دعوة إلى غَلاَطِيَّةَ
تحتفظ الرسالة إلى أهل غَلاَطِيَّةَ بمكانةٍ خاصَّةٍ داخل الكنيسة منذ أن كَتَبَها الرسول بولس، وعلى الأكثر كذلك منذ وقت الإصلاح البروتستانتيِّ وتشديده على التبرير بالإيمان. والرسالةُ مكتوبةٌ أساسًا لمجموعةٍ من الكنائس، وقد أعانت عددًا لا يُحصى من المؤمنين على فَهْمِ رسالة الإنجيل، وإدراك الطريقة التي ينبغي أن يحيا بها المَرْءُ الحياةَ المسيحيَّةَ.
الكاتب، التاريخ، القرَّاء الأوائل
من النادر أن يتمَّ تحدِّي كتابة الرسول بولس للرسالة. فهي تَنُصُّ على أنَّها مكتوبة بواسطته، حتَّى أنَّ أكثر الباحثين الكتابيِّين نقدًا يقبلون بهذا الزَّعْمِ.
لكن من ناحيةٍ أخرى، يوجد جدل واسع النطاق بشأن تاريخ كتابة الرسالة وقرَّائها الأوائل. التاريخ والقرَّاء مرتبطان للغاية حتَّى أنَّه من الضروريِّ دراستهما معًا. وعلى الرغم من صعوبة هذه القضايا، فإنَّ خلاصات المَرْءِ عنها ليس لها أيُّ تأثيرٍ لافت على معنى أو تفسير الرسالة. القضيَّة المركزيَّة هي أنَّ زيارَتَي الرسول بولس إلى أورشليم بعد إيمانه بالمسيح في نصَّي (غَلاَطِيَّة 18:1-20؛ 1:2-10) متوافقتان مع الزيارات الثلاث في (أعمال الرسل 26:9-30؛ 27:11-30؛ 1:15-29). وعلى وجه التحديد، يتركَّز الجدل حول السؤال: هل نصُّ (غَلاَطِيَّة 1:2-10) يشير إلى نصِّ (أعمال الرسل 27:11-30)، والمُسَمَّى غالبًا بزيارة الإغاثة بسبب المجاعة، أم يشير إلى نصِّ (أعمال الرسل 1:15-29)، والمعروف باسم مَجْمَع أورشليم؟ إن كان السيناريو الأوَّل هو الصحيح، فإنَّ الخطَّ الزمنيَّ للأحداث يكون على النحو الآتي:
تاريخ تقريبيٌّ | أعمال الرُّسل | غَلاَطِيَّة |
33-35م | اهتداء الرسول بولس إلى الإيمان المسيحيِّ (أعمال الرسل 1:9-25) | سَرَّ اللهَ… أَنْ يُعْلِنَ ابْنَهُ فِيَّ… (غَلاَطِيَّة 15:1-16) |
35-38م | زيارة بعد الإيمان (أعمال الرسل 25:9-30) | ثُمَّ بَعْدَ ثَلاَثِ سِنِينَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ (غَلاَطِيَّة 18:1) |
44-47م | زيارة الإغاثة بسبب المجاعة (أعمال الرسل 27:11-30) | ثُمَّ بَعْدَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدْتُ… (غَلاَطِيَّة 1:2-10) |
قبل 48/49م بقليل | يَكْتُبُ الرسول بولس رسالته إلى أهل غَلاَطِيَّةَ | |
48/49م | مَجْمَعُ أورشليم (أعمال الرسل 1:15-29) |
لكن إن كان نصُّ (غَلاَطِيَّةَ 1:2-10) يشير إلى نصِّ (أعمال الرسل 1:15-29)، فإنَّ الخطَّ الزمنيَّ للأحداث يكون على النحو الآتي:
تاريخ تقريبيٌّ | أعمال الرُّسل | غَلاَطِيَّة |
33-35م | اهتداء الرسول بولس إلى الإيمان المسيحيِّ (أعمال الرسل 1:9-25) | سَرَّ اللهَ… أَنْ يُعْلِنَ ابْنَهُ فِيَّ (غَلاَطِيَّة 15:1-16) |
35-38م | زيارة بعد الإيمان (أعمال الرسل 25:9-30) | ثُمَّ بَعْدَ ثَلاَثِ سِنِينَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ (غَلاَطِيَّة 18:1) |
44-47م | زيارة الإغاثة بسبب المجاعة (أعمال الرسل 27:11-30) | غير مذكورة |
48-49م | مجمع أورشليم (أعمال الرسل 1:15-29) | ثُمَّ بَعْدَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدْتُ… (غَلاَطِيَّة 1:2-10) |
بعد 48/49م في وقتٍ ما | يَكْتُبُ الرسول بولس رسالته إلى أهل غَلاَطِيَّة |
الوصول إلى قرار بين هذين البديلين أمرٌ صعبٌ، فالباحثون غيرُ متَّفقين أيُّهما يكون هو الصائب. على كلٍّ، يبدو البديلُ الأوَّل أكثرَ ترجيحًا في أنَّ نصَّ (غَلاَطِيَّة 1:2-10) يشير إلى نصِّ (أعمال الرسل 27:11-30).
عندما يرتبط الأمر بمستلمي الرسالة، توجد نظريَّتان كبيرتان. الأولى هي نظريَّة غَلاَطِيَّة الجنوبيَّة، وتبعًا لها يقع مستلمو الرسالة في الحدود الرومانيَّة التي تضمُّ أهلَ غَلاَطِيَّة العرقيِّين مع مدن أَنْطَاكِيَة بِيسِيدِيَّة، وإِيقُونِيَة، ولِسْتْرَة، ودَرْبَة، التي زَرَعَ فيها الرسول بولس الكنائسَ في أثناء رحلته التبشيريَّة الأولى. وَوَفْقًا لهذه النظريَّة، بعد أن عاد الرسول من تلك الرحلة، وسمع عن مشكلات هذه المدن، كَتَبَ الرسالة قبل وقوع الأحداث الواردة في (أعمال الرسل 15). إنَّ معظم الباحثين الذين يتمسَّكون بهذا الرأي يستنتجون أنَّ نصَّ (غَلاَطِيَّة 1:2-10) يشير إلى نصِّ (أعمال الرسل 27:11-30)، ومن ثمَّ يعطون الرسالة تاريخًا مبكِّرًا. ومع ذلك، تنادي أقلِّيَّة صغيرة من الباحثين الذين يتمسَّكون بنظريَّة غَلاَطِيَّة الجنوبيَّة بأنَّ نصَّ (غَلاَطِيَّة 1:2-10) يشير إلى (أعمال 1:15-29)، ومن ثَمَّ يَخْلُصُون إلى أنَّ الرسالة إلى غَلاَطِيَّة كُتِبَتْ في منتصف الخمسينيَّات من القرن الأوَّل الميلاديِّ.
على النقيض ممَّا سبق، تتمسَّك نظريَّة غَلاَطِيَّة الشماليَّة بأنَّ الرسالة كُتِبَتْ إلى أهل غَلاَطِيَّة العرقيِّين ممَّن عاشوا في سهول أسِيَّا الصُّغْرَى (تركيا الحديثة). وقد كانوا أساسًا من بلاد الغال، ثمَّ استقرُّوا في تلك المنطقة قبل أن تسيطر عليها روما. وبما أنَّ سفر أعمال الرُّسل لا يدوِّن شيئًا عن زيارة الرسول بولس لتلك المنطقة إلاَّ بعد مجمع أورشليم (أعمال الرسل ١٥)، يميل الباحثون المتمسِّكون بهذه النظريَّة إلى أنَّ تاريخ الرسالة يقع في منتصف الخمسينيَّات من القرن الأوَّل الميلاديِّ. لذلك، يستنتج المدافعون عن تلك النظريَّة أنَّ نصَّ (غَلاَطِيَّة 1:2-10) يشير إلى نصِّ (أعمال 1:15-29).
وفي حين أنَّه يوجد أدلَّة قويَّة على النظريَّتين، إلاَّ أنَّ نظريَّة غَلاَطِيَّة الجنوبيَّة هي الأكثر منطقيَّة بالدليل. وهكذا، كَتَبَ الرسول بولس رسالةً إلى أهل غَلاَطِيَّة، إلى الكنائس التي زرعها في أثناء رحلته التبشيريَّة الأولى، قبل وقت قصير من مَجْمَعِ أورشليم، وفي وقتٍ ما في سنة 48/49 م تقريبًا. توجد أدلَّة على النظريَّتين الشماليَّة والجنوبيَّة. وفي حين لا تؤثِّر أيَّة نظريَّة منهما، بشكلٍ نهائيٍّ، على معنى الرسالة، يبقى السؤال: أيَّة واحدة هي الأكثر ترجيحًا؟ لا نقدر أن نكون متيقِّنين تمامًا، لكن نظنُّ أنَّ الدليل يشير إلى نظريَّة غَلاَطِيَّة الجنوبيَّة. في كتابته رسالةً إلى مؤمني كنائس غَلاَطِيَّة، يحاول الرسول بولس البرهنة على أنَّ إنجيله لم يكن ممَّن هم في أورشليم، وبالتالي عدم إشارته إلى زيارةٍ لأورشليم من شأنه أن يقوِّضَ حجَّتَه.
ظروف الكتابة
بعد رحيل الرسول بولس بوقتٍ قليل من منطقة غَلاَطِيَّة، أتى إليها معلِّمون دخلاء (زعموا بأنَّ لديهم ارتباطًا من نوعٍ ما مع كنيسة أورشليم)، ثمَّ شرعوا في الحطِّ من شأن الإنجيل الذي نادى به الرسول. إنَّ هؤلاء المعلِّمين، الذين تسبَّبوا في صنع المشكلات، قد ركَّزوا تعليمَهم في ثلاث قوائم عريضة. من الناحية اللاهوتيَّة، نادوا بأنَّ المَرْءَ، بالإضافة إلى إيمانه بالمسيح، يحتاج إلى حفظ الناموس الموسويِّ ليكون ابنًا لإبراهيم مبرَّرًا بالكامل، ومن ثمَّ يرثُ ما وَعَدَ به اللهُ إبراهيمَ. ومن جهة الأخلاقيَّات، يبدو أنَّ أولئك المزعجين، بتركيزهم المحدَّد على الختان، وربَّما الشرائع المرتبطة بالأطعمة، والخاصَّة أيضًا بالتقويم اليهوديِّ، قد علَّموا بأنَّ حفظَ الناموس الموسويِّ أساسيٌّ أيضًا لكي يحيا المَرْءُ الحياة المسيحيَّة. أخيرًا، نادى هؤلاء المعلِّمون بأنَّ بولس ليس رسولاً بنفس مستوى السلطان الرسوليِّ الخاصِّ بالرسل الذين يقودون الكنيسة في أورشليم؛ بالأحرى، يستمدُّ سلطانه من قادة كنيسة أورشليم. وهكذا، شَكَّلَتْ هذه الأبعاد الثلاثة معًا خليطًا سامًّا من الكذب الذي بدأ مؤمنو غَلاَطِيَّة في قبوله بدرجات متفاوتة.
لاندهاشه من أنَّ الغَلاَطِيِّين يتحوَّلون هكذا سريعًا عن الإنجيل الذي كَرَزَ به إليهم (غَلاَطِيَّة 6:1-9)، بَادَرَ الرسول بولس بالرَّدِّ على كلِّ مَزْعَمٍ من هذه المزاعم. من الناحية اللاهوتيَّة، ردَّ الرسول على أنَّ كون المَرْء ابنًا مبرَّرًا لإبراهيم ووارثًا للمواعيد هو أمرٌ يعتمد بالتمام على الإيمان بالمسيح باعتباره نسلَ إبراهيم، ولا يعتمد أبدًا على أعمالنا. وعندما يرتبط الأمر بالأخلاقيَّات، أصرَّ الرسول على أنَّ المؤمنين بما لديهم من الروح القدس بسبب اتِّحادهم بالمسيح، ليسوا تحت سيادة الناموس الموسويِّ (الذي لم يعد مُلْزِمًا بعد للمسيحيِّين بعد أن جاء المسيح). أمَّا من جهة سلطانه، شدَّد الرسول على أنَّ تكليفه بالعمل كرسول قد جاء مباشرةً من الربِّ يسوع المسيح، كما كان الحال مع سائر الرسل. كما أكَّد الرسول أنَّه ينادي بنفس الإنجيل الذي ينادي به باقي الرسل.
هدفُ الرسالة
كَتَبَ الرسول بولس هذه الرسالة إلى مؤمني غَلاَطِيَّة ليدحض التعاليم الكاذبة للمعلِّمين المزعجين، وذلك بشرحه لحرِّيَّة المؤمنين في الإنجيل، تلك الحرِّيَّة التي اقْتُنِيَتْ بموت المسيح، وصارتْ ممكنة بقوَّة الروح القدس.
النص المفتاحي
مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي. (غَلاَطِيَّة 20:2)
تقسيم الرسالة
أوَّلاً: تحيَّة وتعجُّب (غَلاَطِيَّة 1:1-10)
- تحيَّة (غَلاَطِيَّة 1:1-5)
- تعجُّب (غَلاَطِيَّة 6:1-10)
ثانيًا: اهتداء بولس إلى الإيمان وتكليفه الرسوليُّ (غَلاَطِيَّة 11:1-21:2)
- طرح الرسول بولس (غَلاَطِيَّة 11:1-12)
- اهتداء الرسول بولس إلى الإيمان بالمسيح (غَلاَطِيَّة 13:1-17)
- الخدمة المبكِّرة للرسول بولس (غَلاَطِيَّة 18:1-24)
- زيارة الرسول بولس الثانية إلى أورشليم (غَلاَطِيَّة 1:2-10)
- الحدث الأنطاكيُّ (غَلاَطِيَّة 11:2-14)
- وصف الإنجيل (غَلاَطِيَّة 15:2-21)
ثالثًا: نسل إبراهيم وأبناء الوعد (غَلاَطِيَّة 1:3-1:5)
- تباين صارخ: خبر الإيمان أم أعمال الناموس (غَلاَطِيَّة 1:3-5)
- الإنجيل المكروز به مسبَّقًا لإبراهيم (غَلاَطِيَّة 6:3-9)
- اللعنة والمسيح (غَلاَطِيَّة 10:3-14)
- المسيح النسل المتفرِّد (غَلاَطِيَّة 15:3-18)
- الغرضُ من الناموس (غَلاَطِيَّة 19:3-25)
- أبناءُ الله في المسيح (غَلاَطِيَّة 26:3-29)
- الأبناء بالتبنِّي مختومون بالروح (غَلاَطِيَّة 1:4-7)
- تَذْكِرةٌ بماضيهم الوثنيِّ (غَلاَطِيَّة 8:4-11)
- تَذْكِرةٌ بطريقة استقبالهم للرسول بولس (غَلاَطِيَّة 12:4-20)
- الأبناء الأحرار لأورشليم السماويَّة (غَلاَطِيَّة 21:4-1:5)
رابعًا: الحياة في حرِّيَّة البنويَّة (غَلاَطِيَّة 2:5-10:6)
- الإيمان العامل بالمحبَّة (غَلاَطِيَّة 2:5-6)
- الدينونة ستقع على المعلِّمين المزعجين (غَلاَطِيَّة 7:5-12)
- حرِّيَّةٌ لخدمة الآخرين بالمحبَّة (غَلاَطِيَّة 13:5-15)
- اسلكوا بالروح لا بالجسد (غَلاَطِيَّة 16:5-26)
- احْمِلُوا بعضُكم أثقالَ بعض (غَلاَطِيَّة 1:6-5)
- المشاركة وفعل الخير (غَلاَطِيَّة 6:6-10)
خامسًا: خاتمة (غَلاَطِيَّة 11:6-18)
أوَّلاً: تحيَّةٌ وتعجُّب (غَلاَطِيَّة 1:1-10)
تحيَّةٌ (غَلاَطِيَّة 1:1-5)
بشكلٍ نمطيٍّ يبدأ الرسول بولس رسائله بنموذجٍ معياريٍّ (معدَّل بناءً على ثقافته الواسعة المتأثِّرة بالعالم الإغْرُومانيِّ Greco-Roman): هويَّة المُرْسِل، هويَّة مستلمي الرسالة، التحيَّة، الشكر. وكما سنرى لاحقًا، فإنَّ الرسالة إلى مؤمني كنائس غَلاَطِيَّة تَضُمُّ العناصر الثلاثة الأولى، لكن تفتقر إلى الشكر، الأمر الذي يشير إلى قلق الرسول البالغ بشأن مؤمني تلك الكنائس.
يحدِّد بولس هويَّته باعتباره رسولاً، مشدِّدًا على أنَّ تكليفه الرسوليَّ قد جاء مباشرةً من الله الآب عن طريق يسوع المسيح وليس من أيَّة سلطة بشريَّة. يبدأ هذا التوضيحُ في وضع إطار العمل الأساسيِّ لدحضِ المقاومين الساعين إلى التقليل من سلطانه الرسوليِّ. والأكثر من ذلك، يحدِّد الرسول أنَّ الله الآب هو الذي أقام يسوع من بين الأموات. وكما أنَّ خروج بني إسرائيل من مصر هو الحدث الذي يكشفُ بوضوح هويَّة الله في العهد القديم، تنكشف هذه الهويَّة في العهد الجديد بقيامة يسوع من بين الأموات. وفي إشارة الرسول إلى إخوةٍ آخرين معه، يؤكِّد أنَّه ليس الشخص الوحيد الذي يفهم مضمون الإنجيل الذي سيدافع عنه.
بعد أن قام الرسول بولس بتحديد هويَّة مستلمي الرسالة باعتبارهم مؤمني كنائس غَلاَطِيَّة (انظر المناقشة بشكلٍ موسَّع في المقدِّمة)، يحيِّيهم الرسول، راجيًا لهم أن ينعموا بالنعمة والسلام. وتأتي تحيَّة الرسول في الغالب في صيغةٍ معدَّلَةٍ تجمعُ بين ما هو شائع في التحيَّة اليونانيَّة “نعمة”، والتحيَّة اليهوديَّة “سلام”. إنَّ النعمة غير المستحَقَّة، والعلاقات المسترَدَّة مع الله والآخرين والخليقة، أي كلُّ الأمور التي نحتاجها بشدَّة، لا يمكن أن تنبع إلاَّ من الله الآب والربِّ يسوع المسيح. نحن نختبر هذه الحقائق عن طريق الإنجيل، الذي يدور حول الربِّ يسوع الذي بَذَلَ نفسه من أجل خطايانا. فالربُّ يسوع بموته الذبائحيِّ على الصليب ينقذنا من “الْعَالَمِ الْحَاضِرِ الشِّرِّيرِ”. ويقبل الرسول بالفهم اليهوديِّ الشائع في أنَّ التاريخ البشريَّ يمكن تقسيمه إلى دهرٍ حاضرٍ (يتَّصِف بالخطيَّة، والموت، والشيطان نتيجة السقوط)، ودهرٍ آتٍ (يتَّسم بمجيء المسيح، وإزالة الخطيَّة، وعطيَّة الروح القدس، والخليقة الجديدة). ولكن يبتعد الرسول عن فكر معاصريه بقناعته بأنَّ الدهر الآتي قد بدأ بالمجيء الأوَّل للربِّ يسوع في حين لم ينتهِ الدهر الحاضر بعد. ومن هم في المسيح يعيشون بالفعل الدهر الآتي لكن على نحوٍ متداخلٍ مع الدهر الحاضر. بموت الربِّ يسوع وقيامته، قد تحرَّر المؤمنون من سيادة وسلطان قوَّات هذا الدهر الحاضر كما وُهِبَتْ لهم عطيَّة الروح القدس دليلاً على أنَّهم الآن جزء من الدهر الآتي. لكن لا يزال يتعيَّن علينا، نحن المؤمنين، أن نعيش في عالم يقع تحت قبضة قوى الدهر الحاضر الشرِّير. وبينما ننتظر اليوم الذي سيضع الله فيه نهايةً كاملةً لكلِّ ما يرتبط بالدهر الحاضر الشرِّير، نشعر بهذا التوتُّر. من إرادة الله الآب تنبع كلُّ هذه الحقائق التي تمثِّل بعضًا من أسباب لا حصر لها تجعله مستحقًّا للمجد الأبديِّ.
تعجُّب (غَلاَطِيَّة 6:1-10)
عوضًا عن القِسْم المتوقَّع عن الشكر، يقدِّم الرسول بولس توبيخًا. يتعجَّب الرسول في أنَّ مؤمني غَلاَطِيَّة يهجرون على هذا النحو سريعًا الإلهَ الذي دعاهم إلى نفسه عن طريق الإنجيل الذي كَرَزَ به الرسول (ربَّما على مدى ثمانية عشر شهرًا!). حتَّى بعد سماع الإنجيل والإيمان به، نجد أنَّ القلب البشريَّ ميَّالٌ للسعي وراء طرق بديلة لنوال الرضى أمام الله. إنَّ تلك الأناجيل الأخرى المزعومة ليست في الحقيقة أخبارًا سارَّة بأيِّ حالٍ من الأحوال؛ بل هي أناجيل كاذبة لا يمكنها مَنْح ما تَعِدُ به. لقد اقتحم المشهد معلِّمون دخلاء منادين بإنجيلٍ آخر، مسبِّبين اضطرابًا لمؤمني غَلاَطِيَّة إلى درجة الانزعاج. يبدو أنَّ هؤلاء المعلِّمين المزعجين يضيفون إلى الإنجيل الذي بَشَّرَ به الرسول بولس، زاعمين أنَّ المَرْءَ، إضافةً إلى إيمانه بالمسيح، يحتاج إلى حفظ الناموس الموسويِّ. إلاَّ أنَّ محاولة إضافة أيِّ شيء إلى الإنجيل تنتقص حقًّا من كفاية ما فعله المسيح من أجل شعبه.
إنَّ الكرازة بإنجيلٍ آخر ليست أمرًا صغيرًا. يؤكِّد الرسول بولس أنَّ أيَّ كيانٍ يبشِّر بإنجيلٍ آخر بخلاف الإنجيل الذي جاهر به بين أهل غَلاَطِيَّة هو تحت اللعنة، بما في ذلك شخصه أو ملاك من السماء. بتعبيرٍ آخر، سوف يحلُّ غضب الله على أيِّ كائنٍ يجاهر بإنجيلٍ كاذبٍ. ومع أنَّ الإشارة في التعبير: “ملاك من السماء”، ربَّما تلمِّح إلى أنَّ المقاومين قد زعموا بأنَّهم قد تلقَّوا تعليمهم من ملاكٍ، إلاَّ أنَّها على الأرجح مبالغة للتوضيح. ويكرِّر الرسول اللفظة المرتبطة “باللعنة” للتوكيد. فالكارزون والمعلِّمون ليسوا أحرارًا لتعديل الإنجيل ليتناسب مع ميولهم أو ميول سامعيهم. إنَّ السلطان النهائيَّ داخل الكنيسة يعتمد على الإنجيل ذاته وليس على أيِّ إنسان.
يختم الرسول بولس هذا القِسْم الصغير بسؤالٍ بلاغيٍّ يحدِّد هويَّة من يسعى الرسولُ للفوز باستحسانه. ربَّما زَعَمَ المعلِّمون الدخلاء أنَّ الرسول يسعى وراء استحسان الناس بعدم تعليمه بضرورة حفظ المؤمنين للناموس الموسويِّ إلى جانب الثقة بالمسيح. لكن عوضًا عن الانسياق وراء رضى الناس، يَنْعَمُ الرسول برضى الله، وهذه هي غايته. لهذا السبب، هو عبدٌ للمسيح، وتشير اللفظة “عبد” على الأرجح إلى وصف اهتدائه إلى الإيمان بالمسيح حيث يلمِّح إلى قصيدة العبد المتألِّم في إشعياء 49 (انظر غَلاَطِيَّة 15:1-17). إنَّ الإغراء في أن يكون المَرْءُ مُرضيًا للناس أمرٌ يجب على غالبيَّة المؤمنين مقاومته. إنَّ كون المَرْء عبدًا للمسيح لا يسمح له بأن يكون وقحًا أو أن يسيء معاملة الآخرين، لكن يتطلَّب استعدادًا لأن يُخَيِّبَ ظنَّ الآخرين فيه إن كان هذا ضروريًّا لطاعة المسيح. فكلُّ إنسان عبدٌ لشيءٍ أو شخصٍ ما. وما نسعى لإرضائه بأيَّة تكلفة، مهما كان، يكشفُ عمَّن هو سيِّدنا الحقيقيُّ. وهكذا، لا ترتبط المسألة بأنَّنا سنكون عبيدًا، بل بمن أو بما سنخدم كعبيدٍ.
ثانيًا: توبة بولس وتكليفه الرسوليُّ (غَلاَطِيَّة 11:1-21:2)
الآن، بعد أن قام الرسول بولس بتقديم التحيَّة لمؤمني غَلاَطِيَّة، وبعد التعبير عن تعجُّبه لهجرهم الوشيك للإنجيل الحقيقيِّ الوحيد، وبعد أن دَوَّنَ نصَّ أطروحته في أنَّ محتوى إنجيله ومكانته كرسول أمران آتيان مباشرةً من الله الذي أعلن له عن المسيح (غَلاَطِيَّة 11:1-12)، يسرد الرسول أربعة أحداث من واقع حياته: اهتداؤه إلى الإيمان بالمسيح (غَلاَطِيَّة 13:1-17)، خدمته المبكِّرة (غَلاَطِيَّة 18:1-24)، علاقته مع الكنيسة في أورشليم (غَلاَطِيَّة 1:2-10)، ثمَّ واقعة أَنْطَاكِيَة (غَلاَطِيَّة 11:2-14). ثمَّ يختم الرسول بموجز يصفُ فيه رسالة الإنجيل (غَلاَطِيَّة 15:2-21).
طَرْحُ الرسول بولس (غَلاَطِيَّة 11:1-12)
يستخدم الرسول بولس صيغة استعلانيَّة (1 كُورِنْثُوس 3:12؛ 1:15؛ 2 كُورِنْثُوس 1:8) ليوضِّح الأصل الإلهيَّ للإنجيل الذي يبشِّر به. يُصِرُّ الرسول على أنَّ إنجيله “ليس له أصل بشريٌّ” وذلك بحسب الترجمة (CSB). لم يتلقَّ الرسول إنجيله من أيِّ إنسان، ولا تعلَّمَه من أيِّ شخص قام بتدريبه. بالأحرى، جاءه الإنجيل من الله، الذي كشف له عن يسوع المسيح القائم من بين الأموات. في الحقيقة، ما من أحدٍ يهتدي إلى الإيمان إلاَّ إذا أشرق الله في قلبه… بنور معرفة مجده في وجه يسوع المسيح (2 كُورِنْثُوس 6:4). بالنسبة إلينا، تتحقَّق تلك الخبرة الروحيَّة عن طريق المجاهرة بالإنجيل، أمَّا بالنسبة إلى الرسول بولس فقد تحقَّقَت معه بلقاء مباشر مع المسيح القائم من بين الأموات.
اهتداء الرسول بولس إلى الإيمان (غَلاَطِيَّة 13:1-17)
يبدأ الرسول بولس شهادته الشخصيَّة بوصف حياته السابقة في اليهوديَّة (غَلاَطِيَّة 13:1-١٤)، مُسلِّطًا الضوء على ثلاثة جوانب محدَّدة. ينبغي النظر إلى أوَّل اثنين منها معًا. لقد اضطهد الرسول كنيسة الله وحاول تدميرها. إنَّ الرسول كما يُصَوِّرُه نصُّ (أعمال الرسل 1:8-4) لم يستحسن فقط قتل استفانوس، بل تصدَّر المشهد أيضًا بجَهْدٍ عدوانيٍّ للقضاء على الكنيسة، حتَّى أنَّه تمادى إلى حدٍّ أبعد بدخول البيوت وجرِّ المسيحيِّين إلى السجن. لكن بكلِّ تأكيد، وعدَ الربُّ يسوعُ أنَّ أبواب الجحيم لن تقوى على كنيسته (متَّى 18:16).
الجانب الثالث لحياة الرسول بولس قبل توبته هو تقدُّمه في الديانة اليهوديَّة عن سائر أَتْرَابِهِ، وذلك بسبب التزامه الغيور من نحو تقليدات آبائه. تزوِّدُنا رسالته إلى أهل فِيلِبِّي بنافذةٍ على سيرته (فِيلِبِّي 5:3-6)، إلاَّ أنَّ التركيز هنا على تمسُّكه بالتقاليد الشفاهية وتعليم الفرِّيسيِّين. ربَّما اقتدى الرسول في غيرته من أجل نقاوة شعب الله بمثال فِينَحَاس الذي أشهر رمحًا وطعن به رجلاً إسرائيليًّا وامرأةً موآبيَّةً وهما في ذات الفعل، ونتيجة لذلك حوَّل غَضَبَ اللهِ عن إسرائيل (العدد 1:25-11).
الأعداد من 15 إلى 17 تضمُّ معًا اهتداء الرسول بولس، ومَهَمَّتَه الرسوليَّة، والأفعال المباشرة التالية لاهتدائه. يصف الرسول أمر اهتدائه إلى الإيمان (المدوَّن أيضًا في أعمال الرسل 1:9-9) بثلاث عبارات مفتاحيَّة. الأولى هي: “أَفْرَزَنِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي”. مثل شخصيَّات مُهِمَّة أخرى في تاريخ الخلاص (إرميا 5:1؛ لوقا 15:1)، اختار الله الرسول بإفرازه قبل ميلاده، مُعيِّنًا إيَّاه للقيام بدورٍ محدَّد في خطَّته. والعبارة الثانية: “دَعَانِي بِنِعْمَتِهِ”، فقد دعا الله الرسول بنعمته، كما دعا مؤمني غَلاَطِيَّة (غَلاَطِيَّة 6:1). كان اهتداءُ الرسول إلى الإيمان وتكليفُهُ بالخدمة تعبيرًا عن نعمة الله غير المستحَقَّة، لا عن تمسُّكِه الغيور بالتقليدات والممارسات اليهوديَّة. أمَّا العبارة الأخيرة واللافتة للغاية فهي مسرَّة الله في أن يعلن ابنه في الرسول. أي أنَّ الله قصد أن يُظْهِرَ يسوع المسيح في حياة وخدمة الرسول بطريقة لا مثيل لها حتَّى أنَّ الربَّ يسوع صار مركز كلِّ شيءٍ في كيان وعمل الرسول (انظر غَلاَطِيَّة 20:2-21). وما ينطبق على الرسول بولس ينطبق على كلِّ مؤمنٍ، بمعنى أنَّ كلَّ مسيحيٍّ مؤمن أفرزه الله قبل الميلاد، وقد دعاه بنعمته، وأعلن له المسيح عن طريق الكرازة بالصليب (غَلاَطِيَّة 1:3). إنَّ القصد من قيام الله بتلك الأمور الثلاثة لاهتداء الرسول بولس إلى الإيمان هو تكليفه لِيُبَشِّرَ بالمسيح بين الأمم. بخلاف حياته السابقة في اليهوديَّة، التي أعطت أولويَّة للفصل الصارم بين اليهود والأمم، دُعِي الرسول بولس آنذاك لحمل الأخبار السارَّة المرتبطة بالربِّ يسوع إلى الأمم. في هذا القِسْم، يستعير الرسول مفردات لغويَّة من (إشعياء 1:49-6)، ليصوِّر حياته وخدمته على أنَّها تحقيق لخدمة العبد المتألِّم في أن يكون نورَ الخلاصِ بين الأمم.
عقب توبته مباشرةً، لم يستشر الرسول بولس أحدًا، (حرفيًّا: لم يستشر “لحمًا ودمًا”)، ولا حتَّى الرُّسل في أورشليم. لكن ذهب إلى مِنطقة العربيَّة (ربَّما إشارة عامَّة إلى المنطقة الواقعة شرق نهر الأردنِّ)، لكي يبدأ على الأرجح في التبشير بالإنجيل. وعندما عاد إلى دمشق، واجه اضطهادًا ومقاومةً شديدة قبل أن يهرب (أعمال الرسل 22:9-25؛ 2 كُورِنْثُوس 32:11-33). وإصرار الرسول في أنَّه لم يكن على اتِّصال برسل أورشليم يعكس على الأرجح اتِّهام المقاومين له في غلاطيَّة بأنَّه يعتمد عليهم ويخضع لهم. يُصِرُّ الرسول على أنَّه قد تلقَّى محتوى الإنجيل مباشرةً من الربِّ يسوع القائم من بين الأموات، تمامًا كما حدث مع رسل أورشليم.
الخدمة المبكِّرة للرسول بولس (غَلاَطِيَّة 18:1-24)
بعد أن أكَّد الرسول بولس أنَّه لم يذهب إلى أورشليم مباشرةً بعد اهتدائه إلى الإيمان، يروي الآن رحلته الأولى إلى أورشليم (أعمال الرسل 26:9-30)، والتي كانت بعد ثلاث سنوات من إيمانه بالمسيح. صعد الرسول إلى هناك لزيارة صَفَا (الاسم الآراميُّ للرسول بُطْرُس). وكانت مدَّة الزيارة خمسة عشر يومًا، في تلك الفترة رأى الرسول من الرسل يَعْقُوبَ أَخَا الربِّ فقط. اهتمَّ الرسول للغاية بتأكيد صدق روايته حتَّى أنَّه أقْسَم قَسَمًا أمام الله، والقَسَمُ طريقةٌ شائعةٌ للناس في العالم الإغْرُومانيِّ لإظهار مصداقيَّة المَرْءِ. إنَّ قِصَرَ هذه الزيارة للرسول بولس بعد ثلاث سنوات من إيمانه بالمسيح يعزِّز من إصراره في أنَّه قد تلقَّى إنجيله مباشرةً من الربِّ يسوع القائم من بين الأموات، ومن أنَّه ليس خاضعًا بأيِّ حال من الأحوال لِرُسلِ أورشليم أو أدنى منهم، كما ادَّعَى على الأرجح مقاوموه.
تقدِّم لنا الأعداد من 21 إلى 24 ملخَّصًا موجزًا عن الفترة التالية من حياة وخدمة الرسول بولس. بعد زيارةٍ إلى أورشليم مدَّتها خمسة عشر يومًا، اتَّجه الرسول إلى أقاليم سُورِيَّةَ وَكِيلِيكِيَّةَ (أعمال الرسل 30:9). وعلى الرغم من أنَّ الرسول لم يقل ذلك، فمن المرجَّح أنَّه واصل التبشير بالإنجيل، وذلك محاولةً منه لتأسيس بعض الكنائس. ولبُعدِهِ عن كنيسة أورشليم وقادتها، تَظْهَرُ الإشارة الضمنيَّة مرَّةً أخرى في أنَّ الرسول بولس يخدم بشكلٍ مستقلٍّ عنهم. أيضًا، على الرغم من أنَّ الكنائس التي في اليهوديَّة، (والموصوفة بكونها في المسيح، للتأكيد على أنَّ هويَّتها متأصِّلة في شخص المسيح) لم تكن تعرفه شخصيًّا، فإنَّها كانت تسمع بانتظام أنَّ المضطَهِد العظيم للكنيسة قد أصبح الآن واحدًا من أشهر المبشِّرين لديها برسالة الإنجيل. ونتيجةً لذلك، مجَّدوا الله على ما كان يفعله في الرسول وبالرسول (صدى لإشعياء 3:49).
زيارة الرسول بولس الثانية إلى أورشليم (غَلاَطِيَّة 1:2-10)
يقفز الرسول بولس إلى الأمام لمدَّة أربع عشرة سنةً، ليخبرنا عن زيارته الثانية إلى أورشليم بعد اهتدائه إلى الإيمان. وبينما نجد أنَّ تركيز النصِّ في (غَلاَطِيَّة 11:1-24) ينصبُّ على استقلاليَّة الرسول بولس عن القيادة الرسوليَّة في أورشليم، ينصبُّ تركيز النصِّ في (غَلاَطِيَّة 1:2-10) على اتِّفاقه معهم. في هذه الرحلة كان برنابا وتِيطُس برفقة الرسول. ولا يفوتنا أنَّ برنابا كان مرافقًا للرسول في رحلته التبشيريَّة الأولى، وهو من القادة المهمِّين في الكنيسة الأولى، أمَّا تِيطُس الأمميُّ فهو رفيق للرسول أيضًا، وقد اهتدى إلى الإيمان المسيحيِّ على يديه في أثناء خدمته (تِيطُس 4:1). وقد خدم تِيطُس في بعض الأماكن مثل كُورِنْثُوس وكِرِيت. وكما سبقتْ الإشارة في المقدِّمة، يتساءل الباحثون: هل تلك الزيارة إلى أورشليم هي زيارة الإغاثة بسبب المجاعة (أعمال الرسل 27:11-30)، أم هي زيارة مجمع أورشليم (أعمال الرسل 1:15-29)؟ على كلٍّ، يبدو البديل الأوَّل أكثر ترجيحًا. لقد صعد الرسول ومن معه إلى أورشليم بإعلانٍ نبويٍّ (أعمال الرسل 27:11-28)، وبينما كان الرسول هناك، قام بعرض الإنجيل الذي بشَّر به الأمم على الرسل. أمَّا قلق الرسول من أن يكون قد سعى باطلاً (إشعياء 4:49)، فلا يعني أنَّ الرسول قَلِقٌ من أن يكون على خطأ بشأن محتوى الإنجيل. بالأحرى، كان قَلِقًا من أن تتعرَّض رؤيتُه للخطر، في كون اليهود والأمم متَّحدين معًا في جسدٍ واحدٍ، وذلك إن لم يتَّفق رُسُل أورشليم إن كان ينبغي للأمم أن يحفظوا الناموس الموسويَّ أم لا. انعقد هذا الاجتماع بشكلٍ خاصٍّ مع القادة المؤثِّرين، وهو تعبير يشير في ضوء النصِّ الأكمل لـ (غَلاَطِيَّة 9:2) إلى الرسل: بُطْرُس ويَعْقُوب ويُوحَنَّا باعتبارهم أعمدةَ كنيسةِ أورشليم.
في أثناء هذه الزيارة حدثت مشادَّة بشأن تِيطُس: هل يحتاج إلى أن يُخْتَنَ أم لا؟ وهنا، يستعمل الرسول بولس مفردات لغويَّة ترتبط بعمل الجواسيس ليصف كيف أنَّ مجموعةً من “الإخوَةِ الكَذَبَةِ” اليهود، ممَّن اعترفوا بالإيمان بالمسيح لكن لم يتوبوا بالفعل، قد انْدَسَّتْ داخل المناقشات مطالِبَةً بحتميَّة ختان تِيطُس. لقد رأى الرسول في هذا الأمر انتزاعًا للحرِّيَّة النابعة من الوجود في المسيح، وعودة إلى عبوديَّة الناموس. وكما يشدِّد الرسول لاحقًا في (غَلاَطِيَّة 1:5)، مات المسيح ليقتني حرِّيَّتنا من هذا العالم الحاضر الشرِّير: حرِّيَّة من الخطيَّة، واللعنة، والناموس، ومن أركان هذا العالم الساقط. إنَّ فَرْضَ الختان سيكون بمثابة خطوةٍ إلى الوراء نحو العبوديَّة لا قفزةً إلى الأمام صوب الحرِّيَّة. في الأساس، نادى هؤلاء الإخوة الكذبة بأنَّ الأمم يحتاجون إلى التهوُّد أوَّلاً، ومن ثمَّ يمكنهم في ما بعد أن يصيروا مسيحيِّين. ولذلك، تمسَّك الرسول بمثل هذا الموقف القويِّ ليضمن نقاء الإنجيل لكلِّ من يسمع رسالته، ويؤمن به، بما في ذلك أهل غَلاَطِيَّة. إن إضافة أيِّ شيء إلى الإنجيل باعتباره مطلبًا ضروريًّا من أجل الخلاص -بما في ذلك الطاعة للناموس الموسويِّ- تنتقص في الحقيقة من كفاية ما فعله المسيح بموته وقيامته.
تأتي الأعداد من 6 إلى 10 في الأصل اليونانيِّ جملةً طويلةً معقَّدةً. والفكرة الرئيسة لها هي أنَّ قادة كنيسة أورشليم لم يضيفوا شيئًا إلى إنجيل الرسول بولس (غَلاَطِيَّة 6:2)، بالأحرى، أعطوه يمين الشركة (غَلاَطِيَّة 7:2-10). يشير الرسول إلى قادة أورشليم باعتبارهم القادة المؤثِّرين (غَلاَطِيَّة 2:2)، وهي صيغة مقصَّرة لتعبيرٍ أوفى بشأن هؤلاء المعتبرين أنَّهم أعمدة (غَلاَطِيَّة 9:2)، وذلك إشارة إلى يَعْقُوبَ، وصَفَا (بُطْرُس)، ويُوحَنَّا. ويذكُرُ الرسول بشكلٍ عرضيٍّ أنَّ صِيتَهم لا يعني شيئًا بالنسبة إليه عندما يرتبط الأمر بصوابهم أو عدمه من نحو الإنجيل. ويقدِّم الرسول هذا البيان على أساس فكرة شائعة في العهد القديم في أنَّ الله لا يضع في اعتباره أيَّة مكانة أو مظهر أو سمات خارجيَّة عند تعامله مع الشعب أو الأمم (التَّثْنِيَة 17:10؛ 2 أَخْبَار الأَيَّام 7:19؛ لُوقَا 21:20؛ 1 بُطْرُس 17:1). ويستخدم الرسول في موضع آخر لغة مماثلة عن طبيعة دينونة الله في أنَّها من دون محاباة، بصرف النظر عن عرقيَّة المَرْءِ المُدان (رُومِيَة 11:2)، أو مكانته الاجتماعيَّة (أَفَسُس 9:6؛ كُولُوسِّي 25:3). في هذه المناقشات، لم يُضِفْ قادة أورشليم شيئًا إلى إنجيل الرسول، فهو نفس الإنجيل الذي كرزوا به. في الحقيقة، أكَّد قادة الكنيسة في أورشليم أنَّه كما اؤْتُمِنَ الرسول بُطْرُس ليبشِّر بالإنجيل بين أهل الختان، اؤْتُمِنَ الرسول بولس ليبشِّر بالإنجيل بين ذوي الغرلة. فقد أودعهما الله نفس رسالة الإنجيل ليركِّزا خدمتهما الأساسيَّة على مجموعتين مختلفتين من الناس (ولا يعني ذلك أنَّ كلَّ واحدٍ منهما قد عمل على وجه الحصر مع مجموعته فقط، بل كما يُظْهِرُ العهد الجديد خدم الرسول بُطْرُس وسط الأمم، وخدم الرسول بولس بين اليهود). كان كلاهما رسولين بنفس المستوى من السلطان الرسوليِّ وذلك لأنَّ الربَّ يسوع هو من كلَّفهما بنفس رسالة الإنجيل، كما نال كلاهما نفس الروح الإلهيِّ العامل في كلِّ واحدٍ منهما.
في الكنيسة الأولى، وبكلِّ وضوحٍ، اعتبر البعض أنَّ يَعْقُوب، وصَفَا، ويُوحَنَّا أعمدة، الأمر الذي صار مفهومًا بطريقتين مختلفتين. ينادي البعض أنَّ هذه اللغة متأصِّلة في الرجاء اليهوديِّ المرتبط بأورشليم الجديدة والهيكل الجديد، وفيه يكون الرسل ظاهرين كأعمدة بسبب دورهم التأسيسيِّ. بينما يفترض بعضٌ آخر أنَّ الإشارة إلى الأعمدة الثلاثة تمثِّل نوعًا من التوازي المقصود مع الآباء الثلاثة: إبْراهِيم، وإسْحَاق، ويَعْقُوب في العهد القديم. وهكذا، كما أسَّس الله إسرائيل كجماعة عهدٍ على أساس الوعد المقدَّم للآباء الثلاثة، هكذا في الفترة المسيَّاويَّة أسَّس الله جماعة العهد الجديد (الكنيسة) على أساس هذه الأعمدة الثلاثة. وهنا، يشير الرسول بولس ببساطة إلى صِيتِهم كأعمدة دون التعبير عن موافقته أو عدمها في ما يختصُّ بمكانتهم على هذا النحو. لكنَّ هذه الأعمدة بعينها هي من أعطتْ الرسول يمين الشركة التي تتجاوز في هذا السياق حدَّ التعبير عن القبول والصداقة إلى التعبير عن الشركة الرسميَّة في خدمة الإنجيل. ومن بعدها ركَّز الرسول بولس وبرنابا خدمتهما على الأمم، في حين ركَّزتْ الأعمدة خدماتها على اليهود. إلاَّ أنَّ أدنى شيء شرع قادة أورشليم في إضافته إلى الرسول بولس هو طلبهم بأن يواصل عنايته بالفقراء، وهو عمل من أعمال التقوى الثابتة في اليهوديَّة، والمسيحيَّة المبكِّرة. وقد أكَّد الرسول بشدَّة على رغبته في القيام به، موضِّحا بذلك أنَّهم لم يضيفوا شيئًا بالفعل إلى إنجيله أو خدمته.
الحدث الأنطاكيُّ (غَلاَطِيَّة 11:2-14)
في الأعداد من 11 إلى 14 يسرِد الرسول بولس الحدث النهائيَّ في قصَّته الواردة في (غَلاَطِيَّة 11:1-21:2)، وذلك ليدافع عن مكانته كرسول مستقلٍّ عن قادة كنيسة أورشليم. وبينما يؤكِّد الرسول في الحدث السابق أنَّه على نفس المستوى الرسوليِّ مع قادة أورشليم (غَلاَطِيَّة 1:2-10)، يسرد الرسول هنا حدثًا اخْتَلَفَ فيه بشدَّة مع صَفَا (الرسول بُطْرُس)، وهو واحدٌ من المعتبرين أنَّهم أعمدةٌ، كما قام الرسول بمواجهته علنًا. في الحقيقة، ذهب الرسول بولس إلى ما هو أبعد من ذلك بقوله إنَّ صَفَا كان مُدانًا أو ملومًا بسبب أفعاله. على كلٍّ، وقع الحدث في أَنْطَاكِيَة سُورِيَّة، أحد مراكز الحركة المسيحيَّة المبكِّرة. تألَّفَتْ الكنيسة هناك من مؤمنين من أصول يهوديَّة وأمميَّة كانوا يشاركون بعضهم البعض معًا في شركة حول المائدة لأنَّهم متَّحدون في جسد واحد عن طريق إيمانهم المشترك بالمسيح. شارَك في وجبات الشركة الرسول بولس، وبرنابا، وأيضًا صَفَا عندما وصل في البداية. على الرغم من أنَّ ذلك لا يُعَدُّ انتهاكًا للناموس الموسويِّ، فإنَّ العديد من اليهود رفضوا تناول الطعام مع الأمم لتجنُّب النجاسة الطقسيَّة، حتَّى لو أكلوا “الكوشر” فقط، أي الطعام الذي أحلَّته الشريعة. إنَّ تناول وجبات الشركة معًا (والتي من المحتمل أنَّها تضمَّنَتْ الاحتفال بالعشاء الربَّانيِّ) كان دليلاً ملموسًا على أنَّ الشرائع الخاصَّة بالأطعمة، والتي تستمدُّ أصولها من شريعة موسى، لم تعد مُلْزِمَة بالنسبة إلى المسيحيِّين.
لكن تَغَيَّر كلُّ ذلك المشهد عندما وصل بعض الناس من أورشليم، زاعمين أنَّهم يتكلَّمون ويتصرَّفون بسلطان الرسول يَعْقُوبَ نفسه. توقَّف الرسول بُطْرُس فجأةً عن الأكل مع المؤمنين من أصول أمميَّة لأنَّه خَاف ممَّن هُمْ مِنَ أهل الْخِتَانِ. ومع أنَّ هويَّتهم غير واضحة، لا ينبغي مساواتهم بأناس من عند يَعْقُوب. إنَّ إعادة بناء الموقف أمرٌ صعبٌ، لكن يبدو أنَّ يَعْقُوب قد طَلَبَ إلى الرسول بُطْرُس بيد هؤلاء المرسلين أن يقيِّد اختلاطه بالأمم، وربَّما سأله أن يواصل حفظ الشرائع الخاصَّة بالأطعمة الحلال كوسيلة من شأنها أن تخفِّف الاضطهاد الشديد الذي تكابده كنيسة أورشليم. وهكذا، قَبِلَ الرسول صَفَا بالأمر، فسار على نهجه باقي اليهود. وقد لاحظ الرسول بولس ذلك بأسًى شديد وخاصَّةً عندما وَجَدَ أنَّ برنابا صديقَه الحبيب ورفيق خدمته انساق أيضًا إلى الرياء مع باقي اليهود. إنَّ الانسحاب من الشركة مع المؤمنين من أصول أمميَّة يتناقض مباشرةً مع إيمانهم المعلن في أنَّ اليهود والأمم لهما نفس المكانة أمام الله بناءً على ما فعله المسيح (أَفَسُس 15:2).
على الرغم من أنَّ الآخرين لم يتمكَّنوا من رؤية ذلك، أدرك الرسول بولس أنَّ هذا التنازل غير الضارِّ ظاهريًّا يبعدهم عن حقِّ الإنجيل. فالإنجيل لا يرتبط فقط بالطريقة التي بها يصبحُ المرء مؤمنًا مسيحيًّا، لكنَّه يتعلَّق أيضًا بالطريقة التي يحيا بها المؤمن الحياة المسيحيَّة. ولأنَّ هذا الابتعاد عن الإنجيل كان بالغ الخطورة، واجه الرسول بولس صَفَا أمام الكنيسة بأكملها. وتساءل كيف يمكن لصَفَا، الذي لم يسلك كيهوديٍّ (أي لم يراعِ حفظ الشرائع الخاصَّة بالأطعمة) مع أنَّه يهوديٌّ، أن يحاول إجبار الأمم على السلوك كيهود (بحفظ الشرائع الخاصَّة بالأطعمة لمواصلة الشركة في طعام المائدة). إنَّ تصرُّفات صَفَا مع باقي اليهود الذين تبعوه من شأنها أن تؤدِّي إلى انقسام عميق ودائم في جسد المسيح بين اليهود والأمم، انقسام يقوِّض قصد الله في اتِّحاد اليهود والأمم معًا في المسيح.
وصف الإنجيل (غَلاَطِيَّة 15:2-21)
تمثِّل هذه الفقرة نقطة تحوُّل في الرسالة إلى غَلاَطِيَّة. تواصل من ناحيةٍ ردَّ الرسول بولس على الرسول بُطْرُس في أثناء المواجهة في أنطاكية. ومن ناحيةٍ أخرى، تقدِّم الفكر المطروح لما ستكون عليه الحجَّة الرئيسة للرسول في الجدل المركزيِّ للرسالة (غَلاَطِيَّة ١:٣-١:٥). لإظهار رياء تصرُّفات صَفَا، يستخدم الرسول نفس الأسلوب اللغويِّ الذي ربَّما استخدمه رجال يعقوب لشرح موقفهم. يؤكِّد الرسول أنَّهم، أي بُطْرُس مع باقي المؤمنين من الختان، يهودٌ بالطبيعة، وبالتالي ليسوا “خطاة من الأمم”. وكما هو مستخدم هنا، فإنَّ اللفظة “خاطئ” ليست إشارة عامَّة إلى أيِّ شخصٍ ينتهك إرادة الله؛ لكنَّها هنا، وبالمعنى الأكثر تحديدًا، ترتبط “بالذين لا يلتزمون بحفظ الناموس تفصيلاً، وبالتالي يتجنَّبهم من يلتزمون بحفظ الفرائض التقليديَّة”. وهكذا، كان الأممُ بهذا المعنى، وعلى نحوٍ مسلَّم به، خطاةً. لكن، مع هذا الاختلاف اللافت ظاهريًّا بين اليهود بالطبيعة والأمم “الخطاة”، يشير الرسول بولس إلى أنَّهم كمؤمنين يهود يدركون أنَّه ما من أحد يتبرَّر (أي يُعْلَن أنَّه بريءٌ أو غير مذنب في ساحة القضاء الإلهيِّ) بأعمال الناموس (أي بالقيام بما يطالب به ناموس موسى)، لكن بالأحرى يتبرَّر المرءُ بالإيمان بالمسيح. ولأنَّ الإيمان بالمسيح هو الطريقة الوحيدة للتبرير أمام الله، فإنَّ المسيحيِّين من أصول يهوديَّة يمكن أن يتبرَّروا فقط أمام الله على أساس الإيمان لا بحفظ ناموس موسى ومتطلَّباته. وهكذا، ليرسِّخَ الرسول بولس عدم كفاية أعمال الناموس كأساسٍ للتبرير، يستعير ما يقوله (المزمور 2:143) لتأكيد أنَّه ما من أحدٍ -يهوديٌّ أو أمميٌّ- يتبرَّر أمام الله على أساس أعمال الناموس.
تسليمًا بهذه الأرضيَّة المشتركة في أنَّ التبرير بالإيمان بالمسيح لا بأعمال الناموس، يتحرَّك الرسول بولس الآن لإظهار التناقض بين ما يؤمن به هؤلاء المسيحيُّون اليهود عن التبرير وإصرارهم على أنَّ المسيحيِّين الأمم لا بدَّ أن يحفظوا الناموس الموسويَّ (غَلاَطِيَّة 17:2-18). إنَّهم يزعمون ضمنيًّا أنَّ التبرير النهائيَّ غير كامل دون أعمال الناموس. المضمون الأوَّل للمطالبة بطاعة الناموس الموسويِّ من أجل التبرير ينتهي إلى أن يصبح المسيحيُّون اليهود “خطاة” (غَلاَطِيَّة 17:2). على الرغم من أنَّ صيغة الكلام مربكة بشكلٍ غالبٍ، فإنَّ وجهة نظر الرسول على ما تبدو هي أنَّه بما أنَّ اليهود والأمم على حدٍّ سواء يتبرَّرون بالإيمان، إذًا ينعمون بنفس المكانة أمام الله. ومع ذلك، في حال اختلاط المؤمنين من أصول يهوديَّة بالمؤمنين من أصول أمميَّة سيوصف المسيحيُّون اليهود بأنَّهم “خطاة”، لأنَّهم لم يعتدُّوا بما يأمر به ناموس موسى الذي يميِّز بين اليهود والأمم. إنَّ كونهم متبرِّرين بواسطة المسيح وفي المسيح هو الشيء الذي قادهم إلى عدم الاعتداد بمطالب ناموس موسى، ومن ثمَّ، يمكن وصفُهم بأنَّهم “خطاة”. بهذه الطريقة، يكون المسيح بالفعل هو من قادهم إلى “الخطيَّة”. فإن كان هذا صحيحًا، يكون المسيح خادمًا أو محفِّزًا على الخطيَّة، النتيجة التي يرفضها الرسول بولس بقوَّة. يشرح العدد 18 بشكلٍ أبعد لماذا لا يمكن أن يكون المسيح خادمًا للخطيَّة. فإن كان يجب على الرسول بولس أن يعيد تثبيت لوائح ناموس موسى الذي أبطله المسيح، فإنَّه بذلك ينتهك معايير الله للبرِّ كما هي مُعلَنة في العهد الجديد. سيكون عمله بمثابة خطوة إلى الوراء في تاريخ الفداء رجوعًا إلى العهد الموسويِّ الذي هدمه الله عندما أسَّس العهد الجديد في المسيح.
يثبِّت العددان 19-20 بشكلٍ أكبر النقطة المطروحة في نصِّ (غَلاَطِيَّة 18:2)، بأنَّ إعادة تأسيس الناموس الموسويِّ تجعل الرسول بولس متعدِّيًا على العهد الجديد. يقدِّم الرسول خبرته الخاصَّة كنموذج لجميع المؤمنين. فقد كان الناموس هو الوسيلة التي مات بها للناموس. من المحتمل أنَّ هذه الجملة الغامضة تعني أنَّ الناموس هو من ساق الرسول للوقوع تحت لعنته، وذلك لإخفاقه في طاعته، والأكثر من ذلك، أدانه الناموس بحكم الموت (غَلاَطِيَّة 10:3-14). لكن بالإيمان بالمسيح، الذي تمَّم الناموس وأصبح لعنةً من أجل الرسول (غَلاَطِيَّة 13:3)، مات الرسول بالنسبة إلى الناموس. من المفارقة أن يكون هذا الموت هو الطريق المؤدِّي إلى الحياة، لأنَّه ما أن يتحرَّر الرسول من الناموس بموته، يصبح قادرًا على أن يحيا لله. ومع أنَّ حياته كانت قبلاً موجَّهة نحو الناموس وبالناموس، أصبحت الآن موجَّهة نحو الله وبواسطة الله عن طريق ابنه يسوع المسيح. والموتُ للناموس قد تحقَّقَ لدى الرسول، لأنَّه صُلِبَ مع المسيح. إنَّ حياته السابقة، التي ارْتَكَزَتْ على حفظ التوراة والغَيْرة على حمايتها، سُمِّرَتْ على الصليب. وهكذا، باشتراكه في موت المسيح، مات الرسول للناموس ولِما يضعه على عاتق حياته باعتباره المركز المنظِّم لوجوده. إنَّ المسيح القائم من بين الأموات يحيا الآن بالفعل في الرسول (انظر غَلاَطِيَّة 15:1، 24). إنَّ حياة الرسول الجديدة موسومة بالمسيح وموجَّهة به. ويختبر الرسول هذا الاتِّحاد مع المسيح بالإيمان بيسوع المسيح، ابن الله، الذي أحبَّ الرسول وأَسْلَمَ نفسَه من أجله (أسلوب لغويٌّ يردِّد صدى العبد المتألِّم في إشعياء 53).
في العدد 21، يختم الرسول بولس الفقرة بتأكيد رفضه إبطال نعمة الله المُعلَنة في الإنجيل بالعودة إلى حياةٍ يحكمها ناموس موسى. في النهاية، إن كان ممكنًا أن يتحقَّق البِرُّ بحفظ الناموس الموسويِّ، لصار موت المسيح بالتمام أمرًا لا لزوم له.
ثالثًا: نسل إبراهيم وأبناء الوعد (غَلاَطِيَّة 1:3-1:5)
الآن، بعد أن رسَّخ الرسول بولس أنَّه: (١) رسولٌ على نفس المستوى مثل أعمدة أورشليم وأنَّه (٢) على نفس المستوى عندما يرتبط الأمر بالتبرير بالإيمان بالمسيح وليس بأعمال الناموس، ينتقل إلى الجدل المركزيِّ في رسالته إلى مؤمني غَلاَطِيَّة. فقد أكَّد مقاومو الرسول هناك أنَّ الإيمان بالمسيح بالإضافة إلى طاعة الناموس الموسويِّ هو السبيل الوحيد إلى التبرير النهائيِّ. ردًّا على ذلك، يقول الرسول: إنَّ الذين يؤمنون بالمسيح، العبد المتألِّم، والنسل الوحيد لإبراهيم، بغضِّ النظر عن عرقيَّتهم أو مكانتهم الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة أو نوع جنسهم، يتبرَّرون باتِّحادهم بالمسيح، وبالتالي ينعمون بميراثه باعتباره النسل الموعود لإبراهيم، وذلك دون الحاجة إلى حفظ ناموس موسى. عبر المسار الجدليِّ، يردُّ الرسول على اعتراضات محتملة مرتبطة بالقصد من الناموس الموسويِّ في تاريخ الفداء.
الجدل معقَّد، وليس من السهل دائمًا تتبُّعه، لكن يمكن تنظيمه كالتالي:
القضية المطروحة (غَلاَطِيَّة 1:3-5)
هل حياة المؤمن تبدأ وتستمرُّ على أساس الإيمان أم على أعمال الناموس؟
قراءة مركزها الإنجيل لقصَّة إبراهيم (غَلاَطِيَّة 6:3-25)
- الأطروحة: تبرَّر إبراهيم بالإيمان، وكلُّ من يشاركه الإيمان سواء كان يهوديًّا أو أمميًّا ينعم بالبركات الموعودة لإبراهيم (غَلاَطِيَّة 6:3-9).
- نتيجة (1): تستقرُّ اللعنة على كلِّ من يتَّكل على (أعمال) الناموس لأنَّه ما من أحدٍ بإمكانه الوفاء بكلِّ ما يطالب به الناموس. إلاَّ أنَّ المسيح قد افتدى اليهود والأمم معًا من لعنة الناموس إذ صار لعنةً. لذلك، فإنَّ كلَّ من هم “في المسيح” يعيشون بالإيمان وينالون موعد الروح بالإيمان (غَلاَطِيَّة 10:3-14).
- نتيجة (2): بما أنَّ المواعيد المقطوعة لإبراهيم صارت قبل الناموس بنحو 430 سنة، فلا يمكن إبطالها بناموس موسى. المسيح هو “النسل” الموعود، وكلُّ المتَّحدين به ينالون البركات الموعودة (غَلاَطِيَّة 15:3-18).
- جزءٌ عرضيٌّ (1): إذًا لماذا أُعْطِيَ الناموس؟ (غَلاَطِيَّة 19:3-20)
لقد أُضيفَ الناموس للتعامل مع التعدِّيات. كما أنَّ حقيقة إعطائه بوساطة الملائكة وبيد موسى تُظْهِرُ أنَّه ثانويٌّ مقارنةً بالمواعيد التي أعلنها الله مباشرةً لإبراهيم.
- جزءٌ عرضيٌّ (2): هل الناموس ضدَّ مواعيد الله؟ (غَلاَطِيَّة 21:3-22)
لم يكن الناموس قادرًا على، ولا كان المقصودُ به إحياء أيِّ إنسان، لأنَّ البِرَّ يرتَكِزُ على الإيمان، لا على الناموس.
- جزءٌ عرضيٌّ (3): الناموس مؤدِّب إسرائيل. (غَلاَطِيَّة 23:3-25)
عَمِلَ الناموس مؤدِّبًا أي وَصِيًّا قَيِّمًا على إسرائيل إلى أن يأتي المسيح ومن ثمَّ، يمكن أن يُوهَبَ بالإيمان بالمسيح ما وَعَدَ الله به نسلَ إبراهيم. الآن، وبعد أن جاء المسيح، لم يَعُدْ الناموس عاملاً بعد كمؤدِّبٍ.
- خاتمة مؤقَّتة (غَلاَطِيَّة 26:3-29)
إنَّ الجميع (سواء كانوا يهودًا أو أممًا، عبيدًا أو أحرارًا، ذكورًا أو إناثًا) هم أبناء الله بحكم الإيمان، وقد انضمُّوا إلى جسد المسيح الواحد بالمعموديَّة. ولذلك، فإنَّ جميع المنتمين إلى المسيح بشكلٍ تلقائيٍّ هم نسلُ إبراهيم، وبناءً عليه، لهم نصيبٌ في البركات الموعودة له.
- نتيجة (3): قبل أن نصير أبناءً كنَّا مستعبدين لأركان العالم، إلاَّ أنَّ المسيح افتدى من هم تحت الناموس لننال التبنِّي وننعَمُ بالروح. (غَلاَطِيَّة 1:4-7)
- جزءٌ تطبيقيٌّ (1): لماذا الرجوع إذًا إلى العبوديَّة، إلى الأركان الضعيفة، إلى الانشغال بناموس موسى؟ (غَلاَطِيَّة 8:4-11)
- جزءٌ تطبيقيٌّ (2): على مؤمني غَلاَطِيَّة الاقتداء بالرسول في تحرُّرِه من ناموس موسى، عليهم أيضًا تَذَكُّر محبَّتهم الأولى لبعضهم البعض. (غَلاَطِيَّة 12:4-20)
- ذروة (غَلاَطِيَّة 21:4-1:5)
لقد تَمَّ تحقيقُ العهد الإبراهيميِّ في المسيح: النسل الموعود وعبد الربِّ المتألِّم؛ وعن طريق قيامته، تلِدُ أورشليم الجديدة السماويَّة الآن أبناءً (ينتمون إلى المسيح بالإيمان) ويعيشون في حرِّيَّةٍ، وهو أمر يعجز الناموس بشكلٍ نهائيٍّ عن تحقيقه. بهذه الطريقة، يتحقَّق وعد الإنجيل المقطوع لإبراهيم بأن تَتَبَارَكَ فيه جَمِيعُ الأُمَمِ (غَلاَطِيَّة 8:3؛ مع تكوين 3:12).
النقطة المركزيَّة
النقطة الأساسيَّة للرسول بولس في هذا القِسْم من رسالته إلى غَلاَطِيَّة، هي أنَّ جميع الذين يؤمنون بالمسيح: نسل إبراهيم، والعبد المتألِّم (بغضِّ النظر عن العرق، أو نوع الجنس، أو المكانة الاجتماعيَّة)، هم أبناء متبرِّرون لإبراهيم، ينالون الميراث الموعود، وينعمون بالحياة في الحرِّيَّة، الحياة التي يمنحها الروح. ولذلك، لا ينبغي لهم حفظ ناموس موسى كوسيلة منظَّمة لعلاقاتهم مع الله والآخرين.
تباين صارخ: خبر الإيمان أم أعمال الناموس (غَلاطِيَّة 1:3-5)
في هذه الفقرة الافتتاحيَّة، يبدأ الرسول بولس في إزاحة الستار عن الأفكار المركزيَّة للتبرير بالإيمان، والمطروحة في (غَلاَطِيَّة 14:2-21). ولإيقاظهم من سباتهم ينعتهم الرسول بالأغبياء كما يشير إلى أنَّ هجرهم للإنجيل لا بدَّ وأنَّه كان نتيجة لمقاومين رَقُوهم أو نظروا إليهم نظرةَ حقدٍ شرِّيرةٍ. مع أنَّ الرسول قد بشَّر بينهم بالمسيح المصلوب بطريقةٍ آسرةٍ، وعلى نحوٍ غاية في المجد والجمال، حتَّى إنَّ كلَّ من رآه يكرز بهذا التأثير رأى المسيح ماثلاً أمام عينيه مصلوبًا.
تحتوي الأعداد من 2 إلى 5 على سلسلة من الأسئلة البلاغيَّة المصمَّمة لإجبار مؤمني غَلاَطِيَّة على إعادة التفكير في توبتهم الأولى، واختبارهم المتواصل للحياة المسيحيَّة. يتعامل سؤاله الأوَّل مع الكيفيَّة التي بها قَبِلَ مؤمنو غَلاَطِيَّة الروحَ: هل بأعمال الناموس (أي بالقيام بما يأمر به ناموس موسى) أم بخبر الإيمان (أي تجاوبًا بالإيمان عقب سماعهم رسالة الإنجيل)؟ الإجابة بكلِّ وضوحٍ هي عقب سماعهم للإنجيل. ولا يشكِّك الرسول في نوالهم للروح القدس بل يسلِّم بأنَّهم نالوه. ويركِّز السؤال الثاني على الطريقة التي ينبغي للمؤمن أن يحيا بها الحياة المسيحيَّة. من الواضح أنَّها تبدأ بالروح، لكن هل تُكَمَّلُ بالجسد؟ في نصِّ (غَلاَطِيَّة 20:2)، بينما تشير لفظة “الجسد” إلى الوجود الإنسانيِّ، تشير اللفظة هنا إلى الطبيعة الإنسانيَّة تحت سيادة وقوَّة الخطيَّة، والخاضعة لقوى الشرِّ الروحيَّة في هذا العالم الساقط. إنَّ ما يعنيه الرسول هو أنَّ المؤمن لا يحيا الحياة المسيحيَّة اعتمادًا على المجهود الذاتيِّ بل اتِّكالاً على الروح، وهي نقطة سيتوسَّع الرسول في شرحها لاحقًا في (غَلاَطِيَّة 16:5-20). في سؤاله الثالث، يلجأ الرسول بولس إلى الآلام التي اختبرها مؤمنو غَلاَطِيَّة، متسائلاً إن كانوا قد احتملوا تلك الآلام عبثًا! فإن تحوَّلوا عن الإنجيل الآن، فقد كانت تلك الآلام بالفعل عبثًا. يعود السؤال الأخير للرسول إلى التباين بين أعمال الناموس واستماع خبر الإنجيل بالإيمان. لكن يربط الرسول سؤاله بالأساس الذي بناءً عليه يَهَبُ الله بسخاء الاختبارات المنعشة للروح، ويجري الآيات بينهم. مرَّةً أخرى، الإجابة الواضحة هي أنَّ الله يفعل الأمرين معًا بناءً على الإيمان المستمرِّ بالمسيح لا على محاولة المؤمنين القيام بما يأمر به الناموس.
الإنجيل المكروز به مسبَّقًا لإبراهيم (غَلاطِيَّة 6:3-9)
يقدِّم هذا القِسْم فكرَ الرسول بولس المطروح للجدل في (غَلاَطِيَّة 1:3-1:5). يبدو أنَّ مقاومي الرسول قد نادوا بأنَّه لكي يكون المَرْءُ ابنًا لإبراهيم، ليس عليه أن يؤمن بالمسيح فقط، بل أن يقبلَ أيضًا الختان، ويلتزمَ بحفظ ناموس موسى. إنَّ العدد 6 نصٌّ مفصليٌّ يربِط بين سلسلة الأسئلة البلاغيَّة في (غَلاَطِيَّة 1:3-5)، التي تسلِّط الضوء على مركزيَّة الإيمان والروح مقابل الجسد والناموس، وما ينطوي عليه الجدل اللاهوتيُّ الموسَّع للرسول بولس في (غَلاَطِيَّة 6:3-1:5). يستشهد الرسول بنصِّ (التكوين 6:15)، الذي يعلِنُ أنَّ إبراهيمَ بارٌّ على أساس الإيمان. ولذلك، يُصِرُّ الرسول على أنَّ كلَّ من لديه نفس إيمان إبراهيم هو ابن لإبراهيم. إنَّ الجدل كلَّه، المرتبط بنصِّ (غَلاَطِيَّة 6:3-1:5) يمثِّلُ محاولة الرسول لشرح الفكر الذي ينادي به. بتعبيرٍ آخر، الإيمان بالمسيح وحده كافٍ لجعل المَرْء ابنًا لإبراهيم. ولدعم ذلك الفكر، يجزم الرسول بأنَّ الله قد بشَّرَ إبراهيم بالإنجيل مسبَّقًا عندما وَعَدَ أن يبارك كلَّ الأمم (وليس اليهود فقط) في إبراهيم (التكوين 3:12؛ 18:18؛ 18:22). هذا الوعد هو الإنجيل في شكل بذرة محاطة بقشرة جوزة، من تلك البذرة ينمو الإعلان الكامل عمَّا فعله الربُّ يسوع. إنَّ كونَ المرء بارًّا أمام الله أمرٌ يعتمد دائمًا على الإيمان لا الأعمال. وبناءً عليه، كلُّ من لهم نفس إيمان إبراهيم، الإيمان بإله الوعد والمواعيد الإلهيَّة لهم نصيب في البركات الموعودة لإبراهيم (المحتوى الذي سيتمُّ شرحه في الفصلين 3 و4)، بغضِّ النظر عن عرقيَّتهم، ودون حفظ الناموس.
اللعنة والمسيح (غَلاطِيَّة 10:3-14)
بما أنَّ كونَ المَرْء ابنًا لإبراهيم يعتمد على امتلاكه لإيمانٍ كإيمان إبراهيم، إذًا لا بدَّ أن يشرح الرسول بولس لماذا لا يقدر الناموس الموسويُّ أن يحقِّقَ للمَرْءِ البركة الموعودة لإبراهيم. يستخدم الرسول سلسلة من التأكيدات الجازمة عن الناموس الموسويِّ مدعومة بعدد من النصوص المُقتبَسة من أسفار العهد القديم. أوَّل تأكيد هو أنَّ أيَّ إنسانٍ (يهوديٍّ أو أمميٍّ) يتَّكل على الناموس ليكون مقبولاً أمام الله سينتهي به الحال تحت اللعنة لعدم طاعته لكلِّ ما هو مكتوب في الناموس (تثنية 26:27؛ 58:28). وفيما يجلبُ الإيمانُ بالمسيح بركةً على المَرْءِ، فإنَّ محاولة حفظ الناموس تجلب لعنةً عليه، لأنَّه ما من أحدٍ يقدر على حفظ الناموس بشكلٍ تامٍّ. التأكيد الثاني هو الفكر البديهيُّ في أنَّ الله يصرِّح بأنَّه لا يوجد إنسان بارٌّ بناءً على حفظه للناموس، التصريح المدعوم باقتباس (حَبَقُّوق 4:2): الْبَارَّ بِالإِيمَانِ يَحْيَا. حتَّى عندما كان الناموس الموسويُّ مطبَّقًا، كانت مكانة المَرْءِ السليمة أمام الله متوقِّفة على الإيمان. يرى الرسول بولس في نصِّ (حَبَقُّوق 4:2) نفس المبدأ كما في نصِّ (التكوين 6:15). ثالثًا، يؤكِّد الرسول أنَّ الناموس يعمل على مبدأ العمل البشريِّ وليس الكيان البشريِّ كما يؤكِّد سفر اللاويِّين: الإِنْسَانُ الَّذِي يَفْعَلُهَا سَيَحْيَا بِهَا (اللاويِّين 5:18). وهكذا، فإنَّ محاولة اقتناء حياة أخرويَّة أبديَّة بطاعة الناموس الموسويِّ هي محاولة فاشلة: (1) لأنَّ الإخفاق في حفظ الناموس بشكلٍ تامٍّ يجلب اللعنة؛ (2) ولأنَّ الإيمان كان دائمًا السبيل الحقيقيَّ للحياة الأخرويَّة الأبديَّة؛ (3) ولأنَّ الناموس جزءٌ من عهد قد انقضى بعد أن جاء المسيح.
إنَّ التأكيد النهائيَّ للرسول بولس يقدِّم الحلَّ. لقد افتدى المسيح شعبه من اللعنة التي يقضي بها الناموس عليهم من جرَّاء عصيانهم، وذلك بأن صار لعنة لأجلهم. يقتبس الرسول من سفر (التثنية 23:21) ليوضِّح أنَّ المسيح بصلبه حمل اللعنة من أجل شعبه. إنَّ موتَ المسيح الحامل للخطيَّة بصفته العبد المتألِّم بحسب نبوَّة (إشعياء 53) يحقِّق الخروج الجديد الموعود به في نصوص العهد القديم. وهكذا، تنبع من موت المسيح نتيجتان: 1. تنساب بركة إبراهيم للأمم (التبرير والبنوَّة)، انظر (غَلاَطِيَّة 8:3)، 2. ينال المؤمنون بالإيمان الروح الموعود، الأمر الذي يردِّد صدى ما ورد في (إشعياء 1:44-5).
المسيح النسل المتفرِّد (غَلاطِيَّة 15:3-18)
بما أنَّ الناموس لا يقدر أن يجلب البركة الموعودة لإبراهيم، إذًا لا بدَّ أن يشرح الرسول بولس العلاقة بين وعد عهد الله مع إبراهيم والناموس الموسويِّ. باستخدام مثال العهد البشريِّ، يُصِرُّ الرسول على أنَّه ما أن يتمَّ توثيق عهدٍ ما، لا يمكن تجاهله أو الإضافة إليه. وينطبق نفس المنطق على عهد الله مع إبراهيم. لقد تمَّ تقديم تلك المواعيد إلى إبراهيم ونسله، واللفظة “نسل” مصطلح عهد قديم يمكن أن تشير إمَّا إلى أبناء كثيرين من دم إبراهيم على سبيل المثال (التكوين 1:17-8)، وإمَّا إلى ابنٍ واحدٍ فقط كإسحاق في (التكوين 15:17-21)، وإمَّا إلى ابنٍ مستقبليٍّ كما في (التكوين 18:22). وعندما يرتبط الأمر بوعود العهد المقطوعة لإبراهيم، يُصِرُّ الرسول بولس على أنَّ المسيح هو النسل الفريد والوحيد الذي يَنْعَمُ بتحقيق تلك الوعود. ويلخِّص الرسول وجهة نظره في العدد 17: بما أنَّ النَّامُوسَ قد أُعطِيَ بَعْد 430 سَنَةً، أي بعد عهد الله مع إبراهيم، فإنَّ ذلك الناموس لاَ يَنْسَخُ ذلك الوعد. في الحقيقة إِنْ كَانَت الْوِرَاثَةُ (وهي مصطلح مرادف للبركة تقريبًا) التي وعد بها الله إبراهيم تتحقَّق بحفظ النَّامُوسِ الموسويِّ، إذًا نوالها يعتمد على الأداء البشريِّ لا على الوعد الإلهيِّ. إلاَّ أنَّ الله قد وَهَبَ ميراثًا لإبراهيم على أساس الإيمان بالوعد.
الغرض من الناموس (غَلاطِيَّة 19:3-25)
إزاء الأمور السلبيَّة التي قالها الرسول بولس عن الناموس الموسويِّ، لا بدَّ أن يشرح الآن كيف كان الناموس مناسبًا لخطَّة خلاص الله. يوضِّح العددان 19-20 السبب وراء إعطاء الله للناموس. لقد كان القصد من الناموس أن يحدِّد الخطيَّة باعتبارها انتهاكًا محدَّدًا لمشيئة الله (رومية 20:5). إلاَّ أنَّ الناموس ينطوي في ذاته على تاريخ انتهاء صلاحيَّته أي وقت مجيء المسيح؛ نسل إبراهيم الموعود. بخلاف الوعد الذي نَطَقَ به الله مباشرةً لإبراهيم، صار الناموس نافذًا عن طريق ملائكةٍ وبيد وسيطٍ. بناءً على نصوص (التثنية 2:33؛ والمزمور 17:68)، آمن يهودٌ كثيرون أنَّ الملائكة كانت منخرطة في إعطاء الناموس (يوسيفوس، حروب اليهود 136:15؛ سفر اليوبيلات 27:1-29؛ فيلو، عظة 40:1-44). وفي ضوء صدى ما يقرِّره نصُّ (اللاويِّين 46:26)، يشير الوسيط إلى النبيِّ موسى. “وهكذا، فإنَّ قصد الناموس، والحدود المؤقَّتة له، وآليَّة إعطائه عن طريق ملائكة بيد وسيطٍ جميعها توضِّح معًا أنَّ له دورًا ثانويًّا مقارنةً بوعد العهد الإبراهيميِّ في تدبير الفداء الإلهيِّ”. العدد 20 هو واحد من أكثر النصوص صعوبةً في الرسالة لمؤمني غَلاطِيَّة. يبدو القصد منه أنَّ عهد الناموس الموسويِّ ليس بإمكانه منح النسل الموعود لإبراهيم (أي المسيح)، لأنَّ تحقيق الوعد المقطوع لإبراهيم يستلزم معرفة كلِّ الأمم بالإله الواحد الحقيقيِّ في اليوم الأخير (وهنا صدًى لنصوص التثنية 4:6؛ زكريَّا 9:14)، وذلك هو الواقع الذي لم يستطع الناموس تحقيقه.
يشرح العددان 21-22 بشكلٍ موسَّع العلاقة بين العهد الإبراهيميِّ والناموس الموسويِّ. على الرغم من التعليقات السلبيَّة عن الناموس، يرفض الرسول بولس على نحوٍ قاطعٍ الفكرة القائلة بأنَّ الناموس ضدَّ وعود الله. المشكلة هي أنَّ المقاومين يحاولون استخدام الناموس لقصدٍ لم يكن الناموس مُصمَّمًا لتحقيقه. إن كان الله قد أعطى الناموس كوسيلة يتبرَّر بها الناس أمامه ويختبرون الحياة الأبديَّة الأخرويَّة، إذًا، يمكن للبِرِّ أن يتحقَّق بالفعل عن طريق الناموس. إلاَّ أنَّ ذلك لم يكن القصد من الناموس. بل على النقيض، فإنَّ الكتاب المقدَّس (بما في ذلك الناموس الموسويُّ) قد أغلق على الكلِّ (ليس الناس فقط بل حتَّى الخليقة ذاتها، (رومية 19:8-22) تحت سيادة الخطيَّة (غَلاطِيَّة 4:1). فالخطيَّة مُصَوَّرة بوصفها قوَّةً استعباديَّةً. إنَّ قصد الله في الإغلاق على الكلِّ تحت الخطيَّة هو تمكين الوعد الذي قطعه لإبراهيم من أن يتحقَّق لكلِّ من يؤمن بيسوع المسيح. وهكذا، نجد أنَّ إغلاقَ الله على كلِّ شيء تحت الخطيَّة له قصد يرتبط بالفداء الإلهيِّ.
تشرح الأعداد 23-25 كيفيَّة عمل الناموس الموسويِّ، برسم تباين مؤقَّت بين زمن ما قبل مجيء المسيح والزمن الذي بعده. قبل أن يأتي الإيمان بالمسيح، النسل الموعود به. قبل أن يستطيع الناس وضع ثقتهم مباشرةً فيه، كان اليهود والأمم على حدٍّ سواء مأسورين تحت الناموس. في أثناء هذا الوقت، وحتَّى مجيء المسيح، عمل الناموس بمثابة “الوصيِّ”. في العائلات الإغْرُومانيَّة، كان الوصيُّ من هذا النوع يقوم بالإشراف على كلِّ جوانب حياة الطفل: (التعليم، وألعاب القوى، والعلاقات الاجتماعيَّة، إلخ)، إلى أن يصل إلى مرحلة البلوغ. لقد كان الناموس بمثابة وصيٍّ، لما له من دورٍ إشرافيٍّ على إسرائيل حتَّى مجيء المسيح، نسل إبراهيم. أمَّا قصد الله من وضع إسرائيل تحت الوصاية المؤقَّتة فهو العناية بهم إلى الوقت الذي يتبرَّر فيه بالإيمان بالمسيح. أمَّا الآن، بعد أن جاء المسيح، وصار الناس قادرين على الإيمان به مباشرةً، فإنَّ الدور الإشرافيَّ للناموس بصفته وصيًّا لم يعد في ما بعد ضروريًّا.
أبناء الله في المسيح (غَلاطِيَّة 26:3-29)
يبدأ الرسول بولس جَدلَه بالزعم بأنَّ من لديهم إيمان مثل إبراهيم هم الأبناء الحقيقيُّون لإبراهيم الذين يرثون البركة التي وعد بها الله. هذا القِسْم هو خاتمة مؤقَّتة. لكن عوضًا عن الإشارة إلى المؤمنين (سواء كانوا يهودًا أو أممًا) كأبناء لإبراهيم، يدعوهم أبناء الله. في العهد القديم، تَمَّت الإشارة إلى آدم وإسرائيل وداود والملك الداوديِّ الموعود كأبناءٍ لله، وهو لقبٌ يعبِّر عن المشابهة والسلطان والعلاقة الوثيقة مع الله. يتمتَّع المؤمنون بهذه المكانة لأنَّهم “في المسيح” بالإيمان (غَلاطِيَّة 14:3). ويظهر هذا الاتِّحاد مع المسيح بشكلٍ ملموس عندما يعتمد المؤمنون للمسيح. بالمعموديَّة يشترك المؤمنون في موت المسيح للخطيَّة وفي قيامته لحياة جديدة (رومية 3:6-4). ويلبسون بالفعل المسيح كثوب جديد. سواء في العالم القديم أو اليوم، تعكس الملابسُ الهويَّةَ والمكانةَ الاجتماعيَّةَ. وهكذا، يكتسي المؤمنون ببِرِّ المسيح نفسه، بعد أن تطهَّروا من خطيَّتهم (المصوَّرة كملابس قذرة). إنَّ الفئات التي تُعَدُّ أساسيَّة لهذا العالم الساقط، كالعرق (اليهوديُّ أو اليونانيُّ)، والوضع الاجتماعيِّ والاقتصاديِّ (عبد أو حرٌّ)، ونوع الجنس (ذكر أو أنثى، إشارة إلى التكوين 27:1)، لا صلةَ لها بالمَرْءِ عندما يرتبط الأمر بحاله كابنٍ مبرَّرٍ أمام الله. لا تزال مثل هذه الفوارق مُهِمَّة في سياقات أخرى (رومية 9-11؛ 1 كورنثوس 2:11-16؛ أَفَسُس 22:5-32؛ 1 تيموثاوس 8:2-15)، لكنَّها ليستْ ذات قيمة عندما يرتبط الأمر بمكانة المَرْءِ أمام الله. إنَّ الذين ينتمون إلى المسيح بالإيمان هم نسل إبراهيم لأنَّهم متَّحدون بالإيمان بيسوع المسيح، النسل الوحيد الموعود لإبراهيم، وبالتالي لهم نصيبٌ في الميراث الموعود الذي يخصُّ المسيح.
الأبناء بالتبنِّي مختومون بالروح (غَلاطِيَّة 1:4-7)
بناءً على ختامه في (غَلاطِيَّة 26:3-29)، يوضِّح الرسول بولس مكانة المؤمنين قبل مجيء المسيح (غَلاطِيَّة 1:4-3)، وبعده (غَلاطِيَّة 4:4-7). يتساءل الباحثون: هل كان الرسول يستقي هذا التشبيه من الثقافة الإغْرُومانيَّة أم يصف بالأحرى اختبار إسرائيل في الخروج باعتباره نموذجًا لتقديم عمل المسيح بوصفه تحقيقًا للخروج الجديد الموعود به؟ ربَّما نعم لكلا السؤالين في وقتٍ واحدٍ. الوريث الذي لا يزال طفلاً لا يختلف وظيفيًّا عن العبد، مع أنَّه من الناحية القانونيَّة هو السيِّد المستقبليُّ للبيت. لكنَّه تحت إشراف “أَوْصِيَاء وَوُكَلاَء” وبالتالي لا يكون حرًّا في التمتُّع بالفوائد الكاملة لكونه الوريث إلاَّ في الوقت المعيَّن من أبيه. وبالمثل، كان المؤمنون (يهودٌ وأممٌ على حدٍّ سواء) مستعبدين “لأركان العالم”. على الرغم من مناقشته على نطاقٍ واسعٍ، فإنَّ تعبير “أركان العالم” يشير على الأرجح إلى “العناصر الأساسيَّة للعالم المادِّيِّ. إلاَّ أنَّ الرسول يستخدمه لتمثيل كلِّ ما يرتبط بهذا العالم الساقط، أي العالم الحاضر الشرِّير (غَلاطِيَّة 4:1) الذي هو تحت اللعنة التي أصابت الخليقة نتيجة عصيان آدم”. بعيدًا عن المسيح، كانت العبوديَّة هي حال الجميع.
لكن في الوقت الذي عيَّنه الله الآب منذ الأزل، أرسل الله ابنه إلى هذا العالم الساقط لتحقيق وعوده (بخروج جديد على وجه التحديد). ولأنَّه وُلِدَ من امرأةٍ (ليؤكِّد إنسانيَّته الكاملة)، والأكثر من ذلك، وُلِدَ تحت سيادة ناموس موسى، فهو قادرٌ على أن يفتدي اليهود والأمم، على حدٍّ سواء، من عبوديَّتهم للخطيَّة، ومن العقاب الواجب على خطاياهم. يتيح هذا الفداء للمؤمنين الإمكانيَّة في أن يتبنَّاهم الله أبناءً له لأنَّهم متَّحدون بيسوع المسيح ابن الله. ولأنَّ المؤمنين (بغضِّ النظر عن نوع جنسهم، أو عرقهم، أو وضعهم الاجتماعيِّ والاقتصاديِّ) هم أبناءٌ لله، فقد أرسل الله روحَ ابنه يسوع المسيح ليسكن داخلهم، تمامًا كما وعد العهد القديم (حزقيال 26:36-28). ويعمِّق الروح القدس علاقتنا الوثيقة مع الله بالصراخ إليه: “أَبَا”، واللفظة “أَبَا” مصطلحٌ آراميٌّ يعبِّر عن الغلاوة (مرقس 36:14). وهكذا يعمل الأقانيم الثلاثة لثالوث الإله القدُّوس على ضمان خلاص المؤمن. ونتيجةً لذلك، لم يعُد المؤمنون عبيدًا لأركان هذا العالم في ما بعد، بل أبناء لهم ميراثٌ من الله.
تذكرة بماضيهم الوثنيِّ (غَلاطِيَّة 8:4-11)
في الأعداد من 8 إلى 11 يطبِّق الرسول بولس اللاهوت الوارد في (غَلاطِيَّة 1:4-7) على مؤمني غَلاطِيَّة. يذكِّرهم الرسول بأنَّهم قبلما عرفوا الله وعُرِفوا منه، كانوا مستعبدين لآلهةٍ وثنيَّةٍ، ليست في الحقيقة آلهة. أمَّا الآن بعد أن عرفوا الله في المسيح فمن غير المنطقيِّ أن يفكِّروا في الرجوع إلى أركانٍ ضعيفةٍ (انظر التعليقات على غَلاطِيَّة 3:4)، أركان لا يمكنها أن تَهَبَ أيَّة حياة روحيَّة. ومن المحتمل أن يكون المقصود بالشكل المحدَّد للأركان الضعيفة هو السبت والأعياد اليهوديَّة الموصوفة في الناموس الموسويِّ. عوضًا عن اتِّخاذهم خطوة صوب النموِّ الروحيِّ، فإنَّ مراعاتهم لهذه الأمور ستكون بمثابة ارتدادٍ لعبوديَّتهم قبل اهتدائهم إلى الإيمان المسيحيِّ. إنَّ حقيقة ابتداء مؤمني غَلاطِيَّة للتحرُّك في هذا الاتِّجاه دفعت الرسول بولس إلى التساؤل: هل كانت أتعاب خدمته بينهم عبثًا (غَلاطِيَّة ٢:٢)؟
تذكرة بطريقة استقبالهم للرسول بولس (غَلاطِيَّة 12:4-20)
يواصل الرسول بولس مناشدته الشخصيَّة لمؤمني غَلاطِيَّة، متوسِّلاً إليهم أن يقتدوا بمنهجه المتحرِّر من الناموس في الحياة المسيحيَّة، تمامًا كما هو مثلهم (أي بعدم حفظهم للناموس الموسويِّ) عندما جاءهم أوَّل مرَّةٍ للتبشير بالإنجيل بينهم (1 كورنثوس 19:9-23). ويُصِرُّ الرسول على أنَّهم لم يظلموه شخصيًّا. وقد تزامنت زيارته الأولى مع مرضٍ غير محدَّد. كان من الممكن لهذا المرض أن يدفع مؤمني غَلاطِيَّة بسهولة إلى احتقار الرسول، لكن بخلاف ذلك رحَّبوا به كملاك الله، بل كالمسيح يسوع نفسه. في الحقيقة، اعتبر مؤمنو غَلاطِيَّة أنفسهم مباركين بقبول الإنجيل بواسطة الرسول. لقد اهتمُّوا به بشدَّة حتَّى أنَّه لو كان ممكنًا لَقَلَعُوا أعينهم بكلِّ سرور وسلَّموها له (وأغلب الظنِّ أنَّ هذه لغة مجازيَّة ليس فيها ما يشير إلى طبيعة مرضه). لكن الآن، يتساءل الرسول: هل صار عدوًّا لهم لمَّا أخبرهم بحقيقة الإنجيل؟ يستخدم مقاومو الرسول التملُّق ليشقُّوا طريقهم إلى قلوب مؤمني غَلاطِيَّة لقطع علاقاتهم به وضمان ولائهم الحصريِّ لهم فقط. مقابل ذلك، فإنَّ دافِعَ الرسول للسعي وراء مؤمني غَلاطِيَّة هو نموُّهم الروحيُّ، بغضِّ النظر إن كان حاضرًا معهم أو غائبًا. إنَّه يصوِّر نفسه كأُمٍّ وقت المخاض، يتلوَّى من الألم وهو يلِدهم شعبًا أخرويًّا لله؛ شعبًا يحمل صورة المسيح فيه، الأمر الذي يبلغ ذروته في الاسترداد الكامل لصورة الله. إنَّ الوضع في غَلاطِيَّة صعبٌ للغاية حتَّى أنَّ الرسول يتمنَّى لو أمكنه التعامل مع ذلك الموقف شخصيًّا.
الأبناء الأحرار لأورشليم السماويَّة (غَلاطِيَّة 21:4-1:5)
هذا القِسْم هو ذروة الجدل المرتبط بنصِّ (غَلاطِيَّة 1:3-1:5)، وهو أصعب مقطع في الرسالة إلى غَلاطِيَّة. التوجُّه الرئيس لهذه الفقرة هو أنَّ العهد الإبراهيميَّ قد تحقَّق في المسيح، النسل الموعود والعبد المتألِّم. عن طريق موته وقيامته، خرجتْ أورشليم السماويَّة إلى الوجود وَوَلَدَتْ أبناءً (هم جميع الذين ينتمون إلى يسوع المسيح بالإيمان)، وقد ولدتهم للحرِّيَّة التي اقتناها المسيح لشعبه، الأمر الذي لا يمكن للناموس أن يحقِّقه أبدًا. يبدأ الرسول بولس بتحدِّي مؤمني غَلاطِيَّة لاستماعٍ أقرب لما يقوله الناموس. يضع العددان 22-23 الأساس لجدل الرسول بتلخيص ما تقوله فصول التكوين من 16 إلى 21 عن إبراهيم وابنيه. فقد وُلِدَ ابنٌ واحدٌ من الجارية هَاجَر، وهو إسماعيل. وَقد وُلِدَ “حَسَبَ الْجَسَدِ”، إذ حاول إبراهيم وسارة إنجاب الابن الوريث الموعود به من هاجر بحكمتهما الخاصَّة وجهدهما الذاتيِّ. أمَّا الابن الآخر، وهو إسحاق، فقد وُلِدَ من المرأة الحرَّة سارة، وُلِدَ بالإيمان بوعد الله، ورغم عقم سارة.
في الأعداد من 24 إلى 28 يشرح الرسول بولس أهمِّيَّة الإشارة إلى أسماء هؤلاء الأشخاص، لما لها من معنى أكثر عمقًا من مجرَّد المعنى الحرفيِّ. يستخدم الرسول لفظة فعليَّة (يتمُّ نقلها في الترجمات الإنجليزيَّة بمعنى “مجاز”) للإشارة إلى قراءة نصٍّ “بعدسة أخرى لإطار نصيٍّ أو فلسفيٍّ أو لاهوتيٍّ آخر”. هذا الإطار هو نصُّ (إشعياء 1:54) والسياق المحيط به، الذي يقتبسه الرسول في العدد 27. ويجمع الرسول بين هذا المدخل المجازيِّ والقراءة المثاليَّة typological لفصول (التكوين 16-21) ليكشفَ عن المعنى الأعمق الذي شاء الله بعنايته أن ينطوي عليه النصُّ. وهكذا، تمثِّل المرأتان عهدَيْن. هاجر هي عهد الناموس الموسويِّ المقطوع على جبل سيناء، والذي يَلِدُ أبناءً للعبوديَّة لأنَّهم يعيشون تحت سيادة الناموس. وهي تناظر أيضًا أورشليم الحاضرة، ومن ثمَّ، تشير إلى كلِّ من يجعل الناموس مركزًا لطريقة ارتباطه بالله والآخرين. إنَّ المقابلة بين الناموس الموسويِّ وهاجر كانت أمرًا فاضحًا لمقاومي الرسول، ممَّن يرون أنَّ هويَّتهم ترتبط بسارة. لكن عوضًا عن أن تناظر سارة أورشليم الحاضرة، تناظر “أُورُشَلِيم الْعُلْيَا”. يتحدَّث كلٌّ من العهد القديم (المزمور 3:87؛ حزقيال 40-48) والأدب اليهوديِّ (1 أخنوخ 6:53؛ 28:90-29؛ 2 أخنوخ 2:55؛ 4 عزرا 25:10-28؛ 2 باروخ 2:4-6) عن أورشليم السماويَّة كجزء من الاكتمال الذي فيه يتمِّم الله كلَّ مقاصده الفدائيَّة (العبرانيِّين 10:11-16؛ 22:12-24؛ رؤيا 10:21-27). هذه المدينة السماويَّة أورشليم تِلِدُ أبناءً (لديهم إيمان بالمسيح بغضِّ النظر عن عرقيَّتهم)، هؤلاء الأبناء ينعمون بحرِّيَّة البنوَّة الكاملة. “إنَّ عمل يسوع المسيح، نسل إبراهيم، عبد الربِّ المتألِّم، ابن داود قد أتى إلى الوجود بأورشليم السماويَّة، الأمر الذي لم يتمكَّن عهد الناموس الموسويِّ من فعله أبدًا. لكنَّ الربَّ يسوع المسيح، بموته وقيامته، فقد جَلَبَ إلى الوجود شعب الله الأخرويَّ الموعود به منذ زمن طويل، والذي يتألَّف من جميع الذين يؤمنون بالمسيح بغضِّ النظر عن العرق أو الجنس أو الوضع الاجتماعيِّ والاقتصاديِّ”. ويضع الرسول الأساس لهذه النتيجة باقتباس (إشعياء 1:54)، النصُّ الذي يحتفي في سياقه الأصليِّ بتحقيق مواعيد عهد الله لإبراهيم عن طريق موت وتبرير العبد المتألِّم. فالعاقر (أي سارة) تُنْجِبُ الآن أطفالاً أكثر من تلك التي لها زوج (هاجر). إنَّ موت المسيح وقيامته قد جلب إلى الوجود أورشليم السماويَّة، التي تَلِدُ أطفالاً (ينتمون إلى المسيح بالإيمان، بغضِّ النظر عن حفظ شريعة موسى)، وتلدهم للحرِّيَّة التي اقتناها المسيح (غَلاطِيَّة 1:5).
في نصِّ (غَلاطِيَّة 28:4-1:5)، يوضِّح الرسول بولس ما ينطوي عليه التباين بين المرأتين وأبنائهما والعهود التي يمثِّلونها. بسبب إيمانهم بالمسيح، صار مؤمنو غَلاطِيَّة أبناءَ الوعد، تمامًا مثل إسحاق. لكنَّ إسحاق ابن الوعد، المولود حسب الروح، كان يعاني اضطهادًا عن طريق إسماعيل، المولود حسب الجسد (التكوين 9:21). وقد رأى الرسول بولس في هذا الواقعة مثالاً لما هو حادث بشكلٍ ملموس وسط مؤمني غَلاطِيَّة حال كونهم يختبرون اضطهادًا من المقاومين. وبناءً على هذا الربط، يطبِّق الرسول وبشكل مناسب كلمات الله إلى سارة في (التكوين 10:21) كوصيَّة إلهيَّة لمؤمني كنائس غَلاطِيَّة، لِيَطردوا المقاومين الذين يحاولون إرجاعهم إلى عبوديَّة الناموس. إنَّ مثل هذا الإجراء الحاسم ضروريٌّ لأنَّ الذين يتَّكِلُون على الناموس (أي من يناظرون ابن الجارية) لن يرثوا ما وَعَدَ به الله إبراهيم ونسله (ممَّن يناظرون ابن الحرَّة). لأنَّ الغلاطيِّين، الذين يثقون، كإبراهيم، بإله الوعد، وبمواعيد الله، هم أبناء الحرَّة باتِّحادهم بالمسيح وليسوا أبناء الجارية. وعوضًا عن أن يخضعوا ذواتهم لنير العبوديَّة بمحاولة حفظ الناموس الموسويِّ كوسيلة للتبرير أمام الله، تعيَّن عليهم أن يعيشوا في الحرِّيَّة التي حرَّرهم بها المسيح ليختبروها.
رابعًا: الحياة في حرِّيَّة البنويَّة (غَلاَطِيَّة 2:5-10:6)
الآن، ينتقل الرسول بولس إلى تطبيق أفكاره الجدليَّة التي وردت في (غَلاطِيَّة 1:3-1:5). الختان لا قيمة له عندما يرتبط الأمر بالتبرير؛ ما يهمُّ هو الإيمان العامل بالمحبَّة (غَلاطِيَّة 2:5-6). كان الرسول بولس مستاءً جدًّا من المقاومين (المشبَّهين بالخميرة) لما لهم من تأثيرٍ على مؤمني غَلاطِيَّة حتَّى أنَّه كان يأمل لو قاموا بإخصاء أنفسهم (غَلاطِيَّة 7:5-12). في المقابل، ينبغي أن تتَّسم حياة المؤمنين بالمحبَّة من نحو بعضهم البعض كتعبير عن حرِّيَّتهم في الإنجيل (غَلاطِيَّة 13:5-15). لقد جَادَ الله على المؤمنين بروحه، لِيَهَبَ لهم القدرة على أن يحيوا حياةً تعكس المسيح، لا لينغمسوا في إشباع الشهوات الجسديَّة (غَلاطِيَّة 16:5-26). وبِحَمْلِ أثقال بعضهم البعض يتمِّم المؤمنون ناموس المسيح (غَلاطِيَّة 1:6-5)، كما أنَّهم لا يكلُّون في صنع الخير لبعضهم البعض (غَلاطِيَّة 6:6-10).
الإيمان العامل بالمحبَّة (غَلاَطِيَّة 2:5-6)
بعد أن اكتمل الجدل اللاهوتيُّ الرئيس الخاصُّ به، ينتقل الرسول بولس الآن إلى شرح التطبيق العمليِّ للحرِّيَّة التي يَنْعَمُ بها المؤمنون في المسيح. تركِّز هذه الفقرة على علاقة الختان بالتبرير والرجاء الأخرويِّ للمؤمن. الختان ليس شيئًا يمكن إضافته إلى الإيمان بالمسيح كوسيلة للتبرير أمام الله، لأنَّ الختان ينطوي على ضرورة حفظ الناموس الموسويِّ بأكمله (الأمر المستحيل وَفْقًا لغَلاطِيَّة 10:3-14). الأمر برمَّته صفقة شاملة وليس قائمة يمكن للمرء أن ينتقي أو يختار منها. إنَّ محاولة استخدام الناموس كوسيلة للتبرير تفصل الإنسان عن المسيح إذ تُمَثِّلُ هجرًا لنعمة الله المُعلَنة في الإنجيل. في المقابل، ينتظر المؤمنون اليومَ الأخير بلهفة، عندما يُعْلِنُ الله لكلِّ الخليقة مكانتهم من جهة البرِّ. وإلى أن يحين ذلك اليوم، يقوِّي الروح هذا الرجاءَ لديهم بتمكينهم من مواصلة الثقة بالمسيح. وفيما ينتظرُ المؤمنون ذلك اليوم، فإنَّ ما يَهُمُّ حقًّا ليس إن كان المَرْءُ مختونًا أم لا، وإنَّما إيمانه بالمسيح الذي يفيض بالمحبَّة لله والآخرين (غَلاطِيَّة 14:4-14).
الدينونة ستقع على المعلِّمين المزعجين (غَلاَطِيَّة 7:5-12)
مرَّةً أخرى، يُذكِّر الرسول بولس مؤمني كنائس غَلاطِيَّة باختبارهم الأوَّلِيِّ مع الإنجيل الحقيقيِّ، وذلك ليدعوهم إلى البقاءِ أمناءَ له. لأنَّ مؤمني غَلاطِيَّة بعد اهتدائهم إلى الإيمان بالمسيح، شرعوا سريعًا لخوض سباق الحياة المسيحيَّة، ولكن في مكانٍ ما، عبر الطريق، اعترض سبيلهم بعض المقاومين، الذين بدأوا في إعاقة جهودهم لطاعة الإنجيل الحقيقيِّ الوحيد. يُصِرُّ الرسول على أنَّ أولئك المقاومين لم يرسلهم الله الذي دعا مؤمني غَلاطِيَّة أساسًا بنعمته (غَلاطِيَّة 6:1). إنَّ التعليم الكاذب لأولئك المقاومين يشبه الخميرة التي تكون صغيرة جدًّا في البداية، لكن تنتشر في كلِّ العجين في النهاية. وهكذا، بينما يبدو حفظ الناموس بالإضافة إلى الثقة بالمسيح كما لو أنَّه تعديلٌ بسيطٌ لإنجيل الرسول، إلاَّ أنَّ مثل هذا التعليم الكاذب سيحوِّل الإنجيل على نحوٍ يتعذَّر تجنُّبه إلى شيءٍ مختلفٍ تمامًا. على الرغم من الخطر الحقيقيِّ الذي يشكِّلُه المقاومون، إلاَّ أنَّ الرسول واثق من أنَّ مؤمني غَلاطِيَّة سيرفضون بشارتهم الكاذبة في النهاية، وأنَّ من يقاومونهم سوف يكابدون عقاب خداعهم يوم الدينونة. بالتواءٍ غريبٍ، يشير الرسول إلى أنَّ مقاوميه قد اتَّهموه بأنَّه لا يزال يبشِّر بالختان، ربَّما في سياقٍ آخر بخلاف الرسالة إلى غَلاطِيَّة. مع أنَّ الرسول كان بكلِّ تأكيد مدافعًا غيورًا عن الالتزام الصارم بالناموس الموسويِّ قبل الإيمان بالمسيح (غَلاطِيَّة 13:1-14)، إلاَّ أنَّ الاضطهاد الذي يقاسيه بشكلٍ منتظمٍ يوضِّح أنَّه لم يَعُدْ يبشِّر بالختان. فالكرازة بالختان تضع نهاية لعثرة الصليب، إذ تبطل حاجة المَرْءِ إلى الإيمان بالمسيح ليتبرَّر ويختبر الحياة الأخرويَّة، في المقابل، تبشِّر الكرازة بالختان بإنجيلٍ كاذبٍ، إنجيل يكون التبرير فيه بأعمال الناموس. لقد كان الرسول بولس في غاية الاستياء بسبب أكاذيب المقاومين حتَّى أنَّه تمنَّى أنَّ من يسبِّبون الإزعاج لمؤمني غَلاطِيَّة لا يكتفون بختان القلفة فقط، بل يستمرُّون حتَّى إخصاء أنفسهم.
حرِّيَّة لخدمة الآخرين بالمحبَّة (غَلاَطِيَّة 13:5-15)
في مواصلته التركيز على الحرِّيَّة بدءًا من نصِّ (غَلاطِيَّة 1:5)، يشرح الرسول بولس طبيعة هذه الحرِّيَّة وكيف ينبغي أن تشكِّل الحياة المسيحيَّة. إنَّ دعوة المَرْءِ إلى الإيمان بالربِّ يسوع ليتبرَّر أمام الله هي دعوة إلى الحرِّيَّة. إلاَّ أنَّ طبيعة هذه الحرِّيَّة ليستْ حياةً متحرِّرة من أيَّة قيود أخلاقيَّة أو أدبيَّة، لينغمس المَرْءُ في أيَّة فرصة للتصرُّف بناءً على رغباته أو ميوله الخاطئة. بالأحرى، تمكِّن الحرِّيَّة في المسيح كلَّ المؤمنين من خدمة بعضهم البعض بنشاطٍ، ومحبَّةٍ. إنَّ من حرَّرهم الربُّ يسوع، العبد المتألِّم، بإمكانهم أن يُظهروا للآخرين نفس النوع من المحبَّة البازلة. عندما يحبُّ المؤمنون الآخرين بهذه الطريقة، فإنَّهم يحقِّقون الغاية من الناموس الموسويِّ، تلك الغاية المُعَبَّر عنها في (اللاويِّين 18:19)، والتي تدعو شعب الله إلى محبَّة القريب كالنفس. إنَّ رفض الناموس الموسويِّ باعتباره المعيار الحاكم للحياة المسيحيَّة لا يترك المؤمن دون قيود أخلاقيَّة، لأنَّ الروح القدس (الذي تتمُّ مناقشته بإسهاب في غَلاطِيَّة 16:5-26) يقوِّي هذا النوع من مستوى المحبَّة القلبيَّة للقريب بشكلٍ لا يمكن للناموس أن يجود به أبدًا. إنَّ البديل لخدمة بعضنا البعض بالمحبَّة هو أن ننهش ونأكل بعضنا البعض، وهو سلوك يعكس صورة الحيَّة الهائلة، أي صورة الشيطان لا صورة المسيح. فمثل هذه الأنانيَّة المقصودة سرطانٌ من شأنه أن يدمِّرَ المجتمع الكتابيَّ.
اسلكوا بالروح لا بالجسد (غَلاَطِيَّة 16:5-26)
إنَّ التباين بين استخدام الحرِّيَّة فرصةً لإشباع شهوات الجسد أو استخدامها لخدمة الآخرين بالمحبَّة (غَلاطِيَّة 13:5-15) يُمَهِّدُ في هذه الفقرة الطريق للتباين بين الجسد والروح. تصف الأعداد من 16 إلى 18 الصراع بينهما. والجسد والروح ليسا جانبين لشخصيَّة المَرْءِ، بل هما عاملان قويَّان يحاولان تشكيل الطريقة التي يحيا بها المؤمن، إذ إنَّ كلَّ واحدٍ منهما يدفعُ المؤمن برغبات متصارعة. إنَّ السلوك بالروح يعني الحياة التي يقوِّيها الروح الذي يمنع المؤمن من إشباع رغبات الجسد. فالروح لا يجعل الإنسان حيًّا وروحيًّا فقط، بل يقوِّي أيضًا مستوى الطاعة القلبيَّة لله (حزقيال 26:36-27). ولأنَّ المؤمنين ينقادون بالروح، فإنَّهم ليسوا تحت سيادة الناموس الموسويِّ أو حتَّى خاضعين لدينونته.
في الأعداد من 19 إلى 21، يقدِّم الرسول بولس تمثيلاً انتقائيًّا لأعمال الجسد. الثلاثة الأولى: الزنا، والنجاسة، والعهارة، تتعامل مع شكلٍ من أشكال الاشتهاء أو النشاط الجنسيِّ بين رجلٍ وامرأةٍ خارج إطار الزواج. وترتبط عبادة الأوثان مع السحر بإخفاق المَرْءِ في عبادة الإله الحقيقيِّ الوحيد. وتركِّز الأعمال السبعة التالية -عَدَاوَةٌ، خِصَامٌ، غَيْرَةٌ سَخَطٌ، تَحَزُّبٌ، شِقَاقٌ، وبِدْعَةٌ- على الحياة الممزَّقة المهترئة وسط المؤمنين. أمَّا الأعمال الثلاثة الأخيرة للجسد: الحسد، والسكر، والعربدة، فهي انحرافات عامَّة أكثر عن إرادة الله. من تتَّسم حياتهم بأعمال الجسد يظْهِرُون أنَّهم لم يتجدَّدوا حقًّا، وبالتالي لن يرثوا ملكوت الله.
إنَّ ثمر الروح في العددين ٢٢-٢٣ هو النقيض لأعمال الجسد المتعدِّدة. تُسَلِّط لفظة الاسم المفرد: “ثمر” الضوءَ على الطبيعة المترابطة للتعبيرات المختلفة للروح في حياة المَرْءِ. لقد وعد الله أن يأتي بثمرٍ عندما ينسكب الروح (إشعياء 15:32-20؛ 15:57-20)، وتحقيق هذا الوعد هو عين ما يَصِفُه الرسول بولس هنا. على الأرجح، وبصفتها الأكثر أهمِّيَّة، تتصدَّر المحبَّة قائمة هذا الثمر؛ تشير المحبَّة إلى العناية الباذلة والاهتمام بالآخرين الذي يتجلَّى بشكلٍ عمليٍّ. الفرح هو الإحساس العميق بالرضا والسرور بالله وطرقه. السلام هو توقُّف العداء، ويتأصَّل بالعلاقة الصحيحة مع الله. الصبر يجمع بين الهدوء في أثناء الانتظار لشيءٍ ما والتحمُّل في مواجهة المشقَّات والمقاومات. اللطف هو مساعدة الآخرين من قلب سخيٍّ. بالمعنى الأساسيِّ، يتجلَّى الصلاح بذاته في الاهتمام الخالص برفاهية الآخرين. تشير الأمانة إلى اتِّكال المَرْءِ على الروح للبقاء أمينًا من نحو المسيح. يجمع اللطف بين التواضع والوداعة مع وضع احتياجات الآخرين في الاعتبار. أخيرًا، التَّعَفُّف هو القدرة على كبح الرغبات والعواطف. إنَّ هذه الصفات التي يجودُ بها الروح لا تتعارض مع الناموس الموسويِّ، بل هي تجسيد لوصيَّة محبَّة القريب كالنفس (غَلاطِيَّة 14:5).
يختم الرسول بولس هذه الفقرة بشرح الطريقة التي بها تنتصر الحياة في الروح على الجسد (الأعداد ٢٤-٢٦). من ينتمون إلى المسيح (غَلاطِيَّة 29:3) لهم نصيبٌ في صَلْبِ المسيح (غَلاطِيَّة 20:2)، وبالتالي ليسوا عبيدًا في ما بعد للجسد بشهواته الخاطئة (رومية 6:6). ولأنَّ المؤمنين قد صاروا أحياءً روحيًّا بالروح، لا بُدَّ أن يتلقَّوا أوامر سيرهم من الروح، وأن يبقوا معه في انسجام مع زملائهم المؤمنين. وإلاَّ يتراجع المؤمنون إلى سلوكيَّات جسديَّة كالغطرسة والغيرة وإثارة غضب بعضهم البعض، وهي أمور من شأنها أن تدمِّرهم كجماعة واحدة.
احْمِلُوا بعضكم أثقال بعض (غَلاَطِيَّة 1:6-5)
وبسبب الحرب المستمرَّة بين الجسد والروح، على المؤمنين أن يعرفوا كيفيَّة التعامل مع الخطيَّة. فالخطيَّة حيوانٌ مفترس يطاردُ الناس، محاولاً الإيقاع بهم في شَرَكِهِ. عندما يحدث ذلك، على المؤمنين السعي لردِّ إخوانهم إلى التوبة بلطفٍ، وحرصٍ دائمٍ على تجنُّب خطر الاشتراك في خطاياهم أو الشعور بالبرِّ الذاتيِّ. المبدأ العامُّ الذي يحفِّز مثل هذا التصرُّف يأتي نصًّا في (غَلاطِيَّة 2:6)، بوصيِّة رسوليَّة بأن يحملَ بَعْضُنا أَثْقَالَ بَعْضٍ، والأثقال هي أيُّ شيءٍ يجعلُ اتِّباع المسيح صعبًا (على سبيل المثال: الخطيَّة، الألم، المشقَّات، إلخ). والقيام بذلك يتمِّم ناموس المسيح، الذي يشير إلى “الالتزامات الأخلاقيَّة النابعة من يسوع المسيح كما هو مُعَبَّر عنها في تعاليمه ومثاله، والتي وصل خبرُها إلى شعب الله في العهد الجديد عن طريق رسله”. فالمسيح يحيا في المؤمن بالروح ليمكِّنه من إظهار نفس المحبَّة الباذلة التي أظهرها المسيح بذاته، وبذلك يتمِّم المَرْءُ ما كان يهدفُ إليه الناموس الموسويُّ دون أن يتمكَّن أبدًا من تحقيقه. تشرح الأعداد من 3 إلى 5 بشكلٍ موسَّع المعنى في حَمْل أَثْقَال بعضنا البعض، ومن عدَّة زوايا مختلفة، مع التركيز على الفحص الذاتيِّ. إنَّ التفكير المفرِط في الذات هو عمل من أعمال الخداع النفسيِّ الذي يمنع المَرْءَ من أن يحملَ بتواضع أثقال الآخرين. ينبغي للمؤمنين فحص أنفسهم وعملهم للحصول على صورة واقعيَّة للثمر في حياتهم وكيف يرقى ذلك الثمر إلى معايير الله، لأنَّه في اليوم الأخير، لا بدَّ وأن يقفَ كلُّ مؤمن أمام الربِّ ليعطي حسابًا عن أفعاله وعن طريقة استخدامه للمواهب والقدرات والموارد التي وَهَبَها الله له (رومية 12:114).
المشاركة وفعل الخير (غَلاَطِيَّة 6:6-10)
تتواصل هذه الفقرة في إيضاح فكرة حَمْل أثقال بعضنا البعض، لكن بمعنى أكثر عموميَّة. وبالنظر إلى المستفيدين من الخدمة الأمينة لقادة التعليم داخل الكنيسة، على المؤمنين أن يدعموا بسخاء من يعملُون بِجَدٍّ لتعليم كلمة الله. تشمل هذه الوصيَّة التقدمات الماليَّة، وقد تمتدُّ إلى ما هو أبعد من ذلك. يَلْفِتُ الرسول بولس انتباه المؤمنين إلى أنَّ الله لا يُشْمَخُ عليه. وباستخدام الصورة الاستعاريَّة عن الزرع والحصاد (الأمثال 8:22)، يُصِرُّ الرسول على أنَّ من يستثمرون وقتهم وطاقتهم ومواردهم في مساعٍ تهدف إلى إشباع شهوات الجسد الخاطئة سوف يحصدون الدمار في اليوم الأخير. في المقابل، من يستثمرون وقتهم، وطاقتهم، ومواردهم في ما يقدِّره الروح القدس (بما يعكس ناموس المسيح) سوف يختبرون الحياة الأبديَّة. لأنَّه من المحال أن يزرع المَرْءُ ذُرَةً ويتوقَّع أن يحصدَ الفول الصويا، بالمثل لا يقدر المَرْءُ أن يزرع للجسد وبعدها يتوقَّع أن يجني من الروح شيئًا. إنَّ السَّعي في طلبِ الحياة التي تزرعُ للروح أمرٌ مرهقٌ، وذلك عندما يسعى المَرْءُ لفعل الخير للآخرين، إلاَّ أنَّ الرسول بولس يؤكِّد للمؤمنين أنَّه في الوقت المناسب (سواء في هذه الحياة أو في اليوم الأخير)، سيَهَبُ الله لهم حصادًا قويًّا إن استمرُّوا مثابرين على فعل الخير. ونتيجةً لذلك، على المؤمنين أن يبحثوا بشكلٍ استباقيٍّ وفعَّال عن كلِّ الفرص المتاحة للقيام بفعل الخير لكلِّ من يلاقونه، مع إعطاء الأولويَّة لحمل أثقال رفقائهم المؤمنين في الكنيسة (“بيت الإيمان” ESV).
خامسًا: خاتمة (غَلاَطِيَّة 11:6-18)
مثل معظم كاتبي الرسائل في القرن الأوَّل الميلاديِّ، استخدم الرسول بولس كاتبًا (سكرتيرًا) لكتابة رسالته إلى مؤمني غَلاَطِيَّة، وبحسب إملائه. لكن بالنسبة إلى هذا القِسْم الأخير، يأخذ الرسول بالقلم ويكتب بيده هذه الخاتمة بأحرف كبيرة، لتسليط الضوء على التغيير في خطِّ الكتابة. تلَخِّص هذه الفقرة الأخيرة عدَّة موضوعات رئيسة من الرسالة. يُصِرُّ الرسول على أنَّ دوافع المقاومين ليست نقيَّة في سعيهم لاستمالة مؤمني غَلاطِيَّة لقبول فهمهم الخاصِّ عن الإنجيل. إنَّهم يروِّجون للختان لأنَّهم يهتمُّون بالمظهر الخارجيِّ الذي يجنِّبهم الاضطهاد، وذلك أكثر من اهتمامهم بما هو حقيقيٌّ. في الحقيقة، يريد هؤلاء المقاومون أن يكون الغلاطِيُّون “نقطة أخرى لصالح فريقهم”، حتَّى يتمكَّنوا من التفاخر بنجاحهم. علاوةً على ذلك، هم منافقون، لأنَّهم مختونون، ومع ذلك، لا يحفظون كلَّ الناموس. في المقابل، يرفض الرسول بولس الافتخار بأيِّ شيءٍ إلاَّ ما فعله الربُّ يسوع المسيح بموته على الصليب من أجله. بالإيمان صُلِبَ الرسول مع المسيح (غَلاطِيَّة 20:2)، فقد جعل المسيح من الصليب وسيلة يُصْلَبُ بها الرسول عن هذا العالم الساقط بكلِّ ما يرتبط به (الخطيَّة، الجسد، أركان هذا العالم، العبوديَّة للناموس، إلخ). الآن، وبعد أن جاء المسيح، ليس من المُهِمِّ إن كان المَرْءُ مختونًا أم غيرَ مختونٍ. ما يَهُمُّ هو أنَّ المسيح بموته وقيامته قد أنقذ المؤمنين من العالم الحاضر الشرِّير (غَلاطِيَّة 4:1) ودشَّن الخليقة الجديدة الموعود بها في العهد القديم (إشعياء 17:41-20؛ 16:43-21؛ 9:51-11؛ 17:65-25؛ 22:66-24). إنَّ كلَّ المتَّحدين بالمسيح بالإيمان (بغضِّ النظر عن العرق، أو نوع الجنس، أو الوضع الاجتماعيِّ والاقتصاديِّ) يختبرون تلك الخليقة الجديدة (2 كورنثوس 17:5). يصرِّح الرسول بولس ببركة على كلِّ من يؤمن بالإنجيل الحقيقيِّ مختبرًا هذه الخليقة الجديدة، ويصلِّي لكي ينعموا بالسلام والرحمة (صدى لما في إشعياء 10:54). ويواصل إعلان هذه البركة إلى “إِسْرَائِيلِ اللهِ”، وهي عبارة يدور حول معناها الكثير من الجدل. فقد تشير لفظة “إسرائيل” إلى: (١) الكنيسة التي تتألَّف من مؤمنين ذوي أصول يهوديَّة وأمميَّة؛ (2) الشعب اليهوديِّ بشكلٍ عامٍّ؛ أو (3) المؤمنين من أصول يهوديَّة فقط. وبينما يصعب التأكُّد ممَّا تعنيه اللفظة “إسرائيل” هنا، ربَّما يكون الخيار الأوَّل هو البديل الغالب.
يختمُ الرسول بولس الرسالة بمناشدةٍ يطلبُ فيها ألاَّ يسبِّب له أحدٌ مزيدًا من المتاعب، لأنَّه يحمل في جسده سمات الربِّ يسوع. ومن المحتمل أن تشير هذه السمات إلى البرهان المادِّيِّ على آلامه من أجل المسيح والإنجيل، تلك الآلام التي تعرَّض لها عن طريق السجن والضرب وأعمال الشغب وغيرها من أشكال التعذيب الجسديِّ. كلماتُ بركَتِهِ الأخيرة هي صلاةٌ من أجل مؤمني غَلاطِيَّة ليختبروا في حياتهم نعمة الله بشكلٍ ملموس وعلى نحوٍ أعمق. أن يبدأ الرسول بولس رسالته بالنعمة (غَلاطِيَّة 2:1)، ثمَّ يختمها بالنعمة، فهذا يعني أنَّه يُعَمِّد كلَّ كلمةٍ في الرسالة بالنعمة غير المستحقَّة التي أظهرها اللهُ للمؤمنين عن طريق الربِّ يسوع المسيح.
ماثيو هارمون
شارك مع أصدقائك