التعريف
تفترض الصوفيَّة قدرة المرء على الوصول إلى إدراك مباشر لمعرفة الله، لكن فقط عن طريق اتِّباع مسار التأمُّل الصوفيِّ، وتجنُّب الطرق الدنيويَّة والمحدودة للفهم العقلانيِّ.
على النقيض، تفترض العقلانيَّة أنَّه يمكن معرفة الكثير عن الله باستخدام، لا رفض، المنطق البشريِّ المستقلِّ، والتفكير العقلانيِّ والمنطقيِّ.
أمَّا الإعلان الإلهيُّ، فيركِّز على ضرورة أن يعلن الله عن ذاته، الأمر الذي دونه يكون سواء التأمُّل الصوفيُّ أو المنطق البشريُّ بلا جدوى في معرفة الله.
الملخَّص
نستعرض هنا ثلاثة سبل لمعرفة الله: الصوفيَّة، والعقلانيَّة، والإعلان الإلهيُّ. تفترض الصوفيَّة قدرة المرء على الوصول إلى إدراك مباشر لمعرفة الله، لكن فقط عن طريق اتِّباع مسار التأمُّل الصوفيِّ، وتجنُّب الطرق الدنيويَّة والمحدودة للفهم العقلانيِّ. ففي المعتاد، على المتصوِّف أن يلتزم باتِّباع المسار الصارم من التطهُّر والاستنارة حتَّى يختبر بعد ذلك الاتِّحاد بالله. على النقيض، تفترض العقلانيَّة أنَّه يمكن معرفة الكثير عن الله باستخدام، لا رفض، المنطق البشريِّ المستقلِّ، والتفكير العقلانيِّ والمنطقيِّ. افترضَ أنسلم منهجيَّة بديهيَّة [a priori] لاستخدام المنطق البشريِّ، بموجبها، ودون وضع الاختبار البشريِّ أو خبرة الحواس في الاعتبار، يمكن ببساطة للشخص العقلانيِّ أن يفكِّر في أفكار معيَّنة توجِّهه إلى استخلاص استنتاجات معيَّنة عن الله. أمَّا توما الأكوينيُّ، فافترضَ منهجيَّة تجريبيَّة [a posteriori] لاستخدام المنطق البشريِّ، بموجبها يتأمَّل الشخص العقلانيُّ في جوانب معيَّنة من الكون المخلوق الظاهرة لحواسِّه، فيستخلص منها استنتاجات عن الله. أمَّا الإعلان الإلهيُّ، فيركِّز على ضرورة أن يعلن الله عن ذاته، الأمر الذي دونه يكون سواء التأمُّل الصوفيُّ أو المنطق البشريُّ بلا جدوى في معرفة الله. وفي كلٍّ من الإعلان العامِّ والإعلان الخاصِّ، يكشف الله جوانب من طبيعته وكينونته بحيث نكون معتمدين اعتمادًا تامًّا على هذا الإعلان من جهة معرفتنا عن الله.
الصوفيَّة
الصوفيَّة متَّصلة بمجموعة واسعة من التقاليد والخبرات الدينيَّة، من بينها الديانات السرِّيَّة الهلينستيَّة ما قبل المسيحيَّة، بطقوسها وشعائرها السرِّيَّة؛ وبعض مظاهر الفلسفة الأفلاطونيَّة المُحدَّثة، التي تشدِّد على المعرفة النابعة من التأمُّل والحسِّ الداخليِّ؛ بالإضافة إلى المنهجيَّة التي تبنَّاها المفكِّر الدينيُّ اليهوديُّ فيلو السكندريُّ (20 قبل الميلاد-50 ميلاديًّا)، والمسيحيُّون الأوائل في الإسكندريَّة، والآباء اليونانيُّون الأوائل للكنيسة (مثل أوريجانوس 185-254 ميلاديًّا)، مؤيِّدين اكتساب المعرفة بواسطة اتِّباع منهجيَّة من التفسير المجازيِّ للأسفار المقدَّسة. لكن، أصبحت الصوفيَّة أكثر تمركزًا في الكنيسة المسيحيَّة بواسطة كتابات ديونيسيوس المنتحل في القرن السادس الميلاديِّ. ففي حين لم ينتقص ديونيسيوس من الدراسة الرسميَّة للكتاب المقدَّس، ركَّز في كتابه بعنوان Mystica Theologia (“اللاهوت الصوفيُّ”) على معرفة الله عن طريق اتِّباع مسار الظلمة وسبيل الجهل. ففي نصيحته التي قدَّمها لتلميذه تيموثاوس، كتب يقول: “في ممارستك الجادَّة للتأمُّل الصوفيِّ، اترك وراءك الحواس، وعمليَّات التفكير بالعقل، وكلَّ ما هو محسوس وعقليٌّ، وكلَّ ما هو في عالم الموجود وغير الموجود، حتَّى يتسنَّى لك أن ترتقي بواسطة الجهل نحو الاتِّحاد، بعيد المنال، بذاك الذي يسمو على كلِّ وجود وكلِّ معرفة” (ديونيسيوس الأريوباغيُّ، اللاهوت الصوفيُّ والمراتب السماويَّة).[1]
وبتطوُّر التقليد الصوفيِّ خلال فترة القرون الوسطى، أصبحت فكرة محوريَّة محدَّدة هي لُبّ المنهج الصوفيِّ، ألا وهي أنَّ الإدراك المباشر لمعرفة الله يمكن أن يتحقَّق فقط عن طريق اتِّباع مسار التأمُّل الصوفيِّ، وتجنُّب الطرق الدنيويَّة والمحدودة من الفهم العقلانيِّ. فبما أنَّ الله غير قابل للإدراك على الإطلاق، وبما أنَّ عقولنا المحدودة لا يمكنها أن تستوعب ما هو غير محدود (بمعنى أنَّ أفضل ما يمكننا فعله هو اتِّباع طريقة النفي [via negative]، التي تنفي عن الله أمورًا نعلم أنَّها لا يمكن أن تنطبق عليه)، فينبغي إذًا ألاَّ نثق بمنطقنا البشريِّ ومعرفتنا العقليَّة، بل نسعى بالأحرى إلى بلوغ معرفة مباشرة بالله بمعزل عن التفكير المنطقيِّ. ولبلوغ إدراك مباشر لله، أشير إلى ثلاث مراحل مميَّزة من حياة التأمُّل.
تتطلَّب حياة التطهُّر أن ينتزع المتصوِّف نفسه من قبضة الجوانب المادِّيَّة والحسِّيَّة من الحياة، الأمر الذي سيؤدِّي إلى رفضه ونفوره من تلك الأمور التي كان في ما سبق يعتزُّ بها. فقبل أن يطمح أحدهم إلى اختبار الاتِّحاد بالله، عليه أوَّلاً أن يخضع لعمليَّة إماتة الذات، والانفصال عن عالم الحواسِّ الذي كان يربطه بهذا العالم.
ثمَّ تواجه حياة الاستنارة المتصوِّف بحاجته إلى تقبُّل نتائج انفصاله ورفض السابق للمتع الحسِّيَّة ولخبرات هذا العالم. فعليه أن يدخل إلى حالة من الظلمة كشرط أساسيٍّ مسبق للرؤية اللاحقة للنور الإلهيِّ. لكن هذه الظلمة، وهذا الجهل، وهذا الرفض، يمكن أن يطول أمده، ممَّا يصيب الباحث بفترة من اليأس، يشار إليها أحيانًا باسم ليل النفس المظلم. وخلال تلك الفترة، على الشخص أن يتقبَّل غياب ما هو مألوف ومحسوس، وهو الغياب المصاحب لطلب الله في خضم الجهل، والظلمة، والتأمُّل الصوفيِّ، على أمل أن تأتي الاستنارة الحقيقيَّة يومًا ما.
أمَّا حياة الاتِّحاد، فتمدُّ المتصوِّف بما كان يطلبه من البداية، ألا وهو الاتِّحاد بالله بمعزل تامٍّ عن المعرفة العقلانيَّة. وهو اتِّحاد مباشر، ومن ثمَّ لا يستلزم أيَّة وسائط عقلانيَّة أو ماديَّة. وفي هذا الاتِّحاد بالله، يحلُّ إدراك مباشر لله محلَّ وعي المتصوِّف بذاته، فيؤدِّي به إلى الاشتراك الكامل في جوهر الله ذاته، حتَّى يغمره ويبتلعه هذا الجوهر بالكامل، وهو الاختبار الذي يشار إليه في بعض الأحيان باسم التألُّه. وفي حين أنَّ الهويَّة المميّزة للمتصوِّف والتفرُّد المميَّز لله لا يُمسَّان أو يتغيَّران في هذا الاختبار، يحدث رغم ذلك تغيُّر في هويَّة المتصوِّف الشخصيَّة، يظلُّ ملازمًا له طوال حياته. فإذا جاز التعبير، يدخل المرء من جديد إلى الحياة المعتادة في العالم الحسِّيِّ وقد أصبح شخصًا مختلفًا، بعدما اختبر وعرف بشكل مباشر، وحدسيٍّ ملء الله المتسامي، فلا يعود كما كان قبلاً.
العقلانيَّة
في اللاهوت المسيحيِّ، العقلانيَّة متَّصلة بمجموعة من وجهات النظر والأنظمة اللاهوتيَّة التي ترى أنَّ العقل البشريَّ قادر على الوصول إلى معرفة لاهوتيَّة من خلال عمليَّات التفكير الفطريَّة الخاصَّة به. وعلى النقيض التامِّ من التقليد الصوفيِّ، يصير المنطق والعقل هو الأداة الرئيسيَّة لاكتساب معرفة بالله، بدلاً من أن يكون عائقًا أمام هذه المعرفة. وبوجه عامٍّ، يوجد نوعان من العقلانيَّة ظهرا في اللاهوت المسيحيِّ.
العقلانيَّة البديهيَّة [A priori Rationalism] تفترض أنَّنا نستطيع الوصول إلى معرفة بالله عن طريق استخدام المنطق البشريِّ، دون أيَّة مساعدة من خبرات الحواس، أو من أيِّ نوع آخر من التفكير القائم على الاستقراء، والنابع ممَّا يُلاحَظ أو يُصادَف في العالم. من أكثر أنصار هذا النوع من العقلانيَّة تأثيرًا هو أنسلم أسقف كانتربري (Anselm of Canterbury) (1033-1109 ميلاديًّا). وفي كتابه بعنوان Proslogian (1078)، قال أنسلم إنَّ الإنسان يستطيع الوصول إلى معرفة بالإله الحقيقيِّ فقط عن طريق ممارسة التفكير البشريِّ، بمعزل عن أيَّة خبرة بالحواس. وفي حقيقة الأمر، حتَّى الجاهل الذي يقول في قلبه إنَّه ليس إلهًا قادرًا على أن يفكِّر في كائن لا يمكن تصوُّر وجود ما هو أعظم منه. وتتَّبع عمليَّة التفكير هذه مرحلتين. أوَّلاً، إذا فكَّر أحدهم في أعظم كائن على الإطلاق، سيدرك أنَّ هذا الكائن لا بُدَّ أن يكون موجودًا في الواقع، وليس فقط كفكرة في عقل الإنسان. فبما أنَّه أعظم كائن ممكن على الإطلاق، وبما أنَّ الوجود في الواقع أعظم من مجرَّد الوجود كمفهوم أو فكرة، فلا بُدَّ إذًا لأعظم كائن ممكن أن يكون موجودًا في الواقع. وثانيًا، عندما يفكِّر أحدهم في مفهوم الوجود في الواقع، سيدرك أنَّه يمكن للشيء أن يوجد في الواقع بطريقتين: إمَّا وجود مشروط، بمعنى أن يكون وجوده معتمدًا على شيء خارجه، وبالتالي، يمكن أن يتوقَّف عن الوجود في وقتٍ ما؛ وإمَّا في وجود ضروريٍّ، إذ يكون وجوده نابعًا من ذاته، وغير معتمد على أيِّ شيءٍ آخر، بحيث يجب أن يكون موجودًا بالضرورة، ولا يمكن أن يتوقَّف عن الوجود. ومن ثمَّ، فحين يفكِّر أحدهم في ذلك الكائن الذي لا يمكن تصوُّر وجود ما هو أعظم منه، سيستنتج أنَّ هذا الكائن ليس فقط موجودًا في الواقع، بل أيضًا أنَّ وجوده في الواقع هو وجود ضروريٌّ. واستكمالاً من أنسلم لحُجَّته، تابع مبيِّنًا أنَّ كلَّ الكمالات (التي تسمَّى في المعتاد صفات الله) تُستنتَج فقط بمجرَّد التفكير في ذلك الكائن الذي لا يمكن تصوُّر وجود ما هو أعظم منه. إذًا، الله موجود، ووجوده ضروريٌّ، وهو يتمتَّع بكلِّ الكمالات؛ ويمكن معرفة كلِّ ذلك عن طريق الاستخدام السليم للتفكير البشريِّ.
أمَّا العقلانيَّة التجريبيَّة [A posteriori Rationalism]، فتفترض أنَّنا نستطيع اكتساب معرفة بالله عن طريق استخدام التفكير البشريِّ الذي يتأمَّل في ملامح العالم الذي نعيش فيه. ففي حين عملت العقلانيَّة البديهيَّة بطريقة استدلاليَّة، مستخلِصة ببساطة استنتاجات بناءً على أفكار العقل البشريِّ، تعمل العقلانيَّة التجريبيَّة بطريقة استقرائيَّة، بانيةً تفكيرها المنطقيَّ على ما يعرفه العقل من خلال خبراته التي يكتسبها بالحواسِّ، وملاحظته للعالم الخارجيِّ. من الأنصار البارزين لهذه المنهجيَّة هو توما الأكوينيُّ (1225-1275 ميلاديًّا)، الذي افترضَ أنَّنا نستطيع المعرفة بوجود الله، وببعض سمات الله المحدودة، عن طريق اللجوء إلى ما يمكن استنتاجه من خلال العالم المخلوق. وإنَّ “البراهين الخمسة” [Five Ways]، التي قدَّمها في كتابه بعنوان Summa Theologica 1.2.3 (“خلاصة اللاهوت”)، طرحت حُججًا متَّصلة بعضها ببعضٍ، تبيِّن جميعها أنَّه في ضوء ما نراه في العالم، فإنَّ الوسيلة الوحيدة لتفسير ذلك، دون الاستناد إلى رجوع لانهائيٍّ بالأسباب إلى الوراء، هو استنتاج وجود شيء يشكِّل أساس هذه الخليقة. ويدرك الجميع أنَّ هذا الشيء هو الله. تُعَدُّ البراهين الثلاثة الأولى من براهين الأكوينيِّ الخمسة متماثلة من حيث حُجَّتها. فبما أنَّ كلَّ شيء في الخليقة قد تحرَّك من الاحتماليَّة إلى الواقعيَّة، فلا بُدَّ إذًا من وجود محرِّك أوَّل، هو المحرِّك لكلِّ شيء دون أن يحرِّكه شيء (البرهان الأوَّل). وبما أنَّ لا شيء يمكن أن يسبِّب وجوده الذاتيَّ، وكي نتجنَّب رجوعًا لانهائيًّا إلى الوراء بالأسباب والعلل، لا بُدَّ إذًا من وجود علَّة أولى (مسبِّب أوَّل)، هي السبب في كلِّ شيء آخر دون أن يسبِّبها شيء (البرهان الثاني). وبما أنَّ كلَّ شيء في الخليقة مشروط أو اعتماديٌّ، وبالتالي يمكن أن يتوقَّف عن الوجود، فلا بُدَّ إذًا من وجود كائن ضروريٍّ يشكِّل أساس الوجود المشروط والاعتماديِّ للخليقة بأكملها (البرهان الثالث). ثمَّ لاحظ البرهان الرابع أنَّه بما أنَّه يمكن الحكم على بعض جوانب الخليقة بأنَّها صالحة أو حسنة، أو بأنَّها تتمتَّع بصفات الصلاح الأخلاقيَّة، فلا بُدَّ إذًا من وجود كائن كامل أخلاقيًّا يمثِّل معيار الصلاح، ويسهم في كلِّ الصلاح الموجود في الخليقة. أمَّا البرهان الخامس، فلاحظ أنَّه بما أنَّ الجوانب غير العاقلة من الخليقة منظَّمة ومرتَّبة من أجل تحقيق غاية محدَّدة (أو غرض، “تيلوس” telos)، بينما لا تتمتَّع هذه الجوانب نفسها بالقدرة في ذاتها على تحديد هذه الغاية لنفسها، فلا بدَّ إذًا من وجود كائن عاقل يحرِّك المخلوقات غير العاقلة صوب غاياتها المحدَّدة. ويتَّفق الجميع على أنَّ هذا الكائن هو الله. لم يرَ الأكوينيُّ أنَّه يمكن استخلاص كلِّ علم اللاهوت من خلال التفكير المنطقيِّ في الخليقة. فعلى سبيل المثال، نحن نعرف أنَّ الله واحد في ثلاثة أقانيم فقط بفضل الإعلان الخاصِّ الذي أعطانا الله إيَّاه. ومع ذلك، يمكن معرفة الكثير عن الله بواسطة “اللاهوت الطبيعيِّ”، عندما نفسِّر جوانب من الخليقة بطريقة استقرائيَّة، وباستنتاجات منطقيَّة، مثبتين أنَّ الله هو الذي يشكِّل أساس ما نلاحظه ونختبره.
الإعلان الإلهيُّ
يأتي مفهوم الإعلان الإلهيِّ من التعليم الكتابيِّ الغزير عن كون الله أعلن لنا عن ذاته. فالكلمة gala التي جاءت في العهد القديم، والكلمة apokalypto التي جاءت في العهد الجديد، هما الكلمتان العبريَّة واليونانيَّة على التوالي اللتان تشيران إلى الإعلان، وكلتاهما تحمل المعنى الأساسيَّ نفسه. فالإعلان هو الكشف، أو إزاحة الستار، أو التعرية، أو الإظهار، أو التعريف. يفترض الإعلان أنَّ الحقَّ موجود ومعروف بالفعل لدى الله، لكنَّه يظلُّ مكتومًا حتَّى تأتي اللحظة التي ينكشف فيها أو يُعلَن من الله للذين اختار الله أن يعلن لهم هذا الحقَّ. نجد مثالاً جيِّدًا لإعلان الله في متَّى 16، حين سأل يسوع تلاميذه: “وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟” (متى 16: 15)، فأجاب بطرس: “أَنْتَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللهِ ٱلْحَيِّ!” (16: 16). لاحظ أنَّ يسوع لم يمتدح بطرس على بصيرته أو فطنته في إدلائه بهذا التصريح، لكنَّه قال: “طُوبَى لَكَ يا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنَّ لَحْمًا وَدَمًا لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لَكِنَّ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ” (متى 16: 17). وبالتالي، فإنَّ الحقَّ الذي صرَّح به بطرس لم يكن شيئًا اكتشفه بنفسه أو تعلَّمه من التلاميذ الآخرين أو من أيِّ شخص آخر، بل إنَّ الله الآب هو الذي أعلن هذا الحقَّ لذهن بطرس وقلبه، بحيث دون هذا الإعلان من الله، كان بطرس ليظلّ جاهلاً بما عرفه وصرَّح به آنذاك. لاحظ أيضًا أنَّ تصريح بطرس ردًّا على سؤال يسوع لم يكن هو ما أنشأ الحقَّ، أو أوجده، بل كانت الحقيقة القائمة بالفعل هي أنَّ يسوع هو المسيح، ابن الله الحيُّ. فلم يفعِّل تصريح بطرس بأيِّ حال من الأحوال هذا الحقَّ، أو يجعل شيئًا لم يكن صحيحًا الآن صحيحًا. وبالتالي، فإنَّ الإعلان لا ينشئ الحقَّ، لكنَّه بالأحرى يزيح الستار عنه، أو يكشفه، أو يعرِّيه، أو يعرِّف به، حتَّى يصير بالإمكان رؤيته ومعرفته على حقيقته.
يوضِّح الكتاب المقدَّس أنَّه يوجد نوعان أساسيَّان من إعلان الله لنا، يشار إليهما عادةً باسم الإعلان العامِّ والإعلان الخاصِّ. الإعلان العامُّ هو إعلان الله المتاح بوجه عامٍّ لجميع الناس في كلِّ مكان عن حقائق عامَّة عن الله، تُعلَن بواسطة ما كشفه هو عن نفسه بواسطة الخليقة (انظر رومية 1: 18-20)، وضمير الإنسان (انظر رومية 2: 14-15). ويُعَدُّ إعلان الله عن ذاته في الخليقة مذهلاً ومحدودًا على حدٍّ سواء. قال بولس إنَّ إعلان الله في الخليقة يُظهِر لنا “أُمُورَهُ غَيْرَ ٱلْمَنْظُورَةِ”، وكذلك “قُدْرَتَهُ ٱلسَّرْمَدِيَّةَ وَلَاهُوتَهُ” (رومية 1: 20)، بحيث يرى كلُّ من يشاهد الخليقة حقائق عن الله “ظاهرة لهم” (رومية 1: 19)، و”مُدْرَكَةً” (رومية 1: 20). يشير ذلك إلى تأثير إعلان الله عن ذاته في الخليقة، ووضوحه، حتَّى أنَّ كلَّ من يرى هذا الإعلان يكون “بلا عذر” إذا رفض الله، وسعى وراء الانغماس الشرِّير في الخطيَّة (رومية 1: 21-31). وبالتالي، هذا الإعلان مذهل بالفعل، لكنَّه أيضًا محدود جدًّا. فالخليقة لا تعلن لنا الثالوث، أو تجسُّد المسيح، أو الكفَّارة البدليَّة، أو إنجيل التبرير بالإيمان بالمسيح الذي مات عن خطايانا، وقام ثانيةً غالبًا الموت. ولمعرفة هذه الحقائق الأخرى، نحن بحاجة ماسَّة إلى الإعلان الخاصِّ.
يأتي الإعلان العامُّ أيضًا بواسطة ضمير الإنسان، الذي طبع عليه الله القانون الأخلاقيَّ الملزِم لكلِّ المخلوقات البشريَّة. قال بولس في رومية 2 إنَّ الأمم أنفسهم الذين ليس عندهم ناموس موسى (بمعنى أنَّهم لم يستلموا الوصايا العشر بشكل رسميٍّ مثلما استلمها اليهود) هم على درايةٍ ووعيٍ بهذا الناموس المكتوب على قلوبهم، فكتب يقول: “ٱلَّذِينَ يُظْهِرُونَ عَمَلَ ٱلنَّامُوسِ مَكْتُوبًا فِي قُلُوبِهِمْ، شَاهِدًا أَيْضًا ضَمِيرُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ فِيمَا بَيْنَهَا مُشْتَكِيَةً أَوْ مُحْتَجَّةً، فِي ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي فِيهِ يَدِينُ ٱللهُ سَرَائِرَ ٱلنَّاسِ حَسَبَ إِنْجِيلِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ” (رومية 2: 15-16). فلدى اليهود بالفعل ناموس موسى الذي يوصيهم ألاَّ يسرقوا، أو يقتلوا، أو يشهدوا زورًا، أو يشتهوا؛ لكنَّ هذا النصَّ يبيِّن أنَّ الله كتب هذا الناموس نفسه أيضًا على قلوب جميع البشر، بمن فيهم جميع الأمم الذين ليس عندهم ناموس موسى، بحيث يعرفون في ضميرهم أنَّه من الخطأ أن يسرقوا، أو يقتلوا، أو يشهدوا زورًا، أو يشتهوا. ومن ثَمَّ، أعطى الله البشر وعيًا أخلاقيًّا بالصواب والخطأ (على سبيل المثال، من الصواب أن توفي بوعدك، ومن الخطأ أن تغشَّ في الضرائب)، يتعدَّى كونه مجرَّد وعيٍ واقعيٍّ ونفعيٍّ بالصواب والخطأ (على سبيل المثال، جهة اليسار التالية هي الطريق الصحيح للوصول إلى المنزل، أو أكل قدرٍ زائد عن اللازم من السكَّر يضرُّ بصحَّة الإنسان)، لأنَّ البشر على دراية بقوانين أخلاقيَّة محدَّدة مشتركة بين جميع البشر في كلِّ الأزمنة والعصور. ومرَّة أخرى، في حين أنَّ هذا الإظهار لإعلان الله لجميع البشر مذهل، لكنَّه في الآن ذاته محدود. فبواسطة الضمير، نعرف أنَّه من الخطأ أن نكذب أو نقتل، لكنَّنا لسنا نعلم بواسطة ضميرنا ماذا يمكن أن نفعل لنتحرَّر من ذنبنا عندما نكذب أو نقتل بالفعل. فكي نعرف ذلك، نحتاج إلى الإعلان الخاصِّ.
الإعلان الخاصُّ هو إعلان الله لأشخاص معيَّنين، في أزمنة محدَّدة. وهو إعلان أُعطيَ بشكل تدريجيٍّ عبر تاريخ إسرائيل، حتَّى بلغ ذروته واكتمل بالإعلان النهائيِّ ليسوع، ابن الله المتجسِّد (انظر عبرانيين 1: 1-2). يشمل الإعلان الخاصُّ حقائق أكثر تحديدًا ممَّا يُعلَن في الإعلان العامِّ، عن طبيعة الله، وجوهره الواحد في ثلاثة أقانيم، ومقاصده، ووعوده، وأعمال عنايته في العالم، والأهمُّ من ذلك أنَّه يشمل إعلان يسوع المسيح، وإعلان الإنجيل المبنيَّ على موته الكفَّاريِّ وقيامته الغالبة. وبما أنَّ هذا الإعلان جاءنا تدريجيًّا عبر الزمن، نستطيع أن نرى أنَّ الله في بعض الأحيان يعلن المزيد عن نفسه من خلال الأعمال التي يعملها. فبدءًا من الخلق، يمكننا أن نرى يد الله القديرة جليًّا وهي تخبرنا بالمزيد عن طبيعة الله ومقاصده. كذلك، يعلن لنا الله المزيد عن ذاته عبر الزمن بواسطة الإعلان التصريحيِّ، أي إعلان الله بلغة البشر، والذي به يتسنَّى لنا أن نسمع (مثل إبراهيم، وموسى، ويونان، وغيرهم)، أو نقرأ (كما في الكتاب المقدَّس) ما أعلن الله أنَّنا ينبغي أن نعرفه. وبالتالي، فبواسطة أعمال الله، وكلمات الله، اتَّسع هذا الإعلان الخاصُّ من أيَّام آدم في جنَّة عدن، حتَّى بلغ ذروته في الإعلان النهائيِّ عن الله في المسيح، وهو الإعلان الذي حظيَ بتفسير وشرح موثوق في تعاليم رسل المسيح، تمامًا مثلما أخبرهم المسيح بأنَّه سيحدث (انظر يوحنا 14: 26؛ 16: 12-15). وبالتالي، فإنَّ الكتاب المقدَّس الموحى به من الله (2 تيموثاوس 3: 16-17؛ 2 بطرس 1: 20-21) يمدُّنا منذ أيَّام المسيح والرسل بإعلان الله الخاصِّ المكتمل لشعبه، وهو الإعلان الذي نقبله بسرور وامتنان بصفته موثوقًا وخاليًا تمامًا من الخطأ، وبصفته المرشد الكافي لنا بشأن ما يجب أن نؤمن به، وكيف يجب أن نسلك كشعب الله، في خضوعٍ لربوبيَّة المسيح.
[1] Dionysius the Areopagite, Mystical Theology and the Celestial Hierarchies, trans., Editors of the Shrine of Wisdom (Surrey, England: The Shrine of Wisdom, 1965), 9.