شرح سفر الرؤيا: الجزء (3): الملك وملكوته

YouTube player

 


المقدمة


بعد إلقاء القبض على المسيح، أَحضروه أمام بيلاطس البنطي، وسأله بيلاطس: أأنت ملك اليهود؟ لم يُجِب المسيح عن السؤال مباشرة، بل قال: “مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ … لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هُنَا”. لا شك أن بيلاطس كان يعرف قيصر ورأى قصره. فكانت لديه فكرة واضحة كيف يبدو المَلِك في جلاله. وها هو هذا الرجل يقف أمامه ولا يبدو عليه أي علامةٍ كملك. تخيّل كيف بدت كلمات المسيح غيرَ معقولةٍ له.

ربما حتى المؤمنون اليوم قد يتساءلون هل المسيح ملكٌ بالفعل. فإن نظرنا حولنا، من السهل أن نرى المقاومة لمُلك الله في كل العالم. لكن إجابة المسيح عن سؤال بيلاطس هي أحد المواضيع البارزة في سفر الرؤيا. فالمسيح يحكم كملك، لكن مملكته ليست من هذا العالم. ويقدم لنا سفر الرؤيا الرجاء بأن ملكوت المسيح آتٍ. يمكننا أن نختبره الآن جزئيًا، لكننا سنختبره بشكل كامل عندما يعود المسيح. ولأن الانتصار الكامل في هذا العالم هو للمسيح، يدعونا يوحنا أن نحبه وأن نظل مخلصين له حتى عودته.

هذا هو الدرس الثالث في سلسلتنا حول كتاب الرؤيا، وقد أعطيناه العنوان “الملك وملكوته”. في هذا الدرس نستكشف كيف أن موضوع ملكوت الله الرئيسي حاضر في كل كتاب الرؤيا ويشكل القاسم المشترك بين التعاليم المختلفة التي يتناولها هذا الكتاب.

ذكرنا في درس سابق، أن الله يحكم في ملكوته بطرق تشبه الاتفاقات القديمة بين الدول، لا سيما تلك التي بين الأباطرة العظام أو الملوك الأسياد والممالك التابعة التي تخدمهم. كما سلطنا الضوء أيضاً على ثلاث سمات مشتركة لهذه الاتفاقات أو العهود في علاقة الله مع شعبه: فإحسان الملك السيد نحو الملك الخادم مشبّه بإحسان الله نحو شعبه. والولاء أو الطاعة التي يطلبها الملك السيد من الملك التابع تشبه الولاء الذي يطلبه الله من شعبه. والنتائج التي تترتب عن ولاء الملك التابع أو عدم ولائه تشبه البركات التي يهبها الله لأولئك المخلصين له واللعنات ضد غير المخلصين له. وهذه السمات الثلاث للعهد بارزة في كل كتاب الرؤيا.

ينقسم درسنا حول الملك وملكوته إلى أربعة أقسام تتبع تقريباً الخطوط العريضة لهذه العهود القديمة. أولاً، سننظر في الملكية أو منصب الله كالملك الإله أو الإمبراطور، وكذلك بملكية يسوع كملك خادم. ثانياً، سنستكشف الطريقة التي يسلّط كتاب الرؤيا فيها الضوء على إحسان الله نحو شعب عهده. ثالثاً، سننظر في شرط الولاء الذي يطالب به الله شعبه. ورابعاً، سننتقل إلى النتائج التي تترتب على الولاء لله وعدم الولاء له. لنبدأ مع ملكية الله كالسيد الإله ويسوع التابع له.

 


الملكية


ستركز مناقشتنا لملكية الله ويسوع على مسألتين. الأولى، تفحُّص ملكية الله كالسيد على كل الخليقة. والثانية، وصف ملكية المسيح كالملك الخادم لله. لنبدأ بالنظر في ملكية الله.

 

ملكية الله


أجزاء كثيرة من الكتاب المقدس، مثل المزمور ١٠٣: ١٩، تصف الله كملك كلّي القدرة، ومتسلط على كل الخليقة. وله القدرة الكاملة والسلطان على كل ما خلقه. وهو يمارس تلك القدرة وذلك السلطان من خلال إدارته للكون وجميع المخلوقات التي فيه.

غالباً ما يتحدث كتاب الرؤيا عن الله كملك الخليقة الأعظم، ويشدّد على ملكه الفعال والقوي على كل الكون. ونجد ذلك في تحية يوحنا إلى قرائه في الرؤيا ١: ٤-٦. يصوّر الفصلان ٤ و٥ من كتاب الرؤيا مشهداً مذهلاً عن البلاط السماوي. ونجده أيضاً في حقيقة تجمع الجموع من كل قبيلة أمام عرش الله السماوي وتسبيحه في الرؤيا ٧: ٩-١٠. كما يمكن أن نرى ذلك أيضاً في تسبيح الملائكة في العدَدين ١١ و١٢. ونجد ذلك في الإشارات المستمرة إلى الله وهو جالس على عرشه في باقي كتاب الرؤيا.

كمثل واحد فقط اصغ كيف يُحَيي يوحنا كنائس آسيا الصغرى في الرؤيا ١: ٤-٦:

يُوحَنَّا إِلَى السَّبْعِ الْكَنَائِسِ الَّتِي فِي أَسِيَّا: نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ الْكَائِنِ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي، وَمِنَ السَّبْعَةِ الأَرْوَاحِ الَّتِي أَمَامَ عَرْشِهِ، وَمِنْ يَسُوعَ الْمَسِيحِ الشَّاهِدِ الأَمِينِ، الْبِكْرِ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَرَئِيسِ مُلُوكِ الأَرْضِ: الَّذِي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ، وَجَعَلَنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً للهِ أَبِيهِ، لَهُ الْمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ.

لاحظ عدد الإشارات إلى ملكوت الله في هذه الأعداد القليلة. فالله على العرش؛ ويسوع يملك على ملوك الأرض؛ والكنيسة هي الملكوت الذي يخدم الله.

كما هي الحال بالنسبة لأباطرة الشرق الأدنى القديم، عيّن الله خدّاماً لينفذوا أوامره، ملوكاً تابعين يسودون على مملكته ويديرونها بالنيابة عنه. بشكل عام أسند الله هذا الدور إلى الجنس البشري، تحت رياسة سلسلة من مدبري العهد.

كما رأينا في درس سابق، نشأت تدبيرات العهد في ستة عهود رئيسية قطعها الله مع شعبه: وهي العهود مع آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وداود والمسيح. العهدان الأولاًن المقطوعان مع آدم ونوح حدَّدا الله كالملك السيد على كل الأرض، والجنس البشري كالأمة التابعة التي نفذت مشيئته على الأرض. وتحت أحكام هذه العهود، تستمر سيادة الله بالامتداد إلى كل أمم الأرض ويبقى كل شخص مسؤولاً أمامه.

بعد عهديه مع آدم ونوح، قطع الله عهوداً مع إبراهيم وموسى وداود ما بسط ملكه بطريقة مميزة على أمة إسرائيل القديمة.

كمثل واحد فقط، استمع إلى ما قاله الله لأمة إسرائيل القديمة في الخروج ١٩: ٤-٦:

أَنْتُمْ رَأَيْتُمْ مَا صَنَعْتُ بِالْمِصْرِيِّينَ. وَأَنَا حَمَلْتُكُمْ عَلَى أَجْنِحَةِ النُّسُورِ وَجِئْتُ بِكُمْ إِلَيَّ. فَالآنَ إِنْ سَمِعْتُمْ لِصَوْتِي، وَحَفِظْتُمْ عَهْدِي تَكُونُونَ لِي خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. فَإِنَّ لِي كُلَّ الأَرْضِ. وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي مَمْلَكَةَ كَهَنَةٍ وَأُمَّةً مُقَدَّسَةً.

في هذا المقطع، يذكّر الله بني إسرائيل بالإحسان الذي أظهره نحوهم عندما فداهم من العبودية في مصر. وأشار إلى مسؤولية بني إسرائيل بإظهار ولائهم من خلال الطاعة للعهد الذي قطعه معهم. وأشار إلى البركات التي سينالونها إن هم أطاعوا العهد.

في العهد مع داود بصورة خاصة، ثبّت الله سلالة داود الملكية كقناة لبركات الله ودينوناته على شعبه. ويشار إلى هذا العهد في مقاطع مثل ٢ صموئيل ٧: ١-١٧، والمزمورَين ٨٩ و١٣٢. وهو يعلن أن أبناء داود هم ملوك الله التابعين وهم يمثلون كل مملكة إسرائيل أمام الله. وكما هي الحال في كل العهود الأخرى، أظهر الله إحسانه، وتوقع الولاء وذكّر بيت داود بنتائج بركاته ولعناته.

لاحقاً في تاريخ إسرائيل، فشل المتحدرون من نسل داود فشلاً ذريعاً، بحيث وقعت كل أمة إسرائيل تحت قصاص الله وسيقت إلى السبي. ولكن حتى في السبي، تنبأ أنبياء إسرائيل أنه في الأيام الأخيرة سيجدّد الله عهده من خلال ابن بار لداود. وفي إرميا ٣١:٣١، يشير النبي إرميا إلى هذا التجديد بالعهد الجديد. وهذا العهد الجديد سيكون ذروة إظهار الله لإحسانه: فهو سيحوّل قلوب شعبه بحيث تصبح موالية له. وهم سيتمتعون ببركات العهد الأبدية، ولن يقعوا تحت القصاص من جديد. وفي الوقت نفسه، سينزل الله الدينونة الأبدية على كل الذين عارضوه، وعارضوا مَلِكَه الخادم وشعب مملكته.

وكان القصد دائماً من عهود الله مع داود وشعب إسرائيل في القديم، أن تمتد بركات العهد أبعد من داود وإسرائيل. وكان من المفترض من مُلك الله على بيت داود أن يفيد أمة إسرائيل بأسرها، وأن يستفيد العالم بأسره من بركات إسرائيل. ونرى ذلك في المزمورين ٢ و٦٧؛ وإشعياء ٢: ٢-٤ وعاموس ٩: ١١-١٥. سيرسل الله فادياً من خلال بيت داود، وهذا الفادي سيخلّص إسرائيل. ومن خلال إسرائيل سيخلّص الخليقة بأكملها.

وفي الوقت الحاضر، الله يفدي الكنيسة من خلال المسيح، ويدخلنا في شركة مع شعب عهده المقدس. ونتيجة لذلك، فإن الكنيسة هي الآن امتداد لذلك التراث الروحي الواحد مع أمة إسرائيل في العهد القديم.

استمع كيف يُعبَّر عن علاقة العهد هذه في الرؤيا ١: ٥-٦:

وَمِنْ يَسُوعَ الْمَسِيحِ … الَّذِي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ، وَجَعَلَنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً للهِ أَبِيهِ.

وتشير هذه الأعداد أنه بما أن يسوع مات ليحرّرنا من خطايانا، صرنا الآن مُلكاً لله، وشعبه الخاص. ونحن نحمل الآن اللقب ذاته الذي أعطاه الله لإسرائيل في العهد القديم: ملوكاً وكهنة.

أعطى الله هذا اللقب لإسرائيل القديمة في الخروج ١٩: ٦، حيث كانت إحدى بركات العهد أن يكونوا: مَمْلَكَةَ كَهَنَةٍ وَأُمَّةً مُقَدَّسَةً.

كان هدف الله دائماً أن يمتد ملكوته السماوي إلى الأرض، وأن يقطنها شعبه الأمين. أما في السماء، فإن إرادته سبق وتمّت بشكل كامل. لكن على الأرض، فإن خلائقه ترفض أن تتمّم إرادته. يرفضون أن يُقرّوا بالله كملك، وممالك هذا العالم غالباً ما تُقاوم مُلك الله. من هنا، عندما صلى يسوع الصلاة الربانية، طلب أن تنهزم في يوم من الأيام كل هذه الممالك المعارضة، بحيث لا يبقى سوى ملكوت الله.

استمع كيف يتحدث كتاب الرؤيا ١١: ١٥ عن ذلك اليوم المستقبلي:

قَدْ صَارَتْ مَمَالِكُ الْعَالَمِ لِرَبِّنَا وَمَسِيحِهِ، فَسَيَمْلِكُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ.

ملكوت الله المميّز سيثبت حتى ينتصر ويملأ العالم بكامله. هذه هي الغاية النهائية للنبوة الكتابية. عندما يعود يسوع بمجده، فإن مُلك الله المميّز سيشمل كل ممالك الأرض. ونجد التعليم حول هذا الرجاء في إرميا ٣١:٣١-٣٤، وزكريا ١٤: ٩، ومقاطع أخرى كثيرة في الكتاب المقدس.

يفوق مُلك الله بكثير التشبيهات الموجودة في الشرق الأدنى القديم. ففي العالم القديم، لم يفِ الملوك الأسياد البشريون تمامًا بالإحسان الذي وعدوا به في عهودهم. ولم يقيّموا أبداً ولاءَ رعاياهم بشكلٍ كاملٍ، كذلك لم يطبّقوا بعدل نتائج العهد. أما في العهد مع الله فإن ملكنا السماوي يفي تمامًا بوعود إحسانه. وهو يقيّم ولائَنا بشكلٍ كاملٍ. وهو يطبّق التأديب الكامل والدينونة في شكل نتائج بركات العهد ولعناته. وكما سنرى بعد قليل فقد أرسل الله يسوع المسيح ابنه الملك ليكون مخلصا بالكامل لله نيابة عنا، وليحمل نتائج عدم ولائنا بحيث يمكن أن ننال الخلاص فيه.

انطلاقاً من هذا الفهم لملكية الله الشاملة في ذهننا، بتنا مستعدين أن ننتقل إلى الموضوع المتصل أي ملكية المسيح كخادم الله أو الملك الخادم.

 

ملكية المسيح


 قد يبدو غريباً أن نفكر بيسوع كالملك الخادم بدل الملك السيد على كل الكون. طبعاً، يسوع هو الابن الإلهي، ولكونه ابن الله وكلمته هو شريك الله في الخلق والسيد على كل ما هو موجود. ونقرّ بقوة أن يسوع هو إله كامل، لكن من المهم أن نتذكر أن يسوع ليس إلهاً فقط. فهو إنسان كامل. ولكونه المسيح في تجسده البشري، هو يجلس على العرش البشري لأبيه داود، الذي شغل وظيفة الملك البشرية على أمة الله التابعة، أي إسرائيل القديمة. بهذا المعنى، فإن ملكية يسوع المسيح هي وظيفة بشرية. وبالتالي، يسوع هو خادم الله، كما كان داود في العهد القديم.

اسم المسيح هو لقب يشير مباشرة إلى وظيفة داود الملكية. وكلمة المسيح تشير ببساطة إلى الممسوح. وهو تعبير استخدم غالباً في العهد القديم للإشارة إلى الملوك من سلالة داود لأنهم مسحوا عند توليهم منصبهم الملكي. ونجد ذلك في أماكن مثل ٢ أخبار ٦: ٤٢، والمزمور ٢:٢ و٦، والمزمور ١٨: ٥٠، والمزمور ٢٠: ٦ و٩ والمزمور ٤٥: ١-٢. ولهذا السبب دُعي يسوع بمسيح الله في مواضع مثل الرؤيا ١١: ١٥ و١٢: ١٠. فهو الشخص الممسوح من الله، ملكه الخادم.

كحفيد داود العظيم، تمّم يسوع كل نواحي العهد الجديد التي أنبئ عنها في العهد القديم. ففيه ظهر إحسان الله الأسمى. وقد حفظ يسوع كل متطلبات الولاء نيابة عنا. وقد عانى من نتائج مخالفتنا العهد عندما مات نيابة عنا. وقد نال نتائج بركات العهد عندما قام من الموت وصعد إلى السماء.

وقد ضمن يسوع مكانه في السماء كملك الله البشري الخادم بموته على الصليب وقيامته من بين الأموات. وبموته أبطل كل سلطة للخطية تقود الى دينونة وهلاك شعب الله.

وكما نقرأ في الرؤيا ١٢: ١٠-١١:

الآنَ صَارَ خَلاَصُ إِلهِنَا وَقُدْرَتُهُ وَمُلْكُهُ وَسُلْطَانُ مَسِيحِهِ، لأَنَّهُ قَدْ طُرِحَ الْمُشْتَكِي عَلَى إِخْوَتِنَا، الَّذِي كانَ يَشْتَكِي عَلَيْهِمْ أَمَامَ إِلهِنَا نَهَاراً وَلَيْلاً. وَهُمْ غَلَبُوهُ بِدَمِ الْخَرُوفِ.

وبفضل ذبيحة المسيح على الصليب، غُلب الشيطان. وصار للمسيح الآن سلطان في ملكوت الله، بحيث ينال شعبه خلاصه.

وقد أحرزت طاعة يسوع له مكافأة القيامة من الموت ومركز سلطة أعلى بكثير من أي سلطة مخلوقة، سواء بشرية، أو ملائكية أو شيطانية.

وكما قال بعد قيامته في متى ٢٨: ١٨-١٩:

دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ، فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ.

طبعاً، كان لابن الله دائماً السلطان لكونه وارث الله أبيه في كل شيء. فهو امتلك دائماً ذاك السلطان. وبعدما قام من الموت، صرّح يسوع لتلاميذه بذلك مذكراً لهم لكي ينشروا رسالته مزوّدين بسلطانه، وليفهموا أن الله أعطاه السلطان على كل الشعوب، وأنه أصبح مَلِك الآب على كل السماوات والأرض.

بعد قيامته، عندما صعد يسوع إلى السماء، تربع على العرش كملك. ويوضح العهد الجديد ذلك في مقاطع مثل العبرانيين ١: ٣، ١٠: ١٢، ١٢: ٢ عندما يقول عن يسوع إنه جلس عن يمين عرش الله الآب. وهذه اللغة المجازية تشير إلى أن الآب هو الملك الأعلى أو السيد، ويسوع ابنه هو الملك الخادم الذي يخدمه ويمثّله بين البشر. يسوع هو الملك النهائي على بيت داود، وعلى كل الممالك البشرية الأخرى على الأرض. ومن خلاله سيتجدّد العالم بأسره. ومنذ تربعه على العرش، ملك يسوع كملك على الكنيسة. وقد بسط ملكوته من خلال إيصاله الخلاص إلى أقاصي الأرض.

في تناقضٍ صارخٍ مع الملوك البشريين، أرسل الله ابنه كالملك الخادم الكامل ليقتني فدائنا على حساب الصليب. وقد برهن عن ولائه في حياته الأرضية وتحمّل على الصليب نتائج عدم ولائنا. فبذل حياته ليشتري لنا الغفران والولاء، وما زال مستمرًا في الدفاع عنا وحمايتنا. وينبغي علينا أن نتجاوب مع حكمه الرؤوف بمحبةٍ وقورةٍ نعبّر عنها بطاعة مخلصة لملكنا وإلهنا صاحب الإحسان.

والآن بعد أن بحثنا في ملكية الله الآب كسيد وملكية يسوع كخادم لله، دعونا ننظر إلى الطريقة التي يصف فيها كتاب الرؤيا إحسان الله بعلاقته بملكوت الله.

 


الإحسان


يمكننا أن نرى إحسان الله كسيد العهد بطرق عديدة في كتاب الرؤيا. دون شك كان إحسان الله الأسمى إرسال ابنه ليموت عن خطايانا. وهذا الموضوع مشار إليه في أماكن مثل الرؤيا ١: ٥؛ ٥: ٩-١٠، ٧: ١٤ و١٤: ٣-٤.

لكننا نرى أيضاً إحسان الله الملوكي نحو شعبه بالطريقة التي يدعونا فيها إلى نفسه ويجعلنا جزءاً من ملكوته، كما نرى في الرؤيا ١: ٦، ١١: ١٥ و١٧: ١٤.

وهو من خلال لطفه أعفى شعبه من الكثير من الدينونات التي تهدّد غير المؤمنين في هذا الكتاب، مثل الرؤيا ٧: ٣-٤ و٩: ٤.

وحتى التحذيرات النبوية للكنائس في الرؤيا هي فرص من إحسانه لكي نتوب. وقد لجم الله حكمه لكي يتمكن شعبه من أن تكون لهم الفرصة ليتجنبوا الإدانة. وقد دوّن يوحنا هذا النوع من الإحسان في الرؤيا ٢: ٥،١٦،٢١ و٣: ٣، ١٩.

لكن الطريقة الأكثر شيوعاً التي نرى فيها نعمة الله ولطفه في كتاب الرؤيا هي من خلال دفاعه عن شعبه وسط الحرب الروحية. من هنا، سنركّز في هذا الدرس، على بحثنا حول إحسان الله بالتحديد على الطريقة التي يحمي بها الله شعبه من أن يهلكوا وسط الصراعات.

الحرب الروحية في العهد الجديد، ليست بالدرجة الأولى صراعاتنا الداخلية مع الخطيّة، بل هي حرب مستمرة بين الله والقوى الروحية الشريرة التي تعمل في العالم. وإحدى الطرق التي ينخرط فيها الله في هذه المعركة هي عن طريق دفاعه عن ملكوته في وجه تلك القوى الشريرة. وكما ذكرنا آنفاً في درس سابق، غالباً ما يكشف لنا كتاب الرؤيا الأعمال في عالم الله الخارق للطبيعة والعالم غير الطبيعي للملائكة والأرواح الشريرة. ويتحدث عن تأثيرهم في العالم الطبيعي الذي نعيش فيه. وجوهر كل الحرب الروحية في حياة المسيحيين هو أن تلك القوى غير الطبيعية هي في صراع فيما بينها، وهي تؤثر في عالمنا، وأن الأرواح الشريرة تسعى إلى أن تخرب حياتنا وتجعلنا غير أوفياء لله، وأن الله يستخدم الملائكة ليحمينا من تأثير الأرواح الشريرة وأعمالها.

الانتصار مضمون للمسيحيين في الحرب الروحية، لا يوجد شيء يمكن للشياطين أن تفعله لتدمّر خلاصنا أو لتهزّ ميراثنا في ملكوت الله. قد تكون الحرب الروحية مثبطة للعزيمة ومفشلة وحتى مرعبة. لكن بسبب إحسان الله، لا يمكن أبداً أن تنجح ضدنا على المدى البعيد.

نقسّم بحثنا في إحسان عهد الله إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول، النظر في الطريقة التي دافع فيها الله عن ملكوته في العهد القديم. القسم الثاني، درس كيف دافع الله عن ملكوته في العهد الجديد خارج كتاب الرؤيا. وثالثاً، التركيز على حمايته الثمينة في كتاب الرؤيا نفسه. لنبدأ بإحسان الله في العهد القديم.

 

العهد القديم


العهد القديم مليء بروايات المعارك. كانت إسرائيل غالباً في حرب مع الأمم المجاورة. وغالباً ما تحارب بنو إسرائيل فيما بينهم في أوقات مختلفة. لكن على الرغم من أن معظم أوصاف الحروب في العهد القديم تسلّط الضوء على بشر يحاربون بأسلحة مادية، غالباً ما يكشف الكِتاب المُقدَّس النقاب ليبيّن لنا أن هناك معارك روحية تدور في الخفاء. في الواقع، تلك المعارك غير المنظورة تؤثر كثيراً على نجاح أو فشل الجيوش البشرية.

وهذه المعارك غير المنظورة كانت دائماً تدور من جهة بين الله وملائكته القديسين، ومن جهة أخرى بين الشيطان وجنوده من الأرواح الشريرة. وعلى الرغم من أن معظم الجيوش البشرية التي قاومت إسرائيل كانت تعبد آلهة أخرى، فإن أعداداً مثل التثنية ٣٢: ١٧ تبيّن أن آلهة الشعوب المزّيفة هم في الواقع أرواح شريرة.

مجموعة من الأمثلة التي تسلّط الضوء على المعارك غير المنظورة بين الملائكة والأرواح الشريرة يمكن أن نجدها في الخروج ٧-١٥. في أيام موسى، كان شعب الله مستعبداً للمصريين. لكن الله دفع جيوشه الملائكية لتدخل في حرب ضد مصر وآلهتها الوثنية، لينّجي شعبه من جورهم. وبدأ عن طريق إنزاله عشر ضربات بالمصريين، ومن ضمنها ملاك الموت الذي قتل البكر في كل بيت من بيوت المصريين. ثم في ذروة استعلانه لقوته، خلص شعبه عن طريق إغراق الجيش المصري في البحر الأحمر.

ثم في الخروج ١٥: ١١ رنّم موسى:

مَنْ مِثْلُكَ بَيْنَ الآلِهَةِ يَا رَبُّ؟ مَنْ مِثْلُكَ مُعْتَزّاً فِي الْقَدَاسَةِ، مَخُوفاً بِالتَّسَابِيحِ، صَانِعاً عَجَائِبَ.

عرف موسى وقراؤه الإجابة عن هذا السؤال: لا يوجد آلهة مثل الرب. في النهاية كانت آلهة المصريين عاجزة بالكامل عن منع الإله الحقيقي من تدمير جيش المصريين بكامله.

والعهد القديم مليء بالأمثلة المشابهة. وقد عرّف الله غالباً عن نفسه كملك إسرائيل المحارب الذي قادهم في المعركة. لكن هذه المعارك لم تكن مجرد معارك ضد آلهة بشرية فحسب؛ بل كانت تتضمن دخول الله في حرب مع آلهة الأمم المزيّفة.

على سبيل المثال، في ٢ ملوك ١٩، استهزأ سَنْحَارِيبُ ملك أشور بحَزَقِيَّا ملكِ يهوذا، إذ آمن سنحاريب أن آلهة الأشوريين هي أقوى من إله إسرائيل.

لذا رفع حَزَقِيَّا في ٢ ملوك ١٩: ١٧-١٩ هذه الصلاة إلى الله:

حَقّاً يَا رَبُّ إِنَّ مُلُوكَ أَشُّورَ قَدْ خَرَّبُوا الأُمَمَ وَأَرَاضِيَهُمْ، وَدَفَعُوا آلِهَتَهُمْ إِلَى النَّارِ. وَلأَنَّهُمْ لَيْسُوا آلِهَةً، بَلْ صَنْعَةُ أَيْدِي النَّاسِ: خَشَبٌ وَحَجَرٌ، فَأَبَادُوهُمْ. وَالآنَ أَيُّهَا الرَّبُّ إِلهُنَا خَلِّصْنَا مِنْ يَدِهِ، فَتَعْلَمَ مَمَالِكُ الأَرْضِ كُلُّهَا أَنَّكَ أَنْتَ الرَّبُّ الإِلهُ وَحْدَكَ.

فهم حَزَقِيَّا أن المعركة مع الأشوريين لم تكن مجرد معركة ضد سنحاريب وجيوشه. بل هي حرب روحية بين الرب وآلهة أشور. لذلك صلى ليس لمجرد انتصار في المعركة، بل ليتمجد الله فوق آلهتهم.

واستجاب الله لصلاته. وقتل فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مَلاَكُ الرَّبِّ من جَيْشِ أَشُّورَ ١٨٥٠٠٠، ورجع سنحاريب إلى بلده مهزوماً. ولم يحتج جيش حَزَقِيَّا أن يواجه الأشوريين في المعركة. فقوة الله الروحية قضت بالكامل على الجيش البشري.

قصص العهد القديم عن الحروب لا تتحدث بوضوح عن الصراعات الروحية بين إله إسرائيل الحقيقي وآلهة الأمم المزّيفة. لكن مع ذلك، يبرهن العهد القديم باستمرار أن المعارك المادية البشرية تقع إلى حد بعيد تحت تأثير المعارك الروحية.

والآن بعد أن رأينا كيف أظهر الله إحسانه عن طريق الدفاع عن ملكوته في العهد القديم، لننتقل إلى إحسانه في الحرب الروحية في العهد الجديد.

 

العهد الجديد


في العهد الجديد، لا تشمل الحرب الروحية قوات عسكرية أرضية. من هنا، وصفها لإحسان الله في الحرب الروحية، ينصب بالدرجة الأولى على النزاعات الغير مرئية في العالم غير الطبيعي، وكيف تؤثر تلك القوى الروحية على العالم الطبيعي. الآن كما هو الحال تمامًا في العهد القديم، ما زال الله والملائكة والأرواح الشريرة منخرطين في الحروب البشرية والسياسات الدولية. لكن تركيز حماية الله الوافرة في العهد الجديد هي على كيفية حفظه لشعبه الأمين سالمًا من القوى الشيطانية.

مثل العهد القديم يشير العهد الجديد إلى طرق عدة يحفظ الله من خلالها شعبه. لكن من أجل الوقت، سنحصر بحثنا في نقطتين فقط. الأولى، حماية الله الصالحة في الحرب الروحية معبّر عنها في انتصار المسيح.

 

1. انتصار المسيح

يصوّر العهد الجديد حياة يسوع وموته وقيامته وصعوده كانتصار ليس فقط على الخطية ونتائجها، لكن أيضاً على أعداء الله الروحيين.

انتصر يسوع في حياته على الأرواح الشريرة بطرق عدة، لا سيما كما هي مبرهنة من خلال طرد الأروح الشريرة. ونرى ذلك في مقاطع مثل متى ١٢: ٢٥-٢٨، حيث علّم يسوع أنه كان قادراً على طرد الأرواح الشريرة بقوة وسلطان عظيمَين لأن ملكوت الله قد أتى.

وفيما يتعلق بموت المسيح، استمع إلى ما كتبه بولس في كولوسي ٢: ١٥:

إِذْ جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ أَشْهَرَهُمْ جِهَاراً، ظَافِراً بِهِمْ فِيهِ.

في هذا العدد، الرياسات والسلاطين هي قوى شيطانية. وقد جرّدها المسيح من سلطتها وغلبها في الصليب. ونجد هذه الفكرة ذاتها في العبرانيين ٢: ١٤.

كذلك قيامة يسوع وصعوده إلى السماء بَسَطَت حماية الله الوافرة على شعبه. على سبيل المثال، نتج عنهما نوال يسوع السلطان على كل أعدائه الروحيين، ليتمكن من أن يحمي كنيسته ويباركها. وهذه الفكرة معلّمة بوضوح في متى ٢٨: ١٨-٢٠، وفي أفسس ١: ١٩-٢٣ و١ بطرس ٣: ٢٢.

الطريقة الثانية التي يتحدث فيها العهد الجديد عن ملكية الله الصالح في الحرب الروحية هي من خلال وصفه قوة الروح القدس التي تمكّننا من مقاومة إبليس ومخططاته.

 

2. قوة الروح القدس

اكتسب يسوع كل سلطان على كل أعدائه وأعدائنا الروحيين عندما عاش في طاعة لله، ومات على الصليب، وقام من بين الأموات وصعد إلى السماء. لكنه في الوقت الحاضر، لم يستخدم ذلك السلطان ليقضيَ على أعدائنا بالكامل. في الواقع، ما زال الله يسمح للأرواح الشريرة أن تؤثر في العالم بطرق متنوعة. لكنه قوّانا أيضاً بروحه القدوس، لكي نتمكن من أن نقاومها. ونجد ذلك في غلاطية ٣: ٢-٣، وفي أفسس ٣: ١٦ وكولوسي ١: ٩-١١، وأماكن أخرى كثيرة.

وأقدم مثلاً على ذلك، استمع إلى يعقوب ٤: ٥-٧:

… الرُّوحُ الَّذِي حَلَّ فِينَا … يُعْطِي نِعْمَةً أَعْظَمَ. … فَاخْضَعُوا ِللهِ. قَاوِمُوا إِبْلِيسَ فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ.

هنا، يعلّم يعقوب أن النعمة التي ننالها من الروح القدس تقوّينا للحرب الروحية، وفي هذه الحال، عن طريق حفظنا أوفياء لله ومساعدتنا على مقاومة التجارب الشيطانية وتأثيراتها.

في أفسس ٦ استخدم بولس استعارة درع الجندي وأسلحته ليصف الطرق التي يحمينا فيها الله في الحرب الروحية. وهو يتحدث بالتحديد عن لبس المسيحيين سلاح الله الكامل.

استمع إلى ما يقوله في أفسس ٦: ١٢-١٣:

فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ عَلَى ظُلْمَةِ هذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ احْمِلُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تُقَاوِمُوا فِي الْيَوْمِ الشِّرِّيرِ، وَبَعْدَ أَنْ تُتَمِّمُوا كُلَّ شَيْءٍ أَنْ تَثْبُتُوا.

ثم في العدَدين ١٧ و١٨، أكمل بولس بقوله إن الروح القدس لعب دوراً حاسماً في تشكيل هذا الدرع وكان الحافز لنا والقوة في المعركة. استمع إلى ما يقوله:

وَخُذُوا … سَيْفَ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ كَلِمَةُ اللهِ. مُصَلِّينَ … كُلَّ وَقْتٍ فِي الرُّوحِ.

إلى حين عودة يسوع لينهيَ ما بدأه، يدعونا العهد الجديد إلى الانخراط في الحرب الروحية ضد القوى غير الطبيعية التي ما زالت تعمل في عالمنا. ويعدنا بأن الروح القدس سيعطينا الأدوات والقوة لنقوم بذلك.

وكما يقول بولس في ٢ كورنثوس ١٠: ٤:

إِذْ أَسْلِحَةُ مُحَارَبَتِنَا لَيْسَتْ جَسَدِيَّةً، بَلْ قَادِرَةٌ بِاللهِ عَلَى هَدْمِ حُصُونٍ.

فأسلحتنا لها قوة إلهية لأنها تأتي من الروح القدس. وهي فعّالة ضد كل خطر روحي، بدءاً بالتعاليم الكاذبة وانتهاء بالشيطان نفسه.

بعد أن رأينا كيف يبرهن الله عن إحسانه في الحرب الروحية في العهد القديم وفي العهد الجديد، لننتقل إلى الطريقة التي يحمي بها شعبه ويحارب ضد أعدائهم في كتاب الرؤيا.

 

كتاب الرؤيا


ينبّه يوحنا المسيحيين في كل كتاب الرؤيا إلى الصراع الروحي الدائر منذ سقوط البشرية في الخطيّة، وأنه سيستمر حتى عودة المسيح ثانية. ويصف يوحنا رمزياً هذا الصراع الروحي كحرب بين الوحش والمرأة في الرؤيا ١٢، والحرب مع الوحش الطالع من البحر والوحش الذي على الأرض في الرؤيا ١٣. وقد أراد يوحنا أن يعرف قراؤه أن الاضطهاد الذي يكابدونه، والتجارب التي يمرّون بها، نتجت مباشرة عن الصراع الروحي بين المسيح وأعدائه.

ومثل العهد القديم أشار يوحنا إلى أن المعارك الروحية بين الملائكة والأرواح الشريرة أثرت في السياسات البشرية. ونرى ذلك على سبيل المثال في الطريقة التي اجتمع فيها ملوك الأرض ليحاربوا ضد الله في الرؤيا ١٦: ١٤-١٦. ومثل آخر واضح هو التفسير أن رؤوس الوحش في الرؤيا ١٧، وكذلك قرونه، هم ملوك بشريون. وبالطبع، كان قرّاء يوحنا المعاصرون له يتألمون من الحكومات الأرضية التي كانت تتحرك ولو جزئياً بتأثير من الأرواح الشريرة.

لكن مثل العهد الجديد، شرح يوحنا أيضاً أن المعارك الروحية التي حاربها قراؤه في زمنه جرت بصورة رئيسية في المجال غير الطبيعي.

فتلك كانت نزاعات شخصية لتبقينا أمناء للمسيح، ومقاومين للخطيّة، ومن أجل تقدم ملكوت الله من خلال الإنجيل. إن الحرب الروحية ليست دعوات لحمل السلاح ضد غيرنا من البشر.

لكن في كل الأحوال- سواء أكان يتحدث عن صراعات كونية، أم سياسات بشرية، أم صراعات بين أفراد كان يوحنا يؤكد لقرائه أن الله هو حافظهم الرؤوف. وهو يحفظهم من كل هجومات، ويقويهم ليبقوا أمناء، ويمنحهم في النهاية سلاماً دائماً.

وكردّ على الضغوط والمشاكل التي تسببها الحرب الروحية، يقدّم كتاب الرؤيا لقرائه ثلاث طرق مختلفة على الأقل ليفكروا في حماية إلههم التامة. أولاً، يشدّد على أن المسيح قد سبق وضمن الانتصار لكل شعبه الأمين.

يشدّد كتاب الرؤيا أن حياة المسيح وموته ودفنه وقيامته وصعوده ضمنت انتصارنا النهائي في الحرب الروحية. ويصوّر الفصلان ٤ و٥ من الرؤيا هذا الانتصار بوضوح، ويصوّران يسوع كالخروف المذبوح الذي وُجد مستحقاً أن يفتح ختوم الدينونة على أعداء شعب الله. وانتصار يسوع على أعدائه لم يضع حداً للقتال. لكنه ضمن أن أعداءه سيهلكون في النهاية وسيتبارك شعبه الأمين. بهذا المعنى، يصبح إحسان الله وحمايته بمثابة ضمانة لنا في الانتصار. ولا يمكن أن نفشل في الغلبة لأن انتصارنا هو في ملكية المسيح الكاملة. ونحن بكل بساطة يجب أن نواظب حتى يتم ذلك.

والطريقة الثانية التي من خلالها يجذب كتاب الرؤيا انتباهنا إلى حماية الله الوافية في الحرب الروحية هو بتذكيرنا أن الروح القدس يطبّق الآن انتصار المسيح على حياة المؤمنين.

عندما قام المسيح بضمان انتصارنا في الحرب الروحية، ربح الحق في مشاركة بركات ذلك الانتصار مع شعبه الأمين. ومن خلال إحسانه، عيّن الروح القدس ليطبّق تلك البركات على حياتنا، أو بعبارة أخرى أن يوزع تلك البركات علينا.

يتعلق الكثير من تلك البركات الثمينة بأمور نراها في كتاب الرؤيا. على سبيل المثال، سقوط الإمبراطورية الرومانية. في الواقع، كل القوى التي كانت تسعى عبر التاريخ إلى تدمير الكنيسة لم تنجح. وبدلاً من أن ينهزم ملكوت الله نما وامتد إلى كل أمة وقبيلة وشعب ولسان. وبحسب الرؤيا ٧، سيتمّم هذا الملكوت عمله في النهاية.

أما الطريقة الثالثة التي يسلّط فيها كتاب الرؤيا الضوء على حماية الله الوافية في الحرب الروحية، هي بتذكيرنا أنه عند عودة المسيح، سينهي الله هذه المعركة القائمة بإتمام انتصاره على أعدائنا الروحيين بإبادتهم إلى التمام.

يطمئننا كتاب الرؤيا أنه عند رجوع المسيح سيهلك الشيطان وأتباعه بالكامل، فسيصبحون عاجزين بالكامل عن تجربتنا أو إزعاجنا. فقصاصهم سيحدّهم بشكل كبير بحيث يكون من المستحيل أن يحاربونا فيما بعد.

والرؤيا ١٧ و١٨ يصفان عقاب الزانية العظيمة، بابل، وعقاب كل الملوك وكل سكان الأرض الذين تبعوها. ويروي لنا الرؤيا ٢٠، الهزيمة النهائية للتنين وجيوشه. ويعلمنا الرؤيا ٢١ و٢٢ أن السماء الجديدة والأرض الجديدة ستكونان خاليتين تماماً من وجود الشر.

وعندما تُشل قوة كل أعداء الله، ستنتهي الحرب الروحية الكبرى، وسيعيش شعب الله الأمين في سلام مستمر. وهذا سيكون التعبير النهائي عن إحسان الله وحمايته؛ وسنكون في أمان كامل إلى الأبد.

يمكننا أن نرى إحسان الله في كل سفر الرؤيا وهو يسدّد حاجات شعبه ويحميهم. فقد اشترى المسيح الانتصار لشعب الله على الصليب، وقام من جديد ليطبّق انتصاره على كل شعب الله الأمين. وفي الوقت الحاضر، تختبر الكنيسة هذا الانتصار جزئيًا. ولنا وعد الله الأكيد أنه عند رجوع المسيح، سنتمتع بالكامل بهذا الانتصار. وسيُدان كل أعداء المسيح، وسننال ميراثنا المجيد في السماوات الجديدة والأرض الجديدة.

بحثنا حتى الآن في درسنا عهد الملكية بين الله والمسيح كملك سيد وملك خادم، واستكشفنا كيف يلقي كتاب الرؤيا الضوء على إحسان الله نحو شعب عهده. وبتنا الآن مستعدين أن ننتقل إلى موضوعنا الرئيسي الثالث: الولاء الذي يطلب منا الله أن نظهره كمواطنين في ملكوته.

 


الولاء


وكما رأينا، هناك على الأقل ثلاثة أوجه لعلاقتنا مع الله تشبه اتفاقات أو معاهدات الملوك الأسياد القدامى: إحسان الله نحونا كشعبه؛ الولاء أو الطاعة التي يطلبها منا الله كملكوته التابع؛ ونتائج البركات كاستجابة للطاعة، واللعنات كاستجابة للعصيان. ونريد عند هذه النقطة أن نركّز على الخدمة الأمينة التي يتوقعها الله من الشعب الذي خلصه بنعمته.

عندما كتب كتاب الرؤيا، كان الرسول يوحنا مدركاً لعلاقة الكنيسة مع الله من خلال العهد. وأحد أهداف كتابته كانت تشجيع الكنائس في آسية الصغرى لكي تبقى أمينة للرب وسط التحديات التي كانت تواجهها. فقد أرادهم أن يتذكروا كل اللطف الذي أظهره الله لهم، كذلك البركات التي عرضها الله عليهم، لكي يعيشوا في طاعة أمينة للرب.

كما ذكرنا في درس سابق، فإن الكنائس التي وجهت رسائل الرؤيا إليها واجهت الكثير من التجارب لتساوم على ولائها لله. وواجه قرّاء يوحنا الأولون على الأقل أربعة أنواع من التجارب ليخرجوا عن ولائهم لله:

التجربة الأولى، كانت لنقابات التجار آلهتهم المناصرة الخاصة، وطلبوا من أعضاء نقاباتهم أن يعبدوا تلك الآلهة المزّيفة. وهذا وضع المسيحيين أمام تجربة المشاركة في العبادة الوثنية لينالوا فرصة للعمل وإدارة تجارتهم.

التجربة الثانية، طلبت الإمبراطورية الرومانية من رعاياها أن يعبدوا آلهتها وإمبراطورها. وهذا وضع المسيحيين تحت تجربة عبادة الآلهة الوثنية ليتجنبوا القصاص من الحكومة.

التجربة الثالثة، وضعت اليهودية ضغوطاً على المسيحيين ليتخلوا عن المسيح. تمتعت اليهودية بعفو خاص من العبادة الوثنية، وقد شمل هذا العفو المسيحية في البداية. لكن مع ابتعاد اليهودية عن المسيحية، لم يعد ذلك العفو يشمل الكنيسة. وهذا وضع العديد من المسيحيين اليهود أمام تجربة التخلي عن المسيح والعودة إلى اليهودية التقليدية، لكي يتجنبوا الاضطهاد الروماني.

التجربة الرابعة، ساوم مسيحيون معاندون في كل الإمبراطورية الرومانية على إيمانهم عن طريق مشاركتهم بممارسات وثنية وفجور جنسي. وشجعوا الآخرين على الحذو حذوهم.

ووضعت هذه التجارب تحديات كبيرة أمام أمانة الكنائس في آسية الصغرى. في هذا الإطار، كان تعزيز الولاء لله أحد الأسباب الهامة التي كتب يوحنا من أجلها بغرض حماية تلك الكنائس من المجموعات المنافسة.

نركز في موضوع الولاء على تعبيرين رئيسيين يوجدان في كل كتاب الرؤيا: الثبات والعبادة. لننظر أولاً إلى دعوة كتاب الرؤيا إلى الثبات.

 

الثبات


يمكن تعريف الثبات كما يلي:

هو البقاء أمناء لله في الإيمان والسلوك على الرغم من التجارب والمقاومة وتثبيط العزيمة.

الثبات هو الانتصار على كل قوة تدفعنا إلى التخلي عن إيماننا بالله أو التمرد عليه.

كردّ فعل على التجارب العديدة التي واجهها المؤمنون في آسيا الصغرى، دعا يوحنا قراءه تكراراً إلى الثبات والانتصار. ونجد هذه التحذيرات في كل رسالة من الرسائل إلى الكنائس في الرؤيا ٢ و٣ وفي بقية كتاب الرؤيا. ونجد هذه التحذيرات في الرسائل في الرؤيا ٢: ٧،١١،١٧،٢٦ و٣: ٥،١٢،٢١. كما نجدها في مواضع مثل الرؤيا ١٤: ١٢؛ ١٦: ١٥؛ ١٨: ٤؛ ٢٠: ٤؛ ٢١: ٧؛ ٢٢: ٧،١١،١٤. ولا نبالغ عندما نقول إن الثبات هو من المواضيع الأبرز في كل كتاب الرؤيا.

سنشير إلى خمسة أنواع من الثبات التي سلّط يوحنا عليها الضوء في كتاب الرؤيا، بدءاً من الثبات في الإيمان.

في العبرانيين ١١: ١، يعرّف الكِتاب المُقدَّس الإيمان بهذه الطريقة:

وَأَمَّا الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى.

قد يكون من الصعب أن نثقَ باللهِ عندما لا تعكس ظروف حياتنا أشكال الحماية والشبع والبركة التي نقرأ عنها في الكِتاب المُقدَّس. فعندما تسوء الأمور بالنسبة لنا، من السهل أن نظن أننا ارتكبنا خطأ، أو أننا خُدعنا، وأن إله الكِتاب المُقدَّس ليس حقيقيًا، ونحن لا ندين له بأي ولاء. وهذا ينطبق على القرن الأول بقدر ما ينطبق علينا اليوم. من هنا، كان أحدُ أبرزِ اهتمامات يوحنا من خلال كتابته لسفر الرؤيا، إقناعَ قرّائُه بأن الأمور هي في الواقع مغايرة تماماً عما تبدو عليه. فالعالم أسوء بكثير مما يبدو، وملكوت الله أعظم بكثير من أي أمرٍ يمكنهم تصورَه.

واجه قرّاء يوحنا الأولون الكثير من التجارب ليصدقوا أن أموراً مثل الآلهة الوثنية والإمبراطورية الرومانية هي مصدر بركة عظيمة. ظاهرياً، بدت تلك القوى عظيمة، توفر الأمن والمتعة والازدهار. بينما في المقابل كانت الحياة المسيحية شاقة جداً. فواجه المؤمنون صعوبات في العمل. فقد كانوا مضطهدين من الحكومة. ولم تقدم الكنيسة أي شيء مثل المتع الدنيوية التي توفّرها الديانات الوثنية. وقد جعلت هذه التجارب من السهل على الكنائس في آسيا الصغرى التخلي عن إيمانها بالله وإبداله بإيمان من العالم.

كردّ على هذه الظروف يشدّد يوحنا على ضرورة أن يتقوى قراؤه بالإيمان. أرادهم أن يكونوا واثقين بإيمانهم وبأن أنظمة العالم ليست جيدة كما تبدو، وأنه مهما كانت الحياة المسيحية قاسية، فهي الطريق إلى الأمان الحقيقي، والسرور والازدهار.

لهذا السبب، يصف كتاب الرؤيا تكراراً القوى الدنيوية الأثيمة والشهوات بأنها شنيعة، وبغيضة، وخدّاعة وفاسدة. نعم! إن مملكة الشيطان وأتباعه تلبس لباساً جميلاً. لكن إن تمكنا أن نراها على حقيقتها، فسنبتعد عنها بسبب بشاعتها. وهذا الأمر ما زال صحيحاً اليوم.

مهما قامت الخطية بإغرائنا، ومهما كانت الحياة صعبة ومثبطة للعزيمة لنا كتلاميذ للمسيح، فمن الضروري أن نثبت في إيماننا بأن الله هو بالفعل كما أعلن عن نفسه، وأنه سيفعل ما وعد به، وأنه سيباركنا إن نحن بقينا أمناء له.

على الرغم من أن الثبات في الإيمان هو أهم أنواع الثبات، يشدّد كتاب الرؤيا على أن الإيمان الحقيقي يبرهن عن نفسه من خلال أنواع أخرى من الثبات أيضاً. على سبيل المثال، نوع ثان من أنواع الثبات مذكور في كتاب الرؤيا هو المحبة الراسخة لله.

يدعو كتاب الرؤيا جميع المؤمنين لكي يبقوا محبتهم لله نشيطة وقوية. على سبيل المثال، في الرؤيا ٢: ١٩، مدح الرب الكنيسة في ثَيَاتِيرَا، لتعبيرها عن ثباتها في المحبة والإيمان. في المقابل في الرؤيا ٢: ٤، وبّخ كنيسة أفسس لخسارتها محبتها الأولى. وهذا الفشل كان كبيراً بحيث هدّد الرب بإزاحة منارتها، أي أنه هدّد بإزالة الكنيسة.

أما النوع الثالث من الثبات المشار إليه في كتاب الرؤيا يتعلق بشهادتنا المسيحية للآخرين.

كانت الكنائس الوفيّة للمسيح في زمن يوحنا في تناقض صارخ مع حضارة الشعوب حولها. من هنا صوّر يوحنا الكنائس السبع في الرؤيا ٢ و٣ كمنارات تضيء في ظلمة العالم. وكما تعلّمنا الرسالة إلى أفسس، عندما كان المسيحيون يساومون مع العالم، كانوا يخسرون شهادتهم المميّزة، وكان ذلك يخمد إلى حد بعيد شهادتهم في العالم.

ونجد أمراً مشابهاً في الرؤيا ٧: ١٠، حيث تجمعت جماهير غفيرة بالثياب البيض حول العرش لتسبّح الله بتكرار التصريح الذي هو شهادتهم إلى العالم: الْخَلاَصُ لإِلهِنا. فالخلاص ليس في قيصر أو في أي مصدر آخر، بل فقط في عمل يسوع المسيح، حمل الله. وهذه الحقيقة الفريدة جعلت من شهادة المؤمنين هامة بشكل حاسم. فغير المؤمنين كانوا بحاجة لأن يروا أن عبادتهم الشخصية كانت مزيّفة ومخدوعة، وأن الكنيسة وحدها امتلكت الرسالة الحقيقية حول الحياة والرجاء.

أما النوع الرابع الذي من خلاله دعا كتاب الرؤيا المسيحيين إلى الثبات هو في الطهارة الأخلاقية.

نجد التشجيع على الطهارة الأخلاقية غالباً في الرسائل السبع إلى الكنائس. على سبيل المثال، في الرؤيا ٢: ١٢-١٧، وبّخ يسوع الكنيسة في بَرْغَامُس على قبولها الذين ارتكبوا خطايا جنسية، وأيضاً على تشجيعها الآخرين على الاشتراك بتلك الخطايا. وفي الرؤيا ٣ ١٤-٢٢ وبّخ يسوع الكنيسة في لاَوُدِكِيَّة على انشغالها بالأمور الدنيوية بسبب إعطائها للغنى والثروة قيمة أكبر من ولائها للمسيح.

أما النوع الخامس من الثبات الذي دعا إليه كتاب الرؤيا فهو التمسك بالتعليم الصحيح.

يدعو كتاب الرؤيا بانتظام المؤمنين للتمسك بالتعليم الصحيح، وأن لا يتساهلوا مع الأفكار الدنيوية. على سبيل المثال، في الرؤيا ٢: ١-٧، مدح يسوع الكنيسة في أفسس بسبب أمانتهم للتعليم المسيحي الصحيح، ولحسن تمييزهم بين الرسل الحقيقيين والرسل الكذبة. ووبخ الكنيسة في ثِياتِيرا في الرؤيا ٢: ٢٠-٢٣ بسبب تساهلها في مسائل عقائدية، لا سيما تسامحها مع النبية الكاذبة إيزابل.

يدعو كتاب الرؤيا الكنيسة إلى الثبات بعدة طرق متنوعة. لكن المسيحيين الذين يواجهون تحديات في هذه النواحي لا يعرفون دائما كيف يتصرفون لينتصروا على المحن والتجارب والآلام التي يواجهونها. لكن كتاب الرؤيا لا يأمرنا فقط أنه يجب علينا أن نثبت. بل يعطينا أيضاً تعليمات عملية لكيفية القيام بذلك.

ينزع كتاب الرؤيا حجاب الخداع الذي تروّج له حكومات بشرية شريرة تقاوم الله. وهو يكشف عن جمال وروعة ملكوت الله وقوة المسيح. وهو يبيّن لنا أن الله يحب شعبه ويعِد بأن يباركهم في ملكوته المجيد. وهو يؤكد لنا على البركات المستقبلية التي سننالها في السماء الجديدة والأرض الجديدة، إن كنا نثبت إلى النهاية. باختصار، هو يعطينا كل سبب لنكون مخلصين لله ونثبت في أمانتنا طوال حياتنا، وعبر التاريخ، إلى حين عودة المسيح ليجدّد كل شيء.

لم يقدر الموت أن يُمسك المسيح بعد صلبه، فقام في اليوم الثالث من بين الأموات. وأمر مشابه ينطبق على الظروف الحالية في العالم. فالكثير من القوى والجماعات الأرضية تقاوم الله، والكثير من شعب الله يتألمون. يمكن لذلك أن يجعل الحياةَ مُحبطةً. لكن يجب أن نتذكر أنه عندما تكون الحياة أكثر إحباطا، يبقى الله مسيطرًا على الوضع، وتبقى مصالحنا في لب اهتماماته. ومهما حدث، فهو سيفي بوعوده. فآلامنا الحاضرة لا تقاس بالمجد الذي سنناله عند عودة المسيح. ويجب أن يدفعنا ذلك لنثبت في إيماننا، والتزامنا، ونبقى راسخين في المحبة، ونستمر بشهادتنا، ونحافظ على نقاوة عقيدتنا وحياتنا. فكما أن ظلمة موت المسيح تَبِعَها نورُ قيامته، فإن ظلمة صعوباتنا الحاضرة سيتبعها في النهاية نورُ عودتهِ وملءُ ملكوتهِ.

بعد أن رأينا كيف يحثنا كتاب الرؤيا على الثبات في ولائنا لله، لننظر إلى الطريقة التي يشجعنا فيها لنعبّر عن ولائنا له في عبادتنا.

 

العبادة


على الرغم من حقيقة أن قرّاء يوحنا الأولين كانوا يعانون من اضطهاد كبير، فإن كتاب الرؤيا يشدّد بصورة بارزة على العبادة. يصوّر الرؤيا ٤ و٥ مشهداً مذهلاً عن العبادة في البلاط السماوي، مع أربعة وعشرين شيخاً جالسين على عروش حول عرش الله، وأربعة كائنات حيّة تطير في البلاط وتسبّح الله. وتظهر مشاهد عبادة في حوالي نصف فصول الرؤيا الـ٢٢.

وعلى الرغم من أن ذلك قد يفاجئنا في البداية، فإن كتاب الرؤيا يربط بوضوح الألم والعبادة. وبغض النظر عن ظروفنا الحاضرة، حتى في أوقات الضيق، يبقى الله كاملاً، قدوساً وصالحاً. وهو يعمل في كل الأشياء معاً من أجل فائدتنا النهائية، بحيث يباركنا في الدهر الآتي بميراثنا الكامل في المسيح. وفي الوقت الذي يقدّم لنا كتاب الرؤيا أسباباً عدة لنعبد الله، سنركّز في هذا الدرس على ثلاثة أفكار موجزة في الحمد المقدّم لله من قبل الشيوخ الأربعة والعشرين في الرؤيا ٥.

استمع إلى ما أعلنه الشيوخ في الرؤيا ٥: ٩-١٠:

لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا لِلَّهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ، وَجَعَلْتَنَا لِإِلَهِنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً، فَسَنَمْلِكُ عَلَى الأَرْضِ.

أشار الشيوخ إلى ثلاثة أسباب على الأقل لتسبيح الله. أولاً، المسيح اشترى أو افتدى شعبه مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ. ثانياً، عيّن المسيح هؤلاء الأشخاص المفديين ملوكاً وكهنة. وثالثاً، ضمن أنهم في المستقبل سيملكون على الأرض.

إن بحثنا في موضوع الولاء المعبّر عنه في العبادة يتوازى مع هذا التشديد المثلث للرؤيا ٥: ٩-١٠. أولاً، نرى أن عمل فداء المسيح في الماضي يجعل الله يستحق العبادة. ثانياً، نركّز على عبادة الله لأنه أعطانا الإكرام في الحاضر من خلال تعييننا لنكون كهنة ملكوته. وثالثاً، نرى أنه يستحق عبادتنا بسبب البركات التي سننالها في المستقبل عندما سنملك على السماوات الجديدة والأرض الجديدة. لننظر أولاً إلى عمل فداء المسيح في الماضي.

 

1. الفداء الماضي

يبيّن كتاب الرؤيا تكراراً أن الله يستحق العبادة من دون كل خلائقه. وهو يعطينا صوراً جميلة كيف يعبده القديسون في السماء. وأحد الأسباب التي يقدّمها كتاب الرؤيا لعبادة الله، هو عمل الخلاص الذي أتمّه المسيح من أجلنا.

يقدّم لنا كتاب الرؤيا ١٤: ١-٤ صورة جميلة للفداء الذي سبق ونلناه في المسيح. في العدد ١ يصف يوحنا المؤمنين بأن لهم اسم الخروف واسم الآب مكتوبان على جباههم. وكتب يوحنا في العدد ٤ أن المؤمنين قد اشتروا من بين الناس، وأنهم قُدموا لله وللخروف قرباناً. واستجابة لهذا الخلاص العظيم، قدّم المؤمنون العبادة والتسبيح لله، معبّرين عن شكرهم في ترنيمة جديدة.

يجب أن تكون لكل مؤمن الاستجابة ذاتها مع الخلاص الذي ناله. فالمسيح اشترانا جميعاً، وقدّمنا جميعاً قرباناً لله وللخروف. ويجب أن نتجاوب جميعاً بالشكر والتسبيح عابدين الله والمسيح بفرح وترنم.

عندما نواجه ضيقات، من السهل بالنسبة لنا أن نشك بصلاح الله وننسى عطاياه الصالحة التي أعطانا إياها في خلاصنا، عطايا مثل الغفران، واسترداد العلاقة مع خالقنا وربنا والحياة الأبدية.

ونحتاج أن نتذكر دائما أن الفداء الذي سبق وأتمّه يسوع من أجلنا وشملنا به يجعل يسوع مستحقاً عبادتنا، بغض النظر عن ظروفنا. فابن الله أحبنا إلى درجة أنه جاء إلى عالمنا الشرير هذا، ليحتمل آلاماً رهيبة واضطهاداً مريعاً، وليموت على الصليب من أجل خطايانا. ولا يوجد ألم أو مشقة في هذا العالم يمكن مقارنتهما بالألم الذي تحمّله المسيح من أجلنا. وهذا يجعله مستحقاً لكل عبادة وتسبيح وحمد.

والآن بعد أن نظرنا كيف أن عمل المسيح في الفداء في الماضي يجب أن يلهم عبادتنا المخلصة، لننتقل إلى الإكرام الذي أعطانا إياه الله في الحاضر إذ جعلنا مملكة كهنته.

 

2. الإكرام الحاضر

في الوقت الحاضر، الله يتربع على العرش في هيكله السماوي. وهو يدعو شعبه على الأرض ليكونوا كهنة ملكوته.

في العهد القديم، كان كلا الملوك والكهنة مكرّمين جداً لأن الله اختارهم ليمثّلوه في علاقته مع شعب عهده. وقد أُعطي لهم أن ينجحوا في هاتين الوظيفتين بمقدار ما كانوا أمناء لله كملكهم الأعظم. ونرى ذلك فيما يتعلق بملوك العهد القديم في مقاطع مثل ١ ملوك ٣: ١٣-١٤، وإرميا ٣٤: ٤-٥ ودانيال ٤: ٣٤-٣٧. ونرى الارتباط بين ولاء الكهنة وإكرامهم في أماكن مثل ٢ أخبار ٢٦: ١٨ ومراثي إرميا ٤: ١٢-١٦.

لكن على الرغم من أن قلة فقط اختيروا في العهد القديم كملوك وكهنة، فإن العهد القديم تطلع إلى اليوم الذي فيه كل شعب الله الأمناء سيكونون ملوكاً وكهنة على الأرض.

وكما أخبر الله إسرائيل في الخروج ١٩: ٥-٦:

فَالآنَ إنْ سَمِعْتُمْ لِصَوْتِي وَحَفِظْتُمْ عَهْدِي تَكُونُونَ لِي خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. فَإنَّ لِي كُلَّ الأَرْضِ. وَأنْتُمْ تَكُونُونَ لِي مَمْلَكَةَ كَهَنَةٍ وَأُمَّةً مُقَدَّسَةً.

وفق كتاب الرؤيا، الزمان الذي تطلع إليه العهد القديم بات حاضراً اليوم. فالكنيسة هي اليوم مملكة كهنة تملك على الأرض. ونرى ذلك بوضوح في الرؤيا ٥: ٩-١٠ و٢٠: ٦، ومشار إليها ضمناً في مقاطع أخرى.

بالطبع هناك نتائج كثيرة تترتب على هذه الحقيقة. مثلا، المسيحيون هم سفراء المسيح على الأرض. ونحن مدعوون لنخدمه ونخدم البشرية. ونحن ملزمون بإدارة الأرض بمسؤولية وكل ما يتطلبه ذلك. لكن النتيجة التي سنركّز عليها في هذا القسم من درسنا هي أن هذا التكريم لنا يجب أن يحثنا على عبادته له المجد.

على سبيل المثال، في الرؤيا ٥: ٨-١٤، يوجد مشهد جميل للعبادة في البلاط السماوي. وكجزء من هذا المشهد، فإن الكائنات الحية الأربعة، والأربع والعشرين شيخاً جميعهم كانوا يسبّحون ويعبدون يسوع الحمل بالقيثارات، والترنيم والبخور.

استمع إلى ما كانوا يرنمونه عن أمانة الله في الرؤيا ٥: ١٠:

وَجَعَلْتَنَا لِإِلَهِنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً، فَسَنَمْلِكُ عَلَى الأَرْضِ.

أحد الأسباب الوجيهة ليستحق يسوع عبادتنا، هو أنه كرّم شعبه في الحاضر عن طريق تعيينهم ليخدموه ككهنته وكملوك يملكون على الأرض.

ونجد شيئاً مشابهاً في الرؤيا ٤: ١٠-١١. في ذلك المقطع، تجاوب الشيوخ في السماء مع الإكرام والسلطان الملكي اللذَين مُنحا لهم فأتوا وسجدوا أمام يسوع واضعين أكاليلهم عند قدميه وهم يسبحونه.

ويوجد مثل آخر على ذلك في الرؤيا ٧ حيث عدد لا يُحصى من المؤمنين خُتموا كخدّام لله، فتجاوبوا مع النعمة والإكرام اللذين وهبا لهم بحمدهم الرب على صلاحه ورحمته وقدرته.

وفي الرؤيا ١: ٥-٦، قدم لنا الرسول يوحنا نفسه نموذجاً عن هذا السلوك. استمع إلى ما قاله هناك:

الَّذِي … جَعَلَنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً لِلَّهِ أَبِيهِ، لَهُ الْمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ.

بيّن لنا يوحنا في هذين العدَدين أن على الكنيسة في كل العصور أن تتجاوب مع الإكرام الذي نالته بالقيام بعبادة الرب الذي باركها كمملكة لكهنته.

نحن ننسى أحياناً أن المؤمنين ككهنة يخدمون في الواقع الرب في السماء. أي أننا نقوم بالخدمات التي تُبقي العبادة سارية في الهيكل السماوي، وتُرضي رب الهيكل. كمثال، تؤكد لنا الرؤيا ٥: ٨ أن صلوات القديسين هي جامات من ذهب مملوءة بالبخور في هيكل الله السماوي. وفي الرؤيا ٨: ٣-٥ ترتفع هذه الصلوات أمام الله وهو يتجاوب معها بحكمه العادل على مذنبي الأرض.

يتشرف شعب الله اليوم بكونهم مملكة كهنة. فقد أتى بنا الله إلى ملكوته وكلفنا بمهمة نشر ملكوته في كل العالم. وبصفتنا كهنتِهِ، لنا شرف خدمته في هيكله السماوي. فكر بهذا- نحن نعمل مباشرة عند خالق الكون كله وحاكمه. وهو قد منحنا السلطان على كل خليقته، ويصغي إلى صلواتنا بانتباه، ويستخدم تلك الصلوات كوسائل يبارك من خلالها شعبه الأمين ويدين أولئك الذين يقاومون مُلكَهُ. كيف نتجاوب مع هذا الشرف العظيم؟ نفعل ذلك بتقديمنا الطاعة مع شكرنا له ومن خلال عبادتنا الصادقة.

بعد أن نظرنا إلى عمل يسوع في الفداء في الماضي والكرامة التي لنا في الحاضر، صرنا مستعدين أن نرى أن الله يستحق عبادتنا الوفية بسبب البركات التي وعدنا بها في المستقبل.

 

3. البركات المستقبلية

يدعو كتاب الرؤيا الكنيسة إلى عبادة الله بسبب البركات العظيمة التي سيهبها لها يوم المجازاة، عندما نبدأ ملكنا الأبدي مع المسيح على السماوات الجديدة والأرض الجديدة. إحدى الطرق التي تشجّعنا على عبادة الله هي بتوفير أمثلة لنا لنتبعه.

انظر إلى مثل الشيوخ في السماء في الرؤيا ١١: ١٦-١٨:

وَالأَرْبَعَةُ وَالْعِشْرُونَ شَيْخاً الْجَالِسُونَ أَمَامَ اللهِ عَلَى عُرُوشِهِمْ خَرُّوا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَسَجَدُوا لِلَّهِ قَائِلِينَ: نَشْكُرُكَ أَيُّهَا الرَّبُّ الْإِلَهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الْكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي، لأَنَّكَ أَخَذْتَ قُدْرَتَكَ الْعَظِيمَةَ وَمَلَكْتَ… فَأَتَى… َزَمَانُ الأَمْوَاتِ لِيُدَانُوا، وَلِتُعْطَى الأُجْرَةُ لِعَبِيدِكَ الأَنْبِيَاءِ وَالْقِدِّيسِينَ وَالْخَائِفِينَ اسْمَكَ، الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، وَلِيُهْلَكَ الَّذِينَ كَانُوا يُهْلِكُونَ الأَرْضَ.

في هذه الرؤيا، رأى يوحنا يوم الدينونة المستقبلي. في ذلك اليوم، سينال كل شعب الله الأمناء مكافآت أبدية، ويُجازى كل أعداء الله بالهلاك الأبدّي. كجزء من هذا المشهد، راقب يوحنا الشيوخ وهم يعبدون الله لأنه باركهم بالمكافآت وبدّد أعداءهم. فهمت الكنائس في زمن يوحنا من خلال هذا المثل، أن الله يستحق عبادتنا أيضاً الآن في الزمن الحاضر، لأننا وُعدنا بهذه البركات المستقبلية ذاتها.

مثل آخر يمكن أن نجده في الرؤيا ٧: ٩-١٠، حيث نقرأ ما يلي:

وَإِذَا جَمْعٌ كَثِيرٌ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَعُدَّهُ، مِنْ كُلِّ الأُمَمِ وَالْقَبَائِلِ وَالشُّعُوبِ وَالأَلْسِنَةِ، وَاقِفُونَ أَمَامَ الْعَرْشِ وَأَمَامَ الْحَمَلِ، مُتَسَرْبِلِينَ بِثِيَابٍ بِيضٍ وَفِي أَيْدِيهِمْ سَعَفُ النَّخْلِ وَهُمْ يَصْرُخُونَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلِينَ: الْخَلاَصُ لِإِلَهِنَا الْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ وَلِلْحَمَلِ.

إن الجمع الذي وصفه يوحنا في هذا المقطع، كانوا متسربلين بثياب بيض وفي أيديهم سعف النخل. ووفق الرؤيا ٧: ١٤-١٧، فإن الثياب البيض ترمز إلى البركات التي نالوها. فقد جاءوا من الضيقة العظيمة وخطاياهم قد غُفرت بدم المسيح. علاوة على ذلك، أُدخلوا إلى ملكوت الله الأبدي ونالوا المكافأة الأبدية. وكيف تجاوبوا مع الله؟ تجاوبوا بعبادته. وكان مثالهم مشجعاً لقرّاء يوحنا الأولين ليفعلوا الأمر ذاته، بسبب البركات ذاتها التي ستوهب لهم أيضاً. وهذا ينطبق على المؤمنين في كل عصر.

وأمر مشابه ينطبق على سعف النخل التي حملها الجمع. فبحسب اللاويين ٢٣: ٤٠، فإن سعف النخل كانت تستخدم باستمرار في عيد المظال للإشارة إلى الخلاص النهائي الذي سيقدّمه الرب. وعندما دخل يسوع أورشليم في دخوله الظافر في يوحنا ١٢، نقرأ في تفاصيل القصة أن الجمع استقبلوه بسعف النخل، دلالة على إيمانهم أنه لكونه المسيح قد جاء بملكوت الله الموعود. من هنا سعف النخل التي كان يحملها الجمع في رؤيا يوحنا تشير على الأرجح إلى أن الشعب قد نالوا البركات المستقبلية بعبادة الشخص الذي باركهم.

فيسوع قد انتصر على أعداء الله. ويمكن لكل مؤمن أن ينظر إلى الأمام، إلى البركات المستقبلية العظيمة، سواء في السماء عندما نموت، أو في السماوات الجديدة والأرض الجديدة عندما يعود المسيح. وهذا يعطينا جميعاً السبب لنسبّح ونعبد إلهنا المنتصر.

 إن موضوع الولاء لله مُعبّر عنه بطرق عدة في سفر الرؤيا. لكن كما رأينا، فإن سفر الرؤيا يسلّط الضوء على العبادة والثبات كأفضل طريقتين نعبّر من خلالِهما عن ولائِنا لله في العالم الحاضر. بالطبع، هذا ليس سهلاً دائمًا. في الواقع، كلما تألمنا أكثر، كلما كان من الصعب أن نثبت، وكلما قلّت رغبتنا في العبادة. لكن أوضح يوحنا أنه حتى في أسوأ الأوقات، يعطي الله شعبه القوة التي يحتاجونها ليبقوا أمناءً له. كذلك أشار يوحنا إلى أنه لدينا الكثير من الأسباب لنعبد الله أيًا كانت ظروفنا الحالية، وذلك بسبب الخلاص الذي نلناه في الماضي، والإكرام الذي نتمتع به في الحاضر، والبركات المجيدة التي سننالها في المستقبل.

والآن وقد تناولنا في بحثنا ملكية الله وإحسانه ودرسنا الولاء الذي يطلبه منا، بتنا مستعدين أن ننظر إلى ما يقوله كتاب الرؤيا عن النتائج التي تنتج عن ولائنا أو عدم ولائنا لله.

 


النتائج


سنركّز في هذا القسم على النتائج التي ستترتب على البشرية عند عودة المسيح ليحقّق ملكوت الله بكل ملئه. ويشير كتاب الرؤيا إلى العديد من المكافآت والبركات للطاعة والكثير من العقوبات لعدم الطاعة. وعدد كبير من هذه البركات والعقوبات يمكن أن نختبرها في العالم الحاضر. لكننا في هذه المرحلة من درسنا، سنركّز على النتائج التي ستستتبع عودة المسيح.

يتطلع كل المؤمنين المسيحيين إلى الوقت الذي سيعود فيه المسيح ليحاسب الأبرار والأشرار في الدينونة الأخيرة. وقد أشرنا في درس سابق إلى أن هذه الدينونة النهائية مصورة في حلقات من الدينونة في الرؤى الأربع التي شاهدها يوحنا. ومع أن الجميع لا يتفق مع هذا الرأي، فإن معظم المسيحيين يقرّون بالطبيعة العامة للدينونة التي يصوّرها يوحنا.

إن الدينونة النهائية هي النتيجة الضرورية للعهد الذي قطعه الله مع المسيح كالملك الخادم. فالمسيح يملك كملك، ويعمل على تجديد السماء والأرض، بحيث تُظهر الخليقة مجد الله بالكامل. ولكي يتمّ ذلك يجب أن يكافأ الصلاح ويبارك، في حين يجب أن يعاقب الشر والعصيان على حكم الله ويقضى عليهما.

نفحص الآن نتائج الولاء وعدم الولاء لله على قسمين. أولاً، ننظر إلى العقوبات النهائية التي تنزل بالذين لم يكونوا أمناء لله. ثم سنتناول البركات النهائية للسماوات الجديدة والأرض الجديدة التي ستمنح للأمناء. لننظر أولاً إلى اللعنات النهائية على أعداء الله.

 

اللعنات النهائية


يدرج كتاب الرؤيا أربعة عناصر على الأقل متضمنة في اللعنات النهائية على أعداء الله. اللعنة الأولى التي سنشير إليها هي هلاك التنين والوحش والنبي الكذاب.

قاوم التنين وأتباعه الله في كل التاريخ البشري. كان الشيطان في جنة عدن، وأغرى حواء لتأكل من شجرة معرفة الخير والشر. وحاولت قواته أن تهزم الله وملكوته منذ ذلك الحين. لكن عند عودة يسوع، سينهزم الشيطان أخيراً بصورة كاملة. ويرد في الرؤيا ١٩:١٩-٢٠ تعليم أن الوحش والنبي الكذاب سيؤسران ويلقيان في بحيرة النار. ويعلّم الرؤيا ٢٠: ٩-١٠ أن التنين نفسه سينهزم ويُلقى في بحيرة النار حيث لن يعود قادراً على أن يؤذي أحداً من شعب الله الأمناء إلى الأبد. وكل القوى الشيطانية التي حاربت إلى جانبه ستشاركه هلاكه الأبدي.

اللعنة الثانية النهائية ستكون هزيمة الملوك والأمم المعادية.

يصف كتاب الرؤيا في الكثير من المواضع هلاك الملوك والأمم المعادية لله. على سبيل المثال، يشرح لنا الرؤيا ٦: ١٥-١٧ كيف أن ملوك الأرض وكذلك قادة الجيوش، والأغنياء والعظماء، تمنوا لو أن الجبال تسقط عليهم لتنقذهم من دينونة الحمل. وتشير الصورة هنا إلى دينونة المسيح لكل السلطات البشرية التي تقاوم حكمه.

في الرؤيا ١٩: ١٥-٢١، يظهر يسوع على حصانه الأبيض وهو يقود جيوش السماء، ويضرب ملوك الأرض لكي يحكم مكانهم.

في الرؤيا ١٦: ١٩، يجعل الرب بابل تشرب من:

كَأْس خَمْرِ سَخَطِ غَضَبِهِ.

وكما رأينا في درس سابق، ترمز بابل إلى البشر والقوى الحكومية التي تقاوم ملك المسيح. ويصوّر هذا العدد بشكل واضح كيف أن كل هذه الأمم وحكّامها سيقعون رغماً عنهم تحت عقاب الله الكامل بسبب عصيانهم.

أما اللعنة الثالثة النهائية ستكون إدانة غير المؤمنين.

ليس فقط الملوك والأمم الخصوم سيهلكون عند رجوع المسيح، بل إن كل سكان المدن غير المؤمنين سيواجهون الدينونة الأخيرة كنتيجة مباشرة لعصيانهم الشخصي على الله. فكمثال في الرؤيا ١٤: ١٧-٢٠ جمع ملاكان كل غير المؤمنين على الأرض ورمياهم مثل عناقيد عنب في “مَعْصَرَةِ غَضَبِ اللهِ الْعَظِيمَةِ”. وفي الرؤيا ٢٠ تم طرح كل الذين أسماؤهم غير مكتوبة في كتاب الحياة في بحيرة النار.

استمع إلى وصف يوحنا لتلك العقوبة في الرؤيا ٢٠: ١٢-١٥:

وَرَأَيْتُ الأَمْوَاتَ صِغَاراً وَكِبَاراً وَاقِفِينَ أَمَامَ اللهِ، وَانْفَتَحَتْ أَسْفَارٌ. وَانْفَتَحَ سِفْرٌ آخَرُ هُوَ سِفْرُ الْحَيَاةِ، وَدِينَ الأَمْوَاتُ مِمَّا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الأَسْفَارِ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ … وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُوجَدْ مَكْتُوباً فِي سِفْرِ الْحَيَاةِ طُرِحَ فِي بُحَيْرَةِ النَّارِ.

وصف يوحنا هنا العقاب المستقبلي لغير المؤمنين جميعاً. فسيُطرح كل واحد منهم في بحيرة النار ليقعوا تحت العقاب الأبدي لأنهم أخطأوا ضد الله.

ومهما بدت لعنات الدينونة الأخيرة مرعبة، يجب أن نتذكر أنها عادلة بالكامل. فسيُدان غير المؤمنين لأنهم يستحقون أن يُعاقبوا بسبب عصيانهم. فالله ملك على خليقته، وعصيانه هو شرّ وتمرّد. ومهما كان الاعتراف بذلك مؤلمًا، فإن عدالة الله تتطلب معاقبة الخطيّة والعصيان. بهذا المعنى، يكون عقاب الأشرار جانب رئيسي في المُلك البار لله.

والآن بعد أن رأينا كيف أن عواقب الخطيّة وعدم الأمانة سكبت في الدينونة النهائية نستطيع أن نقدّر البركات التي ستُمنح إلى شعب الله الأمين في السماوات الجديدة والأرض الجديدة.

 

البركات النهائية


في دينونة الله النهائية على الخطية، ستستأصل من هذا العالم كل القوى الحكومية والروحية التي تقاوم حكمه، وسيدان معهم أيضاً جميع الذين لم يؤمنوا. وبعد أن تتطهر الخليقة من أعداء الله، سيتجدّد الكون نفسه، وينتج عنه السماوات الجديدة والأرض الجديدة لشعب الله الأمين ليعيش ويتمتع فيها إلى الأبد.

تصف الأعداد ١-٥ من الرؤيا 21 الخليقة الجديدة بهذه الطريقة:

ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، لأَنَّ السَّمَاءَ الأُولَى وَالأَرْضَ الأُولَى مَضَتَا، … وَسَمِعْتُ صَوْتاً عَظِيماً مِنَ السَّمَاءِ قَائِلاً: … الأُمُور الأُولَى قَدْ مَضَتْ. وَقَالَ الْجَالِسُ عَلَى الْعَرْشِ: هَا أَنَا أَصْنَعُ كُلَّ شَيْءٍ جَدِيداً.

نشير هنا إلى ثلاث بركات نهائية للسماوات الجديدة والأرض الجديدة التي قال يوحنا إن الأوفياء لله سينالونها. أولاً، سيكون هناك إصلاح وتجديد كامل للخليقة.

 

1. تجديد الخليقة

يُخبرنا العددان ١ و٤ من الرؤيا 21 أن السماء الأولى والأرض الأولى قد مضتا، مبّينة أنها ستزول بمعنى ما. ونجد أفكاراً مشابهة في مواضع مثل ٢ بطرس ٣: ١٠-١١، إذ يتحدثان عن دمار العالم الحاضر لإفساح المجال أمام العالم الجديد.

لكن الرؤيا ٢١: ٥ تصف السماوات الجديدة والأرض الجديدة بلغة التجديد، ما يدل على أنها بدل أن تزول بالكامل، فإن الخليقة القديمة ستُجدّد أو تُصلح. وهذه الفكرة ذاتها موجودة في مقاطع مثل رومية ٨: ١٩-٢٢. وتعلمنا هذه المقاطع بأنه سيكون هناك استمراية جوهرية بين الخليقتين وليس مجرد تشابه. وتعلن الأعداد ٢٤-٢٦ من الرؤيا ٢١ أن مجد الأمم وكرامتهم سيأتيان إلى أورشليم الجديدة، كإشارة إلى أن النواحي المفدية من حياتنا الحاضرة سنحملها معنا إلى السماء الجديدة والأرض الجديدة.

ونتيجة لذلك، استنتج معظم اللاهوتيين أن الخليقة الحاضرة لن تنزع بالكامل وتُستبدل، بل إنها ستتحول جذرياً.

وهذا التحوّل سيكون عن طريق التجديد، جاعلاً العالم حتى أفضل مما كان عند خَلقِه. فالخليقة كلها ستكون مقدّسة وطاهرة، وملائمة بالكامل ليسكنها الله.

وكما أعلن الملاك في الرؤيا ٢١: ٣-٤ 21: 3-4:

هُوَذَا مَسْكَنُ اللهِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعْباً، وَاللهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلهاً لَهُمْ. ‫وَسَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ، لأَنَّ الأُمُورَ الأُولَى قَدْ مَضَتْ.

ناحية أخرى مهمة عن تجديد الخليقة مذكورة في الرؤيا 22: 3، حيث نقرأ:

وَلاَ تَكُونُ لَعْنَةٌ مَا فِي مَا بَعْدُ.

في السماوات الجديدة والأرض الجديدة، تُرفع اللعنة التي وضعها الله على آدم وحواء في جنة عدن. وتوضح مقاطع مثل التكوين ٣: ١٧-١٩؛ ٥: ٢٩ و٨: ٢١ أن السماوات القديمة والأرض القديمة قد فسدت تماماً نتيجة سقوط البشرية في الخطية. والأرض تقاوم محاولاتنا في زرع الطعام. والحيوانات البريّة تهاجمنا. أما الكوارث الطبيعية مثل الفيضانات، والزلازل والأعاصير فتسبب الألم للكثير من الناس حول العالم. وتسبب الجراثيم الأمراض، وأحياناً تكون قاتلة.

لكن عندما يعود المسيح، سيحرّر العالم من كل مظاهر هذه اللعنات. وقد وصف يوحنا بركات الخليقة الجديدة بطرق متنوعة، بما فيها أورشليم الجديدة، المدينة المقدسة، مزَيّنة كعروس وتشعّ بمجد الله. وأحد أثمن الرموز التي استخدمها يوحنا في هذه القرينة هو صورة نهر الحياة الذي يتدفق عبر أورشليم الجديدة ويروي شجرة الحياة.

استمع إلى ما ورد في الرؤيا ٢٢: ١-٢:

وَأَرَانِي (الملاك) نَهْراً صَافِياً مِنْ مَاءِ حَيَاةٍ لاَمِعاً كَبَلُّورٍ خَارِجاً مِنْ عَرْشِ اللهِ وَالْحَمَلِ. فِي وَسَطِ سُوقِهَا وَعَلَى النَّهْرِ مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَاكَ شَجَرَةُ حَيَاةٍ … وَوَرَقُ الشَّجَرَةِ لِشِفَاءِ الأُمَمِ.

تصور لنا هذه الأعداد الجميلة نهراً متدفقاً من عرش الله الذي يروي شجرة الحياة، وهي بدورها تشفي الأمم. وهذه المواضيع تعود جميعها إلى كتاب التكوين. ويتحدث التكوين ٢: ١٠ عن نهر يتدفق من عدن ويروي جنة عدن وشجرة الحياة. ويُشار إلى هذا النهر كنهر النِعَم في المزمور ٣٦: ٨، كنَهْرٍ سَوَاقِيهِ تُفَرِّحُ مَدِينةَ اللهِ في المزمور ٤٦: ٤.

ونجد بحثاً مطولاً عن هذا النهر في حزقيال ٤٧: ١-١٢. في رؤيا حزقيال تدفقت قطرات من المياه من الهيكل ونمت وصارت نهراً كبيراً إلى درجة لا يمكن عبوره. والمياه جلبت الحياة حيثما تدفقت، حتى إنها حولت مياه البحر الميت المالحة إلى مياه عذبة.

استمع إلى ما قاله الله عن هذا النهر في يوئيل ٣: ١٧-١٨:

فَتَعْرِفُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلَهُكُمْ سَاكِناً فِي صِهْيَوْنَ جَبَلِ قُدْسِي. وَتَكُونُ أُورُشَلِيمُ مُقَدَّسَةً وَلاَ يَجْتَازُ فِيهَا الأَعَاجِمُ فِي مَا بَعْدُ. وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ الْجِبَالَ تَقْطُرُ عَصِيراً وَالتِّلاَلَ تَفِيضُ لَبَناً وَجَمِيعَ يَنَابِيعِ يَهُوذَا تَفِيضُ مَاءً وَمِنْ بَيْتِ الرَّبِّ يَخْرُجُ يَنْبُوعٌ وَيَسْقِي وَادِي السَّنْطِ.

في الرؤيا ٢٢ يصبح نهر الحياة هذا أكثر غزارة. وهو يتدفق من عرش الله والخروف، تماماً في وسط أورشليم الجديدة، مشيراً إلى أن المصدر النهائي لكل الحياة والشفاء هو الله نفسه.

وفي رؤيا يوحنا، هذا المصدر الغني للحياة يروي شجرة الحياة التي هي على جانبَي النهر. وتنتج الشجرة وفرة من الفواكه لها تأثير قوي إلى درجة أن أوراقها تستخدم لشفاء الأمم.

عندما أخطأ آدم وحواء في جنة عدن، لعنهما الله وطردهما من الجنة، خصيصا لكي لا يتمكنا من الأكل من شجرة الحياة والعيش إلى الأبد. لكن عند عودة المسيح، سيروي نهر الحياة شجرة الحياة من جديد، وسيكون ثمر الشجرة في متناول جميع الأمم. وستُشفى كل البشرية المفدية. ولن يكون هناك خطيّة فيما بعد، أو مرض أو وباء. ولن تحدث الكوارث الطبيعية من جديد. وستضبط الأمم نفسها في البرّ والسلام. وستُظهر كل خليقة الله مجده بالكامل.

البركة الثانية النهائية التي سينالها شعب الله الأمين في السماوات الجديدة والأرض الجديدة هي أن العالم بكامله سيكون هيكلاً شاملاً لحضور الله.

 

2. الهيكل الشامل

وضع الله في كل العهد القديم، أماكن مقدسة حيث يتجلى حضوره بطريقة ممّيزة. ويشير التكوين ٣: ٨ إلى أنه سار في جنة عدن مع آدم وحواء. وتشير مقاطع أخرى من الكتاب المقدس إلى أن ذلك حدث لكون الجنة قدسه أو هيكله.

على سبيل المثال، يخبرنا التكوين ٢: ١٥ أن آدم وُضع في الجنة ليعملها ويحفظها. والكلمة العبرية للعمل في هذا العدد هي عَبَد. والكلمة ليحفظها هي شَمَر. وهذا ملفت للنظر لأن في كتاب العدد ٣: ٨، استخدم موسى هذه الكلمات ليصف وظيفة الكهنة الذين خدموا في الهيكل. بكلمات أخرى، قام آدم وحواء بالعمل الكهنوتي في الجنة، وهذا يدلّ على أن الجنة هي قدس الله الأرضي.

بالإضافة إلى ذلك كان النهر والأشجار في هيكل حزقيال في الأيام الأخيرة في حزقيال ٤٧: ٧ تشبه إلى حد بعيد النهر في جنة عدن، بالإضافة إلى شجرة الحياة الموصوفة في التكوين ٢: ٩-١٠.

ويشير حزقيال ٢٨: ١٣-١٤ إلى جنة عدن كجبل الله، ويستخدمان اللغة نفسها التي استخدمها العالم القديم للإشارة إلى الجبال التي بُني على قممها هياكل.

وبعد أن كانت جنة عدن بمثابة قدسه الأرضي، أظهر الله حضوره الخاص في خيمة الاجتماع. ونقرأ عن ذلك في الخروج ٤٠: ٣٤-٣٨.

وبعد خيمة الاجتماع، بدأ الله يظهر حضوره الخاص في الهيكل، كما نقرأ في مقاطع مثل ١ ملوك ٨: ١٠-١١، و٢ أخبار ٧: ١-٣.

ويشرح العبرانيين ٨: ٥ أن الغاية الحقيقية من هذه الأقداس الأرضية هي أن تكون نسخاً عن بلاط الله السماوي، حيث حضوره المميز جلي دائماً. لكن في السماوات الجديدة والأرض الجديدة، لن يقتصر حضور الله على مساحة صغيرة مثل جنة أو مبنى منفرد. بل سيعلن الله حضوره المميّز في العالم بكامله.

استمع كيف يصف يوحنا مدينة أورشليم الجديدة في الرؤيا ٢١: ٢٢-٢٣:

وَلَمْ أَرَ فِيهَا هَيْكَلاً، لأَنَّ الرَّبَّ اللهَ الْقَادِرَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، هُوَ وَالْخَرُوفُ هَيْكَلُهَا. ‫وَالْمَدِينَةُ لاَ تَحْتَاجُ إِلَى الشَّمْسِ وَلاَ إِلَى الْقَمَرِ لِيُضِيئَا فِيهَا، لأَنَّ مَجْدَ اللهِ قَدْ أَنَارَهَا، وَالْخَرُوفُ سِرَاجُهَا.

يتطلع كتاب الرؤيا إلى زمن لا يكون هناك حاجة إلى هيكل في أورشليم الجديدة. وبدل ذلك سيُعلن الله حضوره الخاص في كل مكان. وهو سيبارك شعبه بسكناه بينهم، وتسير الأمم بنوره. وعندما يأتي ذلك الوقت، سيملأ مجد الله العالم تماماً كما تضيء الشمس اليوم في النهار.

وكما نقرأ في الرؤيا ٢١: ٣:

هُوَذَا مَسْكَنُ اللهِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعْباً، وَاللهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلهاً لَهُمْ.

في السماوات الجديدة والأرض الجديدة، سيكون حضور الله المميّز مع كل شعبه، في العالم أجمع.

إن تجديد العالم يؤدي إلى وجود هذا الهيكل الشامل من نتيجة عمل يسوع المسيح. في الرؤيا ١، سار يسوع بين المناير السبع في البلاط السماوي، وهو يرمز إلى حضور الله بين الكنائس. لكن عند رجوع يسوع، سوف يثبّت ملكه الخاص على كل الخليقة، بحيث يصبح العالم كله هيكل الله، وسيتجلى حضوره المميّز في كل مكان.

البركة الثالثة النهائية التي ذكرها يوحنا، هي أن الله سيثبّت حكم يسوع المسيح الأرضي الأبدي كملك.

 

3. الحكم الأبدي

يشير الرؤيا ٢١ و٢٢ إلى أن مركز الأرض الجديدة سيكون عاصمتها: أورشليم الجديدة. وفي وسط المدينة سيوجد عرش الله. ويرمز عرش الله إلى حُكمه كملك. وعند عودة يسوع سيتربع على عرش أورشليم الجديدة، ويَحكم العالم أجمع بالنيابة عن الآب.

ويُشير ١ أخبار الأيام ٢٩: ٢٣ إلى أن الملوك الذين من نسل داود اشتركوا في مجد الجلوس على العرش في أورشليم الأرضية. لكن الملك الداودي الأخير وحده، يسوع المسيح، سيتربع على عرش أورشليم الجديدة، ووحده ملكه أبدي. وكل المفديين سيحيون معه في الخليقة الجديدة، مقرّين بسلطانه وقدرته، ساجدين بطاعة أمام عرشه مقدّمين له الكرامة والمجد، وكما نقرأ في الرؤيا ٢٢: ٥ سيملكون معه في ملكه الأبدي.

مُلك المسيح في السماوات الجديدة والأرض الجديدة سيكون كاملاً تماماً. وهو سيوفّر كل ما يحتاجه شعبه. ولن يكون هناك أي خطية، أو فساد، أو مرض أو موت؛ لا شيء ينتقص من فرحنا. كل بركة من بركات عهد الله ستكون ملكنا إلى الأبد.

وكمؤمنين، يجب أن نتوق إلى المسيح ليملك في السماوات الجديدة والأرض الجديدة. ويجب أن نعيش في ولاء مخلص له الآن، حتى عندما نُجرّب ونُضطهد، عالمين أنه بعد أن نبقى أمناء، سنشترك في البركة الأعظم التي افتكر فيها الله لخليقته.

 


الخاتمة


راجعنا في هذا الدرس كتاب الرؤيا عن طريق تركيزنا على مواضيع المَلك وملكوته. كما فحصنا مفهوم الملكية، وبحثنا في الاحسان الملكي، وتأملنا بأهمية الولاء للملك، ووصفنا نتائج بركات الولاء، وعقاب عدم الولاء.

إن رجاء كل المسيحيين هو أنه في يوم من الأيام سيعود ملكنا. وهذا الرجاء يدفعنا على الثبات، والتغلب على كل المحن التي نختبرها في الحياة. وأيًا كانت المشقات التي نواجهها بسبب إيماننا، فهناك ما يكفي من الأسباب لنظهر ولائنا لله ومسيحه – لأننا نعلم أن كلمته حق. سيعود المسيح ثانية ليملك علينا ويكافئنا. وإلى أن يحدث ذلك، نثق بوعده لنا في خاتمة سفر الرؤيا: “نَعَمْ! أَنَا آتِي سَرِيعًا”. ويجب أن يكون جوابنا: “آمِينَ. تعال أيها الرب يسوع”.


تم النشر بإذن من خدمات الألفيّة الثالثة.

شارك مع أصدقائك