التعريف
إنَّ “الخلاص”، كما يُوحِي المُصطَلَح، هو “إنقاذ”، إنقاذٌ من جَهَنَّم ولكن أيضًا من الخطيَّة نفسها ومن سَطْوَتها وفي النهاية من وجودها ذاته.
المُوجز
الخلاص هو موضوع شامل على نطاقٍ واسع في الكتاب المقدَّس يُعرَض من مجموعة مُتَنَوِّعَة من المنظورات ويَتَضَمَّن مجموعة مُتَنَوِّعَة من الفوائد. ما يلي هو “نظرة عُلْوِيَّة عامَّة” إلى حَدٍّ ما للعَرْض الكتابي تُمَثِّل مُقَدِّمَة لهذا القسم الأكبر حول عِلْم الخلاص.
يُعَدُّ موضوع الإنقاذ المُنعِم الذي يُنقِذ به الله الخُطاة من أجل مجده موضوعًا مُهَيمِنًا في الكتاب المقدَّس، سواءٌ في قِصَّتِهِ الشاملة من الخلق إلى الاكتمال النهائي أو في الطُّرُق المُتَنَوِّعَة التي يَعْرِض بها كَتَبَة الوحي هذا الخلاص ويَصِفُونه. إنَّه عمل الله من البداية إلى النهاية، يَنبُع من قلبه المُحِبِّ لغير المُستَحِقِّين (النعمة)، ويَصدُر في تضحيَّته بنفسه وفداء شعبه المختار واسترداده.
الخلاص في قِصَّة الكتاب المقدَّس
تبدأ قِصَّة الخلاص الكتابيَّة في الصفحات الأولى من الكتاب المقدَّس. خَلَقَ الله الإنسان ليعكس صورة حُكْم الله على الأرض، ولكنَّ الإنسان تَمَرَّد ووقع تحت الدينونة الإلهيَّة. إنَّ طريق العودة إلى الله الآن مستحيل من الجانب البشري؛ لأنَّ الإنسان هو الطرف المُذنِب الذي أصبح عاجِزًا بسبب الخطيَّة وليس له حق الاقتراب، ولكنَّ الله بنعمةٍ وَعَدَ بِبَطَلٍ (تكوين 3: 15) سوف يهزم المُجَرِّب ويُحَقِّق الاسترداد. يَتَكَشَّف هذا الوعد عَبْر تاريخ الكتاب المقدَّس، ويَتَوَسَّع الرجاء بينما يُضيف الله وعدًا إلى وعدٍ. في عهودٍ متتالية تعهَّد الله بأن يبارك العالم من خلال نسل إبراهيم (تكوين 12: 1-3) الذي سيملك بالبِرِّ على عرش داود (2صموئيل 7) عَالَمِيًّا وإلى الأبد. الله الثالوث سَيُحَقِّق بنفسه غفران خطيَّة شعبه وما يَتَرَتَّب على ذلك من قبولهم أمامه بتقديم الابن نَفْسَهُ ذبيحةً بديلة (إِشَعْيَاء 53) وبعطيَّة البِرِّ التي يُنعِم بها على شعبه (إِرْمِيَا 23: 6؛ 33: 16؛ زكريا 3؛ رومية 3: 21-31). سَيُمَكِّن اللهُ شَعْبَهُ بِمَنْحِهم روحه القدوس من العَيْش في طاعة (إِرْمِيَا 31: 31-34؛ رومية 8: 1-14)، وفي النهاية “ٱلْأَرْضَ تَمْتَلِئُ مِنْ مَعْرِفَةِ ٱلرَّبِّ كَمَا تُغَطِّي ٱلْمِيَاهُ ٱلْبَحْرَ” (إِشَعْيَاء 11: 9؛ قارِنْ حَبَقُّوق 2: 14)، وشعب الله المَفْدِيُّون يَسْكُنون أخيرًا آمنين في حضوره المبارك في السماء الجديدة والأرض الجديدة.
إنَّ هذه القِصَّة الواقعة على سطح السَّرْد الكتابيّ يَتِمُّ نقلها أيضًا بواسطة عدد من المواضيع الرئيسيَّة المُتَنَوِّعَة والمُتَرَابِطَة مع ذلك، نَذكُر أدناه القليل منها فقط:
- آدم وآدم الجديد.
- ابنُ اللهِ الأمينُ.
- الخليقة إلى الخليقة الجديدة.
- الملكوت.
- الهيكل وحضور الله.
- الراحة.
- هزيمة المُجَرِّب.
- الخروج-الخروج الجديد.
- المَسِيَّا.
- الذبيحة.
طوال القِصَّة الكتابيَّة، يَتَكَشَّف وعد الله بالخلاص (تكوين 3: 15) عن طريق الوعد والإتمام الذي يَبلُغ ذروته النهائيَّة في شخص يسوع المسيح وعمله، الذي ضَمَنَ الخلاص لشعبه في مجيئه الأوَّل وسيأتي بهذا الخلاص إلى اكتماله في عودته (عبرانيِّين 9: 28).
منظورات الخلاص
المنظور الثالوثيّ
يمكن النظر إلى الخلاص بشكل مفيد من منظورات مُتَنَوِّعَة. يُرَكِّز المنظور الثالوثيّ (أفسس 1: 3-14) على الأعمال الخاصَّة بِكُلٍّ من الله الآب والله الابن والله الروح القدس، حيث يَتِمُّ الحديث عمومًا عن الخلاص على أنَّ مصدره هو المرسوم الإلهي واختيار (عقيدة الاختيار) الآب لأولئك الذين سَيُخَلِّصهم و”إعطاؤه” هؤلاء الأشخاص المحبوبين لابنه (يوحنَّا 6: 39). يُرسَل الابن بِدَوْرِهِ ويأتي طَوْعًا في مُهِمَّة الإنقاذ هذه (يوحنَّا 17: 1-4) ويُقَدِّم نفسه ذبيحة لله بدلًا من شعبه (يوحنَّا 17: 9؛ أفسس 5: 2، 25؛ قارِنْ رومية 3: 21-25). يُرسِل الآب والابن بِدَوْرِهما الروح القدس (يوحنَّا 14: 26؛ 15: 26) الذي يشهد للمسيح (يوحنَّا 15: 26، 27)، ويُبَكِّت (يوحنَّا 16: 8-11)، ويُوَحِّدنا بالمسيح بالإيمان لننال الخلاص الذي يُجَسِّده (رومية 8: 1-17)، ويُحْيِي (يوحنَّا 3: 1-8)، ويُعطي الإيمان (1كورنثوس 12: 3)، ويَخْتِمُنا كمِلْكِيَّة المسيح إلى الأبد (أفسس 1: 13، 14).
المنظور الكريستولوچِيّ
يُرَكِّز الخلاص في المنظور الكريستولوچِيّ على أعمال المسيح في إنجاز الخلاص، ففي تَجَسُّده رَبَط المسيح نفسه بنا لكي يُصبِح وسيطنا (يوحنَّا 1: 14؛ 1تيموثاوس 2: 5)، وفي حياته التي بلا خطيَّة أسَّس السِّجِلَّ البارَّ الذي يَتَطَلَّبه ناموس الله (غلاطِيَّة 4: 4، 5)، وفي موته أخذ مكاننا، حاملًا لعنتنا ومُرضِيًا الله (غلاطِيَّة 3: 13)، وفي قيامته دَخَلَ الدهر الآتي ويأخذنا معه إلى جِدَّة الحياة (أفسس 2: 5)، مشتركين في تَبَرُّره (رومية 4: 25؛ 1تيموثاوس 3: 16) في المجد (أفسس 2: 5، 6)، وفي صعوده رُفِعَ إلى مجده الوَسَاطِيّ (المُتَعَلِّق بِكَوْنِهِ الوسيط) في يمين الله (أعمال الرسل 2: 36) الذي منه سَكَبَ روحه على شعبه (أعمال الرسل 2، يوم الخمسين) ويشفع فيهم (عبرانيَّين 7: 25)، وفي عودته سيأتي بخلاصنا إلى اكتماله المرسوم (1يوحنَّا 3: 2).
يُرَكِّز هذا المنظور الكريستولوچِيّ أيضًا على وظائف المسيح: النَّبِيّ والكاهن والمَلِك. بصفته النَّبِيّ، يُعلِن المسيح، بواسطة الكلمة والروح القدس، إرادة الله لأجل الخلاص. وبصفته الكاهن، قَدَّم المسيح نفسه ذبيحةً عنَّا إرضاءً للعدالة الإلهيَّة، ويشفع فينا. وبصفته المَلِك، يَملِك المسيح علينا ويُدافِع عنَّا، ويَردَع ويَقهَر كُلَّ أعدائه وأعدائنا[1].
يُرَكِّز هذا المنظور الكريستولوچِيّ أيضًا على المسيح بصفته آدم الأخير، رأسنا المُمَثِّل الجديد الذي يستعيد لنا كُلَّ ما فقدناه في آدم الأوَّل (رومية 5: 12-21). ويُرَكِّز على المسيح بصفته العَهْد لِشَعْبِهِ (إِشَعْيَاء 42: 6؛ 49: 8؛ قارِنْ لوقا 22: 20) الذي يضمن في موته كل البركات الموعود بها في العهد (إِرْمِيَا 31: 31-34).
المنظور الفرديّ والكونيّ
يُرَكِّز الخلاص في المنظور الفرديّ والكَوْنِيّ على أبعاد الخلاص الاختباريَّة فرديًّا وشخصيًّا (الاهتداء، اليقين، التجديد، وما إلى ذلك) وفي النظام المخلوق الأكبر. لقد شَوَّهَتْ الخطيَّةُ البشريَّةَ، وتَوَرَّط النظام المخلوق نفسه في حالتها الساقطة ودينونتها (تكوين 3؛ رومية 8: 17-25). الخلاص في النهاية يشمل هذا المنظور الكَوْنِيّ: النظام المخلوق نفسه سَيُستَرَدُّ في يوم قيامتنا.
منظور التسلسل الزمنيّ
يُرَكِّز الخلاص في المنظور المُتَسَلسِل زَمَنِيًّا على تتميم الخلاص بدءًا من مصدره في مرسوم الله الخاصِّ بالاختيار (تخطيط الفداء) إلى إنجازه في عمل المسيح (إنجاز الفداء) إلى اختبارنا له في الاتِّحاد بالمسيح (تطبيق الفداء). الخلاص هو مفهوم إسْخَاتُولُوچِيّ (أُخْرَوِيّ) من حيث أنَّ فوائده الموعودة لن تَتَحَقَّق بالكامل إلَّا في الحالة النهائيَّة، غير أنَّ الكتاب المقدَّس يَصِفه بأنَّه يُختَبَر على مراحل: في البداية بناءً على الإيمان (أفسس 2: 8)، وبصورة مُستَمِرَّة في تتميم (تكميل) قَصْد الله فينا (فِيلِبِّي 1: 6)، وبصورة بالِغَة ونهائيَّة عندما يعود يسوع لأجلنا (عبرانيِّين 9: 28؛ 1يوحنَّا 3: 1-3)؛ وبهذا المعنى يمكننا أن نقول إنَّنا خَلَصْنَا (أفسس 2: 5، 8؛ 2تيموثاوس 1: 9؛ تيطس 3: 5؛ إلخ)، ونَخْلُصُ (فِيلِبِّي 1: 6؛ 1بطرس 1: 5)، وسَنَخْلُصُ (عبرانيِّين 9: 28؛ 1بطرس 1: 5؛ قارِنْ رومية 13: 11). تَتَضَمَّن كل مرحلة من “مراحل” الخلاص هذه فوائد موازية (اُنْظُرْ أدناه) وفي اكتمالها تَتَغَلَّب تمامًا على مشكلة اغترابنا الآثِم وعداوتنا وذنبنا وفسادنا.
تخطيط الخلاص
إنَّ اختيار الله لأولئك الذين سَيُخَلِّصهم موصوف في كل مكان في الكتاب المقدَّس بأنَّه عمل نعمة، فهو اختيارٌ مُؤَسَّسٌ فقط على الله نفسه دون الرجوع إلى أي شيء فينا، فمنذ الأَزَل التصق الله بنا بالمحبَّة وعَزَمَ على إحضارنا إلى المجد (أفسس 1: 3-6).
إنجاز الخلاص
افْتَدَانَا الرَّبُّ يسوع في موته مِنْ لَعْنَةِ نامُوسِ الله المكسور (غلاطِيَّة 3: 13) بتقديم نفسه مكاننا وحَمْل لعنتنا؛ مُرضِيًا بذلك غضب الله العادل (الكَفَّارة؛ رومية 3: 21-25)، ومُزَوِّدًا إيَّانا بالبِرِّ الذي يطلبه الله مِنَّا (1كورنثوس 1: 30؛ 2كورنثوس 5: 21؛ فِيلِبِّي 3: 9). ضَمَنَ رَبُّنا في موته البَدَلِيّ كُلَّ بركةٍ خلاصيَّة (رومية 8: 32).
“الخلاص” (الإنقاذ) هو المُصطَلَح الواسع، لكنَّ هذا الخلاص الذي اشتراه لنا المسيح في موته له أبعاد مُتَعَدِّدَة تُلَبِّي احتياجنا المُتَعَدِّد الأبعاد.
- في الفداء نُحَرَّر بِدَفْع ثَمَن الفِدْيَة المُتَمَثِّل في دم المسيح.
- في الغُفران يُلغَى دَيْننا، بعد أن تَمَّ سداد الدَّيْن بالكامل في موت المسيح الفِدَائِيّ.
- في التبرير نُعلَن أبرارًا أمام الله القاضي بفضل موت المسيح البَدَلِيّ وعَطِيَّة بِرِّهِ.
- في المُصَالَحَة نُنقَل من العداوة إلى الشَّرِكَة مع الله.
- في التَّبَنِّي نصير، بالاتِّحاد بالمسيح الابن، أولاد الله.
يُقَدِّم العهد الجديد “مَنطِقًا” مُعَيَّنًا لهذه الجوانب والفوائد المُتَنَوِّعَة لعمل المسيح. الأكثر شُهرَةً، في (رومية 3: 21-25) يُوَضِّح بولس أنَّنا نتبرَّر بعمل المسيح الفدائي الذي تَمَّ تأمينه، بِدَوْرِهِ، بواسطة موت المسيح الكفَّاري. بالمِثْل، في (2كورنثوس 5: 19-21) يُوضِّح بولس أنَّ تبريرنا يَنبُع من موت المسيح البَدَلِيّ ويُؤَدِّي إلى المُصَالَحَة. في (أفسس 1: 7) يُخبِرنا بولس أنَّ موت المسيح البَدَلِيّ يُشَكِّل ثَمَن الفِدْيَة الذي به نحصل على الغُفران (قارِنْ غلاطِيَّة 3: 10-13)، أي إنَّنا لا نحصل على الغُفران عن طريق مُجَرَّد قرار إلهيّ، بل عن طريق سدادٍ بديلٍ للدَّيْن حرَّرنا منه. يُصِرُّ العهد الجديد على أنَّ كُلَّ البركات الخلاصيَّة تأتي إلينا نتيجةً لموت المسيح (رومية 8: 32؛ قارِنْ 1كورنثوس 15: 3؛ 2كورنثوس 5: 14 والآيات التي تليها)، ومن بين جميع الاستعارات المُتَنَوِّعَة المُستَخدَمَة لوصف موت المسيح، ومن بين جميع أبعاد أهميَّته ودَلَالَته المُتَنَوِّعَتَيْن، فإنَّ الكفَّارة عن طريق البَدَلِيَّة العقابيَّة هي أمرٌ أساسيّ ومركزيّ.
تطبيق الخلاص
إنَّ اختبارنا للخلاص يَتَوَقَّف بِكَامِلِهِ على قيام الروح القدس بتوحيدنا بالمُخَلِّص المُقام من الأموات للاشتراك في حياته المُقامة، فَقَدْ أنجز المسيح الفداء لنا، وفيه توجد كُلُّ البركة الخلاصيَّة.
يَسْتَحِقُّ هنا تصريح كالڤن الشهير التكرار:
ينبغي أن ندرك أوّلًا أنَّه ما دام المسيح خارجًا عنّا، ونحن منفصلون عنه، بات كلّ ما قاساه وأنجزه لأجل خلاص الجنس البشريّ عديم الجدوى لنا وغيرَ ذي غَناء. لذا، من أجل أن يشاركنا ما تسلّمه من الآب، تحتّم عليه أن يصير لنا وأن يسكن فينا. لذلك دُعي “رَأسُنَا” [اف 4: 15]، و”بِكْرًا بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ” [رو 8: 29]. ونحن أيضًا، بدورنا يُقال عنّا إنَّنا “طُعِّمْنَا فِيهِ” [رو 11: 17] وإنَّنا “قَدْ لَبِسْنَا المَسِيحَ” [غل 3: 27]؛ فكما قلت، إنَّ كلَّ ما يمتلك المسيح لا يُجدينا شيئًا إلى أن نبلغ إلى جسدٍ واحدٍ معه.
(أُسُس الدِّين المسيحي الكتاب الثالث، الفصل الأوَّل، البند الأوَّل)
يبدأ هذا البُعْد الاختباريّ لخلاصنا بالدعوة الإلهيَّة (1كورنثوس 1: 9) ويُتَوَّج بالتمجيد (رومية 8: 30). إنَّ دعوة الله الواهبة للحياة تُوَحِّدنا بابنه بواسطة روحه حتَّى نختبر بالاتِّحاد به الخلاص الذي أنجزه ويُجَسِّده، إذ إنَّه بالاتِّحاد به نحن نشترك في اختبار قيامته وحياته ومجده الفائق (كولوسي 3: 1-4). إنَّ مفاهيم مثل الاهتداء واليقين والتجديد والتقديس والمثابرة والقيامة والتمجيد تُعَبِّر عن هذا الاختبار المُتَعَدِّد الأبعاد للخلاص في المسيح من البداية إلى النهاية. إنَّ “الخلاص”، كما يُوحِي المُصطَلَح، هو “إنقاذ”، إنقاذٌ من جَهَنَّم ولكن أيضًا من الخطيَّة نفسها ومن سَطْوَتها وفي النهاية من وجودها ذاته.
نحن نختبر الخلاص الآن، في هذه الحياة، مع أنَّ هذا الاختبار ليس بَعْدُ في مِلْئِهِ، فاختبارنا الكامل للخلاص ينتظر عودة رَبِّنا (عبرانيِّين 9: 28)، عندما نكون أخيرًا معه ونصير أخيرًا مثله (1يوحنَّا 3: 2).
[1] دليل أسئلة وأجوبة وستمنستر المُوجَز، الأسئلة 24-26.