ، وَلَمْ يَهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ابْنُ الْهَلاَكِ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ”. فيسوع كان فعلاً يصلّي إلى الآب من أجل التلاميذ. وتابع فقال: أنا عملتُ معهم نحو ٣ سنواتٍ لأقدّسهم وأقودهم إلى ما وصلوا إليه. ولكنّني الآن لن أكون معهم. فاحفظهم أيّها الآب وأكمل عملية التقديس هذه لأنّهم سيواجهون تجارب صعبة وسيتعرّضون لاضطهاداتٍ شديدة. والآن، كيف يتخطّى التلاميذ كلّ هذه المصاعب؟ نعود ونقول إنّ هذه الصلاة التي نطق بها يسوع كانت موجّهةً إلى الله لكي يعتنيَ بتلاميذ يسوع الذين هم على وشك مواجهة التجارب والاضطهادات والموت في سعيهم لخدمته، ولا بد من هذه التضحيات لنشر إنجيل يسوع المسيح.
—ق. تاد جيمز
بعد وصفه العشاء الأخير، يخبرنا يوحنا عن موت يسوع وقيامته من يوحنا ١٨: ١-٢٠: ٣١.
الموت والقيامة
في إنجيل يوحنا، غالباً ما يوصف موت يسوع وقيامته والأحداث المتصلة بهما بساعة مجد أَو تمجيد يسوع. في العهد القديم، كلمة “مجد” تشير غالباً إلى حضور الله بين شعبه. رافق مجد الله إسرائيل في كل تاريخها. وكان مجده السحابة التي قادت بني إسرائيل أثناء تجوالهم في البرية في خروج ١٦: ١٠. وكان مجده في خيمة الله في خروج ٤٠: ٣٤-٣٥. كما أن مجد الله حلّ في هيكل سليمان في ١ ملوك ٨: ١١. ومقابل ذلك تشير كلمة “مجد” في إنجيل يوحنا إلى يسوع كابن الله المتجسد الذي عاش بين شعبه.
لكن عندما أشار يسوع إلى “ساعة مجده”، كان عادة يعني تلك النقطة المحدّدة في حياته التي فيها سيظهر مجده للعالم بأعمق صورة ممكنة. بكلمات أخرى، كان يشير إلى موته وقيامته.
لا يَنظرُ البشرُ عادةً إلى الموتِ كأمرٍ مجيدٍ. لكنَّ موتَ يسوعَ وقيامتَه حقَّقا المصالحةَ لشعبِ اللهِ. وموتُ يسوعَ الطوعيُّ وقيامتُه جلبا الخلاصَ والحياةَ لكلِّ الذين آمنوا بهِ وقبِلوه كالمسيحِ المنتظرِ. وقد أعلنا لنا محبةَ اللهِ وقوتَه بطريقةٍ لم نكنْ لنعرفَها من دونِهما. نعم، كانت طريقةُ الفداءِ مأسويةً لكن جميلةً أيضاً. فقد أدى موتُ يسوعَ وقيامتُه إلى تمجيدِ اللهِ وتسبيحِه. باختصارٍ، كانا أمجدَ حدثَينِ في كلِّ تاريخِ البشريةِ.
تنقسم رواية موت يسوع وقيامته إلى ثلاثة أقسام رئيسة، بدءاً من القبض عليه ومحاكماته في يوحنا (١٨: ١-١٩: ١٦).
القبض عليه ومحاكمته. نقرأ أولاً عن القبض على يسوع في ١٨: ١-١١. بعد خيانة يهوذا ليسوع وتسليمه إلى السلطات، جاء جند وخدام من عند رؤساء الكهنة والفريسيين، وألقوا القبض على يسوع. في ١٨: ١٢-٢٧، أُحضِر يسوع إلى قيافا رئيس الكهنة ليتم استجوابه. خلال هذا الوقت، أنكر بطرس يسوع ثلاث مرات، تماماً كما أنبأ يسوع.
بعد ذلك، حوكم يسوع أمام بيلاطس الحاكم في ١٨: ٢٨-١٩: ١٦. وقد استنتج بيلاطس أن يسوع كان بريئاً، لكنه لم يطلقه خوفاً من اليهود. لكن القوة الحقيقية وراء القبض على يسوع ومحاكماته كان الله نفسه. فلا بيلاطس ولا قيافا كانا بالفعل مسيطرَين على الوضع. فكل شيء حدث وفق خطة الله. كما نقرأ في يوحنا ١٩: ١٠-١١:
فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: أَمَا تُكَلِّمُنِي؟ أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّ لِي سُلْطَاناً أَنْ أَصْلِبَكَ وَسُلْطَاناً أَنْ أُطْلِقَكَ؟ أَجَابَ يَسُوعُ: لَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيَّ سُلْطَانٌ الْبَتَّةَ لَوْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُعْطِيتَ مِنْ فَوْقُ.
أما القسم الرئيسي الثاني من سجل يوحنا عن موت يسوع وقيامته فهو الصلب في يوحنا ١٩: ١٦-٣٧.
الصلب. في روايته عن موت يسوع، شرح يوحنا كيف أن الأحداث الخاصة المتعلقة بالصلب تممت توقعات العهد القديم عن المسيح الموعود. وقد برهنت هذه التفاصيل أن يسوع لم يؤخذ على حين غرة؛ فقد تمّ كل شيء بحسب خطة الله.
أثناء إلقاء القبض عليه ومحاكمته وصلبه، حافظ يسوع على وقار لا يُقهَر. فقد بذل ابن الله حياته من أجل شعبه، وبعمله هذا أعلن مجد الله بطريقة لم تُعلَن من قبل. إلى أي مدى يمكن لله أن يذهب بغية إنقاذ شعبه؟ كل الطريق حتى الصليب!
يقول الكتاب المقدّس إنّ يسوع احتمل الصليب مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ. فالصليب كان أصعب ما يمكن للمرء تحمّله. فما من عذابٍ أقسى من العذاب الذي عاناه ابن الله على الصليب، لأنّه لم يمُت موتاً قاسياً فحسب، بحسب المفهوم البشري، بل حمل على كتفيه عبء خطيتنا ودينونة الله عليه. وهذا أصعبُ الأمور التي يمكن أن يقوم بها المرء. غير أنّ يسوع قام بذلك مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ. ومعنى ذلك أنّه كان يعرف النتيجة. فقد عرف أنّه من خلال ما يقوم به سيُظهِر مجد الله، ومحبّته، وعدله، ودينونته، وقداسته، وحنانه، وعطفه وهي تلتقي كلّها فيما عمله على الصليب بطريقةٍ تجعلنا نراه كما هو، فحين نجتمع حول الخروف المذبوح، نجتمع أمام عرشه سنسبحه ونعبده إلى أبد الآبدين. والله أظهَر قوّته ومجده وبيّن لنا حقيقة مَن كان على الصليب ونحن نعبده لذلك. وقد أتى بِأَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ إِلَى الْمَجْدِ بصليبه، وقام بذلك بفرح نظراً لما سيحصده بسبب الفداء.
—د. إيريك ثيونيس
ثالثاً، ينتهي الكلام على موت يسوع وقيامته بالقيامة نفسها في يوحنا ٢٠: ١-٣١.
القيامة. وفق يوحنا ٢٠: ١-٩، كان قبر يسوع حقيقة تاريخية. وقد رأى كل من مريم وبطرس ويوحنا نفسه، أن يسوع لم يكن هناك. في ٢٠: ١٠-٣٠، ظهر يسوع لمريم المجدلية، وللتلاميذ، ولتوما. وتبيّن هذه التقارير أن أتباع يسوع كانوا مشككين نوعاً ما ولا يُخدَعون بسهولة.
والجدير بالذكر أن توما لم يكن حاضراً عندما ظهر يسوع لأول مرة لتلاميذه. وقد كان مشككاً، وأراد الدليل على قيامته. فهو لم يشأ أن يؤمن بقصة غبية عن القيامة. ويشكّل اعترافه في العدد ٢٨ ذروة رواية يوحنا، حيث اعترف توما بيسوع هاتفاً “ربي وإلهي”.
ما يلفت نظرنا هو أنّه حين سمع توما من التلاميذ الآخرين الذين عرفهم معرفة شخصيّةً بشكلٍ جيّد وكان يسافر معهم طوال تلك الفترة، إذاً كان يعرفهم جيداً، وعندما قالوا له إنهم رأوا المسيح المُقام، لم يقدِر أن يصدّق، رغم أن الذين أخبروه بالأمر ليسوا غرباء، وكلّهم كانوا مصّدقين الخبر. أما هو فلم يستطع ذلك، وأتصور أن ذلك يعود إلى عدم قدرته على المغامرة بإيمانه مرّةً أخرى حتى لا يعود ويخيب أمله. كان خائفاً من خيبة أمل جديدة.
—د. ديفيد ردلينغ
علماً بأنّ الشكّ ساور توما الذي قال “إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ، لاَ أُومِنْ”، وغالباً ما يلقَّب بـ”الشكاك” لأنّه لم يؤمن بيسوع أنه قام من الموت، لكن يجب ألا نقسوَ على توما. ففي البداية، يخبرنا يوحنّا أنّ توما لم يكن مع الإثني عشر حين جاء يسوع إليهم وأظهر لهم نفسه. وثانياً، إن كنّا نؤمن أنّه تمّ اختيار التلاميذ ليكونوا شهود عيانٍ على قيامة يسوع، فمن المنطقي أنّه كان على توما أن يرى من أجل أن يؤمن. وثالثاً، علينا أيضاً أن نقول إنّه عندما وقف يسوع في وسطهم وأظهر نفسه لتوما. صرّح توما بأجرأ وأوضح مجاهرة إيمان في كل الإنجيل. فهو نادى يسوع قائلاً “رَبِّي وَإِلهِي”. وهنا يُكمّل يوحنّا موضحاً في نهاية الفصل ٢٠ أنّ يسوع قال له “لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا”. بمعناً ما كان على توما أن يرى ليؤمن. ونحن بمعنى ما نؤمن اليوم لا من خلال رؤية يسوع أمامنا، بل في الواقع من خلال تقدير كلّ ما رآه الرسل وفَهموه. وأظنّنا غير عادلين حيال توما، فهو أدّى دوراً فريداً وشكّل نموذجاً رائعاً لكل من يؤمن بيسوع ويتخذه ربّاً ويُظهِر إيماناً رائعاً به. وهو مدرسة لنا حتّى نسجد ليسوع ونعبده بدورنا حين نفهم حقّاً مَن هو.
—د. سايمن فايبرت
القسم الأخير من إنجيل يوحنا هو الخاتمة لسجل حياة يسوع الأرضية وخدمته، وهي مدوّنة في يوحنا ٢١: ١-٢٥.
خاتمة الإنجيل
تنتقي هذه الخاتمة مواضيع من الإنجيل بكامله، ثم توجّه القراء نحو المستقبل. وهي مثل الفصل السابق، تخبرنا عن ظهور يسوع بعد القيامة في الأعداد ١-١٤. لكن التشديد في الرواية ليس على حقيقة الظهور. ففي العدَدين ١، و١٤ تحدث يوحنا عن هذا الظهور كإعلان مستخدماً الكلمة ذاتها التي استخدمها في ٢: ١١ عندما قال إن يسوع “أظهر مجده”. من هنا، بدل أن يستخدم هذا الظهور كبرهان بسيط عن القيامة أرادنا يوحنا أن نقرأ ما دونه هنا كإتمام للإعلان عن يسوع ومجده الذي بدأ في الفصل الأول من إنجيله واستمر في كل الإنجيل.
علاوة على ذلك، تؤكد الخاتمة أيضاً سلطان الرسل والتلاميذ الآخرين في الشهادة ليسوع، فبالرغم من حقيقة نكران الرسول البارز بطرس ليسوع ثلاث مرات. ففي يوحنا ٢١: ١٥-٢٣، أبطل يسوع نكران بطرس له ثلاث مرات عن طريق مسامحته ثلاث مرات متتابعة. وخلال عملية ردّ بطرس هذه، أوكَل يسوع إلى بطرس الاعتناء برعية الله. فيسوع نفسه هو الراعي الصالح. لكنه عيّن بطرس ليتبع مثاله في الاعتناء بشعب الله.
ينتهي كل من الأناجيل الأخرى بنوع من المأمورية العظمى، أي وصية يسوع لرسله وتلاميذه ببناء الكنيسة. وقصة ردّ بطرس إلى الخدمة هي طريقة يوحنا في النظر إلى مستقبل الكنيسة. فقد وعد يسوع بأن يكون مع شعبه دائماً من خلال رعاة أمثال بطرس. وكما كتب بطرس لاحقاً في ١ بطرس ٥: ١-٢:
أَطْلُبُ إِلَى الشُّيُوخِ الَّذِينَ بَيْنَكُمْ، أَنَا الشَّيْخَ رَفِيقَهُمْ، وَالشَّاهِدَ لآلاَمِ الْمَسِيحِ، وَشَرِيكَ الْمَجْدِ الْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ، ارْعَوْا رَعِيَّةَ اللهِ الَّتِي بَيْنَكُمْ.
يعتقدُ معظمُ الدارسينَ أن يوحنا كتبَ إنجيلَه عندما كان معظمُ الرسلِ قد ماتوا. وربما كان الرسولَ الوحيدَ الباقيَ على قيدِ الحياةِ في تلك الفترةِ. لذلك كان من المهمِ أن يعرفَ شعبُ اللهِ أن يسوعَ ما زال حاضراً معهم من خلالِ رعاةِ قطيعِه. ففي النهايةِ، ليس بُطرسُ أو أيٌّ من الرُسلِ هم الذين قادوا الكنيسةَ، بل قادها يسوعُ من خلالِهم بينما كانوا يتبعونَه. أما الرسلُ فقد خدموا فقطَ كسفراءَ ومعاونينَ ليسوعَ. ووعد يسوعُ بأن يعودَ شخصيّاً من أجل شعبِه، بصورةٍ جسديةٍ ودائمةٍ ليقودَهم في المستقبلِ.
بعد أن نظرنا إلى كل من خلفية إنجيل يوحنا وبنيته ومحتواه، بتنا مستعدين أن ننظر في بعض المواضيع الرئيسية التي شدّد عليها يوحنا.
المواضيع الرئيسية
أشار يوحنا إلى بضعة مواضيع هامة في بيان غرضه في يوحنا ٢٠: ٣٠-٣١، حيث نقرأ هذه الكلمات:
وَآيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تلاَمِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هَذَا الْكِتَابِ. وَأَمَّا هَذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ.
سنركّز في هذا القسم من الدرس، على أربعة مواضيع مرتبطة ارتباطاً وثيقاً مشتقة من بيان غرض يوحنا: فعل الإيمان، هوية يسوع كالمسيح، هويته الأخرى كابن الله، وبركة الحياة التي يحملها. لنبدأ بتشديد يوحنا على الإيمان.
الإيمان
استخدم يوحنا الكلمة اليونانية بيستيو التي تعني “يؤمن” ١٠٦ مرات. أما الأناجيل الثلاثة الأخرى مجتمعة فقد استخدمتها ٣٤ مرة، أي بمعدل ثلث مجموع استخدام يوحنا. ويُظهَر هذا الفرق في التشديد مدى أهمية فكرة الإيمان في قصة يوحنا.
مفهوم الإيمان، في إنجيل يوحنا، مرتبط بقوة بمفاهيم أخرى تدلّ عليها كلمات مثل “يَقبل”، “يُقبل” و”يعرف”. من هنا، من يؤمن بيسوع يعني أن يَقبله، يُقبل إليه، ويعرفه في اختبار علاقة شخصية معه.
وهذا النوع من الإيمان، القبول، المعرفة والإقبال إلى يسوع يبدأ غالباً كلحظة قرار شخصي بالوثوق بالمسيح واتّباعه، وهو الأمر نفسه الذي يسمّيه المسيحيون في عصرنا بـ”الولادة الجديدة”. عندما تكون الولادة الجديدة حقيقيًة، تجعلنا نشترك في عمل الله وننال بركاته بطرق متنوعة. في هذا الجزء من إنجيله، أشار يوحنا إلى الولادة الجديدة بكلمات مثل صاروا أولاد الله ونالوا الحياة الأبدية. على سبيل المثال، استمع إلى وصف يوحنا للإيمان في يوحنا ١: ١٢:
وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ.
نجد لغة مماثلة في يوحنا ٣: ٣٦، حيث نقرأ هذه الكلمات:
اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً.
في مقاطع مماثلة، الإيمان هو الفعل القلبي الصادق بالاعتماد الشخصي والالتزام بيسوع الذي يوحّدنا به. وهو يجعلنا جزءاً من عمل الله في التاريخ. ويصل هذا الإيمان إلى ملئه فقط عندما يظهر يسوع بكل مجده.
من المهم أن ندرك أن يوحنا لم يستخدم دائماً كلمة “يؤمن” بالطريقة ذاتها. في بعض المقاطع، استخدم يوحنا كلمة “يؤمن” للدلالة على الإيمان السطحي، وهو ما يسميه اللاهوتيون غالباً بالإيمان “الوقتي” أو “الزائف”.
على سبيل المثال، استمع إلى تقرير يوحنا في ٢: ٢٣-٢٤:
وَلَمَّا كَانَ [يسوع] فِي أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ، آمَنَ كَثِيرُونَ بِاسْمِهِ، إِذْ رَأَوْا الآيَاتِ الَّتِي صَنَعَ. لكِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، لأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ الْجَمِيعَ.
لم يأتمن يسوع أولئك الناس لأن إيمانهم كان سطحياً. لم يكن ذلك الإيمان الصادق الذي يسميه اللاهوتيون غالباً بـ”الإيمان الخلاصيّ”.
يمكنُنا القولُ، من خلالِ سياقِ الكلامِ إنه في المواضعِ التي يتحدثُ فيها يوحنا عن “الإيمانِ”، فهو يقصدُ الإيمانَ الخلاصيَّ أي الثقةَ الحقيقيةَ بيسوعَ كمخلصٍ وربٍّ. فبالنسبةِ ليوحنا، يسوعُ هو موضوعُ إيمانِنا وهو الذي يُجري كلَّ التغييرِ. فليست قوةُ إيمانِنا هي التي تخلصُنا، بل قوةُ المسيحِ الذي نؤمنُ به.
بعد أن نظرنا في موضوع الإيمان بيسوع، دعونا ننتقل إلى أحد الأمور الأساسية التي يريدنا يوحنا أن نؤمن بها عن يسوع. أي أنه المسيح، المشيح الذي فيه تمت وعود الله القديمة إلى شعبه إسرائيل.
المسيح
بدعوته يسوع بـ”المسيح”، عرّف يوحنا عنه بوضوح كملك إسرائيل. ففي نهاية المطاف، أصبح التعبير “مسيح” أو “مشيح” في القرن الأول موازياً لدوره كـ”ملك إسرائيل”. وهذا ما هو المسيح في الواقع. لكن حقيقة كون المسيح ملك إسرائيل يتضمن عدة معان، وقد لفت يوحنا الانتباه إلى بعض هذه المعاني.
على سبيل المثال، شدّد يوحنا على أنه مثل ملوك إسرائيل ويهوذا في العهد القديم، جسّد يسوع الشعب الذي حكمه. فيسوع غدا كل شيء فشلت إسرائيل في أن تكونه، ونال بالتالي كل البركات التي فشلت إسرائيل سابقاً أن تنالها. وكملك إسرائيل، مثّل يسوع إسرائيل بكل كفاءة، وخدم كبديل عنهم وكقناة بركة الله إليهم.
في يوحنا ١٥: ١-٨، برهن يوحنا عن هذه الحقيقة عن يسوع عن طريق إخبارنا أن يسوع هو الكرمة الحقيقية، وأن أتباعه هم أغصان فيها. استمع إلى ما قاله يسوع في ١٥: ٥-٨:
أَنَا الْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ. الَّذِي يَثْبُتُ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هذَا يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ… بِهذَا يَتَمَجَّدُ أَبِي: أَنْ تَأْتُوا بِثَمَرٍ كَثِيرٍ فَتَكُونُونَ تَلاَمِيذِي.
في كل العهد القديم صُوِّرت إسرائيل ككرمة الله. ونرى هذه الصورة الرمزية في مواضع مثل المزمور ٨٠، وإرميا الفصل ٢، وحزقيال الفصل ١٧، وهوشع الفصل ١٠. كذلك، صُوّرت عائلة داود الملكية وحتى المشيح العظيم المستقبلي كالغصن الذي منه كل شعب الله سينبت. ونرى هذا في مواضع مثل إشَعياء ١١: ١. لذلك في هذا الإطار، عندما أعلن يسوع أنه الكرمة الحقيقية والطريق الوحيد لإرضاء الله وتمجيده فهم تلاميذه أن يسوع هو ملك إسرائيل الحقيقي الذي مثّل وجسّد شعب الله.
لكن ما الذي تتضمنه الفكرة بأن يسوع كملك هو إسرائيل الحقيقية؟ من بين ما تعنيه، هو أن يسوع تممَ كل ما دُعي شعب إسرائيل ليفعله. فقد فشل شعب إسرائيل في أن يكون ويفعل ما دعاه الله ليكونه ويفعله. لكن، حيث فشل شعب إسرائيل بسبب خطاياه، نجح يسوع بصورة كاملة. فقد تمّم يسوع مصير شعب إسرائيل. واختصر يسوع في شخصه قروناً من تاريخ العهد القديم وأعلن حقيقة حضور الله المجيد بطريقة لا يقدر سواه أن يعلنها. ولهذا السبب، شعب إسرائيل الحقيقي ليسوا أولئك الذين ينتسبون إلى أمة إسرائيل. بل هم بالحري أغصان في الكرمة الحقيقية، المؤمنون بالمسيح المتحدون به بالإيمان.
في نقاشنا حول دور يسوع النيابي سنركّز على ثلاثة طرق تمّم يسوع من خلالها توقعات العهد القديم للمسيح الموعود، والتي كانت هامة بصورة خاصة في إنجيل يوحنا. أولاَ، تمم يسوع في شخصه القصد من الهيكل. ثانياً، تمم التوقعات الناتجة عن أعياد إسرائيل. وثالثاً، تمم شريعة الله. سننظر إلى كل من هذه الأفكار، بدءاً من طريقة إتمام يسوع القصد من الهيكل.
الهيكل
أحد الأسباب لأهمية الهيكل في الكتاب المقدس هو كونه مكاناً وَعَدَ الله أن يكون حاضراً فيه مع شعبه بصورة خاصة. بالطبع، نحن نعلم أن الله كليّ الحضور؛ فهو في كل مكان وفي كل زمان. لكن عندما نتحدث عن حضوره المميّز، ترتسم في ذهننا إظهارات لحضوره – وهي أوقات ركّز فيها الله حضوره في مواقع محددة، وغالباً بطريقة مجيدة ظاهرة.
إنّ لوجود الله في خيمة الاجتماع والهيكل معناً مهمّاً لأنّ الخيمة والهيكل يمثّلان الكون على شكلٍ مصغّر. فهما نموذجان مصغّران عن العالم، لذلك وجود الله فيهما يمثّل فعلاً وجوده في العالم. فالعالم هو الهيكل الذي صنعه الله والذي يتواصل فيه مع شعبه. وعندما تمرّد آدم، اختار الله النسل الذي أصبح لاحقاً أمّة إسرائيل وجعل مسكنه بينهم. والمكان الذي يقيم فيه بينهم هو هذه النسخة المصغّرة عمّا كان الكون عليه. ووجوده في هذا المكان فريدٌ لأنّه المكان الذي تقصده أمّة إسرائيل لتكون في حضرة الله، وهذا الوجود هو أيضاً عيّنة مسبقة لما سيفعله الله في العالم بأسره. فعندما ملأ الله خيمة الاجتماع ببهائه عند تكريسها بعد بنائها في نهاية سفر الخروج، ثمّ عندما ملأ الهيكل بمجده في ١ الملوك ٨، أعطانا فعلاً لمحةً عمّا سيحصل في الكون عندما يعرف الجميع مجد الله.
—د. جيمز هاميلتون
موضوع حضور الله المميّز في وسط شعبه تحقق في حقبات عدة في التاريخ. في البداية، كانت جنة عدن مكاناً مقدساً على الأرض حيث يمكننا أن نجد حضور الله الرئيسي المميّز. وكانت بمثابة عرشه على الأرض، الذي من خلاله كان على البشرية أن تقدّس الأرض بكاملها محوّلةً العالم بأسره إلى ملكوت الله المقدس.
لاحقاً، عندما أسس الله إسرائيل ككهنوته الملوكي، ربط حضوره المميّز أولاً بخيمة الاجتماع ولاحقاً بالهيكل. فزخرفة وأثاث خيمة الاجتماع والهيكل كانا على مثال جنة عدن. وكلا خيمة الاجتماع والهيكل لعبا دور جنة عدن ذاته. ويؤكد الكتاب المقدس على هذا الارتباط عن طريق الإشارة إلى أن خيمة الاجتماع والهيكل كانا عرش الله الملكي على الأرض، وهما المكانان اللذان سكن فيهما بصورة مجيدة وسط شعبه. وهذا الواقع واضح في مواضع مثل ١ أخبار أيام ٢٨: ٢، والمزمور ١١: ٤، وإشعياء ٦: ١. فهذان هما المكانان الأكثر قداسة على الأرض. ويمكن لشعب الله أن ينال فيهما بركات الله بسهولة. ومثل جنة عدن، كانا مركز الملكوت، الذي منه كان شعبه ليقدّس الأرض كملكوته. وبحسب إنجيل يوحنا، إحدى الطرق الحيوية التي نفهم من خلالها أهمية يسوع هي أن نرى أنه تمم موضوع حضور الله في العهد القديم في خيمة الاجتماع والهيكل. استمع الى ما كتبه يوحنا في ١: ١٤:
وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً.
عندما تكلم يوحنا عن أن يسوع “حَلَّ بَيْنَنَا”، استخدم الفعل اليوناني سكينو المرتبط بالاسم سكينه والذي يعني خيمة أو خيمة الاجتماع. في الحقيقة، هذا الاسم ذاته مستخدم لخيمة الله المقدسة في السبعينية، الترجمة اليونانية للعهد القديم. وعن طريق استخدام هذا الفعل وربطه بـ”مجد” حضور الله، أوضح يوحنا أن يسوع يمنحنا الدخول ذاته إلى حضور الله المميَّز الذي كان موجوداً سابقاً في خيمة الاجتماع.
وقد أشار يوحنا إلى النقطة ذاتها عن الهيكل في يوحنا ٢: ١۹-٢١. حيث نقرأ ما يلي:
أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ:”انْقُضُوا هذَا الْهَيْكَلَ، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ”. فَقَالَ الْيَهُودُ:”فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ هذَا الْهَيْكَلُ، أَفَأَنْتَ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ؟” وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ.
هنا، أوضح يوحنا أن يسوع تمم في شخصه الغاية من الهيكل.
أوضح يوحنا أيضاً أنه حتى لو لم يعدْ يسوع حاضراً في الجسد على الأرض، فإن أتباعه سيتمتعون بحضور الله المميّز. لهذا السبب، في يوحنا ٤: ٢١، قال يسوع للمرأة السامرية إنه سيأتي يوم قريباً فيه لا يعود لا لهيكل أورشليم ولا للمكان المقدس عند السامريين الأولوية الخاصة في عبادة الله. وكما قال يسوع في يوحنا ٤: ٢٣-٢٤:
وَلكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ الآنَ، حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. اَللهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا.
فكلمات يسوع للمرأة السامرية يجب أن تكون سبب تشجيع عظيم للكنيسة المعاصرة، لأننا نعيش في الزمان الذي تحدث عنه يسوع. ففي يومنا هذا، يسوع ليس حاضراً في الجسد على الأرض. بل هو بحسب عبرانيين ٨: ٢، و۹: ١١-١٢، يسكن جسدياً في خيمة الله في السماء. لكنه حاضر معنا روحياً، لا سيما عندما نجتمع ككنيسته. ونجد هذه الحقيقة في مواضع مثل متى ١٨: ٢٠، و١ بطرس ٢: ٤-۹. ولأن يسوع حاضر معنا، فنحن اليوم الهيكل المقدس لحضور الله الخاص على الأرض.
لكن حتى هذا الإتمام الرائع للهيكل في المسيح سيتم تجاوزه عند رجوع المسيح بمجد. ومقاطع مثل رؤيا ٢١: ١-٥ تُعلم أنه عند رجوع المسيح، سيحوّل الخليقة كلها إلى مسكن الله. في ذلك الوقت سيكون المسيح والآب حاضرَين باستمرار معنا، وستمتلئ الأرض كلها من مجد الله.
طريقة أخرى تمم يسوع من خلالها توقعات العهد القديم المسيحانية في إنجيل يوحنا، كانت عن طريق إتمامه مغزى أعياد إسرائيل.
الأعياد
وكما ذكرنا سابقاً، فإن الكثير من الأحداث في انجيل يوحنا تدور حول بعض الأعياد التي حضرها يسوع. ومن بين هذه الأعياد احتفالات متنوعة بأعياد الفصح، والمظال، والتجديد. فقد أسس الله هذه الأعياد للإشارة إلى إسرائيل ككهنوته الملوكي، وليعطيهم طرقاً منتظمة يتمتعوا من خلالها ببركات حضوره المميز في الخيمة والهيكل. ويوضح يوحنا في إنجيله أن يسوع قد تمم المغزى من هذه الأعياد.
عيد الفصح هو أحد أعياد إسرائيل الثلاثة الرئيسية. وهو احتفال بخروج إسرائيل من مصر. باختصار، تمم يسوع هذا العيد لأنه كان مثل حمل الفصح الذي يُذبح ويُؤكل في عيد الفصح، والذي يرمز دمه إلى خلاص إسرائيل من مصر. وقد رأى كتّاب الأناجيل الأربعة في يسوع خروف الفصح الحقيقي. لكن وحده يوحنا أبرز هذه النقطة عن طريق الإشارة إلى كلمات يوحنا المعمدان، الذي قال: “هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ!” في يوحنا ١: ٢۹. وفي يوحنا ١۹: ٣٣، يخبرنا يوحنا أيضاً أنه عندما مات يسوع، لم يكسر الجنود سَاقَيْهِ، متممين متطلبات الخروج ١٢: ٤٦ القاضية بعدم كسر عظام الحملان المختارة لعشاء الفصح. بهذه الطريقة والعديد غيرها، أظهر لنا يوحنا أن يسوع تمم الرمز من الفصح ومعناه.
في يوحنا ٧: ٢، و٣٧، يخبرنا يوحنا عن الاحتفال بعيد آخر من أعياد إسرائيل السنوية: عيد المظال. وأحد أهم الطقوس لهذا العيد يتضمن سكب الماء كتذكار لتأمين الله الماء لإسرائيل في البرية، وإرساله المطر ليَروي مزروعات إسرائيل سنة بعد سنة. وهذا الطقس هو بمثابة توقع للطريقة التي من خلالها سيسكب الله أنهار بركاته على شعبه في الأيام الأخيرة. وقد وجد يوحنا ارتباطاً قوياً بين هذه الشعائر ويسوع عن طريق الإشارة إلى أن يسوع هو قناة كل بركات الله التي سيسكبها في أوج التاريخ. ويخبرنا يوحنا على وجه الخصوص أنه في اليوم الأخير من عيد المظال، أعلن يسوع عن سلطانه في توزيع بركات الله. استمع إلى ما قاله يسوع للجموع في يوحنا ٧: ٣٧:
إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ.
يخبرنا يوحنا أن أنهار ماء حي من بَرَكة الله تجري من يسوع. بَرَكة ماضية، وبَرَكة حاضرة، وبَرَكة مستقبلية تأتي جميعها من خلاله. بهذه الطريقة، يسوع هو إتمام لكل الآمال ببركات الله المتمثلة في عيد المظال.
أخيراً، في يوحنا ١٠: ٢٢-٣۹، احتفل يسوع بعيد التجديد أو الهانوقة. لم يكن عيد التجديد أحد أعياد إسرائيل الرئيسية التي نشأت في العهد القديم. لكنه مهم بالنسبة لحياة إسرائيل في القرن الأول لأنه كان احتفالاً بانتصار إسرائيل على مضطهديها اليونان سنة ١٦٥ ق. م، بالإضافة إلى إعادة تكريس المذبح والهيكل الذي تلى ذلك الانتصار. في يوحنا ١٠: ٣٠، بينما كان يسوع يحتفل بعيد التجديد، أدلى بتصريحه المدوِّي:
أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ.
وقد فهم اليهود بذلك أنه يدّعي أنه مساو لله، وردّوا عليه بمحاولة رجمه. ثم دافع يسوع عن نفسه في يوحنا ١٠: ٣٦ عن طريق إشارته إلى نفسه بالشخص:
الذي قَدَّسَهُ الآبُ.
مستخدماً التعبير اليوناني الشائع هاغيازو الذي يستخدمه الكتاب المقدس مراراً للإشارة إلى التدشين والتكريس في شعائر الهيكل. وفي هذه القرينة، الكلمة التي استخدمها يسوع قدسه أغكينيا مرادفة للتعبير تكريس المستخدم في عيد تجديد الهيكل.
بهذه الطرق، ربط يوحنا بقوة بين يسوع والاحتفال بتجديد أو تكريس الهيكل. وقد احتفل هذا العيد بالهيكل، كونه مكرّساً أو مقدّساً لحضور الله. وبطريقة مماثلة، قدّس الآب يسوع، كإتمام لحضور الله المميّز على الأرض.
بالإضافة إلى تبيانه أن يسوع تمّم التوقعات بالنسبة للهيكل والأعياد، برهن يوحنا أيضاً أن يسوع تمّم شريعة الله.
الشريعة
بالرغم من أن المسيحيين اعتادوا أن ينظروا إلى شريعة الله بطريقة سلبية، كأمر يديننا، لا بد أن نتذكر أن الشريعة أُعطيت لمؤمنين حقيقيين كمرشد إلى بركات الله.
إن عُدنا إلى الشريعة في الكتاب المقدّس، نرى بوضوح أنّ الأشخاص الذين قرأوها لم يؤمنوا بأنّهم يقرأون لائحةً من القواعد والقوانين، بل كانت بالنسبة إليهم بمثابة توجيهٍ لحياتهم. فقد كانوا يقرأونها وهم على علمٍ بأنّهم إذا حفظوها سيكونون مباركين، وأعتقد أنّ أسباباً عديدةً تفسّر ذلك. منها أنّ الشريعة هي إعلان من الله. فهي تعلّمنا كيف يريدنا الله أن نحيا. ويقول المرنّم في المزمور ٤٠: ٨ “أَنْ أَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا إِلهِي سُرِرْتُ”. إذاً فعندما نحن نفعل مشيئة الله ونفهم ماهيّة هذه المشيئة، نجد البهجة والبركة عند قيامنا بكلّ عمل ينبغي أن نقوم به أو نتجنب ما هو غير مرضٍ. فالفكرة الأساسيّة هي أنّ الإعلان هو إشارةٌ لبركة الله وإحسانه. ولكنّ الأهم من ذلك باعتقادي هو أنّ هذا الإعلان بركةٌ لأنّ الشريعة هي دعوةٌ لنا للمشاركة فيما يريد الله أن يحقّقه على الأرض.
—د. ستيف هاربر
الاستخدام السائد للشريعة في العهد القديم أمر إيجابيّ لأنّ شريعة الله انعكاسٌ لطبيعة الله. فالمزامير مثلاً تصوّر شريعة الله كنورٍ لسبيلنا ومصباحٍ لخُطانا. ويصفها داود في المزامير بقوله: “إنّها أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَقَطْرِ الشِّهَادِ وأَشْهَى مِنَ الذَّهَبِ وَالإِبْرِيزِ الْكَثِيرِ وأنّ عَبْدَه أَيْضاً يُحَذَّرُ بِهَا، وَفِي حِفْظِهَا ثَوَابٌ عَظِيمٌ”. في الواقع، يبدأ سفر المزامير بـ”طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يَسْلُكْ فِي مَشُورَةِ الأَشْرَارِ، وَفِي طَرِيقِ الْخُطَاةِ لَمْ يَقِفْ، وَفِي مَجْلِسِ الْمُسْتَهْزِئِينَ لَمْ يَجْلِسْ، لكِنْ فِي نَامُوسِ الرَّبِّ مَسَرَّتُهُ”، ثمّ يُكمل المزمور ١ مشبّهاً مَنْ يخاف الله ويحفظ وصاياه بَشَجَرَةٍ مَغْرُوسَةٍ عِنْدَ مَجَارِي الْمِيَاهِ، الَّتِي تُعْطِي ثَمَرَهَا فِي أَوَانِهِ، وَوَرَقُهَا لاَ يَذْبُلُ. فالشريعة إذاً هي مكان البركة، غير أنّها مكان البركة فقط للذين منحهم الله المغفرة أوّلاً، هذه المغفرة التي تأتي من خلال المسيح. من هنا الشريعة هي دليل لنعيش حياة مع المسيح، حياة مباركة مع المسيح. إذاً مَنْ يحبّ المسيح فهو يحفظ الشريعة. ويقول بولس إنّ المسيح هو غاية الشريعة. فالشريعة تعرفنا بخطيتنا، لكنها تبيّن لنا أيضاً ما قام به يسوع من أجلنا وتزوّدنا بدليل لحياتنا. فالشريعة في النهاية كما قال يسوع تُلخَّص بالوصيّتين التاليتين: تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ كنَفْسِكَ. إذاً أيّ شخصٍ يعرف أحداً يحبّ الله من كلّ قلبه ومن كلّ نفسه فقد لمس حتماً البركة التي مُنِحت لهذا الشخص. وأيّ إنسان يعرف أحداً يحبّ قريبه مثل نفسه يدرك البركة العظيمة التي مُنِحت له. فلا بدّ من أن نشعر بوجود الكرَم والرحمة والبركة عندما نكون محيطين بهؤلاء أي عندما نكون في حضرة هؤلاء الذين يحفظون وصايا الله.
—د. مايكل غلودو
صُوِّرت شريعة الله في العهد القديم كعطية مميّزة من الله إلى شعبه. والمزمور ١١۹ والكثير من المقاطع الأخرى تُمتدح الشريعة كمرشد لإسرائيل إلى بركات الله. وفي العهد الجديد، يسّمي يعقوب شريعة الله الجديدة النَّامُوسِ الْكَامِلِ، نَامُوسِ الْحُرِّيَّةِ وذلك في يعقوب ١: ٢٥، ويسّميها بولس ناموس المسيح في ١ كورنثوس ۹: ٢١. وقد أكد يسوع نفسه على أهمية الشريعة وقيمتها في يوحنا ١٠: ٣٥ عندما قال:
لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ الْمَكْتُوبُ.
هنا، علّم يسوع أن العهد القديم بكامله، بما في ذلك الشريعة، هو كلمة الله الثابتة.
ومع أن يوحنا أوضح أن الشريعة ليست هي الغاية في حد ذاتها. فبمعنى هام، تشير تلك الشريعة باستمرار إلى ما هو أبعد منها، أي إلى يسوع. في يوحنا ٥: ٤٦-٤٧، قال يسوع لليهود غير المؤمنين:
لأَنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي، لأَنَّهُ هُوَ كَتَبَ عَنِّي. فَإِنْ كُنْتُمْ لَسْتُمْ تُصَدِّقُونَ كُتُبَ ذَاكَ، فَكَيْفَ تُصَدِّقُونَ كَلاَمِي؟
شدّد يوحنا على هذه النقطة في كل الإنجيل، فشريعة العهد القديم أشارت نحو المستقبل، إلى يسوع. من هنا رفض يسوع، يعني أيضاً رفض الشريعة التي أنبأت عنه.
إحدى الطرق التي من خلالها شدّد يوحنا على ذلك، هي عن طريق تطبيقه الألقاب والصفات والأعمال التي أعطتها اليهودية للشريعة على يسوع. على سبيل المثال، تقول اليهودية إنه يجب أن تُطعم عدواً جائعاً بـ”خبز التوراة”. وفي يوحنا ٦: ٣٥ دُعي يسوع بـ”خبز الحياة”. ادعت اليهودية أن “كلمات التوراة هي حياة للعالم”. وفي يوحنا ٤: ١١ يسوع هو واهب الماء الحي. كما تحدثت اليهودية عن “نور الشريعة الذي أُعطيَ لينير كل إنسان”. ويوحنا ١: ۹ يُسمي يسوع “النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان”. وهذه فقط بعض الأمثلة في إنجيل يوحنا التي تظهر أن يسوع جسّد شريعة الله. فيسوع وتعاليمه ما زالت نوراً لجميع الذين يتبعونه.
كثيراً ما أرادَ يوحنا أن يفهمَ قراؤُه ما معنى أن يكونَ يسوعُ هو المسيح. فقد أرادهم أن يطمئنوا من خلالِ إدراكِهم أن يسوعَ لم يتخلَ عن كنيستِه، بل هو موجودٌ معنا دائماً. وقد أرادَهم أن يثقوا بيسوعَ، لكي ينالوا بركاتِ اللهِ من خلالِه. وأن يكونوا مطيعين لكلمةِ اللهِ، بحيثُ يمجّدون الربَ ككهنةِ ملكوتِه.
الآن بعد أن نظرنا في المواضيع الرئيسية حول الإيمان بيسوع، وهوية يسوع كالمسيح، فلننظر في هويته الأكثر ارتباطاً به وهي أنه ابن الله.
ابن الله
هوية يسوع كابن الله توازي أحياناً هويته كالمسيح، فالهويتان تشيران في بعض المواضع إلى حقيقة كونه الملك على ملكوت الله على الأرض. لكن من المهم مناقشة هذين التعبيرين منفصلَين إذ إنّ لكلٍّ منهما معناً يختلف قليلاً عن الآخر.
يشير التعبير ابن الله في إنجيل يوحنا أحياناً إلى الملك الإلهي المسيحاني. فمرة، يشير إلى مفهوم الابن الإلهي الذي نزل من السماء إلى الأرض، كما في يوحنا ١٠: ٢٢-٤٠. ومرة أخرى، يمكن أن يكون مرادفاً لملك إسرائيل أو المسيح المتحدّر من سلالة داود البشرية، الملك الشرعي على إسرائيل، كما نرى في يوحنا ١: ٤۹ و١١: ٢٧.
لكي نكّون مفهوماً أفضل لما يعني أن يكون يسوع ابن الله في إنجيل يوحنا، يساعدنا أن نرى كيف يشدّد يوحنا على هذا السر العظيم، بكون يسوع إلهاً كاملاً وإنساناً كاملاً. لننظر أولاً في الفكرة بأن يسوع هو إله كامل.
الإله
إحدى الطرق التي وصف فيها يوحنا ألوهية الابن، كانت من خلال إبرازه العلاقة بين يسوع الابن والله الآب. وهناك العديد من المقاطع التي تبين أن نوع هذه العلاقة مختلف عن علاقة الأب بأولاده البشريين، أي المؤمنين. استمع الى هذا الحوار بين يسوع واليهود في يوحنا ١٠: ٣٠-٣٣:
[قال يسوع] “أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ” فَتَنَاوَلَ الْيَهُودُ أَيْضاً حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ. أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: “أَعْمَالاً كَثِيرَةً حَسَنَةً أَرَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَبِي. بِسَبَبِ أَيِّ عَمَل مِنْهَا تَرْجُمُونَنِي؟” أَجَابَهُ الْيَهُودُ قَائِلِينَ: “لَسْنَا نَرْجُمُكَ لأَجْلِ عَمَل حَسَنٍ، بَلْ لأَجْلِ تَجْدِيفٍ، فَإِنَّكَ وَأَنْتَ إِنْسَانٌ تَجْعَلُ نَفْسَكَ إِلهاً”.
فَهِمَ اليهود على نحو صحيح بأن ادعاء يسوع الوحدة بعلاقته بالله الآب هو، في الواقع، إعلانٌ بأن يسوع هو مساو لله في الحقيقة.
علاوة على ذلك، وفق يوحنا ١٤: ۹، يسوع هو الابن الفريد لله الذي أعلن عنه الآب بطريقة لا يقدر سواه أن يقوم بها. كما نجد هذه الفكرة ذاتها في ١: ١٨. فيسوع هو إعلان الآب الكامل إلى شعبه. في الحقيقة، يخبرنا يسوع، في يوحنا ١٤: ۹، أن رؤيته هي بمثابة رؤيتنا للآب.
وبالإضافة إلى مسائل الإعلان هذه، يمتلك يسوع أيضاً سلطاناً إلهيّاً كاملاً على أمور مثل الحياة والموت، والدينونة النهائية. كما نقرأ في يوحنا ٥: ٢١-٢٢:
لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الأَمْوَاتَ وَيُحْيِي كَذَلِكَ الاِبْنُ أَيْضاً يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ. لأَنَّ الآبَ لاَ يَدِينُ أَحَداً بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلاِبْنِ.
وقد أوضح يوحنا أن يسوع هو ابن الله المتجسد. كان هو نفسه الله، بسلطان غير محدود ليتمم عمل الله على الأرض.
طريقة أخرى صوّر يوحنا من خلالها ألوهية الابن أو لاهوته، كانت من خلال وصف يسوع لنفسه بـ”أنا هو”، وهي الصيغة المستخدمة في خروج ٣: ١٤، حيث أعلن الله عن اسمه في العهد مع موسى بقوله: “أهْيَهِ الَّذِي أهْيَهْ”. وهذا الإعلان هو الأساس للاسم الإلهي “يهوه” الذي يشار إليه غالباً في العربية بكلمة “الرب”. فقد اعتُبرَ أن اسم الله مقدسٌ لدرجةٍ رفض اليهود في زمن يسوع أن يلفظوه. لكن يسوع طبقه على نفسه.
تَرِدْ تصريحات “أنا هو” في إنجيل يوحنّا حوالي ٢٤ مرّة في أقوال يسوع. فهي تَظهَر في إنجيل يوحنّا أكثر ممّا في الأناجيل الأخرى وتُشكّل نصف ظهورها في كل العهد الجديد تقريباً. وهذا الاستخدام هو بالدرجة الأولى وسيلةً للربط بين يسوع وإله العهد القديم. في سبعة من هذه التصريحات تحمل “أنا هو” معناً عادياً، لكن في واحدة من المناسبات عندما نطق بها يسوع رَفَعُوا حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ لأنّه ادعى بأنّه إله العهد القديم. وأمّا باقي تصريحات “أنا هو” ارتبطت بأمور مثل “أنا هو خبز الحياة”؛ “أنا هو نور العالم”؛ “أنا هو الطريق والحقّ والحياة”. ويعلن يسوع من خلال هذه التصريحات أنّه الله، ولكن الله بارتباطه بالحياة البشرية. إذاً أعتقد أنّه ينبغي أن نقرأ كلّ هذه التصريحات التي جمعها يوحنا معاً ليُظهِر لنا أمراً ويقول “فهذا الرجل كان موجوداً قبل الزمن لأنّه ابن الله”. وعندما يُعلِن “قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ [أنا هو]” فهو لا يزعم ببساطة أنّه عاش قبل ألفي سنة، إنّما يقول إنه الإله الذي تواصل مع إبراهيم، الله الأزلي.
—د. جون ماكينلي
في يوحنا ٨: ١٢-٥۹ تواجه يسوع مع القادة الدينيين مواجهة عنيفة. فالخلاف كان يتعلق بادعاء يسوع البنوة، وادعاء خصومه بأنهم أولاد إبراهيم. في العدد ٤٤، أخبرهم يسوع أن أباهم الحقيقي هو الشيطان. وفي المقابل، تحدّوه هم بسؤاله إن كان هو أعظم من إبراهيم.
ثم ختم يسوع الجدال بهذه الكلمات من يوحنا ٨: ٥٨:
قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ.
لم يقل يسوع “كنت” كما هو متوقع، إن أراد ببساطة أن يُعلِن أنّه أكبر سناً من إبراهيم. لكنه قال، “أنا كائن” (أو “أنا هو”)، أي أنا لا أُعلِن فقط أني أكبر وأعظم من إبراهيم، بل أنا الإله السرمدي.
بعد أن تأملنا في ألوهية يسوع، لننظر في تعاطي يوحنا مع حقيقة أن يسوع، ابن الله، هو إنسان كامل.
الإنسان
منذ زمن داود، استُخدم التعبير “ابن الله” للإشارة إلى المَلك البشري الذي جلس على عرش داود كملك على إسرائيل. ويمكننا أن نرى ذلك في مواضع مثل المزمور ٢: ٧ و2 صموئيل ٧: ١٤. ونتعلم أيضاً من يوحنا ٧: ٤٢ أن اليهود توقعوا أن يأتي المسيح من عائلة داود. وفي يوحنا ١: ٤۹، استخدم التعبير “ابن الله” كمرادف لـ”ملك إسرائيل”.
وهناك العديد من المقاطع الأخرى في إنجيل يوحنا التي تشير إلى يسوع كملك اليهود، مثل ١٢: ١٣-١٥، و١٨: ٣٣-٤٠، و١۹: ١-٢١. باختصار، عندما أشار يوحنا إلى يسوع كابن الله، فإن جزءاً مما قصده هو أن يسوع هو السليل البشري الكامل لداود الذي سيملك على إسرائيل إلى الأبد.
يشددُ إنجيلُ يوحنا على أن يسوعَ كابنِ اللهِ هو الملكُ، وهو الإلهُ الكاملُ والإنسانُ الكاملُ في آنٍ معاً. وكلُّ رجاءِ العهدِ القديمِ في مُلكِ اللهِ على الكونِ، وفي مُلكِ المسيحِ الذي من نسلِ داودَ، قد تم من خلالِ مُلكِ يسوعَ.
نظرنا حتى الآن، في المواضيع الرئيسية حول الإيمان بيسوع، وهوية يسوع كالمسيح وابن الله. وبتنا الآن مستعدين أن ننتقل إلى بَركة الحياة التي ينالها الذين يؤمنون بالمسيح.
الحياة
استخدم يوحنا كلمة “حياة” ٣٦ مرة في إنجيله. أما كتّاب الأناجيل الثلاثة الآخرون فقد استخدموها ١٦ مرة. لكن ليس عدد استخدامها الكبير هو الذي يعطي “الحياة” أهميتها الكبرى في الإنجيل. بل أيضاً دور “الحياة” في رسالة الإنجيل. في يوحنا ١٧: ٣، عرّف يسوع الحياة بهذه الطريقة:
وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ.
بالطبع، هذه المعرفة هي أكثر من مجرد إدراك فكري لله. صحيح أنها تتضمن درجة من الإدراك العقلاني لله. لكن الأهم من ذلك، هي علاقة به، نوع من الاختبار الشخصي لحضوره وانخراطه في حياتنا. وهذه الشركة مع خالقنا هي أحد الأهداف الرئيسية لوجودنا البشري.
وبحسب يوحنا ٣: ١٦، يمكننا أن ندعو هذه الحياة أيضاً “أبدية”، بمعنى أنها لن تنتهي. لكن يوضح يوحنا أنه ليس علينا أن نموت لننال الحياة الأبدية. فالمؤمنون قد نالوا الحياة الأبدية بالفعل الآن. وكما قال يسوع في يوحنا ٥: ٢٤:
إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كَلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ.
الحياة هي هدية من الله لجميع الذين يؤمنون بيسوع.
عبارة الحياة الأبديّة تبدو مألوفة بالنسبة إلينا لأنّنا كثيراً ما نقرأها في الكتاب المقدس. ونحن نعرف أنّ إحدى نِعَم حياتنا في المسيح هي الحياة الأبديّة. ولكنّنا في الواقع كائنات زمنيّة وهذه هي الطريقة التي نفكّر فيها. فنحن نفكّر بالثواني والدقائق والساعات والسنوات، ومن السهل لنا أن نظن أنّ الحياة الأبديّة هي الحياة التي نعيشها الآن، ولكن برزنامةٍ أطوَل، برزنامةٍ لا تنتهي. فالمعنى الأوّل للحياة الأبديّة في الكتاب هو أنّها الحياة في الله. فالله هو الخالد. وإحدى الفروقات بين الله وبيننا هي أنّنا زائلون. فنحن نشعر بمرور الوقت. غير أنّ الله لا يحدّه زمن. وعبر تكفير المسيح عن خطايانا، صار بإمكان كل من هو في المسيح أن يدخل حياة الله إلى الابد. من هنا فإنّ الحياة الأبديّة تعني أننا أحياء في المسيح مع الله إلى الابد. وهي ليست مجرّد رزنامة لا تنتهي صفحاتها. بل هي حالة وجودٍ تعتمد على الله نفسه وعلى حقيقة خلوده. أما الكلمة الأولى من الحياة الأبدية فهي الحياة وهي مهمة لأنّ الكتاب يُظهر تبايناً بين الحياة والموت. وبعد الدينونة يوجد تباين بين الحياة الأبديّة والموت الثاني. فالحياة الأبديّة هي إذاً تأكيد على أنّ الذين غُفِرَت خطاياهم في المسيح سيعرفون الحياة مع الله والمسيح إلى الأبد. فنحن إذاً في حضرة الله إلى الأبد وندخل في حالة وجود أبدية لا تنتهي، محورها حتماً مجد الله والراحة والفرح والابتهاج بكوننا نعيش في حضرة الله ونسبّحه إلى الأبد. أما نقيض ذلك فهو الجحيم الذي يشار اليه بالموت الثاني. إذاً ما نقوله عن الحياة الأبدية ليس مجرد طول حياة الخلود، بل هو غِنى الوجود في المسيح وهو الشركة مع الله بدلاً من أن نمضيَ أبديّتنا في الجحيم.
—د. آلبرت مولر
الحياة الأبدية هي هدية خلاص من الدينونة الإلهية وانتقال إلى حياة لا تنتهي من الفرح والسلام. ويمكن نيل هذه الحياة من الله فقط عن طريق الإيمان بابنه يسوع. ويشدّد إنجيل يوحنا على الأقل على سببين لذلك. أولاً، يسوع هو خالق الحياة ومصدرها، كما نتعلم من أماكن مثل يوحنا ١: ١-٥ و٥: ٢٦، و١١: ٢٥، و١٤: ٦. ولذلك ليسوع الحق في أن يعطي الحياة. في الحقيقة، أشار يسوع إلى هذه النقطة صراحة في يوحنا ٥: ٢١.
أما السبب الثاني لكون الحياة الأبدية لا تُنال إلا من خلال يسوع، هو كون يسوع وحده يمتلك كلام الحياة، أي رسالة الإنجيل التي تقود الناس إلى معرفة خلاصية عن الله. وقد شرح يسوع ذلك في مواضع مثل يوحنا ٦: ٦٣، و١٢: ٤۹-٥٠. وقد أكد بطرس ذلك في يوحنا ٦: ٦٨.
يسوع هو الوحيد والفريد؛ أو كما يُدعى في يوحنا ١: ١٨ “الإله الفريد”. لم يعلن أحد الآب السماوي كما أعلنه يسوع. فدور يسوع الفريد كمعلن لله، مؤسس على هويته كالإله الفريد، الذي جاء ليعلن لنا الآب ويعطينا الحياة الأبدية.
وهكذا في كل إنجيل يوحنا، يسوع هو مُعطي الحياة لجميع الذين يؤمنون. أما الذين لا يؤمنون، فلا يفهمون كلماته ويرفضون الحياة التي يقدمها. لكن الذين يؤمنون ينالون الحياة الأبدية الآن، والبركات التي لا تحصى في الدهر الآتي.
الخاتمة
تناولنا في هذا الدرس، خلفية الإنجيل حسب يوحنا من جهة كاتبه ومناسبة كتابته؛ وقد فحصنا بنيته ومحتواه؛ وتأملنا بالمواضيع الرئيسية المتعلقة بالإيمان، وبهوية يسوع كالمسيح وكابن الله، وببركة الحياة باسمه.
يبيّنُ إنجيلُ يوحنا أن يسوعَ هو إتمامٌ لكلِّ وعودِ اللهِ بالبركةِ. يسوعُ هو المسيحُ. وهو قادرٌ أن يحفظَ كلَّ وعدٍ مجيدٍ قطعَهُ اللهُ، لأن يسوعَ هو ابنُ اللهِ المخلِّصِ. وتتضمنُ تلكَ الوعودُ وذلك الخلاصُ هديةَ الحياةِ الأبديةِ المجيدةِ. ونحنُ حين نتمسكُ بهذه الآمالِ التي نقرأُ عنها في إنجيلِ يوحنا، نُصبحُ أكثرَ استعداداً لنفهمَها ونُطبّقَها على حياتِنا. أن نحفظَ هذه الآمالَ في قلوبِنا في هذه الحياةِ، يعني أننا نتهيأُ أكثرَ لنمجّد اللهَ، ونتمتعَ بالحياةِ الأبديةِ التي أعطانا إياها من خلالِ ابنِه، يسوعَ.