بشكلٍ ما، تُعتبر كل المشاكل المُرتبِطة بخلاف التدبيريين مع غير التدبيريين خلافًا مدفونًا تحت السؤال المُتعلِّق بالتفسير الحرفي. قَد نَشُك بالفعل بعد الاطلاع على نَهج جون داربي وسكوفيلد (Scofield) في الحَرفيَّة. يبدو نَهْجهما نحو الحَرفيَّة الصارمة خاضعًا للمبدأ الأساسي المُتعلِّق بالمَصير الثُنائي لإسرائيل والكنيسة. على سبيل المثال، يُشجِّع سكوفيلد على استخدام معاني غير حرفيَّة بل وحتى “رمزيَّة” لتاريخ العهد القديم. تُوجد “الحرفيَّة المُطلَقة” في النبوات، وهذه الحرفيَّة تتناسب بشكل كبير مع وجود العديد من “الرموز” في النصوص النبويَّة (Scofield, Scofield Bible Correspondence School, pp. 45-46). فما يعنيه سكوفيلد بكلمة “حَرفي” ليس واضحًا جدًا. ربما تم تحميل الكلمة بالفعل بشكل غير واعي ببعض الافتراضات التي تَنتمي إلى النظام اللاهوتي.
لا يستخدم كل المُفسرين التدبيريين كلمة “حَرفي” بنفس الطريقة. فمثلًا، قد يستخدم التدبيريين الجُدد تلك الكلمة ببساطة ليُشيروا إلى التفسير اللغوي التاريخي. لا يوجد أي معنى خاص آخر بالنسبة لهم. وأنا لا أختلف معهم في تلك الحالة. لكن توجد في أغلب الكتابات التدبيريَّة المنشورة معاني إضافيَّة. لذلك يجب علينا أن نَفحص هذه الكلمة المُفتاحيَّة عن قُرب.
صعوبات مع معنى كلمة “حَرفي”
لا يُعتبر تعريف التفسير الحَرفي أمرًا سهلًا مثلما يبدو. طَرَحَ رايري (Ryrie, Dispensationalism Today, pp. 86-87) تعبيرات أخرى مُتعلقة بالموضوع مثل “الطبيعي” و “الصريح” لكي يُفسِّر ما يعنيه بتعبير الحَرفيَّة. لكن هذا الشرح بطبيعته غير كافٍ. يعتمد إدراكنا لما هو طبيعي بشكل جذري على إدراكنا للسياق، بما في ذلك النظرة الكونيَّة، كما يُوضح فيش (Fish, “Normal Circumstances,” pp. 625-44). بدون تكرار محتوى مقالة فيش، اسمح لي بأن أقوم بفَحص القضيَّة في مسار موازٍ.
يُعتبر أحد الجوانب الأساسيَّة في قضيَّة تعريف كلمة “حَرفي” هو أنه في العديد من الحالات، يكون للكلمات وليس للجُمَل معنى حَرفي أو طبيعي. علاوة على ذلك، يُعد السياق مُهمًا للغاية لكل من الكلمات والجُمَل لتحديد المعنى عند أي نُقطة في عمليَّة التواصل. إن تحديد السياق الذي يُنظَر إليه، وكيف يُنظَر إليه في عملية تحديد المعنى هو أمر مهم للغاية. لأن الأسئلة حول السياق تُطرح بشكل مُتكرر في مُناقشة التدبيريين الكلاسيكيين بخصوص الحَرفيَّة، ونحتاج إلى التعامل بالتحديد مع هذه الأسئلة.
معنى الكلمات
قد نَقترب على أفضل وَجه من القضيَّة المركزيَّة باستخدام بعض الأمثلة. لنبدأ بهذا المثال البسيط من إحدى المقاطع:
قِتال
ما هو معنى تلك الكلمة؟ نُدرِك أن كلمة “قِتال” يُمكن أن تُستخدم كاسم (“قِتال”) أو كفعل (“يُقاتل”). عندما لا نَعطى أي سياق أوسع، يُمكننا على أغلب الظن أن نُفسر الكلمة على أنها اسم. في الواقع، يَشتق الفعل معناه من الاسم، لا العكس. إذا تم إيقاف عدد كبير من الناس في الشارع وطُلِب منهم أن يُعرِّفوا كلمة “قِتال،” فإن الأغلبيَّة العُظمى غالبًا ستُعطي تعريفًا مثل “جزء من حَرب، أو صراع” (أي باعتبارها اسم)، بدلًا من “أن يشترك الشخص في قِتال” (أي باعتبارها فعل). وبذلك يُشيرون إلى أنهم كانوا يُفكِّرون في الصيغة الاسميَّة بدلًا من الصيغة الفعليَّة.
يُظهر هذا المثال أن لأغلب الكلمات يُوجد ما هو مثل المعنى الأوَّلي، وهو معنى يُقدِّمه المرء بشكل طبيعي عندما يُسأل: “ما هو معنى هذه الكلمة؟” لن يُقدِّم كل شخص نفس المعنى، لكن سيَغلُب أحد جوانب الكلمة عادةً.
لكن عندما نُعطى ولو القليل من السياق، فإنه يُمكن لتخميناتنا حول المعنى أن تتغيَّر بشكل جذري، دعونا نَنظر إلى:
في القِتال
نحن الآن غالبًا مُتأكدون من أن الكلمة تُعبِّر هنا عن فِعل. (لكن “في القِتال” يُمكن أن تكون شبه جملة، أي أن يُقال “نحن ذاهبون للقتال.”) ما زال هناك نوع ما من المعنى “الأوَّلي”، بالتحديد، “أن يشترك الشخص في قِتال أو صراع.” دعونا نَحصل على المزيد من السياق:
عليَّ الشَوك والحسك في القِتال
نحن الآن أمام صعوبة. ما هو المعنى الحَرفي لهذه الجُملة؟ إذا أصَرَّينا على أن تحتفظ كل كلمة بالمعنى الأوَّلي، فلن نستطيع أن نَجد تفسيرًا مُتناسقًا. هناك توتُّر بين كلمة “في القِتال،” والتي تُوحي بوجود عدو حَي، و”الشوك والحسك” والتي يُشار إليها على أنها العدو لكنها جماد. يُمكن افتراض أن العبارة مجازيَّة. لكن بالتأكيد ما زال يوجد تفسير يُنتج (بشكل تقريبي) أقل مقدار من الرمزيَّة. على سبيل المثال، يُمكن أن يستخدم بُستاني عبارةً مثل هذه بطريقة نابضة بالحيويَّة ليُعبِّر عن مشاكل تتعلَّق برعاية الحدائق. ستُوصِّل كلمة “قِتال” إحساس رمزي مُساوٍ لعبارة “يُبقى بعيدًا.” لكن بالتأكيد تُلمِّح العبارة المجازيَّة إلى ما هو أكثر من المعنى الأقل رمزيَّة. إنه يدعونا إلى التعامل مع مجموعة كاملة من الرموز المُرتبطة بالشئون العسكريَّة والزراعيَّة. هل هناك أشياء زراعيَّة مُكافئة للأسلحة؟ هل هناك مراحل في “المعركة” الزراعية حيث يُمكن أن يبدو أن أحد الأطراف “يَنهزم،” ثم يَتبدَّل مصيره؟ إن استخدام كلمة “قتال” يُشير إلى ما هو أكثر من استخدام الكلمة بمعنى “الإبقاء بعيدًا.” يُمكننا أن نُحدد إلى أي مدى يَمتد المعنى فقط عندما نَنظُر إلى السياق ونَعرف ما إذا كان يُوظِّف مُقارنات أوسع بين الحرب والزراعة.
ليت عليَّ الشَوك والحسك في القِتال
إن وجود كلمة “لَيْتَ” في بداية الجُملة يُنتج تغييرًا شاملًا في تقديرنا للمعنى. بينما من قبل خَمَّنَّا أنه كان علينا التعامل مع خبرة فعليَّة لبُستاني ما، نَعلم الآن أن تلك الخبرة افتراضيَّة وتَخيليَّة. لنَنظُر إلى المزيد من السياق:
لَيْتَ عَلَيَّ الشَّوْكَ وَالْحَسَكَ فِي الْقِتَالِ
فَأَهْجُمَ عَلَيْهَا
وَأَحْرِقَهَا مَعًا
يُمكننا في ظل وجود المزيد من السياق رؤية أنه يتم استخدام المزيد من الرموز المُوسَّعة المُتعلِّقة بالحرب والزراعة. “فَأَهْجُمَ عَلَيْهَا” و “أَحْرِقَهَا مَعًا،” هي أفعال يقوم بها المرء في الحرب ضد المُدن. لكن التفسير ذو الطابع الرمزي القليل يُمكن أن يَتفق على أن هذا الرمز بخصوص الحرب تم استخدامه ليُوضِّح مهارات البُستاني في التعامل مع الشوك والحسك.
“غَنُّوا لِلْكَرْمَةِ الْمُشَتَهَاةِ:
أَنَا الرَّبُّ حَارِسُهَا.
أَسْقِيهَا كُلَّ لَحْظَةٍ.
لِئَلاَّ يُوقَعَ بِهَا
أَحْرُسُهَا لَيْلاً وَنَهَارًا.
لَيْسَ لِي غَيْظٌ.
لَيْتَ عَلَيَّ الشَّوْكَ وَالْحَسَكَ فِي الْقِتَالِ
فَأَهْجُمَ عَلَيْهَا
وَأَحْرِقَهَا مَعًا.
إن هذا المقطع يبدو مثل صورة عن جنة عدن، إما عدن في الماضي أو عدن الجديدة في المستقبل. نَميل إلى الاشتباه في إشارة إلى عدن بشكل كبير لأن ذِكر الرَّب يُلمِّح إلى سياق الإعلان الكتابي. في ذلك السياق، تُعتبر قصة سفر التكوين التي تَتضمَّن جنة عدن خلفيَّة واضحة. لذلك نَشتبه في أنه يُشار إلى عدن. لكن مع ذلك، لا توجد أي عبارة صريحة تجعل التفكير في عدن ضرورة مُطلقة. إذا كنا جامدين وعديمي الخيال، يُمكننا أن نقول: “إن هذا المقطع يقول فقط إن الله لديه كرمة يَلتزم بالاعتناء بها. إن المقطع لا يقول إن الكرمة هي عدن جديدة أو عدن قديمة.”
في الواقع، يَرِد هذا المقطع في إشعياء ٢٧: ١-٤. عندما أقول هذا، فإني أُعطي الناس الفرصة لأخذ السياق الأوسع في الاعتبار: سياق إشعياء ٢٧؛ وكامل سفر إشعياء، وإشعياء شخصيًا وزمنه، والأجزاء الكتابيَّة التي كُتبتْ قبل وبعد إشعياء. بالتحديد، يقول إشعياء ٢٧: ٦: “فِي الْمُسْتَقْبِلِ يَتَأَصَّلُ يَعْقُوبُ. يُزْهِرُ وَيُفْرِعُ إِسْرَائِيلُ.” في ضوء تلك العبارة والكرمة الرمزيَّة في إشعياء ٥؛ سيتفق الجميع على أن إشعياء ٢٧: ٢-٤ يستخدم في الواقع الصورة الكاملة للبُستاني والكرمة بشكل مجازي. إن “القتال” في إشعياء ٢٧: ٤ يُشير إلى قِتالات افتراضيَّة والتي سيُقاتل اللهُ فيها أعداءً شخصيين. مع أن الصورة بأكملها مجازيَّة، إلا أنه يَتضح أن كلمة “قِتال” المُحددة تُستخدَم بشكل مجازي أقل عما اعتقدنا في البداية. ما هو في المشهد أمامنا هو قِتالات ضد أعداء شخصيين (قِتالات أكثر أو أقل حَرفيَّة). علاوة على ذلك، يَعتمد تأثير كلمة “قِتال” على احتفاظنا بالإحساس بِجَوِّ الحرب بالطريقة التي تكون فيها صراعات البُستاني مع الشوك والحسك مُشابهة للحرب.
بالإضافة إلى ذلك، يبدو لي أنه عندما نأخذ في الاعتبار السياق الشامل فإن الإشارة إلى عدن هي بالتأكيد موجودة. يُستخدم نموذج السلام الذي كان موجودًا في عَدن لاستحضار السلام الشامل الذي ستختبره إسرائيل في المستقبل. لا شك في أن هذا السلام يُظهر نفسه بشكل أساسي بطريقة روحيَّة واجتماعيَّة، لكن حالة الإثمار التي يتم تصويرها ما زالت تقترح إدراج مُكافأة زراعيَّة حرفيَّة. بذلك تربُط بين البركة التثنويَّة (تثنية ٢٨: ١-١٤) والتوقعات النبويَّة التي تَتضمن الحياة النباتيَّة (مثل: إشعياء ٣٢: ١٥-٢٠؛ ٣٥: ١، ٢).
مع ذلك، ينبغي أن نُلاحظ أن العديد من هذه الأفكار الجيدة تُقترح أو يُلمَّح إليها بدلًا من أن تُقال بكلمات عديدة. لم نتمكَّن من إثبات أن الإشارات كانت موجودة لأشخاص يُصرُّون على دليل دامغ قبل أن يَتخلوا عن التفسير الأكثر ركاكة ومحدوديَّة.
تعريف الحَرفيَّة
في ضوء المثال السابق، يُمكننا القول بأنه هناك على الأقل ثلاثة طُرق معقولة للحديث عن المعني الحَرفي.
أولًا، يُمكن أن يقول المرء إن المعنى الحَرفي لكلمة ما هو المعنى الذي سيفهمه المُتحدثون الأصليون على الأغلب عندما يُسألون عن الكلمة بشكل مُنعزل (أي بمعزل عن أي سياق في جملة أو مُحادثة مُحددة). لقد سبق وأطلقتُ على ذلك تعبير المعنى “الأوَّلي”. لذلك يُعتبر المعنى الأوَّلي لكلمة “قِتال” هو “معركة أو صراع.” إن المعنى الأوَّلي هو عادةً المعنى الأكثر شيوعًا؛ يتَّصِف أحيانًا وليس دائمًا، بأنه “مادي” و “مُحدد” بشكل أكبر من المعاني الأخرى المُحتملة في المُعجم، والتي يُمكن أن تُوصف بأنها “مجازيَّة.” علي سبيل المثال، يُعتبر المعنى الأوَّلي لكلمة “يحترق” هو “أن تأكله النيران.” إنه استخدام “مادي” و “مُحدد” بشكل أكبر من الاستخدام المجازي لكلمة “يحترق” في تعبير “يحترق غيظًا.” إن المعنى الأوَّلي أو المعنى الحَرفي بهذا الوصف هو عكس كل المعاني المجازيَّة.
لقد قُلنا إن المعنى الأوَّلي هو معنى الكلمات في انعزال. لكن ماذا لو كانت الكلمات تُشكِّل جُمَلًا؟ يُمكننا أن نَتخيَّل مُحاولة تفسير جُملة أو فَقرة كاملة عن طريقي تحديد المعنى الأوَّلي لكل كلمة بشكل ميكانيكي. سيكون هذا عادةً أسلوبًا اصطناعيًا بل وسخيفًا. سيكون ذلك تفسيرًا لم يأخذ في الاعتبار تأثير السياق على تحديد أي معنى أو معاني تُستخدَم فيها كلمة ما واقعيًا. يُمكننا أن نُسمي تفسيرًا مثل ذلك “تفسير المعنى الأوَّلي.” على سبيل المثال، انظُر مُجددًا إلى النص ” لَيْتَ عَلَيَّ الشَّوْكَ وَالْحَسَكَ فِي الْقِتَالِ!” ماذا سيكون تفسير المعنى الأوَّلي لهذا المقطع؟ إن المعنى الأوَّلي لكلمة “شوك” (الكلمة بشكل مُنعزل) هو “نبات له عيدان شائكة.” وسيكون المعنى الأوَّلي لكلمة “حسك” مُماثلًا. إن المعنى الأوَّلي لكلمة “قِتال” هو “فِعل عسكري ضد جيش مُعادٍ.” عند إضافة هذه المعاني جنبًا إلى جنب بطريقة ميكانيكيَّة، يُمكن أن نتوصَّل إلى النتيجة القائلة بأن المُتحدث كان يَتمنَّى أن يستخدم الحسك والشوك كأسلحة في حملته العسكريَّة القادمة، أو أن الشوك والحسك تَحوَّل فجأةً إلى سيناريو خيال علمي حيث نظَّموا أنفسهم (بشكل واعٍ) على هيئة جيش. من الواضح أن تفسير المعنى الأوَّلي يُعتبر أحيانًا غريبًا أو سخيفًا.
في النوع التالي، يُمكننا أن نَتصوَّر قراءة المقاطع كوحدة عضويَّة، لكن بأكثر الطرق ركاكة. سنسمح لأنفسنا بأن نُميِّز الاستعارات الواضحة، لكن ليس ما هو أبعد من شديد الوضوح. سنتجاهل إمكانية وجود تشديدات شعريَّة، أو سُخريَّة، أو تلاعب بالألفاظ، أو الطبيعة المجازيَّة أو التلميحيَّة لمُجمَل أجزاء كتابيَّة. على الأقل سنتجاهل مثل هذه الأشياء حيثما كانت غير واضحة بشكل كامل. دعونا نُسمِّي ذلك “التفسير المُسطَّح” إنه حَرفي إن أمكن ذلك.
مرة أخرى، لنأخذ إشعياء ٢٧: ٢-٤ كمثالنا. يُميِّز التفسير المُسطَّح أن هذا المقطع يتواجد في إشعياء ٢٧، ويتواجد إشعياء ٢٧ في سفر إشعياء. لكن إشعياء ٢٧: ٢-٥ يُعتبر ببساطة تنبؤً بأن الرَّب سيُنشئ عملًا بُستانيًا مثاليًا على هيئة كرمة. مما لا شك فيه، يُعتبر إشعياء ٢٧: ٦ –”فِي الْمُسْتَقْبِلِ يَتَأَصَّلُ يَعْقُوبُ”– رمزًا للازدهار الروحي لشعب إسرائيل. لذلك من الطبيعي أن يُعتبر نص إشعياء ٢٧: ٢-٥ إشارةً إلى الازدهار الروحي. لكن لا يوجد ما يدعم هذا الاستنتاج. يدور نص إشعياء ٢٧: ٢-٥ حول الزراعة بشكل بحت. يرتبط إذن بإشعياء ٢٧: ٦ فقط من حيث الموضوع العام المُشترك المُتعلِّق بالازدهار. علاوة على ذلك، تُعد القراءة الزراعيَّة الخالصة الأكثر “حَرفيَّة.” أقرب ما يكون إلى تفسير المعنى الأوَّلي دون الوقوع في السخافة. لذلك، بما أنه مُمكنًا، فهو إذن التفسير المُسطَّح.
إذا بدا ذلك مُتطرِّفًا للغاية، فإمكاننا أن نَنظُر إلى قضيَّة أكثر اعتدالًا. لنفترض أن شخصًا يعترف بأن نص إشعياء ٢٧: ٢-٥ هو وصف رمزي للمعروف الإلهي الروحي تجاه إسرائيل. لكن مع هذا يُمكن لذلك الشخص أن يُصرِّح بأنه لا توجد إشارة إلى جنة عدن. لا يستطيع أحد أن يُثبت أن ذلك خطأ دون الدخول في خلاف، حيث أن عدن لم تُذكَر صراحةً في المقطع. هذا أيضًا تفسير مُسطَّح. لكنه ليس مُسطَّحًا بنفس قدر التفسير الموجود في الفقرة السابقة. أعتقد أنه من المناسب أن نستخدم تعبير “التفسير المُسطَّح” للإشارة إلى الحالات الأكثر تطرُّفًا ونعترف حينها أنها يُمكن أن تكون هناك تفسيرات أخرى من شأنها الاقتراب من ذلك التطرُّف بدرجات.
أخيرًا، يُمكننا أن نتحدَّث عن نوع ثالث من التفسير. في هذا النوع، يقرأ المرء المقاطع كوحدات عضويَّة ويُحاول أن يَفهم ما يُعبِّر عنه كل مقطع بالارتباط بخلفيَّة الكاتب البشري الأصلي والموقف الأصلي. يسأل المرء عن الفَهم والاستدلالات المُتفقة مع الوقت الذي كُتب فيه المقطع والتي يُمكن تبريرها أو دعمها. يَهدُف هذا التفسير إلى التعبير عن المعاني التي عبَّر عنها الكُتَّاب البشريون. كما أنه على استعداد للتعرُّف على التلميحات الدقيقة واللغة غير القاطعة. يَسعى إلى تمييز متى يَترُك الكُتَّاب مساحة من الغموض والضبابيَّة بخصوص مدى توسُّع أو امتداد تلميحاتهم. لنُسمِّي هذا “التفسير اللغوي التاريخي.”
إذا كان الكاتب عديم الخيال أو غير مُبدع، أو إذا كان المقطع من النوع الأدبي الذي يتَّصِف بالركاكة الشديدة، فإن التفسير اللغوي التاريخي سيتطابق مع التفسير المُسطَّح. لكن في الحالات الأخرى، لن يتطابق التفسير المُسطَّح دائمًا مع التفسير اللغوي التاريخي. إذا كان الكاتب يُحاول أن يكون أكثرًا إبداعًا، فحينها سيكون بَحْثنا عن التلميحات، والتلاعب بالألفاظ، والطُرق الأخرى غير المُباشرة للتواصل جزءًا مسموحًا به من التفسير اللغوي التاريخي، حتى عندما لا تكون هذه الأشياء واضحة جدًا بحيث لا يُفوِّتها أحد.
فماذا يقصد المُفسِّرون التدبيريون بكلمة “حَرفي”؟ هل يقصدون واحدًا من أنواع التفسير السابقة أم شيئًا آخر غيرها؟ لقد قال التدبيريون بشكل مُتكرر أنهم يُميِّزون أن هناك رموز في الكتاب المُقدَّس. على أساس هذا التأكيد، وعلى أساس أوضح وأفضل تصريحاتهم بخصوص المبادئ التفسيريَّة، من المُفترض أنه ينبغي علينا فَهْم أنهم يُؤيدون التفسير اللغوي التاريخي. علاوة على ذلك، في تاريخ نظرية علم تفسير الكتاب المُقدَّس، ارتبط تعبير “المعنى الحَرفي” (sensus literalis) بالتفسير اللغوي التاريخي. لذلك هناك بعض الدعائم التاريخية لاستخدام كلمة “حَرفي” بشكل تَقني، ببساطة للإشارة إلى هدف التفسير اللغوي التاريخي. مع ذلك في سياقنا المُعاصر، يُعتبر الاستخدام المُتكرر لكلمة “حَرفي” من قِبَل التدبيريين أمرًا غير مُفيد. تميل كلمة “حَرفي” إلى أن تُفهَم باعتبارها نقيض لكلمة “رمزي.” لذلك من السهل أن تُشير كلمة “حَرفي” إلى النوعين الآخرين للتفسير (تفسير المعنى الأوَّلي أو التفسير المُسطَّح).
التفسير “الصريح”
إن كلمة “صريح” والتي اُستخدمت كبديل لكلمة “حَرفي” لا تُعتبر أفضل كثيرًا. كان للمُستمعين الأصليين لرسالة ما إدراكًا ضمنيًا بالسياق الكامل: كانوا مُدركين لسياق وَضْعهم التاريخي، وسياق معرفتهم بِقَواعد اللغة، وسياق جزء الرسالة الذي سمعوه بالفعل. ولأنهم تَشرَّبوا تمامًا هذه السياقات الغنيَّة قبل أن يستمعوا إلى الجُملة التالية، فسيبدو لهم أن لتلك الجُملة (بشكل عادي) معنى صريح. لكننا بصفتنا مُستمعي القرن العشرين نقرأ نفس الجُملة ونسأل أنفسنا عن المعنى الصريح، فإن ما سنتوصَّل إليه هو المعنى الذي سيكون للجُملة أو الفقرة إذا حدثتْ أو قيلتْ في القرن العشرين – السياق الذي هو جزء لا يَنفصل عن معرفتنا الضمنيَّة. يُصبح التفسير اللغوي التاريخي أحيانًا غير “صريح” تمامًا بالنسبة لنا لأنه علينا أن نَجتهد في مُحاولة إعادة إنشاء وتقدير الفروق بين ذلك العصر وعصرنا الحالي. علاوة على ذلك، بالنسبة للتدبيرين العلمانيين، فإن المعنى الصريح هو المعنى الذي يظهر لهم في سياق معرفتهم القائمة بالفعل والمُرتبطة بالنظام النبوي للفكر التدبيري.
يقودنا هذا إلى احتماليَّة وجود نوع رابع للتفسير. يُمكننا القول بأن “التفسير الصريح” هو تفسير نص ما بواسطة المُفسِّرين بالارتباط مع سياق المعرفة الضمنية للمُفسِّرين لنَظرتهم الكونيَّة ووَضْعهم التاريخي. إنه يُقلل من دَور السياق الثقافي والتاريخي الأصليين. يختلف التفسير اللغوي التاريخي عن التفسير الصريح بالتحديد بخصوص السؤال حول السياق الثقافي والتاريخي الأساسيين للتفسير. يقرأ التفسير الصريح كل شيء كما لو أنه مكتوب مُباشرةً للقارئ، وفي عصره وثقافته. يقرأ التفسير اللغوي التاريخي كل شيء باعتباره مكتوبًا في عصر وثقافة الكاتب الأصلي. بالتأكيد عندما نقوم بتفسير نص مُعاصر مكتوب لثقافتنا أو لثقافتنا الفرعيَّة، فإن الاثنين يكونان واحدًا.
لقد رأينا أن هناك مسؤوليات مُحددة لكلمتي “حَرفي” و “صريح”. إذا كان التدبيريون جادِّين بخصوص تأييد التفسير اللغوي التاريخي، والذي يختلف عن تفسير المعنى الأوَّلي، والتفسير المُسطَّح، والتفسير الصريح، فأعتقد أنهم يستطيعون إظهار التزامهم عن طريق التخلِّي عن عبارة “التفسير الحَرفي.” إن مُصطلح “التفسير اللغوي التاريخي” يُعبِّر بوضوح عما يُريدون التعبير عنه، بينما تُعتبر كلمة “حرفي” غامضة وتميل بشكل خاطئ إلى اقتراح بعض أو كل بدائل التفسير اللغوي التاريخي.
بالتأكيد ما زال يُمكن استخدام كلمة “حَرفي” لوَصْف كلمة فرديَّة والتي تُستخدم بمعنى غير رمزي. على سبيل المثال، إن كلمة “كَرمة” تعني حرفيًا حقلًا للعنب. في إشعياء ٢٧: ٢ تُستخدم بشكل غير حرفي، بل رمزي، للإشارة إلى إسرائيل. على النقيض، في تكوين ٩: ٢٠، تُستخدم الكلمة بشكل حَرفي (غير رمزي). في هذه الحالات، تُعتبر كلمة “حَرفي” عكس كلمة “رمزي”. لكن بما أنه يُمكن لأي نص مُوسَّع أن يحتوي أو لا يحتوي على رموز، فإن كلمة “حَرفي” لن تُستخدم لتصِف طريقة أو منهج شامل للتفسير.
مع ذلك، أعتقد أن التخلِّي عن عبارة “التفسير الحَرفي” سيكون صعبًا على بعض التدبيريين، لأن كلمة “حَرفي” أصبحت شعارًا أو راية. أعتقد أنها شعار مُفيد، بالتحديد بسبب قُدرتها على أن تكون مَركبة للانزلاق نحو التفسير المُسطَّح أو التفسير الصريح عندما يكون من المُناسب فعل ذلك.