التعريف
تمحور الجدل بخصوص الإرادة الذي دار بين الكالفينيِّين والأرمينيِّين حول ما إذا كانت أساسيَّات اللاهوت المسيحيِّ، كالميلاد الثاني والاختيار، معتمدة على الاختيار الحرِّ للإنسان، أم إنَّها معتمدة بالكامل على نعمة الله المجَّانيَّة، بمعزل عن أيَّة أعمال من جانب الإنسان.
ملخَّص
اندلعت هذه الجدالات بعد موت كالفن بين لاهوتيِّين كالفينيِّين متعدِّدين وجاكوب أرمينيوس (Jacob Arminius) مع الذين انحازوا إليه، الأمر الذي أدَّى كما هو معروف إلى انعقاد سنودس دورت. أنكر الريمونسترانتيُّون (المحتجُّون)، كما كانوا يُسمَّون آنذاك، أنَّ نعمة الله تُعطَى بناءً على اختيار الله غير المشروط للأفراد للخلاص. وفي المقابل، كان الخلاص برأيهم مبنيًّا على معرفة الله المسبقة بالقرار الذي سيتَّخذه الإنسان إراديًّا، الأمر الذي في النهاية يجعل الميلاد الثاني مشروطًا بقرار الإنسان. من الناحية الأخرى، علَّم الكالفينيُّون بأنَّ الله لم يرَ مسبقًا أولئك الذين سيؤمنون من تلقاء ذواتهم، لكنَّه بالأحرى اختار منذ الأزل أولئك الذين سيعطيهم إيمانًا. من ثَمَّ، فإنَّ الميلاد الثاني الروحيَّ، بالنسبة للشخص الكالفينيِّ، يسبق القرار الإراديَّ بالإيمان، بينما بالنسبة للشخص الريمونسترانتيِّ، يسبق القرار الإراديّ بالإيمان نوال بركات الخلاص.
يُفترَض في كثيرٍ من الأحيان أنَّ الجدل بين الكالفينيِّين والأرمينيِّين هو جدلٌ وقع في القرن السادس عشر بين جون كالفن وجاكوب أرمينيوس. لكن، يندهش الكثيرون عندما يكتشفون أنَّ أرمينيوس كان مجرَّد طفل صغير عندما مات كالفن. بل دار الجدل بين الكالفينيِّين والأرمينيِّين في أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر، ولم يكن يتعلَّق بأرمينيوس وحده، بل تعلَّق أيضًا ببعض الريمونسترانتيِّين (المعارضين، أو المحتجِّين) وبردِّ سنودس دورت عليهم.
جاكوب أرمينيوس والنعمة المشروطة
ومع ذلك، تحمل الأرمينيَّة اسم جاكوب أرمينيوس (1559-1609) لسببٍ وجيهٍ. فقد درس أرمينيوس في جامعة ليدن. لكن من المفارقة العجيبة بما يكفي أنَّه درس أيضًا في أكاديميَّة جنيف على يد خليفة كالفن، وهو ثيودور بيزا (Theodore Beza). ولاحقًا، رُسِم قسًّا في أمستردام. وسرعان ما كشفت عظاته من الرسالة إلى رومية عن فهمٍ للنعمة الإلهيَّة يختلف عمَّا تعلَّمه من أساتذته في جنيف. وأثار ذلك ضجَّة حين وصل، على سبيل المثال، إلى رومية 9، فأنكر أنَّ بولس علَّم باختيار غير مشروط لأفراد للخلاص. لفت ذلك انتباه بعض اللاهوتيِّين المُصلِحين.
وفي عام 1603، انضمَّ أرمينيوس إلى هيئة تدريس جامعة ليدن. وبينما كان هناك، خاض جدالاً عنيفًا مع فرنسيسكوس جوماروس (Franciscus Gomarus)، الذي أيضًا كان من طلاَّب ثيودور بيزا. اتَّهم جوماروس أرمينيوس باتِّباع الفكر البيلاجيِّ، قائلاً إنَّ أرمينيوس حاد عن المعايير العقيديَّة المصلَحة، من قبيل إقرار الإيمان البلجيكيِّ (1561)، ودليل هايدلبرج لتعليم الإيمان عن طريق السؤال والجواب (1563). ورأى المفكِّرون المصلِحون أمثال جوماروس أنَّ منظور أرمينيوس التآزريَّ عن النعمة لم يكن متوافقًا مع التركيز الأحاديِّ الذي اتَّسمت به هذه المعايير المصلَحة.
فإنَّ العمل التآزريَّ يجعل فاعليَّة نعمة الله مشروطة برغبة الإنسان الإراديَّة في التعاوُن والإيمان. صحيح أنَّه يمكن منح نعمة مسبقة للخاطئ، للتخفيف من آثار الخطيَّة الأصليَّة، لكن ميلاد الخاطئ ثانيةً من عدمه متوقِّف في النهاية على القرار الذي يتَّخذه الإنسان وهو في هذه الحالة الوسطيَّة. قد يحاول الله التودُّد إلى الخاطئ، لكن في النهاية نعمة الله مشروطة بإرادة الخاطئ. ومن ثَمَّ، فبالنسبة لأتباع الأرمينيَّة، الإيمان سابق منطقيًّا للميلاد الثاني، وإرادة الإنسان قادرة على مقاومة جهود الله الخلاصيَّة وإحباطها.
على النقيض، يقول رأي العمل الأحاديِّ إنَّ الإنسان ميت بالخطايا، وعاجزٌ تمامًا عن التعاون، وإرادته مستعبَدة لقوَّة الخطيَّة والعالم وإبليس. والله وحده هو الذي يستطيع أن يقيم الخاطئ الميت إلى الحياة الروحيَّة، ويحرِّره من عبوديَّته. وفقط عندما يولد الإنسان ثانيةً، سيتمكَّن من التحوُّل عن الخطيَّة إلى المسيح. ومن ثمَّ، ومن الناحية المنطقيَّة، يجب أن يكون الميلاد الثاني سابقًا للإيمان الذي للخلاص. لكن حتَّى ذلك الإيمان الذي يأتي عقب الميلاد الثاني هو نفسه عطيَّة سياديَّة، لا يكتفي الروح القدس بعرضها على الخاطئ، لكنَّه يجريها وينشئها بفاعليَّة في داخله، بحيث يؤمن الخاطئ بالفعل، وينال الحياة الأبديَّة.
هذان الرأيان نابعان من مفهومين مختلفين عن الاختيار. فعلى سبيل المثال، في مؤلَّف أرمينيوس بعنوان Declaration of Sentiments أو “إعلان المشاعر” (1608)، الذي كتبه قبيل وفاته مباشرة، جعل ليس فقط الميلاد الثاني مشروطًا بإرادة الإنسان، بل الاختيار أيضًا. فبرأيه، كان اختيار الله مشروطًا برؤيته المسبقة لاختيار الإنسان أن يؤمن به. فالمعرفة المسبقة بإيمان الإنسان هي العامل الفيصليُّ الذي يحدِّد اختيار الإنسان من عدمه. في المقابل، قال اللاهوتيُّون المُصلِحون سواء في أيَّام أرمينيوس، أو ما قبل ذلك رجوعًا حتَّى إلى أيَّام كالفن، إنَّ الكتاب المقدَّس لم يجعل اختيار الله مشروطًا قط بشيء في الإنسان، أو بشيء يمكن للإنسان أن يفعله. بل على النقيض، الاختيار قائمٌ على نعمة الله وحدها (سولا جراتسيا، “بالنعمة وحدها”). فالله لا يختار الإنسان لأنَّه يؤمن به، بل يؤمن الإنسان بالله لأنَّ الله اختاره بدافع من رحمته ونعمته الأزليَّتَين. “فَإِذًا لَيْسَ لِمَنْ يَشَاءُ وَلَا لِمَنْ يَسْعَى، بَلْ لِلهِ ٱلَّذِي يَرْحَمُ” (رومية 9: 16).
سنودس دورت والنعمة غير المشروطة
في العقد الذي أعقب ذلك، ازدادت حدَّة الصراع، عندما احتجَّ أتباع أرمينيوس مرَّة أخرى على نظرائهم من المصلِحين. وفي أوائل عام 1619، بلغ الصراع ذروته عندما اقتضى الأمر عقد سنودس، أي اجتماع لقادة الكنيسة، ودُعي إليه قساوسة ولاهوتيُّون مصلِحون، من أجل البتِّ في هذه المسألة المختصَّة بكنائس هولندا. لكن لم يحضر الهولنديُّون وحدهم إلى هذا السنودس، بل جاء إليه مفكِّرون مصلِحون من كلِّ أنحاء أوروبَّا، ومنهم أناس من قبيل جيسبرتيوس فيتيوس (Gisbertius Voetius) وويليام إيمز (William Ames).
اجتمع هؤلاء في دورت (أو دوردريخت) لتقييم ذلك الاحتجاج في ضوء الكتاب المقدَّس. وبعد الاستماع إلى الريمونسترانتيِّين (المحتجِّين)، ردَّ السنودس عن طريق سرد عديدٍ من الإقرارات. وقد وصف المؤرِّخ ريتشارد مولر (Richard Muller) علاقة هذه الإقرارات بالعقائد المُصلَحة التي سبقت سنودس دورت، قائلاً:
ينبغي النظر إلى إقرارات دورت على أنَّها تفسيرٌ سليم ورصين لإجمالي عقائد الإيمان المُصلَح الموجودة بالفعل. فقد أدانت هذه الإقرارات التعيين المسبق المبنيَّ على الاختيار البشريِّ، ورفضت النعمة التي يمكن للإنسان إمَّا أن يقاومها وإمَّا يَقبَلها، وأكَّدت على عمق الخطيَّة الأصليَّة، وأيَّدت الفاعليَّة المحدودة للكفَّارة التي صنعها المسيح، وشدَّدت على مثابرة المختارين بالنعمة… فلم تغيِّر أيٌّ من هذه الإقرارات شيئًا في الموقف المصلَح السابق لها، بل في حقيقة الأمر، نستطيع فعليًّا استخلاص هذه الأفكار عينها من الشرح الذي قدَّمه أورسينوس (Ursinus) لدليل هايدلبرج لتعليم الإيمان عن طريق السؤال والجواب.
أُقِرَّت هذه الإقرارات في 22 أبريل من عام 1619، ثمَّ أُصدِرت في الشهر التالي مباشرة. وكي نفهم هذه الإقرارات، دعونا نتناولها واحدًا فواحدًا.
الإقرار الأوَّل
يتعلَّق الإقرار الأوَّل بالاختيار، لكنَّه مع ذلك يبدأ من فساد الإنسان. ففي آدم، جميع البشر مذنبون وفاسدون، وجميعهم يستحقُّون الدينونة الإلهيَّة واللعنة. ولو كان الله قد ترك الجنس البشريَّ في هذه الحالة، لظلَّ عادلاً. وفي تضاد كبير مع المنطق الأرمينيِّ، يَكمُن اللغز الحقيقيُّ ليس في السبب الذي لأجله اختار الله البعض دون آخرين، بل في السبب الذي لأجله اختار الله أحدًا من الأساس. فالإنسان لا يستحقُّ سوى العقوبة الأبديَّة.
وبوضع عجز الإنسان هذا في الاعتبار، شدَّد إقرار دورت على أنَّ رجاءنا لا يمكن أن يقوم سوى على “نعمة الله الخالصة” في الاختيار.
فمن قبل تأسيس العالم، وبموجب نعمة خالصة، وبحسب مسرَّة مشيئة الله، اختار في المسيح للخلاص عددًا محدَّدًا من الأشخاص من بين الجنس البشريِّ بأكمله، الذي كان قد سقط بخطأٍ شخصيٍّ منه من حالة البراءة الأولى في الخطيَّة والعطب. وهؤلاء الذين اختيروا لم يكونوا أفضل أو أكثر استحقاقًا من الآخرين، بل هم غارقون مثلهم في البؤس والشقاء عينه. وقد فعل الله ذلك في المسيح، الذي عيَّنه هو أيضًا منذ الأزل ليكون الوسيط والرأس الذي يمثِّل هؤلاء المختارين جميعهم، والأساس لخلاصهم. ولذا، قرَّر الله أن يعطي هؤلاء المختارين للمسيح، حتَّى يخلُصوا بواسطته، وحتَّى يدعوهم ويجتذبهم على نحو فعَّال إلى شركته، بواسطة كلمته وروحه. بتعبير آخر، قرَّر الله أن يعطي هؤلاء المختارين إيمانًا حقيقيًّا بالمسيح، حتَّى يبرِّرهم، ويقدِّسهم، وأخيرًا يمجِّدهم، بعدما يكون قد حفظهم بقوَّته في شركة ابنه. وفعل الله كلَّ ذلك ليُظهِر رحمته، ولمدح غنى مجد نعمته. يقول الكتاب المقدَّس إنَّ الله اختارنا في المسيح “قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلَا لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي ٱلْمَحَبَّةِ، إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ، لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ ٱلَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي ٱلْمَحْبُوبِ” (أفسس 1: 4-6). وفي موضع آخر، يقول إنَّ الذين “سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ، فَهَؤُلَاءِ دَعَاهُمْ أَيْضًا. وَٱلَّذِينَ دَعَاهُمْ، فَهَؤُلَاءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضًا. وَٱلَّذِينَ بَرَّرَهُمْ، فَهَؤُلَاءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضًا” (رومية 8: 30).
لاحظ أنَّه بسبب كون الاختيار مبنيًّا على نعمة خالصة، لا بدَّ أن يكون كلُّ ما يعقبه كذلك أيضًا. فلأنَّ الاختيار غير مشروط، وجب أن تكون دعوة الله لمختاريه فعَّالة، وحفظه إيَّاهم يقينيًّا وأكيدًا. ثمَّ تابع إقرار دورت ليقول إنَّه بسبب أنَّ اختيارنا غير معتمد علينا، ولو بأدنى درجة، نستطيع التحلِّي باليقين. فلو كان خلاصنا معتمدًا علينا نحن، لأمكن ليقيننا أن يتذبذب. لكن يقيننا قائمٌ على نعمة إلهنا الرحيم، تلك النعمة الأزليَّة وغير القابلة للتغيير.
الإقرار الثاني
ربَّما كان الاختيار واقعًا أزليًّا، لكنَّه ليس أمرًا منفصلاً البتَّة عن المسيح. لاحظ أنَّه حتَّى في الفقرة أعلاه، قيل أكثر من مرَّة إنَّنا مختارون في المسيح، في ترديدٍ لصدى كلام بولس في أفسس 1. يترتَّب على ذلك إذًا الإقرار بأنَّ الله يتمِّم بالفعل في الزمن كلَّ ما قضى به في الأزل. فقد أرسل الله ابنه ليشتري الذين اختارهم على الصليب.
ومن ثَمَّ، لا يمكن أن تكون الكفَّارة صالحةً لجميع البشر بلا استثناء (كفَّارة عامَّة)، بل لا بُدَّ أن تكون قاصرة على مختاري الله. لسنا بذلك نقوِّض من قيمة المسيح، بل كما أوضحت إقرارات دورت، هذه الكفَّارة “تحمل قيمة غير محدودة، أكثر من كافية للتكفير عن خطايا العالم أجمع”. ومع ذلك، لم يختر الله الجميع، بل اختار البعض فحسب. ومن ثمَّ، أرسل الآب ابنه ليضع نفسه على نحو فعَّال عن مختاريه، الذين قد يكونون من كلِّ أمَّة على الأرض. “بتعبير آخر، اقتضت مشيئة الله أن يفتدي المسيح بدم الصليب (الذي به أسَّس العهد الجديد) من كلِّ شعب وقبيلة وأمَّة ولسان، وعلى نحو فعَّال، فقط جميع الذين اختيروا منذ الأزل للخلاص، وأعطاهم الآب له”.
ومنذ سنودس دورت فصاعدًا، أطلق البعض على هذا الاعتقاد مصطلح “الكفَّارة المحدودة” [limited atonement]، لأنَّه وفقًا لهذا الاعتقاد، مات المسيح فقط عن مختاريه. لكن قد يساء فهم هذه التسمية، ومن المحتمل أن تسلِّط الضوء على معنى خاطئ. لكن، ينبغي أن تكون الكفَّارة محدودة، ما لم يؤمن المرء بشموليَّة الخلاص (أي بأنَّ الجميع سيخلصون في النهاية). وبالنسبة للشخص الأرمينيِّ، ليست الكفَّارة محدودة في نطاقها، بل في فاعليَّتها. فإنَّ فاعليَّة موت المسيح مشروطة بتعاون الخاطئ من عدمه مع النعمة الإلهيَّة (العمل التآزريّ synergism).
أمَّا سنودس دورت، فرفض مثل هذا الحدِّ من فاعليَّة الكفَّارة. فالمسيح لم يَمُت ليجعل الخلاص مجرَّد إمكانيَّة متاحة، بل ليجعله حقيقةً. وأولئك الذين مات المسيح لأجلهم يُكفَّر بالفعل عن خطاياهم، وتكون كلُّ المزايا التي يمكن نوالها بالاتِّحاد بالمسيح لهم بالفعل، بما في ذلك الإيمان. لهذا السبب، ربَّما كان من الأفضل أن نستخدم مصطلح “الكفَّارة الخاصَّة” أو “الكفَّارة المحدَّدة”. فصحيح أنَّ الكفَّارة محدودة على مختاري الله، لكنَّ تركيزها الخاصَّ على المختارين يُظهِر فاعليَّتها لمختاري الله، وإلاَّ سيُفرَغ الصليب من قوَّته.
الإقرار الثالث والرابع
لا داعي أن نتناول الإقرار الثالث بتفصيلٍ وإسهابٍ، لأنَّنا غطَّينا قدرًا كبيرًا منه بالفعل. فقد انتقل الإقرار الثالث من التحدُّث عن الفداء الذي حقَّقه المسيح لأجل المختارين، إلى الفداء الذي يطبِّقه الروح القدس على المختارين. وكما كان الحال في الإقرارين السابقين، ابتدأ هذا الإقرار بتشديدٍ على عجز الإنسان التامِّ، بسبب الخطيَّة الأصليَّة، ذلك العجز الذي يستدعي عملاً فائقًا للطبيعة من الروح القدس، لتجديد الخاطئ، الأمر الذي لا يقدر سوى الله أن يحقِّقه.
يشير ذلك العمل إلى الميلاد الثاني، والخلق من جديد، والإقامة من الموت، والإحياء، تلك الأمور المعلَنة في الكتاب المقدَّس بوضوح شديد، والتي يعملها الله بداخلنا دون أدنى مساعدة منَّا. ومن المؤكَّد أنَّ هذا لا يتحقَّق فقط بواسطة تعليم خارجيٍّ، أو محاولات الإقناع، أو أيَّة وسيلة أخرى تضع على عاتق الإنسان، بعدما يكون الله قد أتمَّ ما عليه، المسؤوليَّة سواء بأن يولد ثانية ويؤمن بالمسيح، أو لا. بل بالأحرى، هذا عمل فائق للطبيعة بالكامل، وفي الوقت ذاته شديد القوَّة وممتع. وهو عمل عجيب، وسرِّيٌّ، يفوق الوصف، ليس أدنى أو أقلَّ في قوَّته من عمل الخلق، أو الإقامة من الموت، مثلما يعلِّم الكتاب المقدَّس (بوحيٍ من كاتبه الحقيقيِّ). ونتيجة لذلك، فإنَّ جميع الذين يعمل الله في قلوبهم بهذه الطريقة العجيبة، يولَدون ثانية، بكلِّ تأكيد، وعلى نحو فعَّال، ويؤمنون بحقٍّ. وإرادة الإنسان، التي تجدَّدت، ليست فقط تخضع للتنشيط والتحفيز من الله، لكنَّها أيضًا تصير في حدِّ ذاتها نشطة وفاعلة. ولهذا السبب، يمكن أن يقال بالصواب عن الإنسان نفسه، وبفضل تلك النعمة التي حصل عليها، إنَّه هو الذي آمن وتاب.
الإقرار الخامس
إذا كان الله قد اختارنا منذ الأزل لا على أساس شيء فينا، بل بمقتضى نعمته الخالصة؛ وإذا كان قد أرسل ابنه ليموت عن مختاريه، مقتنيًا كلَّ المزايا الخلاصيَّة التي هي من نصيبهم في المسيح؛ وإذا كان الروح القدس أُرسِل من الآب والابن حتَّى يجري ميلاد الإنسان ثانيةً، بحيث يتَّحد هذا الإنسان بالمسيح بالإيمان، فإنَّ هذا الإله الواحد في ثالوث حتمًا سيحفظ مختاريه حتَّى تمجيدهم، ولن يخفق على الإطلاق في أن يكمل ما ابتدأه. ثمَّ اختُتِم هذا الإقرار بمنح المؤمن يقينًا في أنَّ الله لن يفقد أحدًا من مختاريه، لكنَّه سيحفظهم إلى المنتهى.
لا يلغي هذا حاجة المؤمن إلى المثابرة، بل فقط يؤكِّدها، متيحًا له النعمة اللازمة لإنهاء السباق. يعني ذلك إذًا أنَّ الحفظ والمثابرة هما وجهان لعملة واحدة. الأفضل من ذلك أيضًا أنَّه لأنَّ الله يحفظنا، يصير بإمكاننا أن نثابر بنعمته ولمجده.
هل ينبغي أن يجعلنا هذا اليقين في المثابرة نفتخر بأنفسنا؟ كلاَّ البتَّة. بل على النقيض، ينبغي أن يكون هذا اليقين حافزًا على التقوى والاتِّضاع الحقيقيَّين.
هذا اليقين في المثابرة هو أبعد ما يكون عن كونه يجعل المؤمنين الحقيقيِّين متكبِّرين وواثقين في أنفسهم بالجسد، بل هو يمثِّل بالأحرى الجذر الحقيقيَّ للاتِّضاع، والتبجيل الطفوليَّ لله، والتقوى الحقيقيَّة، والثبات والصبر في الضيق، والصلوات الحارَّة، والثبات في حمل الصليب والاعتراف بالحقِّ، والفرح الراسخ في الله. فإنَّ تفكُّرنا في هذا اليقين يحفِّزنا على الممارسة الجادَّة والمستمرَّة للشكر والأعمال الصالحة، الأمر الذي يتجلَّى في الكتاب المقدَّس، وكذلك في نماذج القدِّيسين.
عقائد النعمة
كانت هذه مجرَّد عيِّنة صغيرة من تناوُل سنودس دورت التفصيليِّ للمبادئ التي نسمِّيها اليوم بالمبادئ الخمسة للكالفينيَّة. لكن، إذا أردتَ أن تطَّلع على هذه المبادئ بكلِّ ما فيها من جمال تفسيريٍّ وكتابيٍّ، عليكَ أن تقرأها من مصدرها المباشر، وحينئذٍ، ستكتشف فيها ليس فقط تأييدًا قويًّا لعقائد النعمة، لكنَّك ستندهش وتُسَرُّ أيضًا من كثرة التطبيقات العمليَّة على الحياة المسيحيَّة التي استخلصتها إقرارات دورت. يذكِّرنا هذا بأنَّ أولئك الذين اجتمعوا في دورت دوَّنوا هذه الإقرارات ليس فقط للاهوتيِّين والقساوسة، بل أيضًا لمرتادي الكنائس العاديِّين، حتَّى يتسنَّى لهم أن يتعرَّفوا بأنفسهم على النعمة السياديَّة، وعلى تأثيراتها المغيِّرة في الحياة المسيحيَّة.