أتفهم ألم غياب الأب وارتباك الحياة عند خسارته، لأن تلك كانت حقيقة طفولتي. في الواقع، بعدما كبرت وصرت أب، بدأت أشعر أكثر بآلام فقدان وجود أبي أكثر مما كنت أفتقده عندما كنت صغيرًا.
بعد أن باركني الله بابني، بدأت تُثار داخلي العديد من الأسئلة:
كيف لي أن أحفظ أبني من تلك الآلام التي عانيت منها؟
ما الذي أتمنى أن يتعلمهُ مني ويُطبقه في حياته؟
للأسف، تُحطم العائلة المفككة هوية الأطفال. وإني لواثق بأني لست الوحيد في خضم مثل هذه التجربة. ففي هذا العصر، يعيش واحد مِن كل أربعة أطفال مِن دون أب، مما يجعلنا نتساءل: ما هو دور الآباء؟ إذا طرحت هذا السؤال على عشر آباء، لوجدت عشر إجابات مختلفة. يُنافش جون تايسون، راعي كنيسة نيويورك، هذا السؤال في كتابه “الأب المبادر: دليل عملي لتربية أبناء ذو شخصية وشجاعة”.
الأب المبادر
عندما كنت في المرحلة الثانوية، ابتكرت أنا وصديقي عبارة “الأب-الكرسي”. فمثل هذه النوعية من الآباء تعود إلى منزلها بعد ساعات العمل، ثم يجلس على كرسيه ويحتسي الشاي وهو يُشاهد برنامج رياضي أو مسلسله المُفضل ثم ينام. كنا نتحدث عن هذا النوع مِن الأباء لأن كان لدى بعض أصدقائنا مثل هذه النوعية من الآباء، وهم كُثُر.
لم يتعمّد مثل هؤلاء الآباء قول أي شيء مؤذ لأبنائهم، بل وربما يتركون ذكريات جميلة لابنائهم. ولكن تكمن المشكلة في أنهم لم يُعطوا الأولوية للاستثمار في شخصيات أبنائهم أو مستقبلهم. لم يكونوا فعالين حقًا، بل تركوا تلمذة أبنائهم لمجموعات الشباب. لقد افترضوا أن الذهاب إلى العمل وتلبية احتياجات المنزل وتوفير تعليم مناسب للأطفال هو كل ما يتعين عليهم فعله للتعبير عن حبهم. فقد جلسوا هناك على مقاعدهم وتركوا أبناءهم يكبرون بدونهم.
يُشير تايسون إلى مفهوم مختلف:
إن هدفنا كآباء هو مساعدة أبنائنا في اكتشاف هدف خلق الله لهم ودعوته لحياتهم. لا يجب أن نسعى لجعلهم على صورتنا، ولكن يجب أن نساعدهم ليخطو في طريق النعمة حتى يتغيروا بصورة مستمرة ليُشابهوا صورة خالقهم. هذا هو أساس ما سيُعطيهم الثقة والرؤية للمضي قدمًا في حياتهم. (195)
يُقدم تايسون نهجًا ليسير عليه الآباء في تربية أولادهم مِن الصبا إلى مرحلة الرجولة. كما يُناقش مشكلة الأولاد الذين يسعون إلى نيل رضى آبائهم الغائبين وإقحام أنفسهم في مرحلة الرجولة مبكرًا. ويُريد، بدلًا مِن ذلك، أن يمنح الآباء كل الأدوات التي يحتاجونها لتربية أبنائهم ليحيوا بثقة وشجاعة.
يُقدم تايسون خمسة أنواع مِن الآباء:
الأب غير المسؤول
الأب الجاهل
الأب المُتقلِّب
الأب المُشارك
الأب المُبادر
ما يُميز الأب المبادر عن باقي الآباء هو أنه يُبذل جهدًا خاصًا جدًا لفهم شخصية ابنه، ومِن ثم يسعى لتتناسب طريقة تربيته مع شخصية ابنه.
الطريق إلى الرجولة
في زمن يتخلى فيه الآباء عن مسؤوليتهم تجاه تلمذة أبنائهم ويتركونها لمجموعات الشباب، فإن دعوة تايسون للآباء لتلمذة أبنائهم هي أمر ثوري بحق.
لاحظ تايسن مجموعة من الشباب في الحيّ الذي كان يخدم فيه كراعٍ للشباب تختلف عن سائر الشباب. وحين سأل أحدهم، عرف أن شبب اختلافهم هو أنهم يحضرون درس كتاب كل يوم قبل المدرسة. ومتى تخرجوا من الجامعة، كان عليهم الانخراط في العمل المُرسلي قبل العودة لمزاولة حياتهم العملية. في الحقيقة، إذا أرادنا كمسيحيين أن نُغير مسار الكنيسة المتدهور الآن، يجب أن تكون تلمذتنا للشباب بهذه القوة.
يُشجع تايسون الآباء في كتابه على الاستيقاظ باكرًا يوميًا مع أولادهم ليقرأوا ويصلوا معهم. كما يدعوهم أن يصطحبوا أولادهم معهم إلى عالم الرجال، كيما يتعلموا مهارات عمليّة مختلفة، ويتبادلون خبرات لا تُنسى. كما يؤكد على أن الآباء عليهم أن يتعاملوا مع الجروح التي تسبب فيها آبائهم.
الهدف في الأساس ليس تربية أبناء يُطابقون التعريف السائد للذكورة السامة، ولكن الهدف هو تربية رجال أتقياء، مملوئين شعف، ورؤية، وشجاعة، وقيم. يكتب تايسون قائلًا:
تتسم حياة الأولاد الصغار عادةً بالهدوء، وتكون حياة متمركزة حول الذات فيها نحاول أن نتحكم في كل شيء، ونقضيها مستمتعين باللحظات الحالية. ولكن، يكمن جمال كون المرء رجلًا في تقبلهُ للصعوبات، واهتمامهُ بالآخرين، وإدراكهُ أنه جزءًا مِن قصة أكبر، وأن يحيا مستعدًا أن يكون له هدفًا أعظم وتركيزهُ على الأبدية وليس الحاضر. (137)
أنت مَن تقوم بكتابة القصة التي يعيشها ابنك بحيث يكون له سياق مُحدد يحيا فيه، ويرى قيمته وهدفهُ، ويخطو بثقة في حياته واثقًا في هويتهُ ومُدركًا أنه محبوب.
إذا فعل أي أب نصف ما يُقترحهُ تايسون، فسيكون أبًا مُبادرًا أكثر مِن الغالبية العظمى مِن الآباء في بلداننا العربيّة.
إن الاستثمار في حياة ابنك يومًا بعد يوم، ومنحهُ رؤية للمستقبل، ومساعدته للتركيز على الله سيكون بمثابة إعطاءهُ جرعات ثابتة مِن الحب تقدر أن تشفي أجيالًا بأكملها.
الأب الذي تمنيته لنفسي والذي أكونه لأبني!
إن أكثر أيام السنة صعوبة بالنسبة لي كانت يوم عيد الأب. ولكن هذا العام، وبسبب ولادة ابني، شعرت ببصيص مِن السلام.
لم أعد أفكر فقط في الأب الذي لم يكن لدي، بل صرت أتخيل الأب الذي أردت أن أكونه: أبًا حاضرًا، ومشاركًا ومهتمًا؛ أبًا يثبت وجوده، ويُنصت بتركيز، ويُعطي نصائح ويكون موجودًا للمساعدة بغض النظر عن مدى صعوبة الموقف.
أعلم أنني لن أكون أبًا مثاليًا. ولكن امتلاكي رؤية لحياة إبني لهي الخطوة الأولى التي على أساسها سأتصرف. لا يُمكننا التصرف بناءً على ما لا نعرفه. كنت دائمًا أرغب أن أُغير ماضي عائلتي للأفضل، ولكن تبدو هذه المهمة شاقة مِن دون شخص يُرشدك. كآباء، علينا أن نتحمل مسؤولية تربية أبنائنا. فكما كَتب تايسون:
إن التربية تحدث يومًا بعد يوم؛ كما يحدث الأذى يومًا بعد يوم أيضًا. نحن إما نساعد أبنائنا على الانتقال إلى مرحلة البلوغ، أو نُشارك المجتمع مِن حولنا في حصرهم داخل مرحلة المراهقة الممتدة. (134)
إن العالم سوف يُشكل أبنائنا، شئنا أم أبينا. ولكن دعوتنا هي أن نُشكلهم، بنعمة الله، ليكونوا رجال مُشابهين صورة المسيح.