مرة أخرى، ينشر بارت إيرمان كتابًا يهاجم فيه مصداقيّة العهد الجديد وتكامله التاريخي.
ورغم اختلاف موضوعات كتبه، إلا أنه يردد ذات القصة في كل منها: أن إيرمان، الذي كان يومًا إنجيليًا، وقد درس في Moody Bible Institute، وفي Wheaton College، قد اكتشف أن العهد الجديد- وخاصة الأناجيل، لا تُقدّم وصفًا موثوقًا به عن يسوع التاريخي. بل على العكس، أن ما لدينا هو كتب مزورة تحوي تناقضات وتعاليم أخلاقيّة مشكوك فيها، وقد تم التلاعب فيها وتغييرها عبر القرون.
يتناول إيرمان في كتاب له بعنوان يسوع قبل الأناجيل: كيف تذّكر المسيحيون الأوائل وغيروا وابتدعوا قصصهم عن المُخلّص،[1] اهتمامًا جديدًا في المجال الأكاديمي حول الفجوة الزمنيّة بين أحداث حياة يسوع وأقدم الأناجيل المكتوبة التي تدّعي تسجيلها لتلك الأحداث.
فكيف تم نقل القصص عن يسوع خلال تلك الفترة الزمنيّة؟ هل يمكن لنا أن نثق في عمليّة النقل الشفهي؟ ماذا عن الذاكرة المحدودة للبشر، أو غير المتكاملة وغير المعصومة؟ فيكتب إيرمان قائلًا:
هناك ما بين أربعين وخمس وستين سنة تفصل بين موت يسوع وأقدم سجلات عن حياته، ونحن بحاجة إلى معرفة ماذا حدث لتلك المذكرات بالضبط خلال تلك الفجوة الزمنيّة. (15)
للرد على هذا السؤال، يتعمق إيرمان في بعض المجالات الفكريّة الجديدة بما في ذلك مجال علم النفس الإدراكي، والنظريات المختلفة حول ماهيّة الذاكرة، والأنثروبولوجيا الثقافيّة، وعلم الاجتماع. لكن الغرض الرئيسي لكتابه موضوع هذا المقال هو المجال الأكاديمي الجديد حول نقل التقليد الشفهي في القرون الأولى للمسيحية؛ خاصة كتاب ريتشارد باوكهام “يسوع وشهود العيان”، وكذلك دراسات جيمس دن وكينيث بيلي. والذين قدموا طرحًا بأن النقل الشفهي للتقاليد عن يسوع تم الحفاظ عليها سواء من قِبَل الجماعات المسيحيّة أو شهود العيان أنفسهم. ولكن يقدم إيرمان ادعاءه بأن هذه الآراء خاطئة، وأنه لم تكن هناك أي قيود على النقل الشفهي في العالم القديم يمكن أن يضمن عدم تغيّر الرواية.
كما أن إيرمان يطرح دعواه بتسلسل منطقي، إنما هي مبعثرة في جميع أنحاء الكتاب. لكنها في مجملها يمكن تلخيصها في قوله:
نحن نعلم أن الروايات قد تغيّرت، والدليل أن لدينا العديد من “الذكريات المشوهة” عن يسوع مثل تلك التي نجدها في أعمال بطرس، وإنجيل نيقوديموس، وإنجيل يعقوب، وإنجيل الطفولة، وإنجيل نوما.
من الناحية العمليّة، لم تكن هناك طريقة لمنع الناس عن سرد روايات عن يسوع وتغييرها. فقد كانت كل الأطياف تروي (وتغيّر) القصص عنه، ولم يكن الأمر محصورًا في شهود العيان. فما تُسمّى بالأناجيل الأربعة (القانونيّة)، ليست بروايات شهود عيان، إنما كتبت بعد أكثر من أربعين عامًا من حياة يسوع من قِبَل الناطقين باللغة اليونانيّة من الأمم الذين لا علاقة لهم بيسوع أو بأي من شهود العيان.
وحتى لو كان قد كتب الأناجيل القانونيّة شهود عيان، فقد أظهرت الدراسات الأكاديميّة أنه حتى ذاكرة شهود العيان يمكن لها أن تخطيء وتُشوّش. ويعطي إيرمان أمثلة على هذا من شهادات شهود عيان لحوادث تحطم طائرات واختطاف من قِبَل كائنات فضائيّة.
ويُكمل إيرمان دعواه بأن الأناجيل القانونيّة نفسها تحتوي على العديد من الذكريات المشوشة والمشوهة عن يسوع في روايات عن حياته وموته. فهذا شيئًا متوقعًا في ظل “الثقافة الشفاهيّة” التي اتسمت بها المسيحيّة الباكرة، حيث كان معظم الناس لا يستطيعون القراءة والكتابة.
وعلى الرغم من صعوبة حصر كافة الادعاءات التي يطرحها إيرمان في هذا المقال، إلا أنه يمكننا الإشارة إلى عدة نقاط هامة هنا.
المبالغة في ادعاءاته
أولًا، يبالغ إيرمان مرارًا وتكرارًا في استخدام ادعاءات دراسات نقل التقليد الشفهيّة.
تكمن المشكلة في أن ما يطرحه في كتابه لا يعكس بدقة ادعاءات باوكهام وغيره من العلماء. فلم يطرح أحد مثله أن المسيحيين من غير شهود العيان لم يشاركوا قط قصص يسوع (78، 84). فعمليَا، لم يكن بوسع أحد أن يمنعهم من ذلك. ولكن القضية الأهم هنا ما إذا كان لدى المسيحيين الأوائل مصدر يمكن اللجوء إليه للحصول على نسخ رسميّة وموثوق بها لما قاله يسوع وعمله. وقد جادل باوكهام (وآخرون) من أن شهود العيان وتلاميذهم كانوا هم مصدر ذلك.
بحسب هذا الرأي، في نفس الوقت الذي كانت تُتداول فيه ذكريات صحيحة عن يسوع، كانت هناك “ذكريات مشوهة” عنه في الكنيسة الأولى. وما من أحد ينكر هذا الأمر. في الواقع، هذا هو سبب وجود كتب مثل أعمال بطرس وإنجيل نيقوديموس. فما من شك أن هذه الذكريات المشوهة قد تم تدوينها في نهاية المطاف. ولكن يهدف استعراض إيرمان لهذه الكتابات المنحولة أمام القارئ ظنًا منه أنها تُثبت وجهة نظره، في حين أنها لا تفعل شيئًا من هذا القبيل. فهي تتماشى بشكلٍ جيد مع ما أكده باوكهام وسائر العلماء.
تجاوزه للأدلة
ثانيًا، يتجاوز تشكيك إيرمان المُفرِط حدود دعم الأدلة التي يسوقها. فيحتكم إلى العديد من الدراسات التي تُثبت أن شهادة شهود العيان من الممكن أن تُخطئ في بعض الأحيان، بل في بعض الحيان يكون خطأهم خطير للغاية. صحيح إن ذاكرتنا يمكن أن تخطئ في بعض، ولكن هذه ليست بمعلومة جديدة. حتى بدون ما يقوله العلماء المعاصرين، فإنه لمن الواضح أن ذاكرتنا غير معصومة. إن استخدام هذه الحقيقة كسبب لرفض شهادة شهود العيان في الأناجيل يتجاوز ما تستطيع الأدلة تحمُله. حتى أن إيرمان نفسه يرجع ويقول بعد أن شعر بأنه قد بالغ في أطروحته قائلًا: “أنا بالتأكيد لا أقول أن كل ذكرياتنا خاطئة أو مخطئة. ففي معظم الأوقات نتذكر جيدًا” (143).
في الحقيقة، من الجدير أن ننتبه إلى عاملين أساسيين في المسيحيّة الباكرة كانا من شأنهما أن يجعلا ذاكرة شهود العيان أكثر موثوقية، على الرغم من إهمال إيرمان لكليهما. أولًا، كان متاحًا لدى المسيحيين الأوائل إمكانيّة تدوين أقوال يسوع وأفعاله، الأمر الذي يُعَد الأساس العلمي الشهير لما يُعرف باسم نظريّة المصادر أو “Q”. وقد كتب علماء أجلاء أمثال جراهام ستانتون حول هذا الموضوع (كتاب الأناجيل ويسوع، 165-191)، ولكن يبدو أن إيرمان تعمّد تجاهل مثل هذه الدراسات الأكاديميّة.
ثانيا، تُقدّم أعمال بيرجر جيرهاردسون (Birger Gerhardsson) حول الذاكرة لدى اليهود القدماء نظرة أكثر موثوقيّة من أطروحة إيرمان. وقد علل إيرمان رفضه لأعمال جيرهاردسون بزعم أن العلماء المعاصرين “كان لديهم العديد من المشاكل الرئيسيّة مع كتاباته [يقصد كتابات جيرهاردسون]” (68). وإيرمان محق في هذا، فقد تعرّض جيرهاردسون للنقد على نطاق واسع. ولكن ما أخفق إيرمان في ذكره، هو أن أكبر منتقدي جيرهاردسون، العالم اليهودي الشهير، الحاخام جاكوب نيوسنر (Jacob Neusner)، غيّر بالفعل وجهة نظره حول كتابات جيرهاردسون. وقد كتب مقدمة للطبعة الجديدة لكتاب جيرهاردسون الأشهر “الذاكرة والمخطوطات”، كفعل اعتذار عن مواقفه السابقة من أعماله.
تقليله من أهميّة الأدلّة
ثالثًا، يُقلل إيرمان إلى حد بعيد من الحُجج القويّة للرأي التقليدي حول من هم كُتاب الأناجيل. فهو يكرر مرارًا وتكرارًا ادعائه بأن الأناجيل قد كُتبت بعد وقوع الأحداث بحوالي أربعين أو خمس وستين سنة من قِبَل أناس غير يهود ناطقين باللعة اليونانية ولم يكونوا يهود أو شهود عيان، بل وأنهم لم يقابلوا حتى شهود العيان.
ولكن هذا الادعاء الذي يطرحه إيرمان لا يوجد ما يُدعمه. على سبيل المثال، هناك أمور عديدة تمثل تحديًا خطيرًا في تأريخ كتابة كل الأناجيل الأربعة إلى ما بعد سنة 70م. بل أن هناك أدلة قويّة تؤكد أن إنجيل مرقس قد كُتب في الخمسينات من القرن الأول الميلادي، مما يُقلص إلى حد كبير الفجوة الزمنية التي يدعيها إيرمان بين حياة يسوع وكتابة الأناجيل.
بالإضافة لمجهود إيرمان الرائع في إنكار كل دليل تقريبًا يشير إلى قبول الأناجيل الأربعة المنسوبة إلى متى ومرقس ولوقا ويوحنا في وقت مبكر، يُصر كذلك على أن يوحنا 24:21 ليست حُجة أن يوحنا نفسه هو كاتب الإنجيل الذي يحمل اسمه، على الرغم من معرفته بالعلماء الذين يقفوا في تضاد مع رفضه هذا، إلا أنه يتجاهل كل ما قدموه من أدلة.
ورغم إقراره باقتباس الآباء الرسوليين من إنجيلي متى ولوقا، لكنه يرفض هذه الحقيقة بحُجة أنهم لم يذكروا الأسماء صراحة (وهو أمر ليس بغريب، فقد اتبعه احيانًا كتبة العهد الجديد عند اقتباسهم من العهد القديم!).
كما أنه يُصر على رفض شهادة بابياس لمرقس ومتى لأنه على حد قوله “لا يعرف أيّ شهود عيان” (112)، برغم الدراسات الأكاديميّة الجادة والتي تشير إلى أن بابياس كان يعرف الرسول يوحنا.
وحتى يتجنّب التورّط في مسألة توحيد عناوين الأناجيل في القرن الثاني، يقدم إيرمان اقتراحًا غريبًا لم يسبقه إليه أحد، مدعيًا بأن “كان هناك نسخة ما موثوق بها ومؤثرة من الأناجيل الأربعة قد تم نشرها وتوزيعها في روما” (124).
فمن الواضح لأي قارئ لكتابات إيرمان أنه يبذل قصار جهده ليتجنب كم الأدلة الكبير التي تشير إلى الصلة بين أسماء متى، ومرقس، ولوقا، ويوحنا وهذه الأناجيل الأربعة منذ وقت مبكر للغاية في تاريخ المسيحية.
النموذج الإشكالي
رابعًا، وربما الأهم، هو افتراض إيرمان خطأً بأن المسيحيّة المبكرة كانت تقليد شفهيّ. فهو يستخدم هذا الادعاء عبر صفحات كتابه، ويستخدمه كأساس لأطروحته الرئيسية: “التقاليد في الثقافات الشفهيّة لا تبقى كما هي عبر الزمن، بل تتغيّر بسرعة وبشكل متكرر، وعلى نطاق واسع” (183). تكمن المشكلة في أن إيرمان يعلن ببساطة أن المسيحيّة كانت ثقافة وتقليد شفهيّ دون أن يثبت ذلك إطلاقًا!
ولكن من المؤكّد أن المسيحيّة لم تكن ثقافة شفهيّة. إن كون الغالبيّة العظمى من أتباعها في تلك العصور القديمة كانوا أميين، ليس أساسًا كافيًا للقفز على النتائج بالقول أن هذا الدين هو تقليد شفهيّ. وهذا ليس تناقضًا، فالأديان يمكن أن تتمتع “بالثقافة النصيّة” حتى ولو كان غالبية أتباعها لا يجيدون القراءة. تؤكد العالمة ماري بيرد (Mary Beard) في كتابها Writing and Religion هذه الحقيقة بقولها:
إن طبيعة النظام الديني يمكن تحديده بشكلٍ أساسي من خلال الكتابات والعقليات المتعلّمة، حتى في الحالات التي يكون فيها عدد قليل جدًا من ممارسي هذا الدين هم أنفسهم متعلمين… في ضوء ذلك، فإن عدد المتعلمين داخل مجتمع دينيّ هو قضيّة ثانويّة. (39)
وبالتالي فإن حجة إيرمان بأكملها معيبة من الأساس. فالمسيحية لم تكن ثقافة شفهيّة، ولكنها كانت تعتمد بشكلٍ كبير على الكلمة المكتوبة، سواء العهد القديم في السنوات الأولى لتأسيس المسيحية، أو كلا العهدين في السنوات اللاحقة.
باختصار، فإن كتاب إيرمان هذا، شأنه شأن سائر كتاباته، تجده مثيرًا، وفي أجزاء أخرى استفزازيًا. إنه يتخبط باستمرار عبر منهجيّة شديدة الشك لا تهدف سوى لإحداث ثغرات في أصالة الأناجيل. فهو يأخذ ما هو ممكن ويحوله إلى احتمال ثم في النهاية إلى حقيقة ثابتة.
ومن دواعي السخريّة، أنه كثيرًا ما يتهم المسيحيين الأصوليين باستخدام هذه المنهجيّة!
[1] Bart Ehrman, Jesus Before the Gospels: How the Earliest Christians Remembered, Changed, and Invented Their Stories of the Savior.