التعريف
يُشير مصطلح تأنس المسيح إلى حقيقة أن ابن الله اتخذ طبيعة بشريَّة كاملة بكل محدوديتها في تجسده، دون التنازل بأي شكلٍ عن طبيعته الإلهية، حتى يصير مُمثل البشريَّة، وبديلها، ومثالها.
الموجَز
في تجسده، أخذ ابن الله طبيعة بشريَّة كاملة–جسد، وروح، وعقل، وإرادة–في اتحاد شخصي مع ذاته. ولأنه إنسان، اختبر يسوع كل محدوديات البشر الطبيعية غير الخاطئة، وكان ينمو ويتقدم. كما نرى أنه جاع وعطش وتَعِبَ وشعر بكامل نطاق العواطف البشريَّة. كانت بشريته، تمامًا مثل ألوهيته، جزءًا لا يتجزأ مِن عمله الخلاصي. وبصفته الإنسان الحقيقي، آدم الأخير، عاش يسوع حياة الطاعة والخضوع لله من خلال بشريتنا المشتركة بصفته مُمثلنا وبديلنا: فمِن خلال حياته، وموته، وقيامته، استحق يسوع الخلاص عن جدارة لكل الذين اتحدوا به بالإيمان. كما صار بصفته الإنسان قدوة لنا مقدِّمًا النموذج للطاعة البشريَّة الحقيقية.
“والكلِمَةُ صارَ جَسَدًا وحَلَّ بَينَنا، ورأينا مَجدَهُ، مَجدًا كما لوَحيدٍ مِنَ الآبِ، مَملوءًا نِعمَةً وحَقًّا” (يوحنا 1: 14). إن الادِّعاء المذهل الذي في جوهر الإيمان المسيحي هو أن ابن الله، الأزلي، صار بشرًا. وهنا أود أن أعيد صياغة عبارة تتكرر في ترنيمة كان يُنشدها آباء الكنيسة الأوائل: “مِن دون أن يَكُفَّ عن أن يكون ما كان عليه [أي: الله]، صار ما لم يكونه [أي: إنسان].[1] أو كما يصوغها قانون الإيمان النيقوي، “هذا الذي مِن أجلنا نحن البشر ومِن أجل خلاصنا نزل مِن السماوات، وتجسَّد مِن الروح القُدُس ومِن مريم العذراء، وتأنَّس”.
إذا كانت هذه هي الحقيقة المركزية للمسيحية، فهي أيضًا عار وإشانة للسمعة بالنسبة لكثيرين. فمِن الغنوصيين القدامى إلى المسلمين المعاصرين، ادَّعى الكثيرون أن هذه الحقيقة تتعارض مع جلال الله وسموِّه عن أن يوصمَ بالضعف كالبشر. كما أن الفلسفة الحديثة نفرت مِن فكرة أن إنسانًا واحدًا بعينه، في زمان ومكان مُعينين، يمكنه بطريقة ما أن يكون هو الإعلان التام الحاسم عن الله الأزليّ الذي لا يتغيَّر. وحتى في التاريخ المسيحي، سعى كثيرون لتقليص أو تخفيف حقيقة ناسوت المسيح الكامل. ولكن تبقى حقيقة ناسوت (إنسانية) المسيح ذات أهمية محورية لرسالة إنجيل الخلاص تمامًا كألوهيته.
ترقُّب العهد القديم
لم تُعلَن عقيدتا الثالوث والتجسد في العهد القديم بالوضوح الذي ذُكرت به في العهد الجديد. فنرى الإعلان عن الله- الإنسان يأتي في العهد القديم مِن خلال رموز وظلال؛ وليس دائمًا تعليمًا صريحًا ومباشرًا. عبَّر اللاهوتي المشيخي ب. ب. وارفيلد عن هذا الأمر قائلًا إن العهد القديم يُشبه “غرفة فُرِشت بالأثاث الفاخر ولكنها مُعتمة”.[2] فقط مِن خلال نور العهد الجديد، يمكن لقراء الكتاب المُقدَّس الرجوع إلى العهد القديم ليروا المعنى الحقيقي للنصوص الذي كان موجودًا طوال الوقت، ولكن كان محجوبًا حتى مجيء المسيح.
ومع ذلك، نرى منذ أول إصحاحات الكتاب المُقدَّس أن فادي البشريَّة الساقطة كان لا بد أن يكون إنسانًا. يُخبرنا ما يُسمى بالإنجيل الأول (أي: الإعلان الأول عن بشارة الإنجيل) في تكوين 3: 15 أن “نسل المرأة” سيسحق في النهاية عدو البشريَّة، إبليس. ومِن هناك نرى وعد “النسل” هذا يسري كخيط عبر نسيج الإعلان الكتابي بكامله. يضيق نطاق ذلك الوعد أكثر إلى نسل إبراهيم (تكوين 12: 7؛ 13: 15-16؛ 15: 13، 5) وينتهي إلى نسل داود (2 صموئيل 7: 12؛ 22: 51). يجمع العهد الجديد كل تلك الخيوط ويبرهن أن المسيح نفسه هو “نسل” إبراهيم المتفرِّد الذي قُطعت له المواعيد (غلاطية 3: 16). إن فادي البشريَّة ومُنقِذها (المقدِّس)، والبشريَّة التي فداها (المقدَّسين)، مِن أبٍ (أصل) واحدٍ، وصار مثلنا في كل شيء عدا خطيتنا (عبرانيين 2: 10-18).
بعد انقسام المملكة في العهد القديم وفي أثناء سقوط كلٍّ مِن إسرائيل ويهوذا، تنبأ الأنبياء عن يوم سيأتي فيه مُلك الله في النهاية. فإن الوعود النبوية بهيكل جديد، وعهد جديد، وشعب جديد لله (مكوَّن من إسرائيل والأمم على حدٍّ سواء)، وسماوات جديدة وأرض جديدة، تفوق مجد المملكة تحت حُكم داود وسليمان. ولكن كيف ستتحقق تلك الوعود؟ تصوَّر الأنبياء الملكوت الآتي الكامل في حدث من شقَّين. أولًا، سيتطلب هذا عودة الرب إلى صهيون ليفتقد شعبه ويرعاه (إشعياء 40: 9-11). وثانيًا، سيحدث ذلك من خلال المَلك الممسوح من الرب، أصل يسى وغصنه، الذي سيمكَّن بروح الله ليُقيم البِر والعدل، ويبشِّر المساكين، ويُعتق المأسورين (إشعياء 11: 1-10؛ 61: 1-11). إن المسيَّا يتطابق مع الربَّ، فإن أعمال الواحد هي ذاتها أعمال الآخر. سيغفر الرب خطايانا، وسيُقيم العدل على وجه التحديد مِن خلال خادمه، الملك البشري لشعب الله. كما تُظهر رؤيا دانيال عن “مِثل ابنِ إنسانٍ” أن المسيَّا الآتي سيشترك في سُلطان ومجد الله “القَديمِ الأيّامِ” (دانيال 7: 13-14).
تُظهر المزامير أيضًا ذلك التطابق الذي بين الرب وملكهُ الممسوح. فالأمم سوف تثور على الرب وعلى مسيحه، ويجب على كل الشعوب أن تلتمس الرأفة مِن الابن (مزمور 2). حتى إنه يُشار إلى الملك أيضًا على أنه “الله”، الذي بجانب إلهه والذي يملُك بقضيب الاستقامة (مزمور 45: 6-7). إن الملك الآتي هو الرب، أدوناي، الجالس عن يمين الرب، يهوه، الذي سوف يتسلط وسط أعدائه (مزمور 110: 1-2). وهكذا، يعطي العهد القديم لقرائه رؤية للملكوت الآتي بوصفه عملًا مشتركًا بين الرب نفسه وابنه الممسوح، المَلك الذي صار بشرًا.
تتميم العهد الجديد
مِن منظور العهد الجديد، إن كلا جزئي الرجاء النبوي –عودة الرب ومجيء المسيَّا– منسوجان معًا في شخص واحد.[3] وبطرائق عديدة، يُقدم العهد الجديد يسوع بصفته واحدًا مع إله إسرائيل؛ فهو يمتلك صفات الله، ويعمل أعمال الله، ويحمل أسماء الله، ويتلقى العبادة التي يتلقاها الله. وبالقوة ذاتها، يُقدم العهد الجديد يسوع بصفته إنسانًا حقيقيًّا؛ فمحدودياته البشريَّة ليست تَوَهُّمًا، كما أن ألوهيته لم تَبتلع بشريته.
بالنظر إلى الاتساق الذي ينسب به العهد الجديد كلًا مِن الصفات الإلهية والبشريَّة ليسوع، مِن دون فصله إلى شخصين مختلفين، فإن عقيدة الطبيعتين التي نشأت في القرون الأولى للكنيسة وتم اعتبارها رسمية في مجمع خلقدونية (عام 451) يجب أن يُنظر إليها على أنها مبدأ ضروري للشهادة الكتابيَّة. إن المسيح هو شخص واحد ذو طبيعتين: الطبيعة الإلهية التي يتشارك فيها بتساوٍ تام مع الآب والروح القُدُس منذ الأزل، والطبيعة البشريَّة التي اتخذها بتجسده. وهاتان الطبيعتان متحدتان في شخصه دون اختلاط، أو تغيير، أو انقسام، أو انفصال. كما أن التشديد على ألوهية المسيح لا يُقلِّل بأي حال مِن بشريته، كما أن تسليط الضوء على بشريته لا ينتقص مِن ألوهيته. فصفات كل طبيعة تحتفظ بكمالها حتى في اتحادها في شخص الابن الواحد.
إن الطبيعة البشريَّة التي اتخذها المسيح كانت كاملة: فقد أخذها بكل ما تعنيه الكلمة أن يكون بشرًا: جسد، ونَفْس، وعقل، وإرادة، باستثناء الخطية فقط. تتضح بشريَّة يسوع مِن الاعتبارات التالية في العهد الجديد.
- المسيح وُلد. بكل تأكيد، كان سياق الحَبَل به مُعجزيًّا. فقد حُبِلَ به في بطن مريم العذراء مِن دون المادة الجينية للأب. ولكن، الطبيعة التي خلقها الله في رحم العذراء كانت بشريَّة بلا شك؛ فإنه تشارك في طبيعة مريم العذراء وبهذه الطريقة، صار مِن نسل إبراهيم وداود بحق، وبالحق نسل المرأة الأولى، حواء، أم كل حَيّ. ومع أن الحَبَل به كان معجزيًا، فإن ولادته كانت ولادة بشريَّة نموذجية: فيقول لوقا عن مريم العذراء: “فوَلَدَتِ ابنَها البِكرَ وقَمَّطَتهُ وأضجَعَتهُ في المِذوَدِ، إذ لَمْ يَكُنْ لهُما مَوْضِعٌ في المَنزِلِ” (لوقا 2: 7).
- نما يسوع وتقدَّم. ففي بشريته، اختبر يسوع النمو والتقدُّم البشري الطبيعي. فنقرأ أنه عندما عادت العائلة المقدَّسة إلى الناصرة، “كانَ الصَّبيُّ يَنمو ويَتَقَوَّى بالرّوحِ، مُمتَلِئًا حِكمَةً، وكانتْ نِعمَةُ اللهِ علَيهِ” (لوقا 2: 40). لا يُسجل العهد الجديد سوى قصة واحدة عن طفولة يسوع: حادثة الهيكل، عندما تركه والداه في أورشليم. وبعد تلك الحادثة يُخبرنا لوقا أن يسوع كان “يتَقَدَّمُ في الحِكمَةِ والقامَةِ والنِّعمَةِ، عِندَ اللهِ والنّاسِ” (لوقا 2: 52). نظرًا للأدلة الساحقة في العهد الجديد عن ألوهية المسيح، فقد يتعذَّر على العقل أن يتصور أن يسوع، الإنسان، كان ينمو فكريًا، وجسديًا، وروحيًا، وعلاقاتيًا.
- اختبر يسوع محدودية كونه بشرًا. كانت الطبيعة البشريَّة التي اتخذها يسوع بتجسده خالية مِن أي تلوث من الخطية أو فساد، ولكنها مع ذلك، امتلكت كل علامات المحدودية البشريَّة. وبعيشه في عالم ساقط، تحمَّل يسوع طوعًا عجز بشريتنا الساقطة. فقد جاع (متى 4: 2)، وعطش (يوحنا 4: 7؛ 19: 28)، وتعب (يوحنا 4: 6)، واختبر النطاق الكامل للعواطف البشريَّة الاعتيادية غير الخاطئة (متى 26: 37؛ يوحنا 2: 15؛ 11: 35). حتى إنه يوجد بعض الدلائل الكتابيَّة في الأناجيل تُظهر أن يسوع لم يمتلك العِلم الكلي في عقله البشري. فقد سأل يسوع مَن الذي لمسه عندما خرجت منه قوة شفت نازفة الدم (مرقس 5: 30). كما أنه أعلن لتلاميذه أنه ولا حتى ابن الإنسان يعرف يوم أو ساعة مجيئه الثاني (مرقس 13: 32). سعى البعض عبر تاريخ التفسير إلى تخفيف هذا التعليم عن المحدوديات الظاهرية لمعرفة المسيح البشريَّة، لاجئين لحُجَّة أن يسوع قال هذه الأشياء فقط لمصلحة تلاميذه وليس بسبب أي نقص فعلي في معرفته. ولكن، لن يكون لذلك التفسير أهمية إذا أخذنا في الاعتبار عقيدة طبيعتَي المسيح التي خرج بها مجمع خلقدونية. في لاهوته، يمتلك الابن المعرفة الكلِّية (العِلم الكلِّي) بكل الحقائق: الماضية، والحاضرة، والمستقبلة. ولكن في بشريته، كانت معرفته محدودة في بعض الأحيان وفقًا لإرادة الآب ومقاصده.
- جُرِّب يسوع. علامة أخرى على بشريَّة يسوع تتضح حين نفكِّر في تجربته. يوضِّح العهد الجديد أن المسيح لم يرتكب خطية قط (عبرانيين 4: 15؛ 9: 14؛ 1 بطرس 1: 19). ومع أن بعض اللاهوتيين تناقشوا في مسألة عصمة المسيح، أي في ما إذا كان بإمكانه أن يخطئ أم لا، يبدو أن الإجابة الأكثر توافقًا مع الإعلان الشامل للعهد الجديد هي أن المسيح لم يكن ممكنًا له أن يُخطئ. لأن شخص المسيح هو الله، وهو أقنوم إلهي في الثالوث الذي بالضرورة يكون صالحًا، فإنه لا يُمكن أن يُخطئ. ولكن، يجب ألا يؤثر هذا المفهوم (عدم إمكانية أن يرتكب المسيح الخطية) على التعليم الكتابي بأن المسيح -كونه بشرًا- قد جُرّبَ بحق (متى 4: 1-11) بل و”تألَّم” في تجاربهُ أيضًا (عبرانيين 2: 18). قد يُصارع البعض في التوفيق بين هذين المفهومين المتناقضين ظاهريًا مِن العهد الجديد، ولكن، يتعين علينا التمسُّك بكليهما مِن دون السعي لتخفيف الشد والجذب بينهما بالتقليل من أهمية أي مفهوم منهما.
- تألَّم المسيح ومات ودُفِنَ. إن قصص الإنجيل عن آلام المسيح وموته ودفنه تُسلط الضوء أيضًا على بشريته أيضًا. إن الله في جوهره الإلهي يستحيل أن يموت لأنه لا يفنى. ولكن لأن الله الابن اتخذ طبيعة بشريَّة، فهو قابل لاختبار الألم والموت كجزء مِن عمله الكفاري. لقد اتخذ شِبه جسد الخطية ليدين الخطية في جسده بالموت (رومية 8: 3-4). قد حسب خاطئًا ناموسيًّا مع أنه كان بلا خطية، ليتمكن مِن تسديد عقوبة الخطية (2 كورنثوس 5: 21).
- أُقيم المسيح وهو في بشريته. علينا أن ننظر إلى قيامة يسوع على أنها شأن بشري أيضًا. لقد أقيم المسيح بجسده الذي مات، والذي صار مُمجدًا الآن ولن يرى الموت ثانية. وبهذه الطريقة، صار المسيح، كما يقول بولس، آدم الأخير، الإنسان الحقيقي الذي أذَّن بعصر القيامة، وباكورة البشريَّة جمعاء، التي ستُقام في اليوم الآخير (1 كورنثوس 15: 45).
- يواصل المسيح الآن عمله الملكي والكهنوتي. كان لتجسد الابن بداية في التاريخ البشري، ولكن ليس له نهاية. فهو مستمر في المُلك بوصفه ابن الله المُمجَّد الجالس عن يمين الآب (رومية 1: 4؛ كولوسي 3: 1). كما أنه يواصل عملهُ الكهنوتي ليشفع فينا في الأقداس السماوية (عبرانيين 7: 24-25).
- سيأتي المسيح ثانيةً في بشريته. حين صعد يسوع إلى السماء أعلن الملاك للرسل أن المسيح سيأتي ثانية كما رأوه على السحاب (أعمال الرسل 1: 11). يجب أن نُدرك حقيقة أن يسوع لم يخلع بشريته وكأنها رداء عندما دخل السحب. فهو سيبقى إنسانًا مُمجدًا الآن وسيعود بشخصه وعلى نحو منظور في اليوم الأخير (كولوسي 3: 4).
الآثار المترتبة على تأنس المسيح
باختصار، كان العهد القديم يترقَّب أن يكون فادي البشريَّة الساقطة هو الله وإنسان. يُعلم العهد الجديد بصراحة أن يسوع المسيح هو هذا الفادي الإلهي والبشري. تَظهر بشريته طوال مشوار طاعته. فإن الحَبَل به، وولادته، ونموه، ومحدوديته، وآلامه، وموته، ودفنه، وقيامته، وصعوده، وعمله الكهنوتي المستمر، ومجيئه الثاني في النهاية، جميعها شهادات قوية على بشريَّة المسيح الحقيقية. ولا يبقى إلا أن نستخلص بإيجاز بعض الآثار المُترتبة على هذا التعليم الكتابي الثَّرى.
- يعني تأنس المسيح أنه مُمثل البشريَّة الساقطة. لأن أهوال الخطية والموت دخلت مِن الرجل الأول والمرأة الأولى، كان يجب أن يكون الشخص الذي يعالج هذا القرار المأساوي هو نفسه بشرًا، نسل المرأة. يسوع -إذن- هو آدم الأخير، الإنسان الحقيقي الذي من خلاله يمكن للبشريَّة الساقطة أن تُصالَح مع الله. وُلِد يسوع مِن امرأة، تحت الناموس، لكي يعيش حياة الطاعة نيابة عن المقهورين مِن سُلطة الناموس (غلاطية 4: 4-5). ومع أنه لم يكن بحاجة إلى التوبة، إلا أنه خضع لمعمودية التوبة ليُكمِّل كلَّ بِر (متى 3: 15). كما وصف اللاهوتيون حياته الخاضعة للناموس بأنها “طاعة فعَّالة”. لم يمت المسيح لأجل الخطاة فحسب، بل وعاش مِن أجلهم أيضًا، حتى يصير بِرُّهُ لهم (2 كورنثوس 5: 21). وصف إيريناوس، أحد آباء الكنيسة من القرن الثاني، هذا العمل النيابي بأنه “نظرية إعادة الإصلاح”: أي أن المسيح يجمع البشريَّة بكاملها تحت رأس جديد، آدم جديد، الذي فيه يُحسبون جميعًا أبرارًا. فكما يقول كالفن، إن “المسار الكامل” لطاعة المسيح هو الذي يُحْدِث الخلاص لشعب الله.
- يعني تأنس المسيح أنه بديل البشريَّة الساقطة. إن المسيح لا يقدِّم للآب طاعته الفعالة فحسب، بل الطاعة غير الفعالة أيضًا. بعبارة أخرى، نحن مخلَّصون بتألُّم المسيح وموته نيابةً عنا. لقد مات بديلًا، أي حلَّ محلنا، نيابة عنا ولمصلحتنا. كما يقول بطرس: “الّذي حَمَلَ هو نَفسُهُ خطايانا في جَسَدِهِ علَى الخَشَبَةِ، لكَيْ نَموتَ عن الخطايا فنَحيا للبِرِّ. الّذي بجَلدَتِهِ شُفيتُمْ” (1 بطرس 2: 24). لا يقدر أن يموت أحد بديلًا عن البشر الخطاة إلا إذا كان هو ذاته بشرًا بحق. كذلك، كان عمل الكفارة العظيم ممكنًا فقط لأن المسيح كان بشرًا حقيقيًا. علاوة على ذلك، فإن عمله الكهنوتي المستمر في الأقداس السماوية يقوم به بوصفه الإنسان المُقام مِن بين الأموات والممجَّد. فكما كان الكاهن في القديم “مأخوذٍ مِنَ النَّاسِ” و”يُقامُ لأجلِ النَّاسِ في ما للهِ”، فإن المسيح أيضًا “كانَ يَنبَغي أنْ يُشبِهَ إخوَتَهُ في كُلِّ شَيءٍ، لكَيْ يكونَ رحيمًا، ورَئيسَ كهَنَةٍ أمينًا في ما للهِ” نيابةً عنا (عبرانيين 5: 1؛ 2: 17).
- يعني تأنس المسيح أنه هو مثال البشريَّة المفدية. إن المسيح هو عطية خلاصنا غير المشروطة، كما أنه أيضًا مثالنا الأعظم. “لأنَّكُمْ لهذا دُعيتُمْ. فإنَّ المَسيحَ أيضًا تألَّمَ لأجلِنا، تارِكًا لنا مِثالًا لكَيْ تتَّبِعوا خُطواتِهِ” (1 بطرس 2: 21). فبصفته الإنسان الحقيقي، والشخص الذي يُجسد الطاعة البشريَّة الممتلئة من الروح القدس، التي تُكرم الله وحده بحق دون شريك، فإن المسيح هو مِن يجب على المؤمنين جميعًا الاقتداء به في طاعتهم الخالصة للآب. من المفارقة أن كلمات بيلاطس عند صلب المسيح “هوذا الإنسان!” كلمات صحيحة: ففي آلام المسيح وموته نرى بشريته الحقَّة، ونجد فيه دعوتنا، وهدفنا، ومصيرنا بوصفنا أتباعه.
[1] Hilary of Poitiers, The Trinity, trans. Stephen McKenna, Fathers of the Church 25(Washington, D.C.: The Catholic University of America Press, 1954), 3.16.
[2] Benjamin Breckinridge Warfield, Biblical Doctrines (New York: Oxford University Press, 1932; reprint, Grand Rapids: Baker, 2003),141.
[3] D. A.Carson, The Gagging of God: Christianity Confronts Pluralism (Grand Rapids: Zondervan, 1996), 258.