هي جماعة البشر الأكثر استراتيجيّة على وجه الكوكب. فمن خلال الخدمات التي تقدمها، تنجو قطاعات شاسعة من البشريّة من الشر وتُنتشل من أعماق اليأس. ومن خلال صوت هذه الجماعة، يُنادَى بالحياة الجديدة لحضارات كاملة. فهي جماعة من البشر تنبض بمجد الله. فأي اجتماع بشري يمكنه أن يضمن وجود مثل هذه المميّزات؟ فقط جماعة واحدة تفي بهذه المؤهّلات: كنيسة يسوع المسيح.[1]
قليلون من المؤمنين لديهم دراية بخطورة طبيعة الكنيسة التي ينتمون إليها. فمنذ عدة سنوات، حين كنت أقل القس الإنجليزي جون ستوت للموضع الذي كان سيعظ فيه، سألته عن رأيه في أكثر عقيدة مُهمَلة بين المؤمنين في العصر الحديث. وإذ كنت أفترض أنه سيقول “عقيدة الله” (فإن منظورنا عن الله محدود للغاية)، أو ربما “عقيدة الخلاص” (فإن وسائل الخلاص تعتمد على ذواتنا بشكل زائد عن الحد)، أصابتني الدهشة حين سمعته يجيب دون تردد: “عقيدة الكنيسة”. فقد كانت هذه العقيدة تبدو بالنسبة لي عقيدة فرعيّة بالنسبة للعقائد الهامة الأخرى عظيمة الشأن، وكنت أعتقد أنها بالتأكيد لا تستحق المنزلة الرفيعة التي منحها إياها هذا الرجل. لكن في السنوات التي تلت هذا، وبعد تأمّلي في التعليم الكتابي عن الكنيسة، صرت أرى الأمر بصورة مختلفة. فإن كنيسة يسوع المسيح هي محلُّ تنفيذ خطة الله للخليقة.
الكنيسة وبرنامج الله:
وفقًا لما يقوله الكتاب المقدس، يقوم الله بتنفيذ وإجراء خطة ذات أبعاد كونيّة. فهو الآن يعمل على رد كل شيء وإخضاعه لمجده. وحين كتب الرسول بولس للمؤمنين في أفسس، أبدى ملاحظة مدهشة: أن الله “يجمع كل شيء — ما في السماء وما على الأرض — تحت رأس واحد وهو المسيح” (أفسس ١: ١٠).[2] ويوضح بولس بعد بضعة أعداد قليلة الموضع المحدّد لوقوع هذا “الجمع” الشامل، فإن الله قد جعل المسيح “رَأْسًا فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ” (أفسس ١: ٢٢).
من اللافت للنظر أن الكنيسة تعد هي نقطة البداية في مشروع الإصلاح الطموح الذي يجريه الله. إنها القاعدة الرئيسيّة لتنفيذ عمل الله في العالم، أي هي الموضع الذي يتم فيه جمع وجذب “كل شيء” معًا تحت إمرة المسيح. فإن أردنا أن نرى ما يعمله الله على هذا الكوكب — ومن قد يرغب في أن يفوته شيء بهذه الروعة؟ — فلابد لنا أن ننظر إلى الكنيسة. فهناك، وهناك فقط، نجد شعبًا مجتمعًا معًا وممتلئًا بكل ملء الله (أفسس ١: ٢٣؛ ٣: ١٩).
إن الرابطة بين المسيح والكنيسة هي رابطة تكاد تكون كاملة لا تنفصم. فالكنيسة هي جسد المسيح، والمسيح هو رأسها (كولوسي ١: ١٨). هذه الكنيسة تدوي بصدى قوة قيامة المسيح نفسه (أفسس ١: ١٩-٢٠). وتجسّد محبته (أفسس ٥: ٢). وتظهر ملئه (كولوسي ٢: ٩-١٠). فهي “الإنسان الجديد” الذي يصل إلى قياس قامة ملء المسيح نفسه (أفسس ٤: ١٣). ومع ذلك فإن الكنيسة أيضًا مميَّزة عن المسيح. فهي عروسه (أفسس ٥: ٢٥-٢٧). تلك التي يقوتها ويربيها كجسده (أفسس ٥: ٢٩). وهي مستودع حكمة الآب (أفسس ٣: ١٠). والموضع الذي فيه يأخذ الله كل المجد (أفسس ٣: ٢١). وهي منارة النور الإلهي، وعربون المجد السماوي (أفسس ١: ١٨).
شعب الله كعشيرة:
ربما تكون أفضل وسيلة لتصور الكنيسة — أي لتعليل كل من الرابطة العضويّة التي تربطها بالمسيح وأيضًا لتعليل تمّيزها عنه — هو أن نتخيلها في صورة عشيرة متّصلة معًا برابطة عضويّة أو رابطة الدم. فإن أعضاء الكنيسة هم “أقارب تربطهم رابطة الدم”. فهم لديهم الآب ذاته، الَّذِي مِنْهُ تُسَمَّى كُلُّ عَشِيرَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَعَلَى الأَرْضِ (أفسس ٣: ١٤). ولهم الأخ البكر ذاته، وهو المسيح (عبرانيين ٢: ١٧)، الذي بدمه المسفوك على الصليب قد صالحهم مع الآب السماوي (كولوسي ١: ٢٠). كما أنهم يشتركون في علاقة أخوة مع إخوتهم الروحيّين، إخوة وأخوات في المسيح (كولوسي ١: ٢)، الذين تصالحوا مع بعضهم البعض بنفس دم الصليب (أفسس ٢: ١٣).
إن الكنيسة كعشيرة بوجه خاص تشكّل قاعدة عمل الله في الخليقة. لا ينبغي أن يدهشنا هذا، لأن الله لطالما عمل من خلال عشائر وقبائل. فمنذ البدء صاغ الله برنامجه على أساس العشيرة. وسيكون نافعًا لنا بشكل كبير، فيما نسعى لفهم دور الكنيسة الفريد والقوي، أن نغامر بالرجوع إلى التاريخ البدائي، وننظر إلى العشيرة الأولى، أي عشيرة آدم وحواء، ونلاحظ كيف أن اتّحادهما معًا هو صورة لما ستصير عليه لاحقًا كنيسة يسوع المسيح.
العشيرة الافتتاحيّة:
لا تتوقف دراما اليوم السادس للخلق البتة عن إدهاشنا. ففي هذا الوقت صنع الله تحفته، الإنسان، وورَّثه جنة مذهلة ورائعة الجمال. وبدا أن المخلوق الجديد لا يعوزه شيء. فقد كان المستفيد من سخاء لا يُقدَّر بثمن أغدقته عليه يدا خالقٍ محب. ومع ذلك، ومما يثير الدهشة، كان هناك خلل ما. فإن شيئًا ما “لم يكن حسناً” أو جيّداً. فقد كان الإنسان الوحيد ينقصه “معين”، وشخص نظيره (تكوين ٢: ١٨). فهو، إذ كان وحده، لم يكن سوى قطعة من أحجية مكونة من قطعتين، وكانت القطعة الأخرى مختفية عن المشهد. وهكذا، لم يكن محرومًا فحسب من تعزيات الرفقة، لكن الأهم من ذلك أنه كان عاجزًا عن اتمام الغرض المُعيّن له في الخليقة.
فقد خُلق الإنسان ليحمل صورة الله، وليظهر شبهَ صانعه (تكوين ١: ٢٦). وهذه المهمة الضخمة لم يكن من الممكن أن تتحقق بالعزلة. وهكذا فحين كوَّن الله الإنسان، خلقه “ذكرًا وأنثى” (تكوين ١: ٢٧). بكلمات أخرى، لقد صنع الله الإنسان في صورة عشيرة، خاضعة للعلاقات بين الأفراد، تلك العلاقات الموجودة بالطبيعة داخل كل عشيرة. هذا العنصر العلاقاتي للصورة الإلهيّة ليس بالأمر الذي يفاجئنا، نظرًا لحقيقة أن الله نفسه هو عشيرة في علاقات ثالوثيّة — بين الآب، والابن، والروح القدس. وهكذا، فإن إعلان الصورة الإلهيّة كان يتطلّب شخصين على الأقل. فإن الإنسان يحتاج إلى معونة لأجل إتمام دعوته السامية. فهو يحتاج إلى عشيرة.
وقد أوكلت العشيرة الأولى مهمة رفيعة المستوى. فلم يكد الله يستثمر صورته في آدم وحواء، حتى أصدر الإلزام والأمر الآتي: “أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا” (تكوين ١: ٢٨). فإن ما يبدو لنا وكأنه وصفة للزيادة السكانيّة هو فعليًا وصفة للبركة البيئيّة. فإن الله بدعوته لتكاثر العشائر، ينوي أن يغرق الكوكب بوحدات علاقاتيّة تعلن صورته، حتى يتم إخضاع كل ركن وكل زاوية من الخليقة من خلال وجود صورة الله فيه. فتحت الحكم السيادي لإله كلي الحكمة، تعد العشيرة هي الوسيلة التي من خلالها ستعم صورة الله الثالوث أربعة أركان الأرض.
شعب الله، وصورة الله، والمسيح:
لكن هذا يدفع بنا دفعًا إلى طرح هذا السؤال: أي جانب من الصورة الإلهيّة من المفترض للعشائر أن تنشره؟ أو علاوة على هذا، ما هي الطبيعة الحقيقيّة لصورة الله؟ عبر العصور السالفة قادت أسئلة مثل هذه إلى الكثير من التخمينات، إذ في السياق القريب لسفر التكوين (كما في السياق الأبعد أيضًا للعهد القديم بأكمله)، لم يتم تسليط الكثير من الضوء على طبيعة صورة الله. ولهذا السبب، توصل الرابيّون الذين كانوا يجتهدون فيما بين العهد القديم والعهد الجديد إلى أفكار من ابتكارهم، وعملوا للربط بين الصورة الإلهيّة ومجد الله. فأن تُظهر صورة الله هو في رأيهم أن تعكس مجده. وبما أن التفسير لم يكن موحى به من الله، فهو قد يبدو لنا اليوم ليس وثيق الصلة بنا، فيما عدا حقيقة أن واحدًا من أولئك الرابيّين، وهو فريسي اهتدى إلى المسيحيّة، كتب رسائل كرّر فيها مرة أخرى فكرة وجود رابطة بين صورة الله ومجد الله. وكانت تلك الرسائل، أي رسائل الرسول بولس، موحى بها! ففيها يكتشف بولس آفاقًا جديدة، ويحدد رابطة أكثر استراتيجيّة: أي صلة بين صورة الله ومجد يسوع المسيح.
وبحسب فكر بولس، فإننا نرى في المسيح بشكلٍ كاملٍ صورة ومجد الله (٢ كورنثوس ٤: ٤؛ كولوسي ١: ١٥). فإن طبيعة الصورة الإلهيّة إذن لم تعد مسألة تخمين، إذ لا يلزمنا سوى النظر إلى المجد الإلهي في وجه يسوع المسيح (٢ كورنثوس ٤: ٦). وتعد الفقرة التي تقدّم على الأرجح أدق تعريف لصورة الله في كتابات بولس هي ترنيمة فيلبي ٢ الشهيرة. فإننا نقرأ هذا النص كالتالي في ترجمة موسّعة:
الَّذِي [المسيح] إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً للهِ [في الترجمة الإنجليزية: لم يحسب مكانته الرفيعة فرصة لتعظيم ذاته بل بالأحرى دعوة لفعل النقيض تمامًا]. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، [ووضع نفسه] آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ [في الترجمة: خضع للموت ميتة عبد] مَوْتَ الصَّلِيبِ [حتى تلك الميتة المُنفّرة بشكل لا يمكن تصوّره للصليب]! (فيلبي ٢: ٦-٨)
من غنى المعادلة مع الله التي لا يُنطق بها إلى أفقر ميتة في العصور القديمة، ومن سمو بعيد عن الفحص إلى أعماق بعيدة عن التصور، من طرف قطب إلى الآخر، هذا هو قياس موت المسيح الإخلائي. فهو أروع تعبير تاريخي على الإطلاق عن المحبة الباذلة المُضحّية. وبحسب قول بولس، هو أيضًا أوضح إعلان عمّا يعنيه إعلان صورة الله. فإننا في يسوع نرى صورة وشبه الآب السماوي. وفي الصليب ننظر صورة الله، وبالتالي نرى الكيفيّة التي ينبغي بها أن تكون العشائر المخلوقة على صورته. فهو صورة لمحبة غير محدودة.
شعب الله، وصورة الله، والمحبة:
تتفق هذه الصورة مع ما نعرفه عن الله في كل موضع آخر في الكتاب المقدس. يقول الرسول يوحنا: “اللهَ مَحَبَّةٌ” (١ يوحنا ٤: ٨، ١٦). وإن محبته لهي محبة لا مثيل لها على الأرض، تفوق تلك المحبة السطحيّة، والمشروطة، والعاطفيّة التي تسود بين أنصار هذا المصطلح في عصر ما بعد الحداثة. فالمحبة الإلهيّة هي محبة خارقة للطبيعة، وهي ذلك النوع من المحبة الذي وحده الرب ومن يحملون صورته قادرون على أن يقدّموها. فهي محبة “أعظم” (يوحنا ١٥: ١٣)، ومحبة على استعداد أن تضع نفسها (١ يوحنا ٣: ١٦)، وأن تستوعب داخل كيانها حياة شخص آخر (لوقا ١٠: ٢٥-٣٧)، وأن تضحّي بكل شيء لافتداء حياة آخرين (مرقس ١٠: ٤٥). علاوة على ذلك، هي بالتحديد تلك المحبة المتبادلة بين أعضاء الذات الإلهيّة. فإن الآب يحب الابن (يوحنا ١٧: ٢٦)، والابن يحب الآب (يوحنا ١٥: ٩)، والروح القدس يمجّد الآب والابن (يوحنا ١٤: ٢٦).
قام العديد من الكُتّاب بتعريف هذه المحبة الموجَّهة نحو الآخر باعتبارها السمة المميزة للذات الإلهيّة. “فإن جوهر الله هو المحبة، الموجودة سرمديًا وبالضرورة بين أقانيم الذات الإلهيّة”.[3] فإن الله “الثلاثي الأقانيم” يُظهِر “محبة غير محدودة في العلاقة”.[4] فإن “المحبة الباذلة للنفس هي تلك العملة المتداولة في حياة الله الثالوثيّة”.[5] وهكذا، فإن “صورة الله” هي صورة تعبّر عن ذاك الذي “محبته، حتى قبل خلق أي شيء على الإطلاق، هي محبة موجَّهة نحو الآخر”.[6]
الشيء الأخّاذ على نحو أكبر في محبة الله، والذي هو بالتأكيد وثيق الصلة بفهمنا عن الكنيسة، هو أن الرب يريد أن نشترك معه في محبته، ليس فقط بأن يجعلنا موضوع تلك المحبة، بل أيضًا بتأهيلنا كي نشارك آخرين بتلك المحبة. فهو، بخلقه إيّانا على صورته، قد أهّلنا كي نقدّم نسخة طبق الأصل من محبة العلاقات المتبادلة بين عشيرة الثالوث، والمتبادلة بين أعضاء عشائرنا، المحبة التي يتردّد صداها داخل الذات الإلهيّة المقدّسة.
وحين نتمّم رسالتنا، وحين تنتشر هذه العشائر الموزِّعة للمحبة في جميع أنحاء الكرة الأرضيّة، فإننا حينئذ نُخضِع هذا الكوكب بنوع من الإدارة تسبّب الرخاء للعالم ولكل ما يحويه. فمن خلال الهجرات بعيدة المسافات للعشائر التي تعكس صورة الله الباذلة للنفس، فإن الخليقة تنفجر في ترنيمة من الشكر الجياش لخالقها.
شعب الله، وصورة الله، والخطية:
لكن توجد مشكلة، فإن شعب الله لم يكونوا أمناء تجاه المأموريّة التي أُوكلوا إيّاها. فبدلاً من أن يُظهروا المحبة الباذلة، أظهروا الجشع. “فَرَأَتِ الْمَرْأَةُ … الشَّجَرَةَ … فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ، وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضًا” (تكوين ٣: ٦). وعلى نحو مأساوي، صارت خطية العشيرة الأولى هي حال كل عشيرة: “إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ” (رومية ٣: ٢٣). فبدلاً من أن تنشر العشائر مجد صورة الله في جميع أنحاء الأرض، جدت في أثر مجدها الشخصي، وألحقت ظلمة مروعة بالكوكب. بل وإن كل علّة أرضيّة يمكن أن تُنسَب إلى هذا الخلل الآدمي الواحد. وكل تفكّك وانقسام في العلاقات — سواء كان سوء معاملة بين الأشخاص، أو نزاع عرقي، أو شقاق دولي — ينبع من الإخفاق في تجسيد مجد محبة الله.
لكن دراستنا لشعب الله كانت لتؤدي بنا إلى توقف باغت لولا حقيقة أن محبة الله للخطاة أقوى من إدانته للخطية. بالتأكيد يبغض الآب السماوي الخطية. فهي تمثّل إساءة شخصيّة له. وتُبخس من قدر مجده في العالم، وتطمس بهاء الرجال والنساء المخلوقين على صورته. فأي أب صالح لن يهتاج غضبًا من انحدار أبنائه؟ ومن يمكنه أن يلوم مثل هذا الأب، إن قام في غضبه، بالتخلّي عن نسله تاركًا إيّاهم لعواقب تمرّدهم — بل وتاركًا عشائره لسرطان تمركزهم حول ذواتهم؟
إنقاذ شعب الله:
حقًا، مما يصيبنا بالذهول أن أبانا السماوي قد ابتكر خطة إنقاذ للبشريّة. إذ انتخب عشيرة واحدة من عدد وفير من العشائر، ملزمًا هذا الشعب المختار أن يسطع مرة ثانية ببهاء مجد صورته في العالم. أولاً، كانت عشيرة نوح، إذ حُفظت من الطوفان، هي التي دعيت لتكثر وتملأ الرض (تكوين ٩: ١). لكن للأسف، سقط نوح وذريته في الخطية ذاتها التي حطّمت آدم وحواء.
وهكذا اختار الله عشيرة أخرى، وهذه المرة كان رأسها هو أبانا إبراهيم، وأوكل لنسله مهمة أن يكونوا شعبًا فيه “تَتَبَارَكُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ” (تكوين ١٢: ٣). لكن هذه العشيرة أيضًا سقطت في الخطية، مُبخسة من قدر مجد الله وصورته، مختزلة إيّاها إلى مجرد ومضة من القصد الأصلي منها. لكن الله مرة تلو الأخرى قام بتجديد شعبه، مقيمًا صورًا ونسخًا جديدة من أمة إسرائيل، داعيًا إيّاهم كي يكونوا أوفياء تجاه عهده وأن يظهروا صفاته في جميع أنحاء العالم. لكن مرارًا وتكرارًا — ولو مع وجود أمثلة ومواقف نادرة من النجاح — تخفق إسرائيل في أن تحيا بمقتضى دعوتها.
من الواضح أن عشيرة الله كانت عاجزة عن تتميم المهمة الإلهيّة. فهي بها خلل في لب جوهرها وكيانها. إذ هي في الأساس لا تمجّد الله. بل تسعى نحو مجدها الذاتي. وبسبب قساوتها الداخليّة، صارت إسرائيل على النقيض ممّا قصد الله لشعبه أن يكون عليه.
لكن إخفاق شعب الله المختار لم يأخذ الله على حين غرة، بل ولم يحبط خطته للخليقة. بل إلى حد كبير، كان الجزء الأكبر من الخطة لازال عتيدًا أن يأتي. ويقدم العهد القديم مفاتيح مثيرة عن الإعلان التام والمطلق. سيقطع الله “مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ عَهْدًا جَدِيدًا”، فيه يُباد خلل الخطية. “أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ” (إرميا ٣١: ٣١-٣٣). “وَأُعْطِيكُمْ قَلْبًا جَدِيدًا، وَأَجْعَلُ رُوحًا جَدِيدَةً فِي دَاخِلِكُمْ” (حزقيال ٣٦: ٢٦-٢٧).
فإن الله بروحه كان سوف يجري عمليّة جراحيّة في القلب، غارسًا نزعة وقوة محركة جديدة داخل القلوب البشريّة، أي شريعة داخليّة عرَّفها الرسول بولس بأنها ناموس المحبة: “لأَنَّ كُلَّ النَّامُوسِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُكْمَلُ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ” (غلاطية ٥: ١٤). هذا الوعد مذهل. فمنذ زمن سحيق، كان قصد الله هو أن ينتخب عشيرة جديدة سيتنقّى قلبها من خلل الخطية، وتمتلئ بناموس المحبة، والذي هو قوّة محرّكة مكّنها لها روح الله نفسه الساكن فيها. فإن الخليقة تنتظر بتوق ولهفة بزوغ هذه العشيرة!
التنبّؤ عن شعب جديد:
يتطلّع النبي إشعياء إلى هذه العشيرة المخلوقة ثانية. ويقوم بتعريف “إسرائيل” الجديدة بأنها عبد الرب، الذي (بكلمات تذكّرنا بسفر التكوين) سيكون “نُورًا لِلأُمَم لِتَكُونَ خَلاَصِي إِلَى أَقْصَى الأَرْضِ” (إشعياء ٤٢: ٦؛ ٤٩: ٦). لم يعلن إشعياء بالتحديد قط عن زمن مجيء هذه العشيرة، لكنه قد أمدّنا بالفعل بمفاتيح هامة. فإن ولدًا سيُولد (إشعياء ٩: ٦-٧)، وهذا الولد سيصير عبدًا يقاسي آلامًا لا يُنطق بها (إشعياء ٥٢: ١٣ – ٥٣: ١٢).
عند هذه المرحلة، تزداد صعوبة حل لغز وغموض المفاتيح. فأحيانًا يتم ربط هذا العبد بعشيرة الله (إشعياء ٤١: ٨)، وأحيانًا أخرى يُعرَّف على أنه شخص واحد (إشعياء ٤٩: ٦-٧). أما الكيفيّة التي بها يمكن لهذا العبد (الذي من آلامه ستأتي على الأرجح بشريّة جديدة) أن يكون جماعة من البشر وأيضًا أن يكون شخصًا واحدًا، فهي قد تُركت لفكر وتأمل القارئ. لكن مع مرور القرون، يتضح كل شيء: ففي مدينة صغيرة، وفي مقاطعة منعزلة في الضفة الشرقيّة للبحر المتوسط، وُلد ولدٌ. في “مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ” (غلاطية ٤: ٤).
المسيح وشعب الله:
هذا الابن — الذي دعي اسمه يسوع، والذي كانت دعوته هي أن يكون المسيّا، والذي لُقّب بالرب — كان من شأنه أن يتمّم الخطّة الأزليّة التي تنبّأ بها إشعياء. ويتهلّل الرسول بولس بأن يقدم تعريفًا لهذه الخطة: “السِّرِّ الْمَكْتُومِ مُنْذُ الدُّهُورِ… لكِنَّهُ الآنَ قَدْ أُظْهِرَ… الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ رَجَاءُ الْمَجْدِ” (كولوسي ١: ٢٦-٢٧). هنا وأخيرًا نعاين وصول سكنى حضور الله، الذي أشار إليه الأنبياء، أي مجد صورة الله المنقوش على قلوب البشر، وإحلال الخطيّة بناموس المحبة الداخلي. فإن المسيح، الذي مثَّل موته الإخلائي على الصليب التعبير الكامل والمثالي عن المحبة الإلهيّة، يأتي الآن ليمكث فينا. فإن محبة الله الخارقة للطبيعة يمكنها، بسبب سكنى حضور المسيح، أن تتكمل في قلوبنا (١ يوحنا ٤: ١٢).
جسد المسيح: شخصي وجماعي
بسبب تركيزنا على طبيعة الكنيسة ودورها، من الضروري أن نقر بأن محبة المسيح الساكنة فينا تنسكب في جماعة متعدّدة من القلوب البشريّة. فحين كان الرسول بولس ينقش هذه الكلمات القاطعة في المخطوطة: “الْمَسِيحُ فِيكُمْ رَجَاءُ الْمَجْدِ”، كان يشير (باستخدامه لضمير الجمع “فيكم”) إلى أنها بركة تُمنَح لجماعة من البشر.
هذا لا يفترض أن المسيح لا يسكن في القلوب على نحو فردي. بل هو بكل تأكيد يفعل هذا، لكن ليس في قلوب منعزلة عن قلوب أخرى. ففي النهاية، يأتي المسيح ليسكن في عشيرة من القلوب (٢ كورنثوس ٤: ٦). وأين يمكننا أن نجد على الإطلاق مثل هذه العشيرة الممتلئة بالمحبة؟ إن كلمة الله توضح هذا جيدًا، أننا نجد هذا في الجسد الذي رأسه يسوع المسيح، أي في الكنيسة التي تحمل اسمه.
وأخيرًا وصلنا إلى مرحلة يمكننا فيها فهم العَجَب الكامل لهذه الجماعة المقدسة. لكن قبل أن نستخلص العديد من التطبيقات، من الهام أن نضع في اعتبارنا نقطة حيويّة: بينما يتم منح العضويّة في الكنيسة مجانًا ودون مقابل، إلا أنها ليست إنجازًا يحدث تلقائيًا. بل هو شيء تم الحصول عليه بثمن باهظ. فإننا بالطبيعة ممتلئون بالخطية، وغير مؤهّلين تمامًا لسكنى حضور الرب. لكن على الصليب، وفي فعل بذل للذات يفوق بمراحل أي شيء حدث قبلاً على الإطلاق في التاريخ، أبطل المسيح دين خطايانا، ووضع بره في حسابنا [المترجم: حسب لنا بره] (كولوسي ٢: ١٣-١٤؛ ٢ كورنثوس ٥: ٢١).
ليس هذا فحسب، لكنه أيضًا قطع رباطات الخطايا بأن صار أول إنسان على الإطلاق يمضي حياته كاملة دون أن يلهث وراء مجده الذاتي، إلى حد خضوعه طوعًا لعار الموت على صليب (١ يوحنا ٣: ٥). ومن خلال دحره التام للخطية على هذين الصعيدين — أي تسديده لثمن عقوبة الخطية وكسح سلطانها — يؤهّلنا المسيح للعضويّة في جماعته المقدسة. فقد كان دخولنا إلى جسد المسيح أمرًا مُكلّفًا بالنسبة له، ولا يقدر بثمن بالنسبة لنا.
في كثير جدًا من الأحيان، نفكر في الصليب فقط من حيث تطبيقه على الأفراد. فبسبب إنجيل يسوع المسيح، يمكن للبشر أفرادًا أن يخلصوا من غضب الله، ويُكفل لهم موضع في أبديّة سماويّة. وفي حين لا ينبغي الحط من قدر هذه الحقائق بأيّة صورة من الصور، بل بالأحرى تقديرها في حمد من كل الكيان، لكن أن نحصر ثمار عمل المسيح في خلاص قلوب فرديّة، هو بمثابة قراءتنا للكتاب المقدس عبر العدسة الفرديّة التي يتميّز بها عصرنا. فإن كل من تصالح فرديًا في جسم بشريّة المسيح يتم غرسه وتثبيته في جسد المسيح المشترَك والجماعي. “لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضًا اعْتَمَدْنَا إِلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ” (١ كورنثوس ١٢: ١٣). وإنه لداخل هذا الجسد المشترَك والجماعي، أي داخل شعب الله الذي تكوّن حديثًا في المسيح وبالمسيح، يتم، فوق الكل، تعريف الأبعاد الأكبر لخطط الله للخليقة، تعريفًا أخّاذًا.
جسد المسيح: محلي وكوني
إن كنيسة يسوع المسيح هي جسد ضخم للغاية، لا يقل عن كونه جماعة من المؤمنين بالمسيح في جميع أنحاء العالم. بكلمات أخرى، هي كنيسة كونيّة. ولكن — وهنا لدينا تفرقة محوريّة وهامة — هذه الكنيسة الكونيّة لا تختبر القوة إلا حين تكون مظاهرها المحليّة نامية ومزدهرة. فإن دراما خطة الله للخليقة تتضح وتتبلور على نحو خاص على صعيد الاجتماع المحلي. ولهذا السبب يصلي الرسول بولس بصورة خاصة لأجل الكنائس المحليّة في غلاطية وأفسس، ويزور الكنائس المحليّة في كورنثوس وفيلبي، ويكتب للكنائس المحليّة في رومية وتسالونيكي — رسائل كثيرًا نفسرها على الصعيد الفردي في خصوصية قراءاتنا اليوميّة للكتاب المقدس، إلا أن محتواها كان موجهًا في المقام الأول لبناء مجتمعات كاملة من البشر، يطلق عليها الكنائس المحليّة.
وهناك سمة معينة تميّز البُعد الجماعي والمشترك لخطة الله. فإن العالم ذاته ليس سوى تشكيلة من العلاقات الإنسانيّة، غالبيّتها مُحطّمة، ومُمزّقة من جرّاء الشقاقات والنزاعات، خربة تمامًا من جرّاء اللهث الذاتي وراء الخطيّة. فإن غياب الوحدة يسود على جميع الأصعدة، بدءًا من الوحدات العلاقاتيّة الضيقة النطاق كالزيجات (حيث أن ما يقرب من نصف جميع الزيجات في أمريكا الشماليّة تنتهي بالطلاق) إلى الوحدات واسعة النطاق كالدول (حيث أن ما يقرب من أربعين حربًا في الوقت الحالي يتم شنّها على الصعيد الدولي) إلى كل شيء يقع بينهما (حيث تقطع خيوط النزاع قطعًا غائرًا بين الأجناس، والأعراق، والأحزاب السياسيّة، والأجيال، والميول الجنسيّة، وقائمة من العلاقات الأخرى الكثيرة جدًا). فإن الكسور والانقسامات داخل الوحدات العلاقاتيّة هي الظلمة الأكثر إحداقًا بعالمنا.
الوحدة في الكنيسة:
إلا أن الكنيسة المحليّة لديها المؤهّلات على نحو مميز واستثنائي لتبديد هكذا الظلمة. فإن وحدة مدهشة ومذهلة تسود داخل عشيرة الله. وقد تم إصلاح العلاقات التي انكسرت قبلاً على نحو خارق للطبيعة. حتى اليهود والأمم، هذان العرقان اللذان اشتهرا بالعداء المتبادل، قد اجتمعا معًا إلى جسد واحد. وكيف هذا؟ لقد صاروا “قَرِيبِينَ بِدَمِ الْمَسِيحِ” (أفسس ٢: ١٣). وقد تصالحوا “فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللهِ بِالصَّلِيبِ، قَاتِلاً الْعَدَاوَةَ بِهِ” (أفسس ٢: ١٦). فقد سدّد المسيح ضربة قاضية إلى الخطية المسبّبة للانقسامات، وإلى الأوبئة الاجتماعيّة من أنانية وكبرياء، وهكذا حطّم حوائط الانقسام، وجمع في إنسان واحد بيتًا جديدًا وعائلة جديدة فيها “كُلُّ الْبِنَاءِ مُرَكَّبًا مَعًا، يَنْمُو هَيْكَلاً مُقَدَّسًا فِي الرَّبِّ… مَسْكَنًا للهِ فِي الرُّوحِ” (أفسس ٢: ١٥، ١٩-٢٢).
فإن الله، بواسطة المسيح، يجعل موضع سكناه وراحته في هذه العشيرة المكوّنة حديثًا. هذا أمر حسن، إذ بهذه المحبة المُخلية للذات، التي تسكن القلوب الجماعيّة لهذا الإنسان المقدس، رابطًة بين أعضائه معًا بثبات وقوة أكثر فأكثر، تصير هذه العشيرة المتّحدة حديثًا هي منارة الرجاء للعشائر المُحطّمة والمُفكَّكة في العالم. فمن خلال الكنائس المحليّة، فيما تكثر وتملأ الأرض، يصير مجد المسيح المُوحِّد مرئيًا أمام عيون العلاقات المُمزّقة في الكوكب.
المواهب الروحيّة:
من الهام أن نقدر قيمة الكيفيّة المحدّدة التي تعمل بها محبة الله على نحو عملي. فمن الجدير بالملاحظة أن كل فرد وُلد ثانية في المسيح يُقبِل إلى الكنيسة المحليّة ومعه ميراث خارق للطبيعة تركه له إله رحيم، وهي موهبة من الروح القدس، أي موهبة خاصة وفريدة. قد تكون هذه الموهبة هي موهبة الخدمة، أو التعليم، أو الإيمان، أو التدبير، أو أيّة مواهب أخرى (للاطلاع على القوائم انظر رومية ١٢: ٦-٨؛ ١ كورنثوس ١٢: ٧-١٠).
ولا ينبغي قط الاستهانة بأيّة موهبة، فإن كل واحدة تمثل هبة ضخمة وعظيمة، تم منحها وتخصيصها “حَسَبَ قِيَاسِ هِبَةِ الْمَسِيحِ” (أفسس ٤: ٧)، وكل واحدة منها فعّالة بصورة ديناميكيّة، “يَعْمَلُهَا الرُّوحُ الْوَاحِدُ بِعَيْنِهِ” (١ كورنثوس ١٢: ١١). فإن الله يُوزّع المواهب بين شعبه استراتيجيًا، كافلاً أن يتم إمداد الكنائس المحليّة بالموارد اللازمة كي تزدهر لمجده؛ فهو يرتّب “الأَعْضَاءَ، كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي الْجَسَدِ، كَمَا أَرَادَ” (١ كورنثوس ١٢: ١٨).
وها هو أهم شيء ينبغي أن نفهمه عن المواهب الروحيّة: أنها مُعطاة بالروح القدس كي تُعطى، وكي تفيض على أعضاء الجسد الآخرين ليحصل نمو الجسد، “لِبُنْيَانِ جَسَدِ الْمَسِيحِ” (أفسس ٤: ١٢). فحين يفيض كل عضو من الكنيسة المحليّة بموهبته، وحين يستثمر كل فرد في الآخرين روحيًا، تكون النتيجة مذهلة بكل المقاييس: يرتبط أعضاء الكنيسة معًا في وحدة مجيدة. “كُلُّ الْجَسَدِ مُرَكَّبًا مَعًا، وَمُقْتَرِنًا بِمُؤَازَرَةِ كُلِّ مَفْصِل، حَسَبَ عَمَل، عَلَى قِيَاسِ كُلِّ جُزْءٍ، يُحَصِّلُ نُمُوَّ الْجَسَدِ لِبُنْيَانِهِ فِي الْمَحَبَّةِ” (أفسس ٤: ١٦). حقًا!
حين يجود البشر بمواهبهم بسخاء على أعضاء الجسد الآخرين، فهم يجتذبون آخرين معهم إلى قوام يكاد يكون كاملاً خاليًا من الشوائب ولا ينفصم. فهم إذ يفيضون للخارج، يجتذبون آخرين للداخل. وقد تبدو قوانين الفيزياء في هذا وكأنها قد انتُهكت (إذ من قد سمع قبلاً عن دفعة للخارج تخلق وحدة كاملة لا تنفصم؟)، ومع ذلك فهذا منطقي تمامًا. فحين ينهمك كل عضو في الجسد في أن يفيض بالخدمة على الآخرين، فإن وحدة جميع الأعضاء تزداد كثيرًا حتى أنهم فعليًا يبدأون في مشابهة المسيح نفسه.
بل وإن ما يتم تبادله بينهم هي بالتحديد محبة المسيح الساكنة فيهم. وإذ تتميّز الكنيسة المحليّة بتنوع ووفرة التعبيرات عن محبة المسيح هذه كما ظهرت في الصليب، فإنها تصل إلى “قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ” (أفسس ٤: ١٣) و”[تنمو] فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَى ذَاكَ الَّذِي هُوَ الرَّأْسُ: الْمَسِيحُ” (أفسس ٤: ١٥). فأن تنظر إلى هذه الجماعة من البشر هو بمثابة أن تنظر — بالحقيقة — إلى الرب يسوع نفسه.
قوة الكنيسة:
إن قوة هذا المشهد لا ينبغي الاستخفاف بها على الإطلاق. فهو يشبه الانصهار النووي. فإن الذرّات تعد من بين أدق وأصغر عجائب الطبيعة التي لا يمكن ملاحظتها أو رؤيتها، لكن حين تنصهر ذرتان من هذه الكيانات شديدة الصغر، ينتج عن هذا تفاعل شديد القوة والضخامة. وحين تنصهر العديد من هذه الذرات المنصهرة بدورها مع ذرات أخرى، يتولّد شيء أعظم بكثير: انفجار ذات طاقة حراريّة نوويّة قادرة على إنارة مدن كاملة.
كيف يمكن لمثل هذه الذرّة الدقيقة والتي تبدو عديمة الأهميّة أن تُنتِج مثل هذه المظاهر للقوة اللافتة للنظر؟ في أيام شبابي، كنت أتأمّل في هذا السؤال عينه حين كنت أركب الأمواج في البحر على مبعدة من محطة الطاقة النوويّة (المفاعل النووي) بمدينة سان أونوفري بولاية كاليفورنيا. وبينما كنت أنتظر قدوم الموجة الجيدة، كنت أتفرّس في قبته الضخمة، وأتعجّب من الآلاف من أبراج المرافق المرتّبة مثل جيش مصطف جيدًا، وهي على استعداد لنقل كميات ضخمة من الطاقة الصادرة من جزيئات صغيرة للغاية حتى أنها لا تُرى بالعين المجرّدة. كان هذا مشهدًا أخّاذًا ومذهلاً.
ومع ذلك، فإن طاقة الانصهار النووي تعد تافهة إذا ما قُورنت بالقوة التي تسري بداخل الكنيسة المحليّة. فحين يفيض أعضاء الكنيسة المحليّة بمحبة المسيح داخل بعضهم البعض، تقع سلسلة من “الانفجارات” الشديدة، ويحدث تفاعل تلو الآخر، مولدًا طاقة تكفي ليس لإمداد مدن كاملة بالكهرباء للإنارة، ولتشغيل أفران الميكروويف، بل الأهم، أنها تجلب النور الروحي إلى عالم يحتضر في ظلمته. فأمام أعين مواطني العالم رثي الحال، الغارقين في وحل الشقاقات والانقسامات، تعد محبة الكنيسة المحليّة هي أكثر صورة منعشة ومجددة على الإطلاق. فهي ستجعل الكثيرين يرفعون أصوات التمجيد إكرامًا لمصدر هذه المحبة (متى ٥: ١٦).
المحبة والكنيسة:
ولهذا السبب، يظل حث الرسول بولس للكنائس المحليّة هو نفسه دون أي تغيير: “الْبَسُوا الْمَحَبَّةَ الَّتِي هِيَ رِبَاطُ الْكَمَالِ” (كولوسي ٣: ١٤)؛ “لاَ تَكُونُوا مَدْيُونِينَ لأَحَدٍ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِأَنْ يُحِبَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، لأَنَّ مَنْ أَحَبَّ غَيْرَهُ فَقَدْ أَكْمَلَ النَّامُوسَ” (رومية ١٣: ٨)؛ “أَمَّا الآنَ فَيَثْبُتُ: الإِيمَانُ وَالرَّجَاءُ وَالْمَحَبَّةُ، هذِهِ الثَّلاَثَةُ وَلكِنَّ أَعْظَمَهُنَّ الْمَحَبَّةُ” (١ كورنثوس ١٣: ١٣)؛ “بِالْمَحَبَّةِ اخْدِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. لأَنَّ كُلَّ النَّامُوسِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُكْمَلُ: «تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ».” (غلاطية ٥: ١٣-١٤)؛ “وَالرَّبُّ يُنْمِيكُمْ وَيَزِيدُكُمْ فِي الْمَحَبَّةِ بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ وَلِلْجَمِيعِ” (١ تسالونيكي ٣: ١٢).
والدعوة ذاتها يقدمها الرسول يوحنا: “لأَنَّ هذَا هُوَ الْخَبَرُ الَّذِي سَمِعْتُمُوهُ مِنَ الْبَدْءِ: أَنْ يُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا” (١ يوحنا ٣: ١٢)؛ “أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لِنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا، لأَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ مِنَ اللهِ” (١ يوحنا ٤: ٧). وهكذا أيضًا الرسول بطرس: “وَلكِنْ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، لِتَكُنْ مَحَبَّتُكُمْ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ شَدِيدَةً” (١ بطرس ٤: ٨). وهذه النصائح دون شك مصدرها كلمات يسوع نفسه: “بِهذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضًا لِبَعْضٍ” (يوحنا ١٣: ٣٥). فإن المحبة هي الشرط الأساسي الذي يميز عشيرة الله.
وتوجد أمثلة على كيفيّة تطبيق هذه المحبة في المجال العملي في كل موضع في الرسائل الرسوليّة: “اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ، وَهكَذَا تَمِّمُوا نَامُوسَ الْمَسِيحِ” (غلاطية ٦: ٢)؛ “[انظروا كل واحد] إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضًا. فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ” (فيلبي ٢: ٤-٥)؛ “اتَّبِعُوا الْخَيْرَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ وَلِلْجَمِيعِ” (١ تسالونيكي ٥: ١٥)؛ “وَكُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ” (أفسس ٤: ٣٢)؛ “فَرَحًا مَعَ الْفَرِحِينَ وَبُكَاءً مَعَ الْبَاكِينَ. مُهْتَمِّينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ اهْتِمَامًا وَاحِدًا” (رومية ١٢: ١٥-١٦). ويمكننا أن نكثر من الأمثلة على نحو غير محدود بما أنه لا حدود للطرق التي بها يمكن للكنيسة المحليّة أن تظهر شيئًا غير محدود كمحبة المسيح. فهي محبة فائقة المعرفة (أفسس ٣: ١٩).
لا توجد كلمات بشريّة يمكن أن تنجح في وصف الأهميّة الاستراتيجيّة لهذه المحبة. فإن الكنيسة المحليّة ومحبتها يمثلان الترياق اليقيني الوحيد المضاد لعالم ما بعد الحداثة، المتمرّغ في وحل الخطية واليأس. فإن الناس يحاولون اليوم التقدّم إلى الأمام والحفاظ على حياة ذات معنى، لكنهم بالأحرى يغرقون تمامًا في رمال متحرّكة من عدم اليقين والارتباك. وإذ يبحثون عن صداقات، يلعقون جراح نفوسهم. وإذ يلهثون وراء الرفقة، يغرقون في وحل الوحدة. وإذ يسعون وراء اليقين، يُمزّقهم الشك. وإذ يصبون نحو الأمان، يُحطّمهم القلق.
فإن البشر منهَكون تمامًا، منعزلون في ظلام عدم الرضا، ومع ذلك فهم يتقدمون بتثاقل إلى الأمام سعيًا وراء السلوان في أي شيء قد يلهيهم عن حياتهم الفارغة — سواء كان نظرهم في شاشة ما، أو زجاجة خمر، أو علاقة جنسيّة عابرة. وحين تخفق تلك أيضًا في هذا، فإن اليأس يلوح في الأفق، ويبدأون في التمني — بل وفي الصلاة — لعل صرخة ما تخرج من شخص ما في الأنحاء البعيدة يمكنها أن تلفت انتباههم إلى شيء جميل، شيء حقيقي وجوهري، وشيء متسامي — أي شيء ربما يزيل اليأس ويشعل الرجاء.
وبالفعل هناك شيء ما ينادي بهذا الخلاص عينه. وهو شيء برّاق للغاية حتى أنه فعليًا يحوّل ويغيّر كل ما يحيط به. هذا الشيء هو جسد المسيح. فأن نرى لمحة عن الكنيسة المحليّة — أي الكنيسة المحليّة العاملة، التي يتفاعل أعضاؤها في محبة مع بعضهم البعض، ويفيضون بمواهبهم التي أعطاهم الله إيّاها في حياة بعضهم البعض، مُعلنين في بذلهم لأنفسهم الذي لا يكل ولا يلين محبة يسوع المسيح نفسه كما ظهرت في الصليب — هو بمثابة أن نشهد نورًا ينبعث بمضاعفات تفوق ما يمكن للعقول اللا دينيّة استيعابه. وأن نرى ما يفتقر إليه المجتمع، محبة دونها تذبل النفوس وتموت، محبة يلهث وراءها جميع البشر (سواء علموا بهذا أم لا) في لهفة ووله. وهذه هي المحبة الموجودة حصريًا في الكنيسة المحليّة.
الكنيسة غير المساومة:
هذا يأتي بنا إلى سؤال حيوي للغاية. هل ستتمم الكنيسة المحليّة الغرض المعيَّن لها وتسطع كنور برّاق ضد الظلمة؟ أيضًا، هل ستتكبّد العناء للحفاظ على مكانتها كمستودع المحبة الثالوثيّة؟ فليس من المفاجئ أن يتوسّل بولس إلى الإخوة والأخوات في المسيح أن يغذّوا محبتهم ويحافظوا على الوحدة مهما كلفهم الأمر:
فَإِنْ كَانَ وَعْظٌ مَا فِي الْمَسِيحِ. إِنْ كَانَتْ تَسْلِيَةٌ مَا لِلْمَحَبَّةِ. إِنْ كَانَتْ شَرِكَةٌ مَا فِي الرُّوحِ. إِنْ كَانَتْ أَحْشَاءٌ وَرَأْفَةٌ، فَتَمِّمُوا فَرَحِي حَتَّى تَفْتَكِرُوا فِكْرًا وَاحِدًا وَلَكُمْ مَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، مُفْتَكِرِينَ شَيْئًا وَاحِدًا، لاَ شَيْئًا بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ، بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ الْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضًا. فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضًا. (فيلبي ٢: ١-٥)
هناك أمور كثيرة جدًا تعول على وحدة الكنيسة المحليّة. ولذلك لابد من الحفاظ عليها بأقصى يقظة وحرص ممكن.
ويمكننا أن نكون ممتنين للغاية من أن الكنيسة المحليّة ليست متروكة لنفسها لتقوم بهذه المحاولات الشاقة. بل إن الرب نفسه يعد مرشدًا جديرًا بالثقة في شأن التقديس الكنسي. فهو في سيادته يلقي بشعبه داخل خبرات ألم غير متوقعة، ومن خلال الألم يطهّرهم من الكبرياء الذي يحرض بسهولة شديدة على كسر الوحدة. بكلمات أخرى، يُولِّد الاتضاع (الذي بدونه لا يمكن أن توجد محبة حقيقيّة) بأن يقحم البلايا بطرق عدة مثل تلك التي اجتاز فيها المسيح نفسه.
فهو يطلب من شعبه أن “[يحملوا] فِي الْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ الرَّبِّ يَسُوعَ” (٢ كورنثوس ٤: ١٠)، وأن “[يكملوا] نَقَائِصَ شَدَائِدِ الْمَسِيحِ” (كولوسي ١: ٢٤). فمن خلال أن يزداد الأعضاء في “[تشبههم بالمسيح] في موته” (فيلبي ٣: ١٠)، ومن خلال مثابرتهم وثباتهم عبر النوع ذاته من الإقصاء والرفض الذي قاساه الرب نفسه (٢ كورنثوس ١٣: ٤) — والذي هو نتيجة ليست غير متوقعة لتقديم محبة مناقضة بشدة لأنانية العالم إلى درجة أنها تشكّل تهديدًا أدبيًا للعالم وطرقه — يصير الأعضاء على استعداد أن “[يظهروا] حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا فِي جَسَدِهم” (٢ كورنثوس ٤: ١٠). ويصيروا على استعداد أن يكونوا قنوات لنقل حياة القيامة للكثير والكثير من البشر، لكي “بِالأَكْثَرِينَ، تَزِيدُ الشُّكْرَ لِمَجْدِ اللهِ” (٢ كورنثوس ٤: ١٥). فإن الألم، حين يكون مصدره هو يد إله صاحب سيادة، يعمل على نحو عكسي لتوليد المحبة، وللتشجيع على شهادة برّاقة في العالم (١ بطرس ١: ٦-٧).
الكنيسة والوصول للعالم:
في حين لابد للكنيسة المحليّة أن تحافظ على الوحدة بداخلها، لكنها لابد أيضًا أن تظهر هذه الوحدة خارجها. بكلمات أخرى، ينبغي على شعب الله الجديد أن يتجنب الانعزاليّة والتقوقع. فإن جزءًا لا يتجزأ من خطة الله الكونيّة هو أن يستخدم عشيرته لإعلان مجده في العلن أمام الأعين اللا دينيّة. “فَأُقَدِّسُ اسْمِي الْعَظِيمَ الْمُنَجَّسَ فِي الأُمَمِ… يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ، حِينَ أَتَقَدَّسُ فِيكُمْ” (حزقيال ٣٦: ٢٣). لكن حتى الكنائس نفسها التي تؤيّد هذه الدعوة بأن تسطع بالنور إلى الخارج يمكنها أن تتعثّر في شهادتها. إذ يمكنها أن تسعى نحو إبهار من هم خارجها، واجتذابهم إلى الداخل، لكن على أسس عالميّة دُنيويّة، معدِّلة من أساليب العبادة، وآداب الملبس، بل ومحتوى العظات كي ترضي الذوق العالمي.
هذا التوجه معيب في أساسه. فحين تسعى الكنائس المحليّة لمنح الناس ما يرغبون فيه، تصير على خلاف مع إنجيل المسيح. وعند مرحلة ما، ستضطر هذه الكنائس إلى أن تقول الصدق، وأن ترجع إلى المسار الصحيح، وتصدم مستمعيها وتزعجهم بإعلانها أن الأتباع الحقيقيّين للمسيح يموتون فعليًا عن رغباتهم وحاجاتهم — فهم ينكرون أنفسهم، ويحملون الصليب، ويتبعون يسوع (مرقس ٨: ٣٤-٣٥). إلا أن قدرة العديد من الكنائس على أن تحمل نفسها على الرجوع عن أقوالها التي استخدمتها لخداع الناس في المقام الأول هو أمر مشكوك فيه.
إنجيل المسيح هزيمة للعالم:
لابد أن تتذكّر الكنيسة المحليّة أنها أكثر نفعًا للعالم حين تكون شديدة الاختلاف عن هذا العالم. ليس عليها أن تحاول أن تبدو مختلفة. بل كل ما يلزمها هو أن تكون على طبيعتها — أي منارة ساطعة تظهر محبة المسيح الخالية من الأنانيّة. ومن خلال أن تكون على طبيعتها، فهي فعليًا بهذا تحب العالم. أي شيء، في عصر تائه في خرافات الذاتيّة، قد يكون أكثر محبة من أن نكرز بحق كلمة الله وبإنجيل يسوع المسيح الواضح بدون تنميق؟ أي شيء، في عالم غارق في وحل اليأس ومثقّل بأغنيات حزينة، قد يكون أكثر محبة من أن ننطلق في فرح العبادة الحقيقي دون أي عائق، وفي ترنيمات تمجّد المسيح وترفعه؟ أي شيء، في زمن يتلمس فيه الناس دون جدوى حبًا يغذي نفوسهم، قد يكون أكثر محبة من أن نغمر الوافدين الجدد برأفة تشبه تلك التي ظهرت في صليب المسيح؟ فإن الكنيسة المحليّة تحب العالم على أكمل وجه حين تجسّد بأكثر وضوحًا ما لا يملكه العالم.
وقد تحدى مارتن لويد جونز، وهو كارز عظيم في القرن الماضي، كنيسة هذه الأيام حين قال:
يبدو أننا لدينا رعب حقيقي من أن نكون مختلفين. ولهذا فإن جميع محاولاتنا ومساعينا موجَّهة نحو زيادة شعبيّة الكنيسة وجعلها جذابة للناس… [لكن] العالم ينتظر من المؤمن أن يكون مختلفًا وينظر إليه باحثًا عن شيء مختلف، وفي هذا يبدي العالم بصيرة من جهة الحياة يفتقر لها عادة مرتادو الكنائس… فإن شعر [شخص ما] بالراحة والترحاب في أية كنيسة دون أن يؤمن بالمسيح كمخلص شخصي، فإن هذه الكنيسة إذن ليست كنيسة على الإطلاق، بل هي مكان تسليّة أو نادي اجتماعي.[7]
على الكنيسة المحليّة أن تنهض، وتكون الكنيسة المحليّة، أي جماعة من البشر مكرّسين للكرازة بإنجيل يسوع المسيح كما هو دون تخفيف أو غش. بل، لابد أن يشكّل الإنجيل مركز هويّة الكنيسة وما تفعله. وكان هذا بالنسبة لبولس يعني شيئين: الكرازة بالمسيح يسوع ربًا، وبأنفسنا عبيدًا من أجل يسوع (٢ كورنثوس ٤: ٥). كلا الأمرين لم يكن من شأنهما أن يجتذبا العالم اليوناني الروماني الباحث عن الذات في العصور القديمة، كما أنهما لم يكن من شأنهما أن يربحا الكثير من التأييد باعتبارهما استراتيجيّة لجذب الضالين. ومع ذلك لم يتوان بولس. ولم تضعف كرازته أو تهتز.
ومن المثير للاهتمام، أن بولس هنا فقط يستخدم فعل الكرازة مع أكثر من مفعول به، الأول يشير إلى المحتوى الشفهي (المسيح يسوع ربًا) والآخر يشير إلى سلوك (أنفسنا عبيدًا). فإن ما كان محوريًا ومركزيًا في كرازة بولس بالإيمان المسيحي (kerygma) هو المناداة بيسوع ربًا، وبنفسه، بولس، عبدًا. وحين نتبع مثال بولس ونكرز على هذا النحو، وحين (كنتيجة لهذا) تصير الكنائس المحليّة عبدة في عالمها كما كان بولس في عالمه — بل وبالأحرى كما كان يسوع في عالمه (مرقس ١٠: ٣٥-٤٥) — حينئذ تكون كرازتنا في كامل بريقها، ليس هذا فحسب، بل أيضًا تُقبَل بامتنان أكثر.
الإتيان بالعالم إلى المسيح:
إن أيّة كنيسة محليّة تخدم في عالمها كما خدم المسيح في عالمه تظهر قوة دافعة من شقين: فهي تسعى نحو الإتيان بالعالم إلى المسيح، وتسعى للإتيان بالمسيح إلى العالم. وأحد أفضل الطرق للإتيان بالعالم إلى المسيح هو دعوة العالم إلى حضور تجمّعات الكنيسة المحليّة. وقد علّق الواعظ تشارلز سبرجن على هذا قائلاً: “لقد سررت للغاية حين لاحظت الجهود المخلصة التي بذلها الكثير من أعضاء كنيستي في السعي للإتيان بالخطاة إلى الكنيسة للاستماع إلى رسالة الإنجيل”.[8] ويقر الجميع بأن هذه ليست فكرة متعارَف عليها بين واضعي الاستراتيجيّات العصريين في الكنيسة، الذين يتجادلون في أننا لابد في المقابل أن نتقابل مع العالم على أرضه — أثناء شرب القهوة أثناء فترات الراحة من العمل، وبعد قضاء ساعات في الأماكن العامة لمشاهدة المباريات، وفي الجوار أثناء تنزيه الكلب.
بينما قد ينكر القليلون أن اختراق مقر العالم هو أمر حيوي بالنسبة لشهادة الكنيسة المحليّة، إلا أننا نفوت على أنفسنا فرصة استراتيجيّة حين نخفق في دعوة العالم إلى مقرّنا، حيث تجتمع عشيرة الله لعبادة المسيح، وحيث يستمع الأعضاء إلى إنجيل المسيح الذي يُكرز به بأمانة، ويتم تطبيقه عمليًا بعناية، وحيث يخدم الناس بعضهم بعضًا بتعبيرات جذريّة عن محبة قد شكّلها المسيح، وحيث في ركن من هذا العالم المضطرب توجد عشيرة تعمل بالفعل وفقًا لصورة عشيرة الله الثالوثيّة. وفي وسط هيمنة العلاقات المُحطّمة والعائلات المختلّة على كل مكان، أين يمكن للبشر أن يروا طريقًا أفضل ليكونوا بشرًا إلا وسط عشيرة الله؟ لابد لنا أن ندعو العالم إلى كنائسنا.
وتأكيدًا من بولس على هذه النقطة، يلفت انتباهنا إلى حقيقة أن الكائن الحي المدعو الكنيسة المحليّة هو في الأساس مشكال [المترجم: الكليدوسكوب: أداة عندما تتغير أوضاعها تعكس مجموعة لا نهاية لها من الاشكال الهندسيّة مختلفة الألوان] من الوحدات العلاقاتيّة. وقد قسم بولس أعضاء الجسد الكنسي إلى ثنائيات: أزواج وزوجات، آباء وأبناء، أرباب العمل والعاملين (أفسس ٥: ٢٢ – ٦: ٩؛ كولوسي ٣: ١٨ – ٤: ١). ويلاحَظ على الفور أن كل ثنائي يمثّل وحدة من ثلاث وحدات رئيسيّة في بناء المجتمع. إلا أن أهمية هذه الثنائيات مشتقة ليس من وجودها في كل مجتمع بل من وجودها في مجتمع الله.
فبالنسبة لبولس، تعد الكنيسة المحليّة هي التجمّع الاجتماعي الأساسي للعالم، وبهذا فالمفترض منها أن تكون نموذجًا لهذه الثنائيّات في العالم. فإن الكنيسة المحليّة، في العلاقات ما بين الأفراد، وخاصة في العلاقات الكنسيّة بين الأزواج في علاقة الزواج، وفي العائلة، وفي العمل، تقدّم نماذج وأمثلة عن علاقات مشابهة لهذه العلاقات في العالم الخارجي (انظر مرة أخرة أفسس ٥: ٢٢ – ٦: ٩؛ كولوسي ٣: ١٨ – ٤: ١). فإن كل ثنائي، من خلال عكسه لمجد محبة المسيح، يعلن للعالم طريقًا أفضل للحياة في علاقة. كيف للعالم أن يرى الطريق الأفضل (ثم كما نتمنى يستجيب لما يراه بأن يضع ثقته في عمل المسيح المكتمل لأجل خلاصه) ما لم يتلقّى دعوة إلى حضور اجتماعات الكنيسة المحليّة؟
الإتيان بالمسيح إلى العالم:
توجد قوة دافعة ثانية في استراتيجيّة الكنيسة المحليّة: أن تأتي بالمسيح للعالم. على كل كنيسة محليّة أن تبحث في شغف عن الخدمات الجماعيّة (أي الخدمات التي لا تمثّل الغزوات الفرديّة المنعزلة للأعضاء أفرادًا، بل الجهود المشتركة للجسد بأكمله) داخل مدينتها، مقدمة خدمة للأقارب والأعداء على حد سواء، ساعية نحو تحسين ظروف المعيشة لمن هم في أمس الحاجة لهذا، وخلق ظروف يمكن للحياة البشريّة أن تزدهر فيها كما قصد الله لها عند الخلق. بكلمات أخرى، على الكنيسة المحليّة أن تقبل مهمة الإتيان بمحبة الله للمدينة. فهي مهمة وإرساليّة لم تُذكَر في العهد القديم فحسب (إشعياء ٥٨: ٦-١٠)، بل أيضًا في العهد الجديد (متى ٢٥: ٣٤-٤٠)، وتم تجسيدها بشكل بارز في تعليم وخدمة يسوع.
فإن مثل السامري الصالح هو مثل ينطبق عليه موضوع حديثنا. فإننا ننقل ونجسّد محبة المسيح حين نأخذ على عاتقنا حياة البشر المحطّمة التي نعبر عليها، حاملين إيّاها فوق ظهورنا وكأن تحطّمها أمر يخصّنا. وسوف نستمر في حمل حياة البشر حتى لا تعود بعد محطّمة ومنكسرة — “مضمدين الجراحات، وصابين زيتًا وخمرًا عليها، وحاملين إيّاها إلى فندق، منفقين كل ما يلزم، ومظهرين الرحمة، مبرهنين على كوننا قريبًا حقيقيًا” (لوقا ١٠: ٣٤-٣٧). فإن محبتك لقريبك كنفسك لا يتوقف عند محبتك للآخر بقدر ما تحب نفسك، بل يمتد إلى أن تأخذ على عاتقك حياة آخر وتجعلها حياتك الخاصة. في كل مدينة، على الكنائس المحليّة أن تكون هي القريب الأفضل. “لابد أن نحب الرجال والنساء نحو يسوع”.[9]
في الأزمنة المبكّرة من العصر المسيحي، اجتاح الامبراطوريّة الرومانيّة وباءان مدمران. وقد كان حتى أحكم الأطبّاء في حيرة من أمرهم من وصف أدويّة مضادة لهذين الوبائين، وكثيرون منهم، بما في ذلك الطبيب الكلاسيكي الشهير جالين، هجروا المدن متجهين إلى الأمان النسبي للريف. ولكن كان هناك استثناء واحد جدير بالملاحظة — وهم أعضاء الكنائس المحلية:
لقد أبدى غالبية المسيحيين محبة ووفاء بلا حدود، ولم ينجوا بأنفسهم قط لكن كل ما فكروا فيه هو الآخرين. وإذ تجاهلوا الخطر، أخذوا على عاتقهم مسئوليّة المرضى، مهتمّين بجميع احتياجاتهم ومقدمين لهم خدمة المسيح، والآن قد رحلوا من هذه الحياة، مجتذبين لأنفسهم مرض أقربائهم ذاته، قابلين آلامهم في فرح.[10]
وقد لاحظ غير المؤمنين التضحية التي قام بها هؤلاء المؤمنون لأجل الآخرين قائلين: “انظروا كيف يحبون بعضهم البعض!”[11] وإنه لامتياز لنا، نحن كأعضاء في كنائس حديثة، أن نبجّل هذا الإرث المقدس، مفكرين على نحو استراتيجي، ومصلّين في إخلاص وصدق، بشأن الكيفيّة التي يمكننا بها كجماعة أن نأتي بمحبة المسيح إلى المحتاجين في مدننا، وأن نصير مناقضين لمجتمعنا بأن نحيا كغرباء في داخله مجد صورة المسيح.
قطعة من السماء على الأرض:
كما نتعلّم من سفر التكوين، فقد كان من المفترض لصورة الله أن تتغلغل وتكثر وتملأ الأرض. وكما نتعلّم من المسيح، أن هذه الصورة قد أعلنت على نحو بارز في محبة الصليب الباذلة للنفس. وحين تخترق تلك المحبة قلوب جماعة من البشر — وهذا احتمال يسري فقط على أولئك الذين، من خلال عمل الصليب، قد تطهّروا من الخطية وتم إعلان كونهم أبرارًا — وحين تجد تلك المحبة موطنًا وموضع راحة لها في عشيرة الله، في كنيسة يسوع المسيح، وحين تميّز التعبيرات عن تلك المحبة العلاقات بين الأفراد في الكنائس المحليّة كما أنها تميّز العلاقات داخل عشيرة الله الثالوثيّة، فإن مجد السماء يبدأ في اقتحام الأرض.
إن شعب العهد الجديد الذي ينتمي إلى الله سوف يحصل، بينما لا يزال على الأرض، على موطئ قدم في أورشليم السماويّة. فإن أعينهم ستنفتح على غنى مجد ميراثهم (أفسس ١: ١٨). وستُقبِل الأمم إلى النور السمائي لهذه العشيرة المقدسة، لاهثة نحو وحدة العلاقات التي لا تتفتّت أو تتحطّم من جرّاء مركزيّة الذات، ونحو جسد مجتمع تحت رأس واحد، ونحو شعب يعكس صورة المحبة الإلهيّة، ونحو كنيسة تظهر محبة الله الثالوث كما ظهرت في الصليب (إشعياء ٦٠: ١-١١).
الكنيسة غير الكاملة:
كيف يمكن للكنيسة المحليّة أن تظل ثابتة في هذه الرسالة المجيدة؟ أولاً، هي ستثبت لكن على نحو غير كامل. فعلى الرغم من أن محبة هذا الجسد تسطع مثل منارة برّاقة ضد الليل الشديد الإعتام، لكنها لن تشع سوى بنور هو خطوط الأشعة الأولى لمجد السماء. فإن جسد المسيح لم يصر بعد مصطفًا بشكل كامل تحت رأسه. فإن الشقاق والانقسام، بل والخطية، لازالت تجتاح علاقاته. لكن حين يعوز جسد المسيح مجد الله (أحيانًا يعوزه كثيرًا جدًا حتى أنه لا يستطيع سوى النظر للأعلى)، فهو، ثانياً، سيرفع عينيه إلى يسوع المسيح، وإذ ينظر مجد الرب، سيتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد، ومن استعلان معتم للمحبة الباذلة للنفس إلى استعلان أكثر سطوعًا (٢ كورنثوس ٣: ١٨).
أعين مثبَّتة على المسيح:
على الكنيسة المحليّة ألا تحوّل عينيها قط عن المسيح. بل لابد أن تهتم بالسماويّات حيث المسيح جالس (كولوسي ٣: ١-٢). ولابد أن تنتظر في لهفة مخلصًا، حين يأتي ثانية، سيغيّر شكل جسد تواضعها لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ (فيلبي ٣: ٢٠-٢١). وحين سنراه أخيرًا — ليس بعد في مرآة في لغز بل في نقاء النور الكامل — فسنعرف معرفة تامة المحبة التي لطالما كانت فائقة المعرفة. وحينئذ، وحينئذ فقط، سنعكس صورة المسيح على نحو كامل (١ يوحنا ٣: ٢-٣).
حتى ذلك الوقت، على الكنيسة المحليّة أن تثبّت عينيها على يسوع المسيح. فإن المسيح يرتفع في كرازتها. ويتمجّد في عبادتها. ويُحتفى به في فرائضها — أي المعموديّة وعشاء الرب. بل وإن كُلَّ مَنِ اعْتَمَدَ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ اعْتَمَدْ لِمَوْتِهِ (رومية ٦: ٣)، وكل من يأكل الْخُبْزَ ويشرب الْكَأْسَ، يخبر بِمَوْتِ الرَّبِّ إِلَى أَنْ يَجِيءَ (١ كورنثوس ١١: ٢٦). بل وفي تأديب الكنيسة لأعضائها، يصير اتّضاع حمل الفصح هو الحافز الموجه لها (١ كورنثوس ٥: ٧).
إن كل شيء يعود أدراجه إلى المسيح، وكل عضو مثبَّت بإحكام إلى رأسه. فإن المسيح يربط كل شخص وكل شيء (كولوسي ١: ١٧-١٨). ولا عجب أن بطلاً عظيمًا من أبطال الكنيسة المحليّة، وهو تشارلز سبرجن، قد أكّد في حسم قاطع على اتّكاله واعتماده على المسيح قائلاً: “لن تكون لديَّ أيّة رغبة في التواجد هنا دون ربي، وإن لم يكن الإنجيل صحيحًا، فسوف أبارك الله إن أبادني في هذه اللحظة، لأني لن أهتم أن أحيا إن تمكنتم من تدمير اسم يسوع المسيح”.[12]
خاتمة:
إن رسالة الكنيسة المحليّة لا يمكن على الإطلاق الحط من قدرها. فإن الكنيسة مدعوة للخروج من العالم لتكون نورًا داخل العالم، ولتكون عشيرة متّحدة وسط عشائر الأرض المُنقسمة والمفكَّكة، وليسكنها المسيح نفسه، ولتكون قرة عيني الله، منقوشة على كفي المسيح، وأيضًا لتكون مجد صورة الثالوث القدوس، وتجسيدًا للمحبة غير المحدودة للصليب، وأيضًا كي تكون لوحة كاملة المعالم أجمل من أيّة لوحة أخرى في العالم. تلك هي الكنيسة، الكنيسة المحلّية، شعب الله الجديد.
قائمة مراجع مختصرة:
Belcher, Jim. Deep Church: A Third Way Beyond Emerging and Traditional. Downers Grove, IL: InterVarsity, 2009.
Calvin, John. “The External Means or Aims by Which God Invites Us Into the Society of Christ and Holds Us Therein.” Institutes of the Christian Religion. Book 4. Philadelphia: Westminster Press, 1960.
Carson, D. A. Becoming Conversant with the Emerging Church: Understanding a Movement and Its Implications. Grand Rapids, MI: Zondervan, 2005.
Chester, Tim, and Steve Timmis. Total Church: A Radical Reshaping around Gospel and Community. Wheaton, IL: Crossway, 2008.
Dever, Mark. Nine Marks of a Healthy Church. Wheaton, IL: Crossway, 2000.
Dever, Mark, and Paul Alexander. The Deliberate Church: Building Your Ministry on the Gospel. Wheaton, IL: Crossway, 2005.
DeYoung, Kevin, and Ted Kluck. Why We Love the Church: In Praise of Institutions and Organized Religion. Chicago: Moody, 2009.
Edwards, Jonathan. “A Farewell Sermon.” In The Works of Jonathan Edwards. Vol. 1. Edinburgh: Banner of Truth, 1979.
Keller, Timothy. Gospel Christianity. Studies 7 and 8. New York: Redeemer Presbyterian Church, 2003.
Packer, J. I. Evangelism and the Sovereignty of God. Chap. 3, “Evangelism.” Downers Grove, IL: InterVarsity, 1991.
Stott, John. The Living Church: Convictions of a Lifelong Pastor. Downers Grove, IL: InterVarsity, 2007.
Strauch, Alexander. Biblical Eldership: Restoring the Eldership to Its Rightful Place in Church. Colorado Springs: Lewis and Roth, 1997.
[1] يمثل هذا الفصل شرحًا للنقطة الحادية عشر: “شعب الله الجديد” في الوثائق التأسيسيّة لهيئة ائتلاف الإنجيل.
[2] جميع الاقتباسات من الكتاب المقدس في هذا الفصل هي من ترجمة الكاتب الخاصة.
[3] George M. Marsden, Jonathan Edwards: A Life (New Haven, CT: Yale University Press, 2003), 467.
[4] Timothy Keller, Gospel Christianity (New York: Redeemer Presbyterian Church, 2003), 22.
[5] Cornelius Plantinga, as quoted by Keller in Gospel Christianity, 16.
[6] D. A. Carson, The Difficult Doctrine of the Love of God (Wheaton, IL: Crossway, 2000), 44.
[7] Quoted in Iain H. Murray, D. Martyn Lloyd-Jones: The First Forty Years 1899-1939 (Edinburgh: Banner of Truth, 1982), 141–42.
[8] C. H. Spurgeon, Autobiography, vol. 2: The Full Harvest (Edinburgh: Banner of Truth, 1973), 246.
[9] C. H. Spurgeon, Lectures to My Students (Grand Rapids, MI: Zondervan, 1954), 344.
[10] Dionysius, quoted by Eusebius in Eusebius: The History of the Church, trans. G. A. Williamson (Harmondsworth, UK: Penguin, 1965), 7.22.
[11] Tertullian, The Anti-Nicene Fathers, ed. Alexander Roberts and James Donaldson (Grand Rapids, MI: Eerdmans, 1989), Apology 39.
[12] C. H. Spurgeon, The New Park Street Pulpit (Pasadena, CA: Pilgrim, 1855), 1:208–9.