فيما يتعلَّق بالروح القدس، ينتمي غالبية الإنجيليين إلى واحدٍ من طرفي نقيض. يبدو البعض مهووسين به، ويتواصلون معه بطرقٍ غريبة وغامضة. ودائمًا ما تتزامن اختبارات هؤلاء للروح القدس مع لحظة نشوة عاطفية، تسبَّب فيها الصخب الموسيقي في خدمة عبادة، أو تجمُّع غريب من الأحداث: “كنت أصلِّي بشأن ما إن كان ينبغي أن أطلب من راتشيل الخروج معي في موعدٍ أم لا، وفجأة رأيتُ لوحة إعلانات يبدو لون خلفيتها هو نفسه لون عيني راتشيل، فأصابتني بالقشعريرة — وعلمتُ حينئذ أن هذا هو الروح القدس!”
بعض المؤمنين الآخرين يتجاهلون خدمة الروح القدس تمامًا. فهم يؤمنون به، لكنهم يتواصلون معه بالطريقة نفسها التي أتواصل بها مع غدتي النخامية: أنا ممتن حقًا لوجود هذه الغدة، وأعلم أنها ضرورية لأجل شيء ما، ولستُ على استعداد البتة أن أفقدها … لكنني فعليًا لا أتفاعل معها. بالنسبة لهؤلاء المؤمنين، ليس الروح القدس شخصًا نشطًا وديناميكيًا، بل هو أقرب إلى نظرية.
لكن، قطع يسوع لتلاميذه أروع وعد بشأن الروح القدس، وهو وعدٌ مذهل لدرجة أنني أعتقد أن كثيرين منا لا يأخذونه فعليَّا على محمل الجد؛ فقد قال إن رجوعه إلى السماء كان لفائدتهم إن كان هذا يعني أنهم سينالون الروح القدس (يوحنا ١٦: ٧). إن سألتَ المؤمنين اليوم إن كانوا يفضِّلون وجود يسوع بجوارهم أم وجود الروح القدس بداخلهم، فأيُّهما سيختار غالبيتهم؟
ألا يُظهِر هذا كَم نحن بعيدون بشدة عن استيعاب ما كان يسوع يقدِّمه لنا؟
يَظهَر الروح القدس ٥٩ مرة في سفر أعمال الرسل، وفي ٣٦ مرة منها كان يتكلَّم. لكن قد يقول البعض: “انتظر لحظة! لا يسعنا استخدام سفر أعمال الرسل كنمط لعصرنا الحالي! فقد كان الرسل جماعة فريدة”. أتفهَّم جيدًا أن سفر أعمال الرسل كان حقبة خاصة من التاريخ الرسولي، لكن لا يمكنك إقناعي بأن السفر الوحيد الذي قدَّم لنا فيه الله أمثلة عن كيفية سلوك الكنيسة بالروح مليء بقصص لا علاقة لها بزماننا هذا. كما قال جون نيوتن (John Newton): “هل صحيح أن ذلك الشيء الذي اعتمدت عليه الكنيسة الأولى بشدة — أي قيادة الروح القدس — لا علاقة له بنا اليوم؟”
كيف نختبر حضوره؟
كيف إذن نختبر حضوره؟ قطعًا رأينا هذا السؤال يساء الإجابة عليه كثيرًا. وكما ذكرتُ قبلًا، يساوي كثيرون بين تحرُّكات الروح القدس والنشوات العاطفية، أو الانطباعات غير العقلانية، أو التجمُّع العشوائي للأحداث. حين أدرس الكتاب المقدس، أرى ست وسائل يمكننا بها اختبار حضوره: في بشارة الإنجيل، من خلال كلمة الله، من خلال مجتمع الكنيسة، في مواهبنا الروحية المتنوعة، في أرواحنا بالشركة معه في الصلاة، ومن خلال تحكُّمه السيادي في ظروفنا.
١- في بشارة الإنجيل:
من أكثر الاكتشافات التي أثارت دهشتي بينما كنتُ أؤلف كتاب “Jesus, Continued…” (Zondervan, ٢٠١٤) هي المرات الكثيرة التي ساوى فيها بولس الملء بالروح بالتعمُّق في رسالة الإنجيل. على سبيل المثال، في أفسس ٣: ١٤-١٨، يصلِّي الرسول كي يتحلَّى أهل أفسس بالقوة حتى يدركوا محبة المسيح — ٱلْعَرْضُ وَٱلطُّولُ وَٱلْعُمْقُ وَٱلْعُلْوُ — كيما يمتلئوا “إِلَى كُلِّ مِلْءِ ٱللهِ”. بحسب بولس، كان هذان الشيئان — أي إدراك محبة المسيح في بشارة الإنجيل والامتلاء “إِلَى كُلِّ مِلْءِ ٱللهِ” — مترادفان.
شبَّه الطهوري توماس جودين (Thomas Goodwin) هذا الاختبار بما يشعر به طفل صغير يؤرجحه والده بين ذراعيه، ويديره في الأنحاء، قائلًا له: أنت ابني، وأنا أحبك!” في تلك اللحظة، لم يصر الصبي ابنًا لأبيه، من الناحية القانونية، أكثر مما كان في اللحظة السابقة. لكن حين التقطه والده بين ذراعيه، شعر ببنوته على نحو أكثر حميمية. حين يملأنا روح الله، يسكب محبة الله في قلوبنا، جاعلًا أرواحنا تنتعش قائلة: “يَا أَبَا ٱلْآبُ” (رومية ٥: ٥؛ ٨: ١٥).
٢- من خلال كلمة الله:
إن الوسيلة الرئيسية التي يعمل بها الروح القدس ويتكلَّم في حياتنا هو الكتاب المقدس. يعمل الروح القدس فينا حتى يشكِّلنا لنصير كما يريد الله، لأننا حينئذ سنفعل مشيئة الله. في كل مرة تقريبًا ترد فيها عبارة “مشيئة الله” في الكتاب المقدس، نجدها تشير إلى تشكيل طبيعتنا الأدبية استجابةً للإنجيل. لستُ على يقين إن كان هذا شيئًا نستطيع أن نضع له نسبة مئوية، لكنني أقول إن حوالي ٩٩.٤٪ من إرشادات وتعليمات الله لنا يمكن إيجادها في الكتاب المقدس. يجعلنا الروح القدس نشابه طبيعة المسيح (رومية ٨: ٢٩؛ ١٢: ١-٢)، ويعيننا على السلوك في طريق الحكمة (أمثال ٢: ٢٠-٢٢). وحين نفعل هذا، نتمم مشيئة الله.
٣- من خلال الكنيسة:
أشهر طريقة تكلَّم بها الروح القدس في سفر أعمال الرسل (غير تكلُّمه في الكتاب المقدس ومن خلاله) هو من خلال الكنيسة. على سبيل المثال، يسجِّل لنا نص أعمال الرسل ١٣: ٢ الآتي: “وَبَيْنَمَا هُمْ [أي الكنيسة] يَخْدِمُونَ ٱلرَّبَّ وَيَصُومُونَ، قَالَ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ: «أَفْرِزُوا لِي بَرْنَابَا وَشَاوُلَ لِلْعَمَلِ ٱلَّذِي دَعَوْتُهُمَا إِلَيْهِ»”. أعطى الله الكنيسة فهمًا خاصًا للعمل الذي كان ينبغي لشاول وبرنابا أن يقوما به. وطوال حياة بولس، تلقَّى تعليمات بشأن المكان الذي ينبغي أن يذهب إليه وما ينبغي أن يفعله عن طريق أعضاء من الكنيسة، كما أنه أعطى كلمات توجيه مماثلة لتيموثاوس. لا أجد شيئًا يشير إلى توقُّف الله عن التكلُّم بهذه الطريقة — مع أبنائه بواسطة الكنيسة.
٤- في مواهبنا:
يخبرنا بولس بأن “لِكُلِّ وَاحِدٍ يُعْطَى إِظْهَارُ ٱلرُّوحِ لِلْمَنْفَعَةِ” (١ كورنثوس ١٢: ٧). تصير المواهب وسيلة رئيسية يرشدنا بها الروح القدس في حياتنا. هناك مشهد في كتاب سي. إس. لويس (C. S. Lewis) بعنوان “The Lion, the Witch, and the Wardrobe” (الأسد والرداء وخزانة الملابس)، فيه يمنح الأب كريسماس كل واحد من أبناء بيفنسي عطية غامضة. لم يدرك الأبناء الأمر آنذاك، لكن هذه العطايا أثبتت أهميتها في معركتهم التي جاءت بعد هذا مع “الساحرة البيضاء”. فجأة، أدرك بيتر أنه أُعطِي السيف كي يقود به هجومًا؛ وأدركت لوسي أن عطيتها — أي المرهم الشافي — كانت كي تضمد جرحى المعركة. تعكس هذه الصورة التي رسمها لويس تصريح بولس في رسالة كورنثوس الأولى: فإننا ندرك مشيئة الله حين نتطلع إلى المواهب التي وضعها بداخلنا.
٥- في أرواحنا:
في كل الكتاب المقدس، نرى كيف كلَّف الله شعبه بمهام من خلال وضع تثقُّلات خاصة داخل أرواحهم. حين ذهب نحميا إلى أورشليم كي يعيد بناء أسوراها، لم تكن لديه وصية من الله. بل فقط قال إن الله “جعل في قلبه” أن يفعل هذا (نحميا ٢: ١٢). وحين جاء بولس إلى أثينا، يخبرنا لوقا بأن روحه “احتدت” في داخله بسبب عبادة الأوثان التي كانت تجري هناك (أعمال الرسل ١٧: ١٦). ومن الواضح أنه اعتبر هذا الاحتداد إرشادًا له بأن يبقى ويكرز بالإنجيل هناك. ولاحقًا في خدمته، أشار إلى “طموح” مقدَّس وضعه الله في قلبه بأن يكرز بالمسيح فقط حيث لم يُسمَّ (رومية ١٥: ٢٠). فحتى ذلك الحين، كانت خدمة بولس واسعة النطاق — المناداة بالإنجيل، وبناء الكنائس في كل مكان — لكن لاحقًا ضيَّق الروح القدس من بؤرة هذه الخدمة. في كلِّ حياتنا، نختبر (أحيانًا) “استياءً مقدسًا” من موقف أو ظرف معين، أو اقتحام وعد خاص من الله لظروفنا وحياتنا. عادة ما يكون هذا دعوة من الروح القدس كي نقوم بخدمة معينة.
٦- من خلال ظروفنا:
في كلِّ حياة بولس، نراه يفسِّر الأبواب المفتوحة والمغلقة باعتبارها براهين على قيادة الروح القدس. ففي رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، أوضح أنه سيبقى في أفسس كي يكرز “لِأَنَّهُ قَدِ ٱنْفَتَحَ لِي بَابٌ عَظِيمٌ فَعَّالٌ”، من الواضح أنه اعتبره قيادة من الروح القدس (١ كورنثوس ١٦: ٨). مرة أخرى، لم تأته كلمة نبوية خاصة، ولم يرَ كتابة في السماء، أو حتى ظهورًا لصورة العذراء مريم على شطيرة من الجبن المشوي — بل فقط باب مفتوح.
يمكن لهذه الوسيلة أحيانًا أن تكون خادعة، لأن الباب المفتوح لا يعني دائمًا أن هذه مشيئة الله. فقد كان يونان على متن سفينة متجهة إلى ترشيش، لكن كانت مشيئة الله له هو الاتجاه المعاكس تمامًا. هكذا أيضًا لا يعني الباب المغلق دائمًا أن هذه ليست مشيئة الله. ففي تفسير بولس لأهل كورنثوس لسبب بقائه في أفسس (الذي ذكرناه أعلاه)، ذكر أنَّ الكثير من الصعوبات والشدائد تنتظره. لم يفسر بولس تلك المصاعب بأنها براهين على أن الله يريده أن يرحل، بل أن يبقى.
لا تتمسَّك بشدة بهذه الوسائل جميعها:
الكثير من الدمار قد لحق بالكنيسة والعالم بسبب كلمات: “الرب قال لي أن …” ربما أكثر من أية كلمات أخرى. ولهذا، علينا أن نضع أفكارنا المختلفة عن تعاملات الروح القدس في توازنٍ معًا، وفي خضوع دائمٍ للكتاب المقدس، لأنه هو السجل النهائي لما يقوله الله.
إذن، عدا بشارة الإنجيل والكتاب المقدس، المفتاح هو ألا نتمسَّك بشدة بتفسيراتنا لعمل الروح القدس، بل علينا أن نُخضِع ما نشعر بأن الروح القدس يعمله في قلوبنا، أو قراءتنا لظروفنا، للكتاب المقدس ولمشورة الكنيسة. يوصينا بولس بأننا لا بد أن “نمتحن” النبوات التي تُعطَى لنا في الكنيسة. ليس الأمر علمًا دقيقًا أو معادلة دقيقة. وبقدر ما يمكن لهذا أن يخيب آمالنا، لكن ينبغي ألا يدهشنا. فقد قال يسوع، في النهاية، إن اختبار الروح القدس يشبه لقاء غامضًا وسريًا مع ريح (يوحنا ٣: ٨).