اللاَّهوت المُصلح

تعريف

يُستخدَم مُصطلح (اللاَّهوت المُصلح) عند الإشارة إلى عقائد الكنائس البروتستانتيَّة، التي تستقي مبادئها الأساسيَّة من أفكار لاهوتيِّين مثل أورليخ زوينجلي وجون كالفن.

موجَز

تأسَّس اللاَّهوت المُصلح على أسس الإصلاح السويسريِّ، ثمَّ تطوَّر ردًّا على عقيدة الكنيسة الكاثوليكيَّة في نهايات القرون الوسطى، وأيضًا الكنيسة اللوثريَّة، وقد اختلف مع الأخيرة بخصوص طبيعة حلول المسيح في فريضة العشاء الربَّانيِّ. ولأنَّ اللاَّهوت المُصلح يعترف بالوثائق الثلاث التي تُشكِّل الوحدة في الإيمان والعقيدة،[1] ومبادئ إقرارات وستمنستر، فهو يحافظ على المبادئ البروتستانتيَّة العامَّة المتمثِّلة في: كفاية الكتاب المقدَّس وحده، والتبرير بالنعمة من خلال الإيمان، ليصبح بذلك له نهج متميِّز في العقيدة الكريستولوجيَّة والأسرار المقدَّسة، وتوجُّه محدَّد من جهة السياسة والثقافة والعبادة.


لقد اتَّخذ مُصطلح “اللاَّهوت المُصلح” العديد من المعاني في حياة ولاهوت الكنيسة المعاصرة. إذ أصبح من الممكن استخدامه عند الإشارة إلى معتقدات أيِّ طائفة بروتستانتيَّة، طالما تتمسَّك برفض المفهوم البيلاجي للخلاص. لكن على مستوى التعريف التقني للمصطلح، فإن مُصطلح “اللاَّهوت المُصلح” يشير على وجه التحديد إلى الكنائس البروتستانتيَّة التي تتمسَّك بإقرارات سنودس دورت وإقرار الإيمان البلجيكيّ، وكذلك اعترافات وستمنستر، أو تتمسَّك باعترافات مجمع لندن الثاني (في حالة الكنائس المعمدانيَّة المُصلحة).

التاريخ

تتبع الكنائس المُصلحة مبادئ الإصلاح السويسري، والتي تأسَّست تحديدًا في زيورخ عام 1520 تحت قيادة هولدريش زوينجلي (1484-1531). لقد تميَّز الفكر اللاَّهوتيُّ لزوينجلي عن الفكر اللوثريِّ بتأكيده أنَّ الكتاب المقدَّس هو المعيار الوحيد لصحَّة الممارسات الكنسيَّة (ومن هنا، على سبيل المثال أزالت الكنائس في زيورخ النوافذ الزجاجيَّة الملوَّنة وطوَّرت أسلوب عبادة بسيط، يركِّز فقط على كلمة الله). وقاد تمسُّك هذه الكنيسة بإنكار حلول المسيح في فريضة العشاء الربَّانيِّ، إلى انفصال بين زوينجلي ولوثر في مجمع ماربورج عام 1529، هذا الحدث، الذي أدَّى فيما بعد إلى الانفصال الرسميِّ بين الكنائس المُصلحة واللوثريَّة إلى الأبد.

رغم أنَّ زوينجلي هو الذي أعطى الدافعة الأولى للاَّهوت المُصلح، فسرعان ما أتى آخرون ليكون لهم دور مهمٌّ ومؤثِّر. فقد واصل هاينريش بولينجر (Heinrich Bullinger) اللاَّهوت المُصلح في زيورخ بعد موت زوينجلي. وقام مارتن بوسر (Martin Bucer) بإصلاحات مماثلة في ستارسبورج، كما انطلق جون كالفن، وبيير فيريت (Pierre Viret)، وجيوم فاريل (Guillaume Farel)، مع آخرين لنشر اللاَّهوت المُصلح في جينيف وما حولها. ومع نهايات القرن السادس عشر، انتشرت الكنائس المُصلحة في أرجاء أوروبَّا؛ إلى فرنسا وجنوب أوروبَّا وإنجلترا واسكتلندا، وهكذا بنهاية القرن السابع عشر، تأسَّست الكثير من الكنائس التي تتبع اللاَّهوت المُصلح.

خلال هذه الفترة، ثبَّت اللاَّهوت المُصلح وجوده في التعليم الجامعيِّ، وأدَّى ذلك إلى انتعاش الفكر المُصلح في نهايات القرن السادس عشر وطوال القرن السابع عشر. ويُعدُّ جون أوين (John Owen) في إنجلترا وجيسبرتوس فوتيوس (Gisbertus Voetius) في جنوب أوروبَّا، أعظم الأمثلة على ذلك. لكنَّ هذه الفترة المثمرة لم تدُم طويلاً، إذ ساد تأثير أنماط الفكر التنويريِّ على الجامعات، ومع نهاية القرن السابع عشر، أُدخلت التعديلات على اللاَّهوت المُصلح (الذي تأصَّل من قبل على أنَّه من علوم ما وراء الطبيعة)، بحيث أصبح من الصعب التعرُّف عليه، أو تمَّت إزاحته من المناهج الدراسيَّة.

لعب اللاَّهوت المُصلح في العصور المعاصرة دورًا مهمًّا في الحياة السياسيَّة والثقافيَّة في هولندا، خاصَّةً من خلال ما قدَّمه إبراهام كايبر (Abraham Kuyper)، الذي أسَّس طائفة دينيَّة، وجريدة، وجامعة، وحزبًا سياسيًّا. وقد خدم أيضًا كرئيس للوزراء، وفي عهده ازدهر اللاَّهوت المُصلح في الحياة الاجتماعيَّة بشكل غير مسبوق. أمَّا صديقه هيرمان بافينك (Herman Bavinck) فكان من أكثر لاهوتيِّي هولندا فصاحة وموهبة. لقد قدَّم أربعة مجلَّدات عن عقيدة الإصلاح تُعدُّ شرحًا شاملاً عن اللاَّهوت المُصلح، في مقابل النظرة المعاصرة للَّاهوت. لكنَّ واحدًا من الأوجه السيِّئة للاَّهوت الهولنديِّ المُصلح، كان ذلك الدور الذي لعبه في جنوب إفريقيا، حيث تمَّ استخدامه كمبرِّر للفصل العنصريِّ، على الرغم من أنَّه كان في بعض الأوقات مصدرًا للإلهام لهؤلاء الذين عارضوا النظام من أمثال آلان بوساك (Alan Boesak).

أمَّا الكنيسة الحرَّة في اسكتلندا، فقد قدَّمت من خلال معهدها التعليميِّ وجامعتها الجديدة، قيادة لاهوتيَّة خاصَّة من خلال قادتها اللاَّهوتيِّين البارزين من أمثال وليام كنجهام (William Cunningham) وجيمس بانرمان (James Bannerman). وفي برينستون بأميريكا، صارت كلِّيَّة اللاَّهوت مركزًا للاَّهوت المُصلح في القرن التاسع عشر، وقدَّم تشارلز هودج وبنجامين بريكنريدج وارفيلد، إسهامات متميِّزة في الفكر المُصلح في قضايا مهمَّة مثل: نظريَّة التطوُّر وسلطة الكتاب المقدَّس. وبفضل المساعي الإرساليَّة الأميريكيَّة التي توجَّهت إلى كوريا، بعد انفصال الكوريتين، أصبحت كوريا الجنوبيَّة مركزًا لنشر اللاَّهوت المُصلح خارج العالم الغربيِّ.

في منتصف القرن العشرين، كان كارل بارت أحد أشهر اللاهوتيِّين المتميِّزين، رغم تفسيره اللاهوتيِّ الخاصِّ لقضايا مثل عقيدة الاختيار وموقفه من الكتاب المقدَّس. لكنَّه يمثِّل خروجًا مهمًّا عن اعترافات الإصلاح التقليديَّة بخصوص هذه القضايا. بعد عصر هيرمان بافينك، أصبح يوجد توجُّه لدى التيَّارات المحافظة في اللاَّهوت المُصلح، أن توجد خارج الطوائف والمجامع السائدة، خاصَّةً، من قِبَل هؤلاء اللاهوتيِّين الذين عملوا على إعادة صياغة التقليد السابق. وفي هذا الصدد، كان آخر أعمال اللاهوتيِّ الإنجليكانيِّ جون وبستر (John Webster)، الذي درَّس بجامعات أكسفورد وآبردين وسان آندروز، عملاً استثنائيًّا لهذا النموذج.

الخصائص المميَّزة للاَّهوت المُصلح

يتشارك اللاَّهوت المُصلح مع اللاهوت اللوثريِّ والأنجليكانيِّ في الالتزام بالمبادئ العقائديَّة البروتستانتيَّة العامَّة، أي التبرير بالنعمة من خلال الإيمان، وكفاية وسلطان الكتاب المقدَّس وحده، ومعارضة نظام الأسرار، والسلطة الحاكمة للكنيسة.

الخلاص

كان حال اللاهوتيِّين المُصلحين جميعًا هو نفس حال مارتن لوثر، ذاك المُصلح الذي اتَّبع لاهوت أوغسطينوس المناهض للبيلاجيَّة، التي تُشدِّد على سلطان الله في خلاص الإنسان في الأبديَّة من خلال التعيين والاختيار، الذي هو نتيجة طبيعيَّة للإيمان بالخطيَّة الأصليَّة وفساد الإنسان اللذان يجعلان الإنسان عاجزًا عن خلاص نفسه. ومع ذلك، فقد كان هناك اختلاف بخصوص ما إذا كان قضاء الله بالتعيين المُسبَق قضاءً منفردًا (أي الأمر بالحياة للبعض وتجاوز البعض)، أم مزدوجًا (أي يتضمَّن إرادة إلهيَّة لاختيار البعض ورفض البعض)؟ وأيضًا بخصوص مسألة هل تمَّ الاختيار قبل سقوط الإنسان، أم بعد سقوط الإنسان (أي إنَّ الله عيَّن مختاريه قبل الخليقة، ثمَّ سمح بسقوط الإنسان كوسيلة لتحقيق مقاصده الإلهيَّة)؟

أيضًا يوجد اختلاف بخصوص مدى اتِّساع الكفَّارة بالتحديد. ففي حين يرفض اللاَّهوت المُصلح فكرة الخلاص الشامل، فقد تميَّز تاريخ اللاَّهوت المُصلح بالجدل بشأن الكفاية والقصد الافتراضيَّيْن للكفَّارة منذ بداية التقليد المُصلح، خاصَّة مع صعود مذهب الإميرالديانيزم (Amyraldianism) في مجمع سمور في فرنسا، الذي تبنَّى أعضاؤه عقيدة الكفَّارة الشاملة، لكنَّهم يرفضون فكرة الخلاص الشامل.

الأسرار المقدَّسة والعقيدة الكريستولوجيَّة

من أهمِّ القضايا التي تواجه اللاَّهوت المُصلح واللاَّهوت اللوثريَّ، كقطبين أساسيَّين في المذاهب البروتستانتيَّة، هي قضيَّة الأسرار المقدَّسة. فبالنسبة للمعموديَّة، يعتبرها المصلحون علامة عهد كبديل عن الختان؛ كإشارة لالتزام الله العهديّ من جهة شعبه في إطار عهد النعمة. ومثل اللوثريِّين، يتمسَّك المصلحون بمعموديَّة الأطفال، لكنَّهم على عكس اللوثريِّين، يرونها فقط علامة علنيَّة للانضمام إلى شعب الكنيسة، وليست علامة على التجديد.

وفي فريضة العشاء الربَّانيِّ، يوجد تعدُّد في الآراء في التقليد المُصلح. إذ يوجد نقطة التقاء بين فكر زوينجلي وكالفن، تختلف عن لوثر والفكر اللوثريِّ. فقد أقرَّ لوثر بحلول لاهوت وناسوت المسيح بالكامل في الخبز والخمر. وهذا ما تمَّ التعبير عنه لاهوتيًّا في ما بعد، بحلول المسيح في ومع وتحت عناصر العشاء الربَّانيِّ، أي الخبز والخمر. وهذه الفكرة مؤسَّسة على مبدأ أنَّه في التجسُّد، اتَّحدت كلُّ صفات اللاهوت بالناسوت، وبناءً عليه، ناسوت يسوع يشترك مع لاهوته في صفات الوجود الكلِّيِّ. وبالتالي، يمكن أن يحلَّ بوجوده في الخبز والخمر. علاوةً على ذلك، يتمسَّك اللوثريُّون بأنَّه حتَّى غير المؤمن الذي يشترك في مائدة الربِّ، يتناول جسد الربِّ ودمه، ولكن كدينونة عليه.

أمَّا الاعتقاد المُصلح، فيرفض فكرة الاتِّحاد المباشر، ويقرُّ بأنَّ صفات اللاهوت اتَّحدت في شخص المسيح الشفيع، وبالتالي اتَّحدت بصورة غير مباشرة مع طبيعته الإنسانيَّة. هذا الموقف أصبح معروفًا باسم الكالفينيَّة الإضافيَّة، وتعني أنَّه رغم اتِّحاد لاهوت المسيح الحقيقيِّ مع ناسوته، فإنَّ ناسوته لا يحدَّ لاهوته. وهذا يعني أنَّ ناسوت المسيح يبقى محدودًا، ولا يمكن أن يحلَّ في الخبز والخمر، لأنَّه الآن جالس عن يمين الآب في السماوات.

رغم اتِّفاق أفكار زوينجلي وكالفن بشأن طبيعة المسيح، ورفضهم للفكر اللوثريِّ بأنَّ غير المؤمن يمكنه أن يتناول من جسد الربِّ ودمه في العشاء الربَّانيِّ، فهناك بعض الاختلاف، إذ يميل تصوُّر زوينجلي لاعتبار عشاء الربِّ كفريضة لتذكير المؤمنين بموت المسيح وزيادة الوحدة في ما بينهم في الزمن الحاضر. أمَّا تصوُّر كالفن، فيعتبر فريضة العشاء الربَّانيِّ ليست مجرَّد شعيرة تذكاريَّة وحسب، بل أيضًا علامة وختم لعهد النعمة؛ لأنَّه عند تناول الخبز، يجعل الروح القدس المؤمن يتغذَّى في الإيمان بالمسيح ويجعل المسيح حيًّا بالفعل في حياته. إنَّه نفس المسيح، لكنَّنا نستقبله بطرق مختلفة. لكن في جميع الأحوال، يتَّفق المصلحون، مثل اللوثريِّين، بأنَّ ما تعلنه كلمة الله هو الإطار الوحيد الذي يمكننا من خلاله تطبيق الأسرار المقدَّسة وتلقِّيها. فقط عندما نفهم وعود الله من خلال المسيح، يمكننا تجنُّب أن تتحوَّل الأسرار المقدَّسة إلى وثن.

السياسة والثقافة

لقد قدَّم اللاَّهوت المُصلح خلال المئة عام الماضية العديد من الأُطر لفهم العلاقة بين الكنيسة وهموم وقضايا المجتمع. فمن جهة، قدَّم يورجن مولتمان (Jurgen Moltmann) عملاً ملهمًا عن لاهوت التحرير. ومن جهة أخرى، طالبت حركة الحكم الإلهيِّ، أو إعادة بناء المسيحيَّة التي أسَّسها روساس. ﭺ. رشدوني (Rousas J. Rushdoony) بضرورة تطبيق شريعة العهد القديم في المجتمع المعاصر. وفي القرنين السادس عشر والسابع عشر، قدَّم ديفيد فاندرونين (David VanDrunen) عملاً، لعب دورًا متميِّزًا في إعادة عمل القانون الطبيعيِّ في اللاَّهوت المُصلح؛ فبجانب تركيزه على فكرة المملكتين، أي مملكة العالم وملكوت الله، يمثِّل هذا العمل تطوُّرًا في الأخلاقيَّات الإصلاحيَّة، في وقت يتعيَّن فيه على البروتستانتيَّة أن تقوم بمراجعة فكرها نحو المجتمع، في ما يتعلَّق بالتحدِّيات السياسيَّة والأخلاقيَّة المستجدَّة في ما بعد المسيحيَّة.

العبادة

على الرغم من عدم تطلُّب اللاَّهوت المُصلح ولو طقس واحد، فإنَّ الكنائس المُصلحة تعتمد على الكتاب المقدَّس في تنظيم طريقة العبادة بأسلوب لائق وبسيط، يركِّز على الصلاة وقراءة كلمة الله والوعظ والأسرار المقدَّسة والترنيم. وكانت الترانيم قديمًا مأخوذة عن المزامير، أمَّا الآن، فتشمل كلَّ أنواع الترانيم بشكل عامٍّ. هذه الطريقة في العبادة تُعتَبَر تجسيدًا لعقيدة كفاية الكتاب المقدَّس وحده، ليس فقط كعقيدة وأخلاقيَّات، بل أيضًا كممارسة كنسيَّة.


[1] الوثائق الثلاث التي تُشكِّل الوحدة في الإيمان والعقيدة تتضمَّن إقرار الإيمان البلجيكي، ودليل أسئلة وأجوبة هايدلبرج، وإقرارات سنودس دورت.

شارك مع أصدقائك

كارل ترومان

حاصل على درجة الدكتوراة من جامعة أبردين، ويعمل كأستاذ الدراسات الكتابيّة في كليّة جروف سيتي للاهوت، بولاية بنسلفانيا الأمريكيّة.