يسوع المسيح ابن الإنسان

التَعْرِيف

يعني لَقَبُ “ابْنِ الإِنْسَانِ” بالنسبة إلى يَسُوع أنه إِنْسَانٌ مِثْلُنا، ابْنُ آدم، وأنه أيضًا المَسِيَّا الآتي، الذي أعطاه العَلِيُّ أن يتقلَّد السُّلطان، وأن يَمْلِكَ على مَلَكُوتِه عن طريق ضَعْفِهِ، الذي يظهرُ بأكثرِ وضوحٍ في الصَّلِيبِ.

المُوجَز

مع أن تعبير “ابْنِ الإِنْسَانِ” يأتي بشكلٍ متكرِّرٍ في أسفار العَهْد القَدِيم مرادفًا للفظة “إِنْسَانٍ”، يستخدِمُهُ سِفْرُ دانيآل أيضًا للإشارة إلى حاكِمٍ إلهيٍّ آتٍ، يَمْنَحُهُ الله سلطانًا وَمَلَكُوتًا؛ ويشكِّل هذان الاستخدامان خلفيَّةَ لَقَبِ الرَّبِّ يسوع بوصفِهِ ابْنَ الإِنْسَانِ. إننا نفهمُ الطريقة التي يَسُودُ بها ابْنُ الإِنْسَانِ مَلكوتَهُ، بالطريقة التي تقلَّد بها السُّلطان الممنوح له من الله للسيادَةِ، أي بآلامِهِ، وموتِهِ ثم قيامتِهِ من أجلنا. وهكذا، ندرك أن ابْنَ الإِنْسَانِ يسودُ على مَلَكُوتِهِ عن طريق ضَعْفِهِ، مع أنه سيعودُ يومًا ما بقوةٍ لِيُدَمِّرَ بشكل نهائيٍّ جميع أعدائِهِ، ويَأْخُذَ مكانَتَه الشرعيَّة كَمَلِكٍ مَرْئيٍّ على كلِّ الخليقةِ.


اللَّقَبُ: ابْنِ الإِنْسَانِ

الإنْسَان

يأتي تعبيرُ “ابْنِ الإِنْسَانِ” بشكلٍ متكرِّرٍ في أسفار العَهْد القَدِيم مرادفًا للفْظَةِ “إِنْسَانٍ” – ابْنُ الإِنْسَانِ هو بالطبيعَةِ إِنْسَانٌ. هو تعبيرٌ سامِيٌّ يدُلُّ على “كائنٍ بشريٍّ”. كلُّ مواضع التعبيرِ الـ ١٠٧ تؤكِّدُ هذا المعنى. يوضِّحُ سِفْرُ العَدَدِ هذا الأَمْرِ جَيِّدًا: “ليْسَ اللهُ إِنْسَانًا فَيَكْذِبَ وَلا ابْنَ إِنْسَانٍ فَيَنْدَمَ” (العَدَد 19:23). وكذلك أيوب، أثناء تفكيره في مكانَتَهُ الوضيعَةَ أمام لله، شاعرًا بإحباطٍ وهو يحاول تبرير آلامه، يشكو أيوبُ أن الإنسان لا يجرؤ على أن يحاجِجَ من أجل دعواه أمام الله كَابْنِ آدَمَ لَدَى صَاحِبِهِ (انْظُرْ أيوب 21:16). يستخدِمُ المَلِكُ داود هذا التعبير أيضًا في تأمُّلِهِ الشهير عن الخليقة: “إِذَا أَرَى سَمَاوَاتِكَ عَمَلَ أَصَابِعِكَ الْقَمَرَ وَالنُّجُومَ الَّتِي كَوَّنْتَهَا، فَمَنْ هُوَ الإِنْسَانُ حَتَّى تَذْكُرَهُ وَابْنُ آدَمَ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ! (المَزْمُور 3:8-4). في العَهْد القَدِيم، ثلاثٌ وتسعون مَرَّةً من مَرَّاتِ استخدام هذا التعبير تأتي في سِفْرِ حِزْقِيال، إذ تشير إلى النَّبِيِّ نفسِهِ. إن “ابْنَ الإِنْسَانِ” إنسانٌ.

اللَّقَبُ والدِّلالةُ المَسِيَّاوِيَّةُ

في العَهْد القَدِيمِ، يُسْتَخْدَمُ لَقَبُ “ابْنِ الإِنْسَانِ” على الأقلِّ مرَّتَيْن بِدِلالةٍ مَسِيَّاوِيَّةٍ. أشهرُها في دانيآل 13:7-14:

كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى اللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى الْقَدِيمِ الأَيَّامِ فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. فَأُعْطِيَ سُلْطَانًا وَمَجْدًا وَمَلَكُوتًا لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ.

 في هذا السِّياقِ، الشَّخْصُ المشار إليه بأنه “مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ” ينتصرُ على النظام العَالَمِيِّ الشِّرِّيرِ (٧:٩-١٢)، ويحْظَى بالسيادَةِ على مَلَكُوت الله (٧:١٣-١٤)، ويُمارِسُ سِيادَتَهُ على نحوٍ عالَمَيٍّ، ويكون لشعبِ الله نصيبٌ معه في هذه السِّيادَةِ (٧:١٥-٢٨). من اللافت هنا أن مَلَكُوتَ اللهِ يُعْطَى لـ “مِثْلِ ابْنِ إِنْسَانٍ”، بتعبير آخر المَلَكُوت الإلهي في يَدِ إِنْسَانٍ!

للمَزْمُور 4:8 دِلالاتٌ مَسِيَّاوِيَّةٌ أيضًا وإن كانَتْ مقدَّمَةً ببرَاعَةٍ أكثر. في هذا المَزْمُورِ القَصِيرِ، يتأمَّلُ المَلِكُ داود مليًّا في الكرامَةِ الشَّرعِيَّةِ الممنوحةِ للإنسانِ في الخليقةِ:

فَمَنْ هُوَ الإِنْسَانُ حَتَّى تَذْكُرَهُ وَابْنُ آدَمَ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ! وَتَنْقُصَهُ قَلِيلاً عَنِ الْمَلاَئِكَةِ وَبِمَجْدٍ وَبَهَاءٍ تُكَلِّلُهُ. تُسَلِّطُهُ عَلَى أَعْمَالِ يَدَيْكَ. جَعَلْتَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ.

يَتَعَجَّبُ المَلِكُ داود أن الإنسانَ مع أنه لا شيءَ نسبيًّا، إلا أنه مخلوقٌ على صورةِ الله، ومع أنه أدنى قليلاً من الملائِكَةِ، إلا أنه مخلوقٌ ليسودَ على كلِّ الخليقةِ كنائِبٍ عن اللهِ (انْظُرْ التَّكْوِين 26:1-28). يلتَقِطُ نصُّ العِبْرانيِّين 2 هذه الفكْرَةَ في المَزْمُور (5:2-8) مع ملاحظَةٍ أخرى يقوم بإضافَتِها وهي أن الإنسانَ لم يَحْظَ بَعْد بهذه السيادَةِ (8:2، ربما يفكِّر الكاتب هنا بشكلٍ أبعد في السُّقُوطِ الوارِدِ في التَّكْوِين 3). إلا أنَّه واثِقٌ أن القَصْدَ الأصيلَ لم يذهبْ سُدًى، وذلك بقوله: “وَلَكِنَّ الَّذِي وُضِعَ قَلِيلاً عَنِ الْمَلاَئِكَةِ، يَسُوعَ، نَرَاهُ مُكَلَّلاً بِالْمَجْدِ وَالْكَرَامَةِ، مِنْ أَجْلِ أَلَمِ الْمَوْتِ ….” (9:2). إن الإعلانَ المذهِلَ للإنجيل هو أن ابْنَ الله، الشَّرِيكُ في مَجْدِ الألوهية البَهِيِّ، والذي يسمو على كلِّ الملائكةِ (العِبْرانيِّين 1)، قد صَارَ واحدًا منا. إن كرامَتَنا السَّامِيَّة – المنقوصة بوضعِنا قليلاً عن الملائِكَةِ (7:2) – هي أن ما وصل إليه ابن الله بتنازُلِهِ (9:2)، ليُكفِّرَ عنا بالموتِ، ويقتني لنا ما فقدناه بالخطيَّةِ (2:١٠-١٨). لقد صارَ ابْنُ الله ابْنَ الإِنْسَانِ ليَفْتَدِيَ – بوصفهِ إنسانًا – الإنسانَ ويسترِدَّهُ إلى مكانَتِهِ ومَجْدِهِ كما قَصَدَ الله له أصلاً. بكلِّ يَقِينٍ، يرتبطُ هذا بالرَّجاءِ المَسِيَّاويِّ الأوسع عبر العَهْد القَدِيمِ وقِصَّةِ الكتابِ المقدِّسِ بكامِلِها.

عندما نَضُمُّ هذَيْن النصَّيْن معًا بكل التداعيات المناظرة لهما سوف نلاحِظُ أن ما ينتظره الرجاءُ المَسِيَّاويُّ الخاص بالعَهْد القَدِيم ليس مَلِكًا على إِسْرَائِيل فحسب، بالأحرى مَلِكًا يمتَدُّ مُلْكُه إلى العالَمِ كلِّه بوصفِهِ ابْنَ الإِنْسَانِ.

“ابن الإنسان” كمتعالٍ

تنطوي نبوة دانيآل 7 على نظرةٍ طويلَةِ المدى للتاريخِ المستقبَلِيِّ، تبدأ من زمن النَّبِيِّ دانيآل إلى الاكتمالِ، حين يُؤتَى بأعداءِ الله إلى الدينونَةِ الأخيرة، وَيَنْعَمُ شعبُ الله بالسيادَةِ. فيما يبدو أنه ذروة التاريخ (9:7-12)، يقترب ذاك الذي هو “مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ” من الْقَدِيمِ الأَيَّامِ “مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ” لينالَ سيادَةً كَونِيَّةً وسُلْطَانًا أَبَدِيًّا. إنه “مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ”، ومع ذلك فهو لا يَصْعَدُ من الأَرضِ إلى السَّماءِ، بل يأتي من حال الاحتجابِ إلى الظُّهورِ، ثم يدنو من عَرْشِ الله بوصفِهِ الواحد الذي يَنْعَمُ بهذا الحَقِّ. يركبُ السَّحَابَ، وهذا عملٌ يرتبطُ بالله في مواضع أخرى (المَزْمُور 3:104). إضافةً إلى ذلك، ابْنُ الإِنْسَانِ سوف يُعْبَدُ، إذ سَيُقَدِّمُ له العالَمُ كلُّه فروضَ الخضوعِ والولاءِ (14:7). يُساهِمُ كلُّ هذا في الإشارَةِ إلى أن ذاك الذي هو “مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ” (أي الإِنْسَان) هو المسيحُ المتعالي.

لاحظ أيضًا أن اللفظَةَ الأَراميَّة بمعنَى “العَلِيّ”، والتي يتم توظيفها لوَصْفِ الله ذاتِه عبر سِفْرِ دانيآل في النصوص (26:3، 32؛ 14:4، 21، 22، 29، 31؛ 18:5، 21؛ 25:7)، تأتي بلفظَةٍ (عبريَّةٍ) أخرى في دانيآل 18:7، 22، 25، و27، وذلك عند الحديث عن “قِدِّيسِيِ الْعَلِيِّ”. ينادِي هاملتون Hamilton بشكلٍ مقْنِعٍ بأن لفظَ “العَلِيِّ” في هذه المواضِعِ تُشِيرُ إلى ابْنِ الإِنْسَانِ، ومن ثمَّ، تؤكِّدُ على ألوهيَّتِهِ السِّامِيَةِ (انْظُرْ: مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ، 151-153).

ربما نلاحظُ هنا أيضًا أن هذا يرسِّخ، وَفْقًا للسِّياقِ، حقيقة التباين الصارخ بين ممالك العالم بمختلف أنواعها، مع أن من يسودُها بَشَرٌ، إلا أن النبوة تَصِفُهم بوحوشٍ بشعَة؛ أما المَمْلَكَةُ الإلهيَّة فتَسْتَقِرُّ في يَدِ إنسانٍ هو نفسُهُ الله. هو وَحْدَهُ الذي يحظى بحقِّ السيادَةِ عالميًّا وأبديًّا.

هُوِيَّةُ ابْنِ الإِنْسَانِ

أيُّ قارئٍ للكتابِ المقدَّس يُدْرِكُ بالفطْرَةِ أن كلَّ هذا يتَّخِذُ موضعه بشكلٍ مناسبٍ في النطاق الأوسع للرجاءِ المَسِيَّاويِّ الذي يَتَحَقَّق في يسوع المسيح، المَلِكِ البشريِّ-الإلهيِّ المؤهَّل لذلك على نحوٍ فريدٍ. في واقع الأَمرِ، يُؤكِّدُ لنا الرَّبُّ يسوع نفسُه هذا الأمر، إذ يَرْبُطُ نفسَهُ بشكلٍ مباشر بِلَقَبِ “ابْنِ الإِنْسَانِ” الذي يتحدَّثُ عنه النبي دانيآل (مَتَّى 63:26-٦٤). هذا، في الحقيقةِ، لَقَبُهُ المفضَّل، الذي يتكرَّرُ حوالي ثمانين مَرَّةً في روايات الإنجيل، ليصْبِحَ على لِسَانِهِ لَقَبًا مَسِيَّاويًّا. يسوع المسيح هو ابْنُ الله. وهو أيضًا ابْنُ الإِنْسَانِ.

تداعياتٌ

لَاحَظَ علماءُ العَهْدِ الجَدِيدِ ثلاثَ روابِطٍ عريضَةٍ في استخدامِ الرَّبِّ يسوع لهذا اللَّقَبِ الخاص بِشَخْصِهِ.

سُلطانه أيضًا في خدمته الأرضية

من الواضِحِ أن سلطانَ ابْنِ الإِنْسَانِ هو النقطة المركزية الجديرة بالانتباه في دانيآل 13:7-١٤؛ أي تتويج ابْنِ الإِنْسَانِ ومُلْكهُ الكَونيُّ بلا منازِعٍ. وقد نادى الرَّبُّ يسوع بأن له هذا السلطان أيضًا. في مَتَّى ١٢:٨، على سَبِيلِ المِثَالِ، يؤكِّد الرَّبُّ أن “ابْنَ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضًا”. في سياق هذا النصِّ، لم يَقُمْ الرَّبُّ باستجلاء الكيفية التي يمارِسُ بها سيادَتَهُ على السَّبْتِ، لكن ادعاءه كان واضِحًا، ومن المؤكِّد أنه كان صاعقًا لدى من سمعوه.

وهكذا أيضًا في مَتَّى 1:9-8، عندما أُحِضَرَ مَفلوجٌ إلى الرَّبِّ يسوع للشفاء، أَعْلَنَ الرَّبُّ أولاً غفران خطاياه (2:9). فَثَارَ غَضَبُ الكَتَبَةِ الذين سمعوا ذلك بسبَبِ جُرْأَتِهِ (3:9)، إزاء ذلك، وضَّح الرَّبُّ أن هذه هي النقطة تحديدًا: “لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لاِبْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَانًا عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا – حِينَئِذٍ قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: قُمِ احْمِلْ فِرَاشَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ” (6:9). ويؤكِّد البَشِير مَتَّى نفسُه أن هذه هي النقطة التي قَصَدَها الرَّبُّ بالفِعْلِ (8:9).

يَمْتلِكُ الرَّبُّ يسوع سلطانًا إلهيًّا، لديه سلطانٌ على السَّبْتِ، وسلطانٌ للشفاءِ، والأكثر من ذلك، لديه سلطانٌ لِغُفْرانِ الخطيَّةِ – لأنه ابْنُ الإِنْسَانِ.  

اتضاعه، رفضه، آلامه، موته، وقيامته

على نحوٍ زاخرٍ بالمفارَقَةِ، استخْدَمَ الرَّبُّ يسوع أيضًا لَقَبَ “ابْنِ الإِنْسَانِ” فيما يرتبط برفضِهِ، وآلامِهِ، وموتِهِ، وقيامتِهِ:

  • لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ (مَتَّى 20:8).
  • وَابْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيرًا وَيُرْفَضَ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ وَيُقْتَلَ وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ (مَرْقُس 31:8؛ مَتَّى 21:16).
  • لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ تَلاَمِيذَهُ وَيَقُولُ لَهُمْ إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ وَبَعْدَ أَنْ يُقْتَلَ يَقُومُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ (مَرْقُس 31:9).
  • ضَعُوا أَنْتُمْ هَذَا الْكَلاَمَ فِي آذَانِكُمْ: إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ (لُوقَا 44:9).

بحسَبِ السِّياقِ، تأتي هذا النبوَّاتِ عن آلامِهِ عَقِبَ اعترافِ التلاميذ بِمَسِيَّاويَّةِ الرَّبِّ يسوع. لا عَجَبَ في أن يَتَحَيَّرَ التلاميذ بسبب ارتباط المَسِيَّا “ابْنِ الإِنْسَانِ” بتلميحاتٍ عن رفضِهِ وآلامِهِ، وهزيمتِهِ. كيفَ لشخصيَّةٍ مَلَكِيَّةٍ ذات سلطانٍ أن تكون متألِّمَةً؟!

هذا موضوعٌ مألوفٌ ومُهِمٌّ في الكِتَابِ المُقَدَّسِ، إذ عن طريق آلامِهِ، وموتِهِ وقيامَتِهِ، حَازَ الرَّبُّ حُكْمًا مَلَكِيًّا كوسيطٍ للفداءِ. بفَضْلِ عَمَلِهِ الخلاصي الناجحِ، مُنِحَ سلطانًا على كلِّ الخليقَةِ (مَتَّى 1٨:2٨)، كما جَعَلَهُ الله “رَبًّا ومَسِيحًا” (أَعْمَال الرُّسُل ٢:٣٦)، و”أَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ” (فِيلِبِّي ٢:٩؛ قارن إشعياء ٥٣:١٠-١٢؛ أَفَسُس ١:٢٠-٢١). ولأنه حَمَلَ بنجاحٍ لعنَةَ الخطيَّة، مَنَحَهُ اللهُ “سُلْطَانًا عَلَى كُلِّ جَسَدٍ لِيُعْطِيَ حَيَاةً أَبَدِيَّةً” لِكُلِّ من جَاءَ لِيُخَلِّصَهم (يُوحَنَّا ١٧:٢؛ قارن مَتَّى ١١:٢٧). لهذا السَّبِبِ يشيرُ علماء اللاهوت القدامى عمومًا إلى يسوع بأنه “مَلِكٌ بالصليبِ” – بما بَدَا عليه ضعيفًا ومهزومًا أَنْقَذَ شعبَهُ وَأَتَى بِهِم إلى مَلَكُوت اللهِ (كُولُوسِّي 13:1).

تَتَجَلَّى هذه الفِكْرَةِ في المشْهَدِ العظيمِ الواردِ في الفصل 5 من الرُّؤيَا. الله على العَرْشِ ومعه سِفْرٌ مَخْتومٌ بسَبْعَةِ أختامٍ، من المفترض أنه يمثِّلُ إرادَةَ الله ووصيَّتَهُ الأخيرةُ للخليقة – خُطَّتَه للدينونَةِ والخَلاصِ. وَحْدَهُ الأَسَدُ الخارِجُ من سِبْطِ يَهُوذَا، الحَمَلُ المذبوحِ، هو الجديرُ بأن يأخُذَ السِّفْرَ ويفتَحُ خُتومَهُ. هو وَحْدَهُ الجديرُ بتنفيذ مَقَاصِدِ الله في التاريخِ. لماذا؟

“لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا لِلَّهِ [في ترجمة أخرى: وَاشْتَرَيْتَ لله شعبًا] بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ، وَجَعَلْتَنَا [وجعلتهم] لِإِلَهِنَا مُلُوكًا وَكَهَنَةً، فَسَنَمْلِكُ [ولهذا سَيَمْلِكُون] عَلَى الأَرْضِ” (الرُّؤيا 9:5-10). بموتِهِ وقيامَتِهِ حَازَ المسيح حُكْمَه المَلَكِيِّ بوصفه وسيط الفداء. من أجل هذا، في محاكمَتِهِ اسْتَحْضَرَ الرَّبُّ هذه الفكْرَةَ:

“وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ سَاكِتًا. فَسَأَلَهُ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ: أَسْتَحْلِفُكَ بِاللَّهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا: هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ؟ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنْتَ قُلْتَ! وَأَيْضًا أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ وَآتِيًا عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ” (مَتَّى 63:26؛ لاحِظ أن الرَّبَّ يَسَوع يَسْتَحْضِرُ معًا نُبُوَّاتِ التَّتويج المَسِيَّاوِيِّ في كلٍّ من المَزْمُور 1:110؛ ودانيآل 13:7-14).

هنا في موتِهِ، فيما يبدو هزيمتَهُ، وفي قيامَتِهِ التالية يَنْعَمُ ربُّنا بالمَلَكُوتِ. هنا يرسِّخ حَقَّه في السيادَةِ (للمزيد عن هذا الأمر، انْظُرْ چيرمي تريت Jeremy Treat، المَلِكُ المَصْلُوبُ).

سيادَةٌ قَيْدُ الاكتمالِ

لكن لا يسعنا التوقفُ عند هذا الحَدِّ. مع أن الرَّبَّ قد حَازَ حُكْمَهُ المَلَكِيَّ ودَشَّنَ مَلَكُوتَه، من الجليِّ إلى الآن أن هذه السِّيادَةَ  لم تتحقَّقُ بالكامِلِ بعد. لا يزال حُكْمُهُ محلَّ معارَضَةٍ وصراعٍ. لم يسجُدْ العَالَمَ خضوعًا له، ولم يَنْسُبْ إليه السيادة التي حَقَّقَها. إن مَلَكُوتَهُ قائمٌ الآن، لكن بكل تأكيدٍ هناك المزيد في المستقبل.

في حقيقة الأمر، يُقَدِّمُ العَهْد الجَدِيد الحُكْمَ المَلَكِيَّ للرَّبِّ يسوع كَحُكْمٍ يكْتَمِلُ تحقيقُهُ على مراحِلٍ، حُكْمٌ يوصَفُ بتعبيرِ “الآن وليس بعد now and not yet“. فقد وُلِدَ الرَّبُّ يسوع مَلِكًا، فهو الابِنُ الموعود للمَلِكِ داود (مَتَّى ٢:٢، إلخ). ومَارَسَ حُكْمَه المَلَكِيَّ أثناء خَدْمَتِهِ الأرضية (مَتَّى ١٢:٢٨). ودُشِّنَ مُلْكَهُ بموتِهِ المخلِّص، كما رَأينا (راجع يُوحَنَّا ١٢:٣١-٣٢)، وفي قيامته الظَّافِرَة (مَتَّى ٢٨:١٨) وصعودِهِ إلى العَرْشِ السَّمائي (أَعْمَالُ الرُّسُل ٢:٣٦؛ أَفَسُس ١:٢٠-٢١). ومع كلِّ هذا، يواجه حُكْمَه المَلَكِيُّ حروبًا شديدًة للغاية، ولا يزال يَلْقَى مُقاومَةً عنيفة (راجع المَزْمُور ٢:١-٣). بكلِّ بساطةٍ، حُكْمُهُ، مع أنَّه قائِمٌ الآن، ومدَشَّنٌ؛ لم يُمَارِسْ يسوع كمَلِكٍ امتيازاتِ سيادَتِهِ الكاملَةِ على أعدائِهِ.

عودتُه بمجدٍ أُخْرَوِيٌّ

الأمر الأكثر وضوحًا أنه عندما أشار الرَّبُّ يسوع إلى نفسِهِ بأنه ابْنُ الإِنْسَانِ، قام بذلك بدلالاتٍ تُشيرُ إلى مَجْدِهِ الأُخْرَوِيِّ، وَعَوْدَتِهِ إلى الأرضِ لممارسة الامتيازات الكاملة لحُكْمِهِ المَلَكِيِّ، والوصول بمَلَكُوتِ اللهِ إلى الاكتمالِ.

الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ …. فِي التَّجْدِيدِ مَتَى جَلَسَ ابْنُ الإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيًّا تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاِثْنَيْ عَشَرَ (مَتَّى 28:19).

وَلِلْوَقْتِ بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ الأَيَّامِ تُظْلِمُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ وَالنُّجُومُ تَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ وَقُوَّاتُ السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلاَمَةُ ابْنِ الإِنْسَانِ فِي السَّمَاءِ. وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ وَيُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ. فَيُرْسِلُ مَلاَئِكَتَهُ بِبُوقٍ عَظِيمِ الصَّوْتِ فَيَجْمَعُونَ مُخْتَارِيهِ مِنَ الأَرْبَعِ الرِّيَاحِ مِنْ أَقْصَاءِ السَّمَاوَاتِ إِلَى أَقْصَائِهَا (مَتَّى 29:24-31).

وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ (مَتَّى 31:25).

تُصوِّرُ نبوة دانيآل تتويجَ المَلِكِ (٧:١٣-١٤)، وتدشينَ حُكْمِهِ، إلا أن النبوة تنظُرُ إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى المَمْلَكَةِ في ذُرْوَة اكتمالها مع ابْنِ الإِنْسانِ الذي يَمْلِكُ مع قديسِيهِ مُلْكًا عالميًا، وبخضوع كلِّ الأعداءِ له (٧:٩-٢٧). في هذه النصوص المقْتَبَسَةِ أعلاه، ينسِبُ الرَّبُّ يسوع لنفْسِهِ هذا الحُكْمَ المَلَكِيِّ. بإشارَةٍ واضِحَةٍ إلى دانيآل ٧، يقودُنا الرَّسُول يُوحَنَّا حتى نتوقَّع نفسَ الأَمْرِ: “هُوَذَا يَأْتِي مَعَ السَّحَابِ، وَسَتَنْظُرُهُ كُلُّ عَيْنٍ ….” (الرُّؤيا ١:٧). بكلِّ يَقِينٍ، يبلغُ كلُّ هذا ذرْوَتَهُ في عَوْدَةِ المسيح المصوَّرَةِ في الفصل 19 من الرُّؤيا، عندما يَنْزِلُ الرَّبُّ يسوع كمحاربٍ ظافرٍ على فرسٍ أبيض لِيُحَارِبَ كلَّ أعدائِهِ. وأخيرًا، تصيرُ “… مَمَالِكُ الْعَالَمِ لِرَبِّنَا وَمَسِيحِهِ، فَسَيَمْلِكُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ” (الرُّؤيا ١١:١٥). سوف يأتي مَلَكُوتُ اللهِ بِمِلْئِهِ عن طريق العَمَل الخلاصي لِابْنِ الإِنْسَانِ.

رؤية ختاميَّة

الإنسانُ المخلوقُ على الصُّورَةِ الإلهية قد قَصَدَ الله له أن يَسُودَ على خليقَةِ الله كنائِبٍ له. للأسفِ! ضَاعَتْ هذه المكانَةُ السَّامِيَةُ بسبب الخطيَّةِ، لكن في الرَّبِّ يسوع، الإنسانِ الحقيقيِّ، يَفْتَدِي الله البَشَرِيَّة ويسترِدُّها. إنه ابْنُ الإِنْسَانِ، المسيحُ المُتَعَالِي، الذي بفضلِ عَمَلِهِ الخلاصي قد حَازَ حُكْمًا مَلَكِيًّا عالَمِيًّا يُمارسُه الآن في إنقاذ شعبه، واحدًا بعد الآخر، إذ يحرِّرُهم من الخضوعِ لِمَمْلَكَةِ الظُّلْمَةِ، ويأتي بهم بسلامٍ إلى مَلَكُوتِ النُّورِ. هذا الحُكْمُ المَلَكِيُّ المخَلِّصُ سَوفَ يَبْلُغُ ذُرْوَتَهُ عندما يأتي ثانيةً، حينئذٍ تَجْثُوَ بِاسْمِه كُلُّ رُكْبَةٍ، وكُلُّ لِسَانٍ يَعْتَرِفَ به رَبًّا (انْظُرْ فِيلِبِّي ٢:٩-١٠).

شارك مع أصدقائك

فرِد زاسبيل

حاصل على درجة الدكتوراه (Ph.D.) من جامعة أمستردام، وهو راعي الكنيسة المعمداينة المُصلحة في فرانكونيا، بنسلفانيا ، وأستاذ مساعد في علم اللاهوت النظامي في كلية ساذرن بابتست أو المعمدانية الجنوبية للاهوت.