التعريف
إن الاهتمام بالتقوى العمليَّة هو أمر لا غنى عنه في الحياة المسيحيَّة، وهو يتعلق بممارسة التدريبات الروحيَّة، سواء الشخصيَّة (قراءة الكتاب المُقدَّس، والصلاة، والصوم)، أو الجماعية (المعمودية، وعشاء الرب، والشركة، والعبادة العائلية، وغير ذلك).
الموجز
يهتم المؤمنون بالتقوى العمليَّة في طاعة منهم للرب، وكي يتبعوا “ٱلْقَدَاسَةَ ٱلَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ ٱلرَّبَّ” (عبرانيين 12: 14). ولا غنى عن التدرُّب في سبيل تتميم هذه المهمة، سواء من الناحية الشخصيَّة أو الجماعية. وهذه التدريبات هي أفعال ليست هي التقوى في حد ذاتها، لكنها تسهم في وضع المؤمن أمام تيار نعمة الله. تشمل التدريبات الروحيَّة الشخصيَّة قراءة الكتاب المُقدَّس، والصلاة، والصوم، والحكمة في إدارة الأمور المالية، وتدوين التأملات الشخصيَّة، والتعلُّم. أما التدريبات الروحيَّة الجماعية، فتشمل المشاركة في فرائض الكنيسة (المعمودية وعشاء الرب)، والاستماع إلى الوعظ بكلمة الله، والعبادة والكرازة مع الكنيسة، وخدمة الآخرين، والعطاء إلى الكنيسة، وممارسة الشركة (وليس مجرد تواصل وتفاعل اجتماعي)، والصلاة مع الكنيسة، والتعلُّم مع الكنيسة.
ولكن ما أهمية الاهتمام بالتقوى العمليَّة؟ بدايةً، يوصينا الرب في 1 تيموثاوس 4: 7 قائلًا: “رَوِّضْ نَفْسَكَ لِلتَّقْوَى“. وتلك الكلمات الموحى بها من الله تحمل سلطانًا كما لو كان الرب نفسه ينظر إليك مباشرة في عينيك، ويقولها لك. وإذا كنت تؤمن بذلك، وكنت تريد أن تطيع الله، فإنك ستهتم بالتقوى العمليَّة.
ثانيًا، لن ترى الرب بعد الموت إذا لم تتبع التقوى في هذه الحياة، لأنه يقول في عبرانيين 12: 14، “اِتْبَعُوا ٱلسَّلَامَ مَعَ ٱلْجَمِيعِ، وَٱلْقَدَاسَةَ ٱلَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ ٱلرَّبَّ”. ليس اتباعنا للقداسة (أي التقوى، والتمثل بالمسيح، والتقديس) هو الذي سيقنع الرب بأن يُدخِلنا إلى السماء، بل إن قداسة المسيح نفسه نيابة عنا، تلك القداسة التي تُحتسَب لنا عندما نتحد بالمسيح بالإيمان، هي التي تؤهلنا لرؤية الرب. والذين يتكلون على المسيح ليبرِّرهم أمام الله قد وُهِبوا الروح القدس. وإن حضوره المُقدَّس فينا يثير في داخلنا أشواقًا مقدَّسة إلى أمور الله المُقدَّسة. قال جوناثان إدواردز إن هذه الأشواق “ليست مجرد رغبات خاملة أو غير فاعلة”. وبالتالي، فإن الذين لا يتصرفون بموجب هذه الدوافع المُقدَّسة، ولا يتبعون القداسة، يدلِّلون بهذا على أنهم لا يعرفون القدوس من الأساس، وبالتالي، هؤلاء لن “يروا الرب” في الأبدية.
لا غنى عن التدرُّب
مع أن الروح القدس هو الذي يثير الرغبة في التقوى، فإن إحراز تقدم في التقوى هو أمرٌ لا يحدث تلقائيًّا. ففي النهاية، يقول الله: “رَوِّضْ نَفْسَكَ لِلتَّقْوَى”. فإن الروح القدس يحفزنا، ويُمَكِّننا من ترويض أنفسنا، لكنه لا يتدرب نيابة عنا. فإن الطاعة العمليَّة واليومية للوصية هي مسؤوليتنا نحن، التي نؤديها بتأييدٍ من الروح القدس.
إن مفتاح تحقيق التقوى العمليَّة في الحياة الواقعية هو الانضباط والتدرُّب، أي المشاركة المتعمَّدة والمستمرة في وسائط النعمة التي أعطاها الله، والموجودة في كلمة الله. ولهذا، فإنني أفضِّل ترجمة 1تيموثاوس 4: 7 إلى “روِّض نفسك لأجل غرض التقوى”. فإن “الغرض” من الممارسة هو التقوى، أي “ٱلْقَدَاسَةَ ٱلَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ ٱلرَّبَّ”. فإن المسؤولية الموكَلة إليك من الله في هذا السعي الذي يدوم مدى الحياة هو أن “تدرِّب نفسك”.
وأيَّ نوع من التدرُّب؟ حسنًا، من الواضح أنه ليس تدريبًا جسديًّا (كما توضح الآية التالية، في 1تيموثاوس 4: 8)، وإلا سيكون أبطال كمال الأجسام هم الأشد تقوى على وجه الأرض. لكن الكتاب المُقدَّس يشير هنا إلى التدريب الروحي. والممارسات الموجودة في الكتاب المُقدَّس التي تنمي التقوى العمليَّة صارت تُعرَف باسم “التدريبات الروحيَّة”. وبالتالي، فإن الوسيلة التي ندرب بها أنفسها لغرض التقوى هي ممارسة التدريبات الروحيَّة الكتابية.
التدريبات وسيلة وليست غاية
لستُ أفترض بهذا أن أية قائمة كانت من التدريبات الروحيَّة ستكون كاملة وثابتة تمامًا. يعود السبب في ذلك جزئيَّا إلى وجود بعض الاختلاف في الرأي حول ما يمثِّل تدريبًا أو ممارسة أو عادة كتابيَّة، وما يمثِّل مجرد طاعة لوصية كتابيَّة. على سبيل المثال، لا أحد يشك في أن الصوم هو تدريب روحي كتابي، لكن هل الشكر كذلك أيضًا؟ البعض يقولون إنه تدريب كتابي، في حين يعلِّم آخرون بأنه مجرد فضيلة متشبهة بالمسيح.
في العموم، أستطيع أن أؤكد أن التدريب الروحي يتمثل في عمل محدَّد وخاص، أي إنه شيء تفعله وليس شيئًا من سمات شخصيتك. وبالتالي، فإن الصوم فعل خارجي، يمكن تقييمه من حيث مدته ونوعه (مثل الصوم بالسوائل أو دونها)، ومن حيث عوامل أخرى أيضًا. ووصف طبيعة الصوم وكيفية القيام به هو أمر واضح ومباشر نسبيًّا.
من ناحية أخرى، الامتنان هو في جوهره سمة داخلية. ويشكِّل تقييمه بطريقة موضوعية صعوبة أكبر. وفي حين يعبَّر عن الامتنان الحقيقي بطريقة ظاهرية، من المستحيل علينا أن نسرد كل الطرق التي يمكن التعبير عنه بها.
دعونا نكون واضحين تمامًا في هذا الأمر. إن التدريبات الروحيَّة الموجودة في الكتاب المُقدَّس ليست في حد ذاتها علامات على التقوى. فقد مارس الفريسيون باجتهاد الكثير من التدريبات الروحيَّة، بل وكانوا يصومون مرتين في الأسبوع (لوقا 18: 12)؛ لكن يسوع وصفهم بأنهم نموذج الفجور والفساد. فنظير الكثيرين في يومنا هذا، كان الفريسيون يرون التدريبات على أنها غاية لا وسيلة. فقد أخطأوا باعتبارهم أن ممارسة التدريبات الروحيَّة هي التقوى في حد ذاتها، وليس سبيلًا إلى التقوى.
أيَّة ممارسة – بما في ذلك تلك الممارسات الموجودة في الكتاب المُقدَّس – يمكن قياس درجتها، وتوقيتها، وحسابها، تكون عرضة دائمًا لمساواتها بالتقوى. لكن ذلك الخطر لا يعني أننا يجب أن نتخلى عن هذه الممارسات، وذلك لأن الكتاب المُقدَّس يعلِّم بها. تذكَّر جيدًا أن يسوع أيضًا صام (متى 4: 2). لكن في المقابل، نحن مدعوون إلى ممارسة التدريبات الروحيَّة الكتابيَّة كما مارسها يسوع، أي بدافع سليم. ويعني ذلك أن ننخرط في ممارسة التدريبات بهدف أن نتبع التقوى. وبالعودة إلى المثال أعلاه، نقول إن الامتنان علامة على التقوى، ويمكن للصوم أن يكون وسيلة لزيادة وتنمية التقوى. وبالتالي، يجب ألا نصوم فقط بهدف المثابرة، ظانين أننا صرنا أشد تقوى فقط لأننا صُمنا؛ بل ينبغي أن نصوم لغرض كتابي، وهو السعي إلى تحقيق هدف سليم وصحيح، مثل نوال استجابةٍ لصلاة، أو اختبار حميمية أعمق مع المسيح، أو مزيد من التمثل بالمسيح في أمر معين.
ينطبق الأمر نفسه أيضًا على أيٍّ من التدريبات الروحيَّة الموجودة في الكتاب المُقدَّس. فينبغي أن نمارسها جميعها لا بغرض أن نبهر الله، أو نكسب رضاه، بل سعيًا منا إلى تحقيق غايات مُقدَّسة، أي “لأجل غرض التقوى”.
وبالتالي، تشبه التدريبات قناةً تفيض مياه نعمة الله من خلالها. ودون نعمة الله، تصير التدريبات مفرَغة من قدرتها على أن تباركنا، أو تجعلنا أكثر تقوى. لكن إذا مورست هذه التدريبات بطريقة سليمة، وبدوافع كتابيَّة، فإننا نستطيع أن نثق في أن نعمة الله ستفيض إلينا من خلالها.
التدريبات الروحيَّة الشخصيَّة
يمكن تقسيم التدريبات الروحيَّة الشخصيَّة إلى مجموعتين كبيرتين: التدريبات الروحيَّة الشخصيَّة (التي تمارسها بمفردك)، والتدريبات الروحيَّة الجماعية (التي تمارسها مع آخرين). وسنبدأ فيما يلي بالتدريبات الشخصيَّة، لأن التقوى العمليَّة تبدأ من علاقتنا الفردية بالرب.
تشمل التدريبات الشخصيَّة كل أشكال التفاعل مع الكتاب المُقدَّس، والصلاة، والعبادة الفردية، والصوم، والوكالة على الوقت والمال، والاحتفاظ بدفتر تأملات روحيَّة، وتلقِّي التعليم الصحيح، وغير ذلك أيضًا. لكن أهم تدريبين هما التغذي على الكلمة (أي تكلُّم الله إلينا)، والصلاة (أي تكلُّمنا إلى الله).
التغذي على الكتاب المُقدَّس
التدريبات المتصلة بالكتاب المُقدَّس بصورة مباشرة تشمل الاستماع إلى كلمة الله، وقراءتها، ودراستها، وحفظها عن ظهر قلب، واللهج فيها، وتطبيقها عمليًّا. فقد خلق الله قلوبنا وأذهاننا كي تتغذَّى بكلمة الله. وإننا ننمو في التقوى في المقام الأول بواسطة خدمة الروح القدس لنا من خلال كلمة الله. فببساطة، لا بديل للتغذي المنتظم من اللبن والطعام القوي من كلمة الله.
لن تتيح لنا المساحة سوى أن نستفيض في نوعين فقط من التغذي على الكتاب المُقدَّس.[1] النوع الأول هو قراءة الكتاب المُقدَّس. فكما نغذِّي أجسادنا ونُطعِمها كل يوم، علينا أن نسعى إلى تغذية وإطعام أرواحنا كل يوم من كلمة الله. ردد يسوع كلمات العهد القديم التي تقول: “لَيْسَ بِٱلْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا ٱلْإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ ٱللهِ” (متى 4: 4). وكيف يمكن أن نحيا “بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ ٱللهِ” إذا لم نقرأ كلَّ كلمة؟ أشجعك ليس فقط على أن تقرأ الكتاب المُقدَّس كل يوم، بل على أن تحاول أيضًا أن تقرأ الكتاب المُقدَّس بأكمله (“كُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ ٱللهِ”) بأكبر قدر ممكن من التكرار. يوجد عدد لا يحصى من خطط قراءة الكتاب المُقدَّس المتاحة عبر الإنترنت. وهذه الخطط تستطيع أن تصحبك في رحلة منظَّمة عبر أسفار الكتاب المُقدَّس. يحتاج كل مؤمن بالمسيح إلى “كلِّ مشورة الله” (أعمال الرسل 20: 27). يستطيع معظم الناس أن يقرأوا الكتاب المُقدَّس بأكمله في سنة واحدة عن طريق القراءة فقط لمدة خمس عشرة دقيقة يوميًّا.
ثانيًا، اللهج في الكتاب المُقدَّس يمثل أهمية كبيرة. وفي حقيقة الأمر، ربما كان هذا هو الاحتياج الأهم في وقت العبادة لدى غالبية المؤمنين. فإن معظم المؤمنين يقصرون في التأمل واللهج فيما يقرأونه من كلمة الله، ولهذا يقولون إنهم لا يتذكَّرون ما قرأوه. فإذا استغرقتَ ثانيتين أو ثلاث ثوانٍ في قراءة كلِّ آية في مقطع كتابي معيَّن، فلا عجب إذن ألا تتذكَّر منه شيئًا! فإذا تطلَّعتَ إلى بعض الجمل في أي موضع لمدة ثانيتين أو ثلاثة، هل ستتذكرها؟
من خلال التأمل واللهج، تصير المعلومات التر نقرأها اختبارًا مطبوعًا في قلوبنا وحياتنا. فمن خلال القراءة، نحن نتعلم الحق الإلهي؛ لكن من خلال التأمل واللهج، نشعر بهذا الحق. فعلى سبيل المثال، تعلِّمنا قراءة الكتاب المُقدَّس بأن “الله محبة” (1يوحنا 4: 8)، لكن من خلال اللهج والتأمل نشعر بمحبة الله، بطرق سليمة كتابيًّا. وفقط عندما تتحرَّك مشاعرنا، نكون أكثر استعدادًا أن نطيع بحسب التقوى العمليَّة.
وكيف يمكن أن نلهج ونتأمل في الكتاب المُقدَّس؟ ببساطة، اختر آية واحدة من الآيات التي قرأتَها، وفكِّر فيها، واطرح أسئلة بشأنها. ثم ركِّز على كلمة أو عبارة واحدة تلو الأخرى. لا توجد وسيلة واحدة فحسب للتأمل واللهج في الكتاب المُقدَّس. يصف الكتاب بعنوان “التدريبات الروحيَّة للحياة المسيحيَّة” سبع عشرة طريقة للتأمل في نصٍّ كتابي (ص. 46-69).
وبالتالي، فإن القاعدة العامة للتغذي على كلمة الله بشكل يومي هي أن تقرأ أجزاء كبيرة، وتتأمل في أجزاء صغيرة. اقرأ مقطعًا كبيرًا، مثل أصحاحٍ أو أكثر، ثم اختر مقطعًا صغيرًا، مثل آية واحدة، أو عبارة واحدة، أو كلمة واحدة، وتأمل فيها. وإذا لم تكن لديك سوى عشر دقائق، فلا تقضها كلَّها في القراءة، بل اقرأ لمدة خمس دقائق، وتأمَّل لمدة خمس دقائق. فمن الأفضل جدًا أن تقرأ قدرًا أقل (إذا لزم الأمر)، وأن تتذكر منه شيئًا يحرك مشاعرك، على أن تقرأ قدرًا أكبر ولا تتذكر منه شيئًا. وإذا فعلتَ ذلك، ستكتشف أنك تستطيع أن تتذكر طوال اليوم ما تأملت فيه، وبالتالي أنك استطعت أن تنفذ ما قاله الكتاب المُقدَّس عندما حثَّنا على أن نلهج فيه “نهارًا وليلًا” (يشوع 1: 8؛ مزمور 1: 2).
الصلاة
جميع الذين يسكن فيهم الروح القدس يريدون أن يصلوا، لأن كلًّا من الرسالة إلى رومية (رومية 8: 15)، والرسالة إلى غلاطية (غلاطية 4: 6) تعلن أن الروح القدس هو الذي يدفعنا إلى أن نصرخ قائلين: “يا آبا الآب!” والذين يعرفون الله سيجدون أنفسهم يكلِّمون أباهم بصورة تلقائيَّة وعفويَّة طوال اليوم، في صلوات “سهمية” قصيرة في كثير من الأحيان (كما سُميت عادةً). لكن هذه الصلوات العشوائية واللحظية ليست كافية البتة لإشباع قلوب متجهة نحو الله بالروح القدس. فإن إحراز تقدم في التقوى الشخصيَّة يستلزم تنمية عادات الصلاة، سواء بصورة فردية أو مع الآخرين. وقد تمادى الرسول بولس إلى حد قوله لنا جميعًا: “وَاظِبُوا عَلَى ٱلصَّلَاةِ [كرِّسوا أنفسكم للصلاة]” (كولوسي 4: 2). وعلى أقل تقدير، يعني ذلك أكثر من مجرد تصويب صلاة سهمية من آن لآخر نحو السماء.
لكن توجد معوقات تمنع الكثير من المؤمنين من المواظبة على الصلاة، أو تكريس أنفسهم لها، وفيما يلي عائقان على الأقل: انشغالهم الشديد لدرجة تمنعهم من الصلاة؛ وكذلك أنهم عندما يصلُّون، تكون الصلاة في كثير من الأحيان مضجِرةً لهم.
يعود بنا عائق الانشغال إلى فكرة التدرُّب. فمعظم الناس اليوم يشعرون بأن ما يجب أن يفعلوه خلال اليوم هو أكثر من الوقت المتاح لهم. لكن هل نريد أن نقول حقًّا إنه ليس لدينا الوقت للتكلُّم إلى الله؟ فكما نفعل مع أحبائنا، يجب أن نخلق الوقت لنتكلَّم مع أحب شخص إلينا على الإطلاق.
لكن عندما تكون الصلاة مضجرة، يضعف هذا من قوة تدرُّبنا وانضباطنا. تكون الصلاة مضجرة إذا قلت الكلمات نفسها عن الأمور نفسها كل مرة. فحتى ونحن نكلم الله، تصير الكلمات الخالية من التنوُّع في النهاية كلمات بلا معنى. ولا تكمن المشكلة في أننا نصلي لأجل الأمور نفسها، لأن هذا أمر طبيعي. فإن حياتنا تحتوي في المعتاد على الأمور نفسها يومًا تلو الآخر، أي على الأشخاص أنفسهم، والأماكن نفسها، والعمل نفسه، والاحتياجات نفسها. لكن تكمن المشكلة الحقيقية في أننا نميل إلى قول الأمور نفسها عن هذه الأمور نفسها. وهذا مضجر حقًّا.
وما الحل الذي يمكن أن يكون بسيطًا بما يكفي ليصلح لكلِّ شعب الله؟ إليك الحل: عندما تصلي، صلِّ بالكتاب المُقدَّس، وحوِّل كلمات الكتاب المُقدَّس إلى كلمات صلاة. صحيح أنه ما أن تتعلَّم هذه المهارة، ستستطيع أن تطبِّقها على أيِّ جزء من الكتاب المُقدَّس، لكنَّ أسهل مكان يمكن أن تبدأ منه هو المزامير، ورسائل العهد الجديد.
فإذا صلَّيتَ من المزمور 23، يمكن أن تقرأ السطر الأول الذي يقول: “ٱلرَّبُّ رَاعِيَّ”، وتصلي كالتالي، على سبيل المثال: “أشكرك يا رب لأنك راعي. أنت الراعي الصالح. من فضلك ارع عائلتي، واجعلهم يحبونك بصفتك راعيًا لحياتهم، كما أحبك أنا بصفتك راعيًا لحياتي. كذلك، أطلب منك أن ترعاني في القرار الذي أود اتخاذه. وارع الذين يرعوننا في الكنيسة”. واصل الصلاة بهذه الطريقة لأجل كل ما تثيره عبارة “ٱلرَّبُّ رَاعِيَّ” في داخلك. وعندما لا يتبادر أيُّ شيء آخر إلى ذهنك، انتقل إلى السطر التالي وصلِّ بما يثيره في داخل، وواصل فعل ذلك إلى أن ينفد الوقت.
أي مؤمن يستطيع أن يفعل ذلك. وبهذا لن يعوزك البتة شيء لتقوله، وستتوقف عن قول الأمور نفسها في الصلاة. فإنك ستصلي لأجل الأمور التي تريد في المعتاد أن تصلي لأجلها (لكن بطرق جديدة)، وكذلك لأجل الأمور التي لم تصل لأجلها من قبل. وبهذا، ستكون مثل يسوع الذي صلى على الصليب من مزمورين (متى 27: 46؛ لوقا 23: 46)، وكذلك مثل المسيحيين في سفر أعمال الرسل (أعمال الرسل 4: 24-26)، ومثل عدد لا يحصى من أتباع المسيح منذ ذلك الحين.
التدريبات الروحيَّة الجماعيَّة
تمتد التقوى الشخصيَّة إلى أبعد من حدود حياتنا الشخصيَّة. والسبيل إلى التقوى يتطلب منا أكثر من مجرد تكريس للتدريبات الروحيَّة الشخصيَّة. فإن التمثل بالمسيح يشمل علاقتنا بكل الأشياء، والأشخاص، والظروف. ويجب أن ننظر إلى التقوى في علاقتها بكلٍّ من الحياة الداخلية والحياة الخارجية؛ وكذلك في علاقتها بكلٍّ من الكنيسة والعالم، وبكلٍّ من المؤمنين وغير المؤمنين.
إن التمثُّل بالمسيح مع الآخرين وبمساعدة الآخرين هو أمرٌ ضروريٌّ لا غنى عنه للمسيحية الكتابية. وهنا يأتي دور التدريبات الروحيَّة الجماعية. فإن التدريبات التي نمارسها في وجود الآخرين هي التي بها نُظهِر تقدُّمنا في التشبه بالمسيح، وكذلك نُحَث على الاستمرار في التمثل به.
ما هي هذه التدريبات؟
التدريبات الروحيَّة الجماعية الموجودة في الكتاب المُقدَّس تشمل الاجتماع مع الكنيسة، والانضمام إلى العضوية الرسمية فيها، والاشتراك في الفرائض الكنسيَّة (المعمودية وعشاء الرب)، والاستماع إلى الوعظ بكلمة الله، والعبادة والكرازة مع الكنيسة، وخدمة الآخرين، والعطاء إلى الكنيسة، والشركة مع المؤمنين (وليس مجرد ممارسة نشاط اجتماعي)، والصلاة مع الكنيسة، والتعلُّم مع الكنيسة. ومع أن العبادة العائلية تُمارَس في المنزل، يمكن إدراجها في هذه القائمة، لأنها ليست تدريبًا روحيًّا شخصيًّا إلى حد كبير.
يمكن الاستمتاع بالكثير من هذه التدريبات مع الكنيسة بأكملها. تمارس بعض التدريبات الأخرى في مجموعات صغيرة، والبعض منها يمارَس بين فردين. لكن غالبيتها تمارَس في المقام الأول داخل الكنيسة ككلٍّ. والبعض منها (ولا سيما أفعال الخدمة والكرازة الجماعية) يمكن (بل ينبغي في بعض الأحيان) أن تمارس بصورة متعمَّدة في بيئة غير مسيحيَّة.
نظير التدريبات الشخصيَّة، يجب أن الاشتراك في هذه التدريبات مصدر سرور وليس مجرد أداء واجب. وعمل الروح القدس هو الذي يجعله كذلك. فهو الذي يعطينا محبة تحصرنا تجاه المؤمنين الآخرين، بحيث “نَعْلَمُ أَنَّنَا قَدِ ٱنْتَقَلْنَا مِنَ ٱلْمَوْتِ إِلَى ٱلْحَيَاةِ، لِأَنَّنَا نُحِبُّ ٱلْإِخْوَةَ” (1يوحنا 3: 14). يدرك المؤمنون أن روح الله يسكن في المؤمنين الآخرين، وأن قدرًا كبيرًا من خدمته لنا يتحقق من خلالهم. وبالتالي، فإن فصل أنفسنا عن التعامل المنتظم والهادف مع المؤمنين الآخرين بطرق كتابية، معناه أننا نفصل بهذا أنفسنا عن الكثير جدًا من خدمات الرب لنا. وما من مؤمن يريد ذلك.
ماذا إذن؟
تذكر أن الرغبة في التقوى وفي ممارسة التدريبات مصدرها الروح القدس،
لكن ممارسة التدريبات تبدو في كثير من الأحيان متوقفةً تمامًا عليك.
فعندما تستيقظ في صباح يوم الأحد، ربما لا تشعر برغبة في الذهب إلى الكنيسة. لكن، ما الذي يجعلك تنهض من فراشك الدافئ، وتستعد للذهاب على الكنيسة، في حين لا يفعل غالبية جيرانك المثل؟ ما يدفعك إلى ذلك هو رغبة أثارها فيك الروح القدس، وهي رغبة أعظم من الكسل. لكن هذا لا يجعلك أقل شعورًا بالنعاس. وفي يوم عادي من أيام الأسبوع، لن يجرَّك الروح القدس إلى مقعد، ويفتح لك الكتاب المُقدَّس؛ بل يبدو أن الأمر معتمد عليك بالكامل. لكن روح القدس يأخذ الفضل في إثارة الرغبة فيك في أن تروض نفسك وتلتقط الكتاب المُقدَّس.
إن الاهتمام بالتقوى الشخصيَّة عادة ما يكون “حربًا”، لا أمرًا يحدث “تلقائيًّا”. يُذَكِّرنا الكتاب المُقدَّس بأن “ٱلْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ ٱلرُّوحِ وَٱلرُّوحُ ضِدَّ ٱلْجَسَدِ، وَهَذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا ٱلْآخَرَ، حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لَا تُرِيدُونَ” (غلاطية 5: 17). فإن الجسد – وهو ذلك الجزء من البشر الذين يسكن فيهم الروح القدس على هذه الأرض الذي لا يزال يجد الخطية جذابة – سيسحبك مثل قوة جاذبية الأرض، ويحاول إبعادك عن أي شيء قد ينمي التقوى في حياتك. وإن رد الفعل المتمثل بالمسيح هو أن تروض نفسك وتدرِّبها على إطاعة دفعات وتحفيزات الروح القدس.
ازرع للروح بطريقتين عمليتين على الأقل.
يقول الكتاب المُقدَّس: “لِأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ ٱلْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَادًا، وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ ٱلرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً” (غلاطية 6: 8). والكلمات القائلة “مَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ ٱلرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً” هي طريقة أخرى للقول: “اِتْبَعُوا … ٱلْقَدَاسَةَ ٱلَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ ٱلرَّبَّ”. فالذين يسكن فيهم الروح القدس يرغبون في أن يزرعوا للروح.
لكن كيف يمكن ان نفعل ذلك عمليًّا؟ كما أن الزارع لا يمكن أن يحصد محصولًا بمحض الصدفة، ودون ترتيب، هكذا على المؤمنين أن يتعمَّدوا أن يزرعوا للروح في عزمٍ. وقد أخبرك هذا المقال بكيفية فعل ذلك. ازرع للروح عن طريق ترويض نفسك لغرض التقوى. وعندما تمارس التدريبات الروحيَّة الكتابية، فإنها بهذا تغرس بذار التقوى داخل روحك، والروح القدس سينمي تلك البذار إلى صورة مشابهة للمسيح.
لكن، ينبغي أن تغرس البذار في روحك أولًا. وبالتالي، هل تسمح لي أن أقترح عليك أن تصلِّي، ثم تختار “بذرة” واحدة على الأقل من التدريبات الروحيَّة الشخصيَّة، و”بذرة” واحدة أخرى من التدريبات الجماعية، وتغرسهما بقوة وإحكام داخل حياتك؟ ربما تكون هذه البذرة تدريبًا مارستَه من قبل لكنك توقفتَ عن ممارسته بعد وقتٍ، أو ربما يكون تدريبًا لم تمارسه من قبل قط، لكن الروح القدس يحثك الآن على أن تغرسه. لا تسمح للوقت الذي استثمرته في قراءة هذه الصفحات التي تدور حول الاهتمام بالتقوى الشخصيَّة أن يكون بلا طائل أو ثمرٍ!
[1] For more, see Donald Whitney, Spiritual Disciplines for the Christian Life, chs. 2–3