قبل أن أنجب أطفالاً، خدمت لسنوات عديدة في خدمة المشورة في المؤتمرات الكنسيّة، وكمدرِّسة في مدرسة حكوميَّة كبيرة. تعلَّمت في كلا المكانين أهميَّة التربية والتأديب في نموِّ الطفل. فمن دون أُسس وقوانين، يتحوَّل أيُّ مؤتمر صيفيٍّ للأولاد لفوضى عارمة. ومن دون نظام داخل الفصل، لن تكون هناك فرصة للطلاَّب أن يتعلَّموا شيئًا.
على مدار سنين عملي بين الأطفال، ساعدتني خمسة مبادئ أساسيَّة كمشيرة، وكمدرِّسة، وساعدتني بالأخصِّ كأمٍّ. ورغم أنَّ بعض الطرق قد لا تصلح في التعامل مع جميع الأطفال، فإنَّ هذه المبادئ الخمسة لها مردود جيِّد مع العديد من الأطفال بغضِّ النظر عن أعمارهم أو جنسهم أو طبيعة سلوكهم.
1. علِّم الطفل بشكلٍ استباقيٍّ وليس كردِّ فعل
الطفل بحاجة إلى تعلُّم الصواب بنفس القدر الذي يحتاج فيه إلى تصحيح أخطائه. ويساعدنا في تحقيق ذلك أن نسأل الطفل “ما هو التصرُّف الصحيح الذي يجب أن تفعله في هذا الموقف أو ذاك؟” عندما يقرأ قصص من الكتاب المقدَّس، أو من خلال التعليق على مواقف وأخطاء قد تحدث بشكل يوميٍّ. السماح لطفلك بأن يختار بنفسه التصرُّف السليم، يساعده على الفهم والتعلُّم أكثر بكثير من مجرَّد الاستماع لما تقوله بشفتيك.
عندما كان أطفالي أصغر سنًّا، كنت أسألهم بطريقة مرحة قبل الدخول لمكان التسوُّق: هل سنتصرَّف مثل مثيري الشغب داخل المتجر؟ تكون إجابتهم بالتأكيد هي “لا”. ثمَّ أسألهم ثانيةً: ماذا يفعل مثيرو الشغب؟ عندها يشارك كلُّ واحد منهم بأشياء مختلفة مثل: يركضون حول المتجر، لا يطيعون أمَّهاتهم، يلعبون بعربة التسوُّق، يطلبون حلوى، يصرخون بصوتٍ عالٍ، إلى آخره.
الاستباق بمراجعة هذا الأمر قبل الدخول لمتجر البقالة ساعدهم بشكل كبير أن يتوقَّعوا من أنفسهم السلوك الجيِّد والطاعة. الطفل بحاجة إلى التذكير دائمًا كيف يجب أن يكون لطيفًا، كيف يتصرَّف أمام الآخرين، كيف يتصرَّف عند الإساءة، وكيف يعتذر. إذا أمضينا كلَّ الوقت نقول: لا تفعل ذلك، دون أن نقول: افعل ذاك، سوف يكبر أولادنا وهم يشعرون بالكبت والضيق، دون أن يتعلَّموا ما هو التصرُّف السليم الذي يجب أن يفعلوه.
2. قدِّم الاثنين، التأديب والمكافأة
عندما قطع الله عهدًا مع شعب إسرائيل، وضع أمامهم البركات واللعنات (تثنية 30). لقد وضع أمامهم مسبقًا بركات الطاعة وعواقب عدم الطاعة. وهذا المبدأ يجب أن نفعله في تربية أبنائنا.
بعض الآباء يتردَّدون في مكافأة أطفالهم، اعتقادًا منهم أنَّ ذلك يشبه تقديم رشوة، رغم وجود فرق جوهريٍّ بين الرشوة والمكافأة، لأنَّ المكافأة تشجِّع وتمتدح التصرُّف الجيِّد، أمَّا الرشوة، فتشجِّع وتمتدح التصرُّف السيِّئ. لكنَّهما كثيرًا ما يكونان متشابهين، لذا دعونا نأخذ مثالاً للتوضيح:
إذا كانت توجد طفلة بعمر الـ 18 شهرًا ترفض المكوث داخل عربة الأطفال، في متجر البقالة. في حالة الرشوة سيكون الموقف هكذا: ستدخل الأمُّ والطفلة إلى متجر البقالة، ستحاول الأمُّ وضع الطفلة داخل العربة المخصَّصة للأطفال، وعندما تصرخ الطفلة وتلقي بنفسها وتركل الأمَّ، تستاء الأمُّ من تصرُّف الطفلة، فتمسك بحافظة نقودها وتشتري لها حلوى لتتخلَّص من عنادها، وتقبل الطفلة بالمكوث في العربة.
أمَّا في حالة المكافأة، سيحدث نقيض ذلك. قبل مغادرة السيَّارة، ستنظر الأمُّ إلى عيني طفلتها وتقول: أعرف أنَّ وقت التسوُّق سيكون مملاًّ بالنسبة لكِ، لكن إذا تصرَّفتي بلطف، سأكافئكِ، تُرى هل ستتصرَّفين جيِّدًا؟ ستقول الطفلة: نعم، وتنتظر المكافأة بشغف. عندها تضع الأمُّ الطفلة داخل العربة، وفي منتصف الوقت، تعطيها الحلوى التي وعدتها بها لأنَّها أطاعت وتصرَّفت جيِّدًا.
في الموقف الأوَّل، كانت الطفلة هي المتحكِّمة في الأمر، لقد تمَّت مكافئتها على الصراخ والركل والبكاء. أمَّا في الموقف الثاني، كانت الأمُّ هي المسؤولة وتصرَّفت بحزم. وكانت النتيجة مكافأة الطفلة على سلوكها الجيِّد. المكافأة تساعد أولادنا في النهاية على فهم طرق الله الصالحة، وأنَّه يكافئ تعبنا (كولوسي 3: 23-24).
3. نفِّذ التعليمات التي تقولها
عندما بدأت التدريس، كان بعض طلاَّبي يصغرونني بنحو خمسة أعوام. أدركت أنَّه يجب عليَّ تنفيذ ما أقول إذا كنت أريد كسب احترامهم لي. لقد فهموا أنَّني عندما أقول “نعم” فأنا أعني “نعم”، وعندما أقول “لا” فأنا أعني “لا” متى أردت فرض النظام داخل الفصل.
نفس الشيء ينطبق على أطفالنا، فإذا حذَّرت طفلتك بأنَّها ستغادر الحديقة إذا ضربتْ طفلاً آخر، فعندما تفعل ذلك، غادر الحديقة. أو عندما تقول لطفلك إنَّك لن تصطحبه ليشاهد فيلمًا إذا لم يرتِّب سريره، نفِّذ ذلك بالفعل. أطفالنا بحاجة إلى أن يعرفوا أنَّنا جادِّين فيما نقوله لهم، وبأنَّنا سننفِّذ ما قُلنا حتَّى ولو كان قاسيًا.
هنا يجب أن ألفت انتباه الآباء. حدِّد العقاب الذي تنوي بالفعل تنفيذه. فإذا كنت بالفعل تريد أن تصطحب طفلك لمشاهدة فيلم، أو تمكث مع ابنتك في الحديقة، إذًا اِختر عقابًا آخر يتناسب مع الموقف.
يجب أن نتقبَّل جميعًا فكرة أنَّ عقابنا لأبنائنا نادرًا ما يكون مناسبًا. لذا، فغالبًا لن يطيعونا عندما تكون أولويَّتنا هي قضاء الوقت في شيء آخر عوضًا عن قضائه في تأديبهم بمحبَّة. لكن ثمار التهذيب الجادِّ الصادق تستحقُّ التضحية.
4. طريقة التهذيب يجب أن تكون فعَّالة
تستخدم كلُّ أسرة طريقة مختلفة في تربية الأطفال. في الحقيقة، حتَّى في الأسرة الواحدة، قد تختلف طريقة العقاب من طفل لآخر. فبغضِّ النظر عن طريقة التهذيب، نتعلَّم من عبرانيِّين 12: 11 أنَّ “كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي الْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ. وَأَمَّا أَخِيرًا فَيُعْطِي الَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرّ لِلسَّلاَمِ”.
أيًّا كانت الطريقة التي تتبعها في التهذيب، ستبدو غير مريحة في جميع الأحوال لطفلك. لكن يجب التوضيح أنَّ هذا لا يعني مضايقة الطفل بأيِّ حال من الأحوال، أو أن يصبَّ الآباء غضبهم عليه. التهذيب هدفه مصلحة الطفل، وليس التنفيس عن غضب الآباء. إذا كنت تشعر بالغضب أو الغيظ، انتظر حتَّى تهدأ، ثمَّ أدِّب طفلك.
في بيتنا، تبدأ مرحلة تهذيب الطفل بتوبيخ صارم مع تذكير بالعقاب. نحن نخرجه خارج دائرة شعورنا بالغضب، وننزل إلى مستواه ونخبره بحزم أنَّ سلوكه غير مقبول. إذا لم يهتمَّ بالتحذير، عندها نتركه بمفرده لفترة قصيرة –بحسب عمره. إذا لم يهدأ بعد ذلك، أو أصرَّ على عدم الطاعة، حينها يُضرَب على الأرداف.
عندما يكبر الأطفال، تصبح هذه الطرق غير فعَّالة في التهذيب بالنسبة لهم. لذلك من المهمِّ تقييم هذه الطرق من وقت لآخر. بالنسبة للأطفال الأكبر سنًّا، قد يكون خسارة امتياز معيَّن، أو تغريم الطفل ثمن ما كسره أو أفسده، أو إلزامه بتنفيذ مهامٍّ معيَّنة، عقابًا أفضل. أيًّا كانت طريقة العقاب، يجب أن تكون مناسبة للطفل.
ربَّما يكون عقاب الطفل صعبًا على الآباء. فهم يريدون أن يروا طفلهم سعيدًا، لا أن يسبِّبوا له الضيق والحزن. لكن الوعد الذي في عبرانيِّين 12: 11 يهدِّئ مخاوفنا، إذ يقول: “أَخِيرًا فَيُعْطِي الَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرّ لِلسَّلاَمِ”. نحن نبارك أطفالنا عندما نحبَّهم كفاية لدرجة أن نؤدِّبهم.
5. اضبطهم وهم يتصرَّفون جيِّدًا
لقد وجدت أنَّ تشجيع الطفل من أقوى طرق التهذيب. فأنا أخدم بانتظام في فصل الأطفال بعمر الأربعة أعوام في الكنيسة. وأسرع طريقة تجعل كلَّ الأولاد يجلسون بسرعة في هدوء هي عندما أقول: انظروا جميعًا، أنا أحبُّ كثيرًا الطريقة التي تجلس بها “سارة”، فهي تجلس بهدوء وتكتف يديها، لكي تستمع لقصَّة اليوم”. في الحال أجد الخمسة عشر طفلاً جلسوا مثلها، منتظرين الاستماع للقصَّة.
المدح وسيلة فعَّالة وبركة للأطفال. فهي تعلِّم الأطفال ما هو الصواب، وفي ذات الوقت تنقل لهم الشعور باهتمامك بهم. جميعنا نحبُّ أن يرى رؤساؤنا ما نفعله ويمتدحونا عليه، وليس فقط أن يصلحوا لنا أخطاءنا. وبالمثل أولادنا، يحبُّون أن يروا مراقبتنا لتصرُّفاتهم الجيِّدة وامتداحهم عليها، مثلما نراقب تصرُّفاتهم الخاطئة.
هذا النوع من التشجيع هامٌّ جدًّا، وبخاصَّة للأطفال الذين لديهم مشكلات سلوكيَّة، أو يمرُّون بمرحلة عنيفة من عدم الطاعة. مثل هؤلاء الأطفال، تُطرَب آذانهم لأبسط عبارة مدح. لذا حاول قدر استطاعتك أن تضبطهم وهم يفعلون أيَّ شيء جيِّد، وامتدحهم عليه.
أهم مبدأ على الإطلاق
هذه المبادئ الخمسة ساعدتني أنا وزوجي في تربية أبنائنا. لكنَّها تبقى محدودة. وحده الله هو الذي يقدر أن يغيِّر قلوب أبنائنا. كلُّ مبادئ التربية في العالم لا تستطيع أن تخلِّص أو تغيِّر أبناءنا، وحده يسوع يقدر أن يفعل ذلك.
طالما نطلب الحكمة في طرق تربيتنا لأبنائنا، فإنَّ أفضل شيء يمكن أن نفعله هو أن نقضي وقتًا في قراءة كلمة الله وفي الصلاة، لنطلب إرشاد الله. هو يصغى إلينا، ويفهمنا، ويعد بأن يعطينا الحكمة التي نحتاجها (يعقوب 1: 5). ليتنا نطلبه، ونسأله أن يعمل في قلوب أولادنا.