نشأتُ في حيٍّ كان معظم أصدقائي وأنا نرتاد الكنيسة نفسها. كان آباؤنا في الغالب أصدقاء قرّبونا بعضنا إلى بعض، أو التقينا أول مرة في مدرسة الأحد. كان هناك قِلّة يرتادون كنائس أخرى، غير أنّي لم أكن على دراية تُذكر بالفوارق اللاهوتية بين كنيستنا وتلك الكنائس.
أستطيع أن أقول إنّي كنت ألحظ بعض الأمور مثل: الفتيات في كنيستهم كنّ يرتدين السراويل، أمّا عندنا فلم يكن ذلك مقبولًا؛ وكانوا يقضون في الكنيسة كامل الصباح وأحيانًا يمتدّ الأمر إلى بعد الظهر، بينما تُختَتم خدمتنا في غضون ساعتين، وأي شيء أطول من ذلك بدا مبالغًا فيه؛ كما أنّهم كانوا يصلّون بما يُسمّى “ألسنة”، في حين لم نكن نذكر هذا الموضوع البتّة. لقد رأيتُ الفوارق في الممارسات، لكن لم أكن أُدرك العقائد التي تقف وراءها. ومع ذلك، لم أعطِ الأمر كثير تفكير. فبالنسبة إليّ، كنّا جميعًا في الطريق إلى السماء.
ومع الانتقال سريعًا إلى سنَتي الأولى في الجامعة، التقيتُ شابًا كان عازمًا—على حدّ تعبيره—على “تطهير الحرم الجامعي من التعليم الباطل”. ولأول مرة في حياتي، واجهني شخص ما بصورة مباشرة متحدّيًا ما كنت أؤمن به. جاءني بلهجة حادّة وحجج قوية، لكنني تمسّكتُ بموقفي. وسأعترف الآن أن ذلك الموقف لم يكن ثابت الأساس، ومع ذلك، بطريقة ما، وقفت عليه ولم أتزحزح.
وعندما أنظر إلى الماضي، أدرك أنّني ارتكبتُ أخطاءً عديدة في طريقة تفاعلي، ليس مع ذلك الشاب فحسب، بل أيضًا مع كثيرين آخرين اختلفت معهم لاهوتيًّا عبر السنين. لقد فتحت لي الجامعة عينيّ على طيف واسع من التعاليم، ومعها كثرت النقاشات حول ما ينبغي أن نتبعه حقًّا. ومع مرور الوقت، تبيّن لي مواضع الخطأ في أسلوب تعاملي مع أشخاص من توجهات لاهوتية مختلفة. وفيما يلي عشرة من تلك الأخطاء.
1. الخلط بين التصحيح والصراع
في مرحلةٍ ما من مسيرتنا المسيحيّة، سيأتي من يتحدّانا، بلطف أو بحدّة، بشأن ما نؤمن به. وحين يحدث ذلك، يسهل علينا أن نُفسِّر الخلاف على أنّه عداوة. كنتُ فيما مضى أتعامل مع التحديات اللاهوتية بشكل شخصي، فأدخل في حالة دفاعية. ولم أكن دائمًا مستعدًا لتغيير قناعاتي، إذ كان الأمر يبدو وكأنّه خسارة للأرض التي أقف عليها. لكن الحقيقة أنّه ليس كل خلافٍ هو هجوم.
في الواقع، قد يكون الخلاف نفسه فرصةً ثمينة. فالحديد بالحديد يُحدَّد (أمثال 27:17). والحدّة لا تأتي إلا عبر الاحتكاك. وقد أيقظ ذلك الاحتكاك شيئًا في داخلي. فما بدأ بمقاومة، قادني في النهاية إلى تعميق قناعاتي في ضوء كلمة الله. ومن هنا أجدني أمام الخطأ الثاني الذي وقعت فيه.
2. الاتّكال على التقليد بدلًا من الكتاب المقدّس
حين بدأتُ أسائل نفسي: لماذا أؤمن بما أؤمن به؟ اكتشفتُ أنّ معتقداتي لم تكن دائمًا متجذّرة في الكتاب المقدّس، بل في تقاليد الكنيسة. فعندما كان يُوجَّه إليّ تحدٍّ، لم أرجع إلى الكتاب، بل تلقائيًا كنتُ ألوذ بالتقليد: “هكذا اعتدنا أن نفعل دائمًا.” فإذا كان لممارسةٍ ما تاريخٌ طويل، كان ذلك مبرِّرًا كافيًا للإبقاء عليها. وقد تشبّعتُ بطريقة التفكير هذه.
وعندما أنظر إلى الماضي، أدرك أنني كنت أوفى لاقتناعات طائفتي من وفائي لكلمة الله. لكن كلمة الله هي الحق (يوحنا 17:17). لذلك، يجب أن يكون الكتاب المقدّس، لا التقليد، هو منطلقنا الأوّل دائمًا حين نصارع مع الخلافات اللاهوتية.
3. الدراسة بغرض التصحيح لا النمو
من المفارقة أنني كنتُ دائمًا متمسّكًا بعقائد سلطان الكتاب المقدّس وعصمته من الخطأ، حتى قبل أن أعرف مصطلح العصمة ذاته. وقد ترسّخ في داخلي أخيرًا أنّه إن أردتُ أن تكون لي محادثات ذات معنى مع أشخاص يختلفون عني في الرأي، فلا بدّ أن أبدأ بالكتاب المقدّس.
لكن هنا كان تعثري. لم أكن أدخل إلى الكتاب المقدّس لأتعلّم، بل كنتُ أدرسه لأُثبت أنّي على صواب. كنتُ أتعامل معه كما يتعامل المحامي مع ملف قضية، لا كما يتعامل التلميذ الباحث عن الحق. وبدلًا من أن أدع الكلمة تُشكّلني، كنتُ أنا أُشكّلها لتُوافق حججي. لكن بنعمة الله، وبعمل الروح القدس، انكشفت حالتي، واضطررت أن أعترف بأنني لم أفهم كل شيء—ولن أفهمه بالكامل أبدًا. ولهذا بالذات أنا في حاجة إلى كلمة الله: لا لأصحّح الآخرين فحسب، بل لكي أُعلَّم وأُوبَّخ وأُقوَّم وأُدرَّب في البرّ (2 تيموثاوس 3:16).
4. توقّع الاتفاق الفوري
كانت هناك أوقات بحثتُ فيها في الكتاب المقدّس، واختبرتُ معتقداتي، وخرجتُ واثقًا أنها متوافقة مع كلمة الله. لذلك، حين كنت أواجه شخصًا يختلف معي، كنتُ أريد بطبيعتي أن يراها بالطريقة نفسها—وفورًا. لم أكن أكتفي بمجرد مشاركة الحق وترك النتيجة بين يدي الله، بل كنتُ أريد أن يخرج محاوِري من الحديث مقتنعًا، مسحورًا بحججي. كنتُ أطلب نتائج ملموسة. لكن لم يكن هذا هو النهج الذي ينبغي أن أسلكه.
إنّ مسؤوليتي هي أن أكون شاهدًا أمينًا، أمّا عمل الإقناع والتغيير، فيخصّ الروح القدس وحده. وحتى اليوم، ما زلتُ أجد نفسي أحيانًا أصارع شعورًا بالإحباط عندما أرى ما أعتقد أنّه قراءة خاطئة واضحة للكتاب المقدّس. لكن يجب عليَّ أن أترك لله ما هو عمله وحده.
5. الإسراع في الكلام والإبطاء في الاستماع
يقول الكتاب: «ليكن كل إنسان مسرعًا في الاستماع، مبطئًا في التكلم، مبطئًا في الغضب» (يعقوب 1:9). تلك هي الحكمة التي تقدّمها كلمة الله: أن نعطي الآخرين أذنًا صاغية.
وإذ انتقلتُ من التطلّع إلى الاتفاق السريع، تذكّرتُ أيضًا كيف كنتُ سريعًا في الكلام. فقد كنتُ أصغي بأذنٍ واحدة، بينما أتهيّأ بفارغ الصبر لقول ما عندي. كانت الآية التي خطّطتُ لاستخدامها جاهزة على طرف لساني، واعتراضي حاضرًا في ذهني يتمرّن كما لو كان يستعدّ لتسديد ضربة قاضية.
لكن في عجلة الدفاع عن موقفي، كثيرًا ما كنتُ أفوّت مغزى كلامهم تمامًا. وبدلًا من أن أكرّم الشخص بمنحه انتباهي الكامل والسعي لفهمه، كنتُ جاهزًا لأن أكون مُستخِفًّا به. كان عليَّ أن أتعلّم أن أُصغي، لا لأكسب الجدال، بل لأحبّ محاوري كما يليق.
6. معاملة الناس كأنهم مشكلات ينبغي إصلاحها
أتذكّر أنني زرتُ يومًا كنيسة، وكان من أوائل الأسئلة التي طُرحت عليَّ: ما مدى «سلامة التعليم» في كنيستي الأم. فإذا لاحظوا أدنى شبهة مما يعدّونه خطأ، كانوا مستعدين لتصحيحه فورًا. وقد أثار ذلك في نفسي نفورًا شديدًا. لكنني لاحقًا أدركت أنني كنتُ أفعل الشيء نفسه، وإنْ بأسلوبٍ أكثر مكرًا ولطفًا.
كنتُ أطرح أسئلة مُوجَّهة لأتبيّن فكر شخص ما ولاهوتَه، ثم أشرع في محاولة ترقيع «الشقوق» التي ظننتُ أنني رأيتها في معتقداته. غير أنّ المؤمنين الآخرين ليسوا مشاريع إصلاحية، بل هم أولًا إخوة وأخوات في الرب. فينبغي أن تكون المحبة هي الإطار الذي يوجّه تعاملنا مع إخوتنا وأخواتنا. نحن مَدينون لهم بالمحبة (رومية 13:8). وهذا لا يعني أن نُقِرّ بكل آرائهم، لكنّه يعني أننا لن نُجرّدهم من إنسانيتهم في حواراتنا وتعاملاتنا.
7. تحويل القضايا الثانوية إلى عقائد أساسية
ليست كل الخلافات اللاهوتية قضايا جوهريّة. لكنني، لفترة من الزمن، كنتُ أجد صعوبة في التمييز بين ما هو جوهري وما هو ثانوي. حتى داخل طائفتي نفسها، كثيرًا ما وجدتُ نفسي في نقاشات لا تنتهي حول قضايا ثانوية أو حتى ثلاثية، نادرًا ما كانت تُفضي إلى اتفاق. ولا عيب في مثل هذه الحوارات بحدّ ذاتها، لكن بالنظر إلى الماضي، أرى أننا كثيرًا ما حمّلنا أمورًا جانبية ثِقَل الإنجيل، فوصل بنا الحال إلى أن نصرخ حيث يهمس الكتاب.
لستُ أقول إن القضايا الثانوية بلا قيمة، فمعتقداتنا تؤثّر بالضرورة في حياتنا. لكن ينبغي أن نحترس من أن تُحدث الفوارق الطفيفة انقسامات جسيمة في جسد المسيح.
8. معاملة قناعاتي الشخصية كأنها أوامر كتابية
أنا شخص أميل بطبيعتي إلى تجنّب المناطق الرمادية. فحتى إن كان أمرٌ ما مُباحًا، كثيرًا ما أبتعد عنه إن لم أره نافعًا (١ كورنثوس 10:23). وهذا الميل يجعلني أكثر عرضة للانزلاق نحو التشدد الناموسي من الوقوع في التحلّل ضدّ الناموس. ولأنني في أوقاتٍ معيّنة اخترتُ أن أمتنع عن بعض الحريّات، فقد توقّعتُ من الآخرين أن يسلكوا المعيار نفسه. فمجرد أنني لم أستطع أن أفعل شيئًا بضميرٍ مرتاح، تعاملتُ معه وكأنه لا ينبغي لأحد أن يفعله، رافعًا قناعاتي الشخصية إلى مرتبة الوصايا الكتابية.
لكن مع مرور الوقت، تعلّمت أن القناعات الشخصية، رغم أهميتها، ليست دائمًا أوامر من الله. وخلط الأمرين قد يُلقي بأحمال على الآخرين لم يضعها الكتاب المقدّس عليهم.
9. نسيان الدعوة إلى الوحدة
يُذكّرنا الرسول بولس بأن المؤمنين هم جسد واحد في المسيح (١ كورنثوس 12:12-27). وكجسدٍ واحد، نحن مدعوون إلى الوحدة. ومع ذلك، كثيرًا ما وقعتُ في فخّ الظنّ أن الوحدة تعني التطابق التام. غير أن الوحدة يمكن أن تُحفظ حتى في غياب التطابق. فنحن نستطيع أن نختلف، ومع ذلك نعيش بسلام مع الآخرين. نستطيع أن نتمسّك بقناعات مختلفة، ومع ذلك نحُثّ بعضنا بعضًا على إتمام المأمورية العظمى (متى 28:16-20). وإن كنّا نشتاق حقًا إلى الوحدة في الجسد، فسوف نصلّي لأجلها، كما صلّى الرب يسوع في صلاته الأخيرة قبل الصليب (يوحنا 17:20-21).
10. إهمال الصلاة في خضمّ الخلاف
إهمال الصلاة. ورغم أنه يأتي في ختام هذه القائمة، إلّا أنه ربما أعظم خطأ ارتكبته. فقد كثيرًا ما قصّرتُ في الصلاة لأجل الذين اختلفتُ معهم، ونادرًا ما رفعتُ الصلاة معهم. كان يمكن للصلاة أن تُهيّئ قلبي قبل أن أنطق بكلمة، وأن تهبني حكمةً تجنّبني كثيرًا من العثرات التي وصفتها آنفًا. وأكثر من ذلك، فالصلاة هي إعلان صريح عن الاعتماد: الله وحده هو القادر أن يُقنِع القلوب ويفتح العيون، بما في ذلك قلبي أنا.
والصلاة أيضًا تُليّن قلوبنا. فهي تُحرّك مشاعر المحبة فينا تجاه من نصلّي من أجلهم، وتساعدنا أن ندخل في الحوار لا بدافع الكبرياء، بل بدافع المحبة. وهي تعيد توجيه غايتنا: أن يكون هدف محادثاتنا هو مجد الله، لا مجد ذواتنا. وعندما أنظر إلى الماضي، أرى كم كان سيتغيّر لو أنني بدأتُ ببساطة على رُكبتيَّ.
فإن كنتَ تسعى لتجاوز الخلافات اللاهوتية، فلتبدأ من هنا: ليس بحججك، بل بالصلاة.