خطاة في قبضة إلهٍ غاضب

الثامن من يوليه، ١٧٤١ م.

“‎فِي وَقْتٍ تَزِلُّ أَقْدَامُهُمْ” (تثنية ٣٢: ٣٥).

في هذه الآية، تقع أعينُنا على تهديدٍ بنقمةٍ من الله على الأشرار غير المؤمنين من بني إسرائيل، أولئك الذين كانوا شعبَ الله المنظورَ، والذين نالوا وسائط النعمة؛ لكنهم، على الرغم من جميع أعمال الله العجيبة والمُذهِلة من نحوهم، ظلُّوا (كما نقرأ في العدد ٢٨) أُمة عديمة الرأي ولا بصيرة فيهم. وبالرغم من عناية السماء بجفنتهم، صنعوا ثمارًا مُرة وسامة؛ كما نقرأ في العددين السابقين للنص الكتابي. ويوحي التعبير الذي وقع عليه اختياري كنصٍّ للعظة، في وقتٍ تزلُّ أقدامهم، بالأفكار التالية، من جهة العقوبة والهلاك اللذين كان بنو إسرائيل الأشرار معرَّضين لهما.

١- أنهم عرضةٌ دائمًا للهلاك؛ كما أنَّ شخصًا يقف أو يسير في مواضع زلقة هو عرضةٌ دائمًا للسقوط. يُفهَم هذا ضمنًا من كيفية مجيء هلاكهم عليهم، إذ شُبِّه بزللِ أقدامهم. ويعبِّر مزمور ٧٣: ١٨ عن الفكرة عينها أيضًا، “حَقًّا فِي مَزَالِقَ جَعَلْتَهُمْ. أَسْقَطْتَهُمْ إِلَى الْبَوَارِ”.

٢- أنهم عرضةٌ دائمًا لهلاكٍ مباغتٍ غيرِ متوقَّع. كما أنَّ من يسير في مواضع زلقة هو عرضةٌ في كل لحظة للسقوط، وبالتالي لا يستطيع أن يتنبأ في أية لحظة إن كان في اللحظة التالية سيثبُت أم سيسقط. وحين يسقُط بالفعل، سيحدث هذا في الحال ودون سابق إنذار؛ الشيء ذاته الذي يعبِّر عنه مزمور ٧٣: ١٨، ١٩ “حَقًّا فِي مَزَالِقَ جَعَلْتَهُمْ. أَسْقَطْتَهُمْ إِلَى الْبَوَارِ. كَيْفَ صَارُوا لِلْخَرَابِ بَغْتَةً!”

٣- الشيء الآخر الذي يوحي به النص هو أنهم عُرضةٌ للسقوط من تلقاء أنفسهم، دون أن تُلقِي بهم يدُ شخص آخر؛ كما أنَّ من يقف أو يسير فوق موضع زلق لا يحتاج سوى إلى ثقل وزن جسده كي ينطرِح إلى أسفل.

٤- إن كانوا لم يسقُطوا بعد حتى الآن، أو إن كانوا لا يسقطون في هذه اللحظة عينها، فهذا فقط لأنَّ الوقت المعيَّن من قِبَل الله لم يحِن بعد. إذ مكتوبٌ، في وقتٍ، أي متى يحين الوقت المعيَّن، تزلُّ أقدامهم حتمًا. حينئذ سيُفلَتون ليسقُطوا، إذ يُحدِرهم ثقل جسدهم. لن يُمسِك الله بهم بعد في هذه المواضع الزلقة، بل سيفلتهم؛ وحينئذ، في تلك اللحظة عينها، سيسقُطون إلى الهلاك؛ كما يعجز من يقف على أرض زلقة وشديدة الانحدار، على حافة جب، عن الوقوف من تلقاء نفسه. وحين يتم إفلاته، يسقُط في الحال وينتهي أمره.

إليكم الملاحظة التي يمكن أن نستخلصها من هذه الكلمات، والتي سأصرُّ الآن عليها: “لا شيء يُبقي الأشرار في أية لحظة من الزمن خارج الجحيم، غير مسرة الله المجرَّدة (mere pleasure of God)”. وأقصد بمسرة الله المجرَّدة مسرَّته السيادية (sovereign pleasure)، ومشيئته العليا المطلَقة (arbitrary will)، غير المقيَّدة بأيِّ إلزام، ودون أن تعترضها أية صعوبات كانت. وبالتالي، لا يساهم شيء آخر على الإطلاق، بأدنى درجة، أو بأية صورة من الصور، في حفظ الأشرار للحظة واحدة، غير مشيئة الله المجرَّدة. تتضح صحة هذه الملاحظة عن طريق الأفكار التالية:

١- لا تعوِز الله القوة كي يطرَح الأشرار في الجحيم في أية لحظة:

فحين يقوم الله، لا يمكن لذراع البشر أن تعتزَّ. فإن أقوى إنسان على الإطلاق تخونُه القوة لمقاومته، وليس من ينجِّي من يده. وهو ليس قادرًا فحسب على طرح الأشرار في الجحيم آه، بل هو يستطيع فعل هذا بكلِّ سهولة. أحيانًا يلاقي الحكام الأرضيون صعوبة شديدة لإخضاع متمرد، استطاع إيجاد وسائل يحصِّن بها نفسه، وجَعل نفسه منيعًا بكثرة تابعيه. لكن ليس الأمر كذلك مع الله. لا يوجد حصنٌ مهما كان يحمِي من قوة الله. ومهما تكتَّلت الأيادي والقوى معًا، وتضافرت أعداد غفيرة من أعداء الله معًا، فهم يبدَّدون ويقطَعون إلى أشلاءٍ. وفي هذا يُشبِهون أكوامًا ضخمة من العصافة أمام الزوبعة، أو كمياتٍ ضخمة من القش اليابس أمام ألسنة لهب ملتهِمة. وكما لا نجد أية صعوبة في أن نسحق دودة زاحفة، أو نقطع ونحرق خيطًا نحيلًا عُلِّق عليه شيءٌ، هكذا أيضًا لا تصادف الله أية صعوبة، متى شاء، أن يُلقِي بأعدائه في الجحيم. من نحن حتى يخيَّل إلينا أن نقف أمامه، ذاك الذي ترتعد الأرض من زجرته، وأمامه تنهدم الصخور وتتفتت؟

٢- هم يستحقون أن يُطرَحوا في الجحيم. فإن العدل الإلهي لا يعترض البتة سبيل الله، ولا يُبدي أدنى اعتراض على استخدامه قوته في أية لحظة لإهلاكهم. بل على النقيض، يصرُخ العدل بأعلى صوته مطالبًا بعقوبة غير محدودة عن خطاياهم. يقول العدل الإلهي عن تلك الجفنة التي أنبتت عنب سدوم: “‎اِقْطَعْهَا! لِمَاذَا تُبَطِّلُ الأَرْضَ أَيْضًا؟” (لوقا ١٣: ٧). هوذا سيف العدالة يلوَّح به كل لحظة فوق رؤوس هؤلاء، ولا يحول دون ذلك سوى يد الرحمة العليا والمطلَقة، ومشيئة الله المجرَّدة.

٣- هم من الآن محكومٌ عليهم بالفعل بالذهاب إلى الجحيم. لا يتوقف الأمر عند استحقاقهم أن يُطرَحوا فيه بعدلٍ، بل قد صدر ضدهم حُكم ناموس الله — أي قانون البِرِّ السرمدي غير المتغير، الذي وضعه الله وثبَّته مع الجنس البشري — حكمًا نهائيًا، مدينًا إياهم؛ وبموجَب هذا الحكم، صار الجحيم مصيرهم الحتميَّ من الآن؛ “الَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ” (يوحنا ٣: ١٨). وبالتالي، ينتمي كل إنسانٍ غير مؤمن حقًا إلى الجحيم. هذا مكانه، وهو من هناك، “أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ” (يوحنا ٨: ٢٣). وإلى هناك هو ذاهبٌ حتمًا. هذا هو الموضع الذي عيَّنه له عدل الله، وكلمته، وحُكم ناموسه غير المتغير.

٤- هم الآن موضوع السَّخط والغضب الإلهي عينه المستعلَن بالفعل في عذابات الجحيم. ولا يُعزَى عدم انحدارهم إلى الجحيم في أية لحظة إلى كون الله، الذي هم ممسوكون في قبضة يده وتحت سلطانه، أقل غضبًا عليهم آنذاك مما هو على الكثير من المخلوقات البائسة الشقيَّة التي تتعذب الآن بالفعل في الجحيم، مقاسية ومتجرِّعة كأسَ سخطه. آه، حقًا إن غضب الله على أعداد غفيرة ممن لا يزالون أحياءً الآن على الأرض آه، بل ودون شك أيضًا على كثيرين ممَّن يجلسون الآن في هذه الكنيسة، الذين ربما هم مستريحون ومطمئنون — أكثر وأشد من غضبه على كثيرين ممن يحترقون الآن بالفعل في لهيب الجحيم.

وهكذا، لا يُرخي الله يدَه الممسكة بهؤلاء ليهلِكهم الآن، لا لأنه غافل عن شرهم، أو لا يمتعض منه؛ فإنه ليس مثلهم [المترجم: “هذِهِ صَنَعْتَ وَسَكَتُّ. ظَنَنْتَ أَنِّي مِثْلُكَ” (مزمور ٥٠: ٢١)]، مع أنهم قد يتصوَّرون غير ذلك. بل إن غضبه مستعرٌ ضدهم، وهلاكَهم لا ينعَس [المترجم: ٢ بطرس ٢: ٣]. فإن الجبَّ مهيَّأ، والنيران معَدة، والأتون الآن محمَّى، متأهبًا لاستقبالهم، وألسنة اللهب تتأجج وتتوهج. فإن السيفَ البارق مسنَّن، يلوَّح به فوق رقابهم، وقد فتحت الهاوية فاها من تحتهم.

٥- يقف إبليس على أهُبة الاستعداد للانقضاض عليهم، ليقتنصهم لنفسه، في اللحظة نفسها التي يسمح الله له فيها بهذا. فهم ينتمون إليه، ونفوسهم هي مقتناه، خاضعة لهيمنته. ويصوِّرهم الكتاب المقدس بأنهم أمواله “goods”، لوقا ١١: ٢١. وهكذا، فإنَّ الشياطين يراقبونهم، جائلين دائمًا بجوارهم وعن يمينهم، يقفون متحفزين، كأسود نهمة جائعة تُبصر فريستها، وتتحيَّن الفرصة كي تطبِق فمها عليها. لكنهم في الوقت الحالي مكبوحون. لكن إن رفع الله يده، التي تقيِّدهم وتكبحهم، فإنهم في لحظة سيَنقَضّون على نفوسهم المسكينة. فإن الحية القديمة فاغرة فاها، والجحيم قد فتح فوهته واسعة لاستقبالهم. وإن أذِن الله، سرعان ما سيُبتلَعون ويهلَكون.

٦- داخل نفوس الأشرار، تحكُم بذارٌ جهنمية شريرة (hellish principles)، يمكن في الوقت الحالي أن تُضرَم وتشتعل لتتحوَّل إلى نيران الجحيم، لولا مكابح الله وقيوده. فداخل طبيعة البشر الجسدانيين يقبع أساسٌ لعذابات الجحيم. توجد تلك البذار الفاسدة، التي تُمسِك بزمام حياتهم، وتستحوذ عليهم تمامًا، هي بذار نيران الجحيم. هذه البذار نشطة، وقويَّة، وعنيفة بإفراط؛ ولولا يد الله الكابحة المستقرة فوقها، لاندفعت سريعًا، واشتعلت، كما تشتعل المفاسد والعداوة نفسها الآن داخل قلوب النفوس المدانة، ولولَّدت العذابات نفسها التي تولِّدها فيهم الآن. فقد شُبِّهت نفوس الأشرار في الكتاب المقدس بالبحر المضطرب (إشعياء ٥٧: ٢٠). وهكذا، يكبح الله في الوقت الحالي شرَّ هؤلاء بقوة قدرته، كما يفعل مع اللجج الغاضبة الهائجة للبحر المضطرب، قائلًا لها: “إلى هنا تأتي ولا تتعدَّى”؛ لكن إن رفع تلك القوة الكابحة، سرعان ما سيجرِف هذا الشر كل ما يقف أمامها. فإن الخطية هي خراب النفس وشقاؤها، وهي مدمِّرة ومخرِّبة بطبيعتها؛ ولو تركها الله دون كابح، لما وجدت ما يمنعها عن أن تصيِّر النفس في تمام البؤس والشقاء. فإن فساد قلب الإنسان جامحٌ ولا حدَّ له في ضراوته؛ وبينما يحيا الأشرار هنا، تبدو النيران وكأنَّها مكظومة بمكابح الله، بينما لو أُطلِق لها العنان، لأضرمت النار في دائرة الكون. وإذ أن القلبَ الآن مستنقعٌ من الخطية، فلو لم تُكبَح هذه الخطية، لصيرت النفس في الحال تنورًا متَّقدًا، أو أتونَ كبريت ونار.

٧- ليس غياب علاماتٍ واضحة لاقتراب الموت من الأشرار مَدعاة لاطمئنانهم للحظة واحدة. فإن الإنسان الطبيعي ليس في مأمنٍ، ولو كان يتمتع الآن بصحة جيدة، أو لا يرى ما قد يعجِّل بخروجه من العالم فجأة من جراء حادثٍ، أو لا يرى أي خطرٍ ظاهرٍ مُحدق به بأي شكل من الأشكال في ظروفه. تؤكِّد خبرات البشر المتنوعة والمستمرة في كل العصور على أنَّ هذا ليس دليلًا يمكن أن نعتدَّ به لإثبات أن إنسانًا ما ليس على حافة الأبدية، أو أن خطوته التالية لن تؤدِّي به إلى عالم آخر. فإن الطرق والوسائل غير المنظورة وغير المتوقَّعة لخروج البشر بصورة مباغتة من العالم لا حصرَ لها وتفوق الإدراك. يسيرُ غير المؤمنين فوق فوهة الجحيم على غطاءٍ بالٍ، وفي هذا الغطاء مواضعٌ هشة لا حصرَ لها لن تتمكن من حَمِل ثقل جسدهم، كما أنَّها خفية. فإن سهامَ الموت تتطاير في وقت الظهيرة دون أن تلحظها عينٌ، بل ولا يستطيع أحدُّ بصرٍ تمييزها. لدى الله كثرةٌ من الطرق المختلفة البعيدة عن الفحص يُخرِج بها الأشرار من العالم مرسلًا إياهم إلى الجحيم، حتى أن لا شيء يجعله في حاجة إلى معجزة، أو إلى الخروج عن المسار الطبيعي المألوف لعنايته وتدابيره كي يُهلك أي شرير، في أية لحظة. جميع الوسائل ممسوكة في قبضة يد الله تمامًا، خاضعة على نحوٍ تام ومطلَق لقوَّته وقضائه. وسواء استخدمها الله لطرح الخطاة في أية لحظة في الجحيم، أو لم يستخدمها على الإطلاق، أو حتى إن لم تكن معنيَّة في الأمر على الإطلاق، فهذا كله يتوقف بالتساوي على مشيئة الله المجرَّدة.

٨- إن حَذَر الإنسان الطبيعي وحرصه للحفاظ على حياته أو حرص الآخرين على ذلك لا يجعله في مأمن ولو للحظة واحدة. على هذا أيضًا تشهد العناية الإلهية والخبرات العامة للبشر. إليكم هذا البرهان الجليِّ على أن حكمة البشر لا تحصِّنهم من الموت: لو كان الأمر غير ذلك، لرأينا بعض الاختلاف بين الحكماء ورجال السياسة في هذا العالم، وآخرين، من جهة كونهم عرضة لموت مبكِّرٍ ومباغتٍ: لكن تُرى كيف يكون الأمر حقًا؟ “وَكَيْفَ يَمُوتُ الْحَكِيمُ كَالْجَاهِلِ!” (جامعة ٢: ١٦).

٩- جميع الجهود التي يبذُلها الأشرار، وتدابيرهم للإفلات من الجحيم، بينما هم مستمرِّون في رفضهم للمسيح، ظالين بالتالي أشرارًا، لا تحفظهم من الجحيم للحظة واحدة. فإن كل إنسان طبيعي يسمع عن الجحيم يُداهن نفسه بأنه سيُفلت منه. فهو يتَّكل على ذاته من جهة أمانه، ويداهن نفسه بما فعله في الماضي، أو يفعله الآن، أو ينتوي فعله. الكلُّ يخططون لتجنُّب اللَّعنة والدينونة، ويداهنون أنفسهم ببراعة تدابيرهم لتأمين أنفسهم، وبأن مخططاتهم لن تبوءَ بالفشل. نعم، يسمع هؤلاء بأن قليلين فقط هم مَن يخلُصون، وأنَّ الغالبية العظمى من البشر الذين ماتوا حتى اليوم قد ذهبوا إلى الجحيم، لكن يتصوَّر كلُّ واحد أنه قد رتَّب أموره للإفلات منه أفضل مما فعلَ الآخرون. فهو لا ينتوي الذهاب إلى موضع العذاب هذا، ويقول في نفسه إنه عازمٌ على أن يحتاط جيدًا، وأن يدير الأحداث لصالحه حتى لا يُخفِق.

لكن أبناءَ البشر الحمقى والجهال هؤلاء يَخدَعون أنفسهم على نحو بائس بمخططاتهم ومؤامراتهم، وبثقتهم في قوتهم وحكمتهم، لكنهم لا يستندون سوى على ظلالٍ. فإن غالبية مَن عاشوا حتى اليوم في وسائط ومعاملات النعمة عينها، وهم الآن أموات، قد مضوا دون شك إلى الجحيم. لم يكن هذا لأنهم كانوا أقل حكمة ممَّن هم أحياء الآن، ولا لأنهم لم يخططوا كي يضمنوا إفلاتهم بقدر جودة تخطيط هؤلاء. فإن تيسَّر لنا أن نتحدَّث معهم، لنسألهم، واحدًا فواحدًا، إن كانوا توقَّعوا، بينما كانوا أحياء، وبينما اعتادوا أن يسمعوا عن الجحيم، أن يجدوا أنفسهم يومًا في هذا الشقاء، فإننا بلا شك سنسمع الواحد تلو الآخر يجيبون: “لا، لم أنتوِ قط المجيء إلى هنا، فقد وضعت خُططًا بخلاف ذلك؛ وظننتُ أنني لا بد أن أضع تدابير محكَمة، وظننتُ أن مخططاتي جيدة. فقد انتويت أن أحتاط جيدًا، لكن الأمر باغتني دون أن أتوقع. لم أكن أتوقع أن يأتيني في ذلك الوقت وبهذه الطريقة. قد جاءني الموت كلص، واحتال عليَّ، وعاجلني غضب الله، وفاق توقعاتي. آه! يا لحماقتي الملعونة! كنت أداهن نفسي، وأُرضيها بأحلام باطلة بشأن المستقبل، وبينما كنت أقول “سلام وأمان”، فاجأني هلاك بغتة”.

١٠- لم يضع الله نفسَه تحت أي إلزام، بأيِّ وعد، أن يحفظ أيَّ إنسان طبيعي خارج الجحيم لحظة واحدة. فالله قطعًا لم يقطع أية وعود سواء بالحياة الأبدية، أو بأية نجاة أو حفظ من الموت الأبدي، عدا تلك الوعود المتضمَّنة في عهد النعمة، تلك تُعطى في المسيح، الذي فيه جميع المواعيد نعم وآمين. لكن قطعًا لا يُبدي من هم ليسوا أبناء العهد، ومن لا يؤمنون بأيٍّ من مواعيده، ولا يكترثون بوسيطه، أدنى اهتمام بمواعيد عهد النعمة.

وهكذا، بغض النظر عما تصوَّره البعض وزعموه بشأن وعودٍ مقطوعة لإنسان طبيعي يسعى سعيًا جادًا ويقرع، يبدو واضحًا وجليًّا أنه مهما كانت الجهود التي يبذلها الإنسان الطبيعي في تديُّنه، وفي الصلوات التي يرددها، إلى أن يؤمن بالمسيح، لا يقع الله تحت أي إلزام من أي نوع بأن يحفظه لحظة واحدة من الهلاك الأبدي.

هكذا إذن، مُجمل الأمر هو أن البشر الطبيعيين ممسوكين في قبضة الله، فوق فوهة الجحيم؛ فقد استحقوا الجبَّ المتَّقد، وهم ذاهبون إلى هناك لا محالة، بحكمٍ قد صدر عليهم بالفعل. والله مستثار وساخط على نحو مروِّع، وغضبه عليهم يتساوى في شدته مع غضبه على مَن يقاسون الآن بالفعل أحكام سخطه في الجحيم. وهم لم يعملوا أدنى شيء يسكِّنون أو يخفِّفون به ذلك الغضب، كما أن الله غير ملزَمٍ على الإطلاق بأي وعد بأن يظل ممسِكًا بهم للحظة واحدة. فإن إبليس ينتظرهم، والجحيم فاغرٌ فاه لهم، وألسنة اللهب محتشِدة تتوهج من حولهم، وسرعان ما ستَنشَب فيهم، وتلتهمهم؛ والنيران المكظومة في قلوبهم تصارع لتندفع إلى الخارج. وهم غير مكترثين بأي وسيط، ولا سُبل في متناول أيديهم يمكن أن تحميهم وتؤمِّنهم. باختصار، لا ملاذَ لهؤلاء، ولا شيء يمكن أن يتشبَّثوا به، بل إن كلَّ ما يحفظهم في كل لحظة هي المشيئة المجرَّدة العليا، والأناة غير الملزَمة بعهد وغير الخاضعة لإجبارٍ uncovenanted & unobliged forbearance، لإله ساخط ومستعر غضبًا.

التطبيق:

ربما يُجدي هذا الموضوع المهيب نفعًا بأن يوقِظ وينبِّه غير المؤمنين الجالسين في هذه الكنيسة. فإن ما سمعتموه الآن هو حال كل مَن لا يزال خارج دائرة المسيح. فإن عالم البؤس والشقاء هذا، وتلك البحيرة المتقدة بنار وكبريت، ممتدة من تحتك في مساحة شاسعة. هوذا جبٌّ مروعٌ من نيران غضب الله المتوهِّجة؛ وهوذا الجحيم فاغر فاه؛ وليس ما تقف عليه، ولا ما تتشبث به؛ لا شيء يحول بينك وبين الجحيم سوى الفضاء؛ وحدها قوة الله ومسرته السيادية هي ما تمسك بك.

ربما لستَ تشعر بهذا؛ فإنك تجد نفسك الآن خارج الجحيم، لكنك لا ترى يدَ الله في هذا الأمر؛ بل في المقابل تتطلَّع إلى أشياء أخرى، كقوة بنيتك الجسمانية، واهتمامك بنفسك وصحتك، والوسائل التي تصون بها نفسك. لكن حقًا هذه كلها خواءٌ. فإن رفع الله يده، لن تجدي أيٌّ من هذه نفعًا من جهة حفظك من السقوط، كما أنَّ الفضاء لا يجدي نفعًا من جهة الإمساك بشخص معلَّق فيه.

إن شرَّك يجعلك ثقيلًا كالرصاص، ويُجبرك على الانحدار إلى أسفل بقوة دفع وضغطٍ شديد صوب الجحيم. وإن أفلتك الله، ستهبط في الحال، في سرعة خاطفة، لتغوص في الهوة التي لا قرار لها؛ وحينئذ لن يكون لبدنك السليم، ولا لعنايتك وحرصك، ولا لأفضل تدابيرك، ولا لكلِّ أعمال برك، أي تأثير أو فائدة في الإمساك بك وإبقائك خارج الجحيم، كما لا يستطيع بيت العنكبوت منعَ سقوط صخرة. ولولا مسرة الله السيادية، ما كانت الأرض لتحتملك لحظة واحدة، لأنك عبءٌ عليها. فإن الخليقة تئنُّ معك، وقد أُخضِعت لعبودية فسادك، لَيْسَ طَوْعًا. فإن الشمس لا تسطع فوقك طوعًا كي تهبك نورًا تخدم به الخطية وإبليس؛ والأرض لا تعطيك غلتها طوعًا كي تُشبع بها شهواتك؛ كما أنَّها لا تشكل طوعًا مسرحًا يؤدي شرُّك دورَه عليه؛ والهواء لا يعطيك طوعًا أنفاسًا تحافظ على شعلة الحياة في أعضائك الحيوية، بينما تصرف حياتك في خدمة أعداء الله. فإن خلائق الله حسنة، وقد خُلقت ليخدم بها البشر الله، وهي لا تخدم طوعًا أيَّ غرض آخر، بل تئن حين يساء استعمالها لأغراض تعارض طبيعتها وغايتها بصورة مباشرة. ولولا اليد السيادية لمن أخضع العالم على الرَّجاء، لتقيأك ولفظك هذا العالم. فإن الغيوم القاتمة لغضب الله تتجمَّع الآن فوق رؤوسكم، زاخرة بالعواصف المروِّعة، ومكتظة بالرعود؛ ولولا يد الله الكابحة، لانفجرت في الحال. ففي الوقت الحالي، تكبح مسرة الله السيادية رياح غضبه العاتية، وإلا لهَجمت عليكم في ضراوة، ولفاجأكم هلاككم كزوبعة، ولصرتم كعُصافة البيدرِ في الصيف.

يُشبه غضبُ الله مياهًا عظيمة مضبوطة في الوقت الحاضر وراء سدٍّ؛ وهي تزداد علوًّا وارتفاعًا يومًا بعد يومٍ، إلى أن يتاح لها منفذٌ؛ وكلما طال وقتُ حجز التيار، زادت سرعته وجبروته، متى أُطلِق العنان له. ربما حقًا لم ينفَّد حكم الدينونة على أعمالكم الشريرة إلى اليوم، لكنَّ طوفان نقمة الله مكتوم، وذنبك في هذه الأثناء يكوَّم ويزداد، وفي كل يومٍ تذخر لنفسك المزيد من الغضب. فإن المياه آخذة في الارتفاع، مستفحلة أكثر فأكثر في قوتها. فلا شيء يمنع المياه، التي لا ترغب في أن تظل حبيسة، وتضغط بقوة كي تفيض، سوى مسرة الله المجرَّدة. فقط إن رفع الله يده عن فتحة السد، على الفور ستنفتح في عنف، وتندفع الفيضانات العارمة النارية لسخط الله وغضبه، في هياجٍ لا يمكن تصوُّره، وستنقض عليك في قدرة كلية. ولو بلغتَ عشرة أضعاف قوتك الحالية، بل وعشرة أضعاف قوة أكثر شياطين الجحيم قوة وثباتًا، فلن ينفعك هذا بشيء في الصمود أمامها أو تحمُّلها.

فإن قوس غضب الله قد شُدَّ، والسهمَ مثبَّتٌ على الوتر، والعدل يوجِّهه صوب قلبك، ويشد القوس، وليس ما يمنع للحظة واحدة أن يشرب هذا السهم من دمائك حتى الثمالة سوى مسرة الله المجرَّدة، مسرة إله غاضبٍ، غير خاضعٍ لأي وعد أو إلزام. وهكذا، يوجد الجميع – مَن لم يخضعوا قط لتغيير جذري في قلوبهم، بالقوة الشديدة التي يمارسها روح الله على نفوسهم؛ أي جميع من لم يولدوا ثانية، ويصيروا خليقة جديدة، ويقوموا ثانية من موتهم في خطاياهم وذنوبهم، إلى خليقة جديدة، ومن لم يختبروا أيَّ نور أو حياة – في قبضة إله غاضبٍ. مهما كان ما فعلتُموه كي تصلِحوا من حياتكم من نواحٍ كثيرة، ومهما كان ما لديكم من ميول وعواطف دينية، ومهما حافظتم على صورة التقوى في عائلاتكم وفي مخادعكم وفي بيت الله، لا شيء يحفظكم من أن تُبتلَعوا في هذه اللحظة في هلاك أبدي سوى مسرة الله المجرَّدة. ربما لستم مقتنعين اليوم بهذا الحق الذي تسمعونه، لكنكم قريبًا ستصبحون على قناعة تامة به. هذا هو ما حدث مع من كانوا في مثلِ ظروفكم هذه وقد رحلوا الآن عن عالمنا؛ فقد فاجأهم الهلاك بغتة، على حين غرة، بينما كانوا يقولون سلام وأمان. الآن صاروا يعلَمون أن تلك الأشياء التي اتَّكلوا عليها لأجل سلامهم وأمانهم لم تكن سوى فضاء وظلالًا باطلة.

إن الإله الممسِك بك فوق فوهة الجحيم — كما يُمسك المرء بعنكبوت، أو بحشرة بغيضة فوق النيران — يمقُتك ويرذلك، وهو مستثارٌ ومستشيطٌ على نحو مروِّع. فإن غضبه يتَّقد كالنيران، وهو يرى أنك لا تستحق سوى أن تُطرَح في النار. فإن عينيه أطهر من أن يحتمل وقوفك أمامه، فإنك مقيتٌ ومرذولٌ في عينيه أكثر بعشرة آلاف ضعف مما نشعر به تجاه الأفاعي السامة والبغيضة. فقد أهنتَه وأذنبتَ إليه ذنبًا غير محدود يفوق كثيرًا إهانة متمرد عنيد لحاكمِ دولته. ومع ذلك، لا شيء يمنع سقوطك في كل لحظة في النيران سوى يده. لا يُعزَى عدم ذهابك إلى الجحيم بالأمس، والسماح لك بأن تفتح عينيك ثانية في هذا العالم، بعد أن أغلقتهما واستسلمت للنوم، إلى شيء غير هذا. ولا سبب آخر يمكن أن يقدَّم لعدم سقوطك في الجحيم منذ أن استيقظت في هذا الصباح سوى أن يد الله قد أمسكت بك لئلا تسقط. لا يُعزَى عدم ذهابك إلى الجحيم، منذ جلستَ هنا في بيت الله، مغيظًا ومستثيرًا عينيه الطاهرتين بالطريقة الآثمة والشريرة التي تمارس بها عبادته المهيبة لأي سبب آخر. نعم، لا يوجد سبب آخر غير هذا يُعزَى إليه عدم سقوطك في هذه اللحظة عينها إلى الجحيم.

آه أيها الخاطئ! فكِّر مليًّا في الخطر المروع الذي يتهددك: فإنك معلَّق فوق أتونٍ عظيمٍ من الغضب، تتدلَّى فوق جبٍّ واسع لا قرار له، ملآنٍ بنيران الغضب، في قبضة ذلك الإله المتهيج والمستعر غضبًا من نحوك كما من نحو كثيرين من المدانين الآن بالفعل في الجحيم. فإنك معلَّق في خيطٍ نحيلٍ، تتوهج من حوله نيران الغضب الإلهي، متأهبة في كل لحظة لإشاطته، وإحراقه إلى رماد، ولست مكترثًا أدنى اكتراث بأيِّ وسيط، ولا شيء تتشبث به كي تنجِّي نفسك، ولا شيء يُبعِد نيران الغضب أو يكظمها؛ لا شيء فيك أو منك، ولا شيء يمكن أن تكون قد فعلتَه يومًا، أو تستطيع أن تفعله، يدفع الله إلى أن يبقي على حياتك للحظة واحدة. تأمَّل معي فيما يلي على وجه الخصوص:

١- غضبُ مَن هذا؟ هو غضب الإله الغير محدود. لو كان هذا مجرد غضب إنسان، وإن كان أقوى الملوك على الإطلاق، لما اعتُدَّ به إذا ما قورن بغضب الله. فإن غضب الملوك مخيفٌ، ولا سيما أولئك الطغاة القساة، الذين في يدهم وتحتَ سلطانهم التام مقتنيات رعاياهم وحيواتهم، تحت تصرفهم، خاضعة لمشيئتهم المجردة. “‎رُعْبُ الْمَلِكِ كَزَمْجَرَةِ الأَسَدِ. الَّذِي يُغِيظُهُ يُخْطِئُ إِلَى نَفْسِهِ” (أمثال ٢٠: ٢). فإن المواطن الذي يثير بشدة سخط ملكٍ متعسف وطاغية معرَّضٌ أن يقاسي العذاب ألوانًا، أشدَّ عذاب يمكن لعقل الإنسان أن يبتكره، أو لقوة البشرية أن تُلحقه. لكن أعظم ملوك الأرض بما لهم من جلال وقوة، متسربلين بأشد الأهوال، هم مجرد ديدان واهنة وحقيرة أمام الخالق العظيم القدير، وملك السماوات والأرض. فهم، في أشد سخطهم وهياجهم، وبعد أن يكونوا قد استنزفوا أقصى حنق لديهم، لا يستطيعون أن يفعلوا سوى القليل. جميع ملوك الأرض هم كالجندب أمام الله؛ كلا شيء، بل كالعدم وأقل من لا شيء. فإن محبتهم وبغضتهم هما على حد سواء مثار ازدراء. أما غضب ملك الملوك العظيم فهو أكثر هولًا وبشاعة، بقدر كون جلاله أعظم كثيرًا. “‎وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ يَا أَحِبَّائِي: لاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ، وَبَعْدَ ذلِكَ لَيْسَ لَهُمْ مَا يَفْعَلُونَ أَكْثَرَ. بَلْ أُرِيكُمْ مِمَّنْ تَخَافُونَ: خَافُوا مِنَ الَّذِي بَعْدَمَا يَقْتُلُ، لَهُ سُلْطَانٌ أَنْ يُلْقِيَ فِي جَهَنَّمَ. نَعَمْ، أَقُولُ لَكُمْ: مِنْ هذَا خَافُوا!” (لوقا ١٢: ٤، ٥).

2- أنتم معرَّضون لحموِّ غضبه [سخطه]. نقرأ كثيرًا عن سخط (fury) الله، في إشعياء ٥٩: ١٨ “‎حَسَبَ الأَعْمَالِ هكَذَا يُجَازِي مُبْغِضِيهِ سَخَطًا (fury)”، وأيضًا في إشعياء ٦٦: ١٥ “‎لأَنَّهُ هُوَذَا الرَّبُّ بِالنَّارِ يَأْتِي، وَمَرْكَبَاتُهُ كَزَوْبَعَةٍ لِيَرُدَّ بِحُمُوٍّ (fury) ‎غَضَبَهُ، وَزَجْرَهُ بِلَهِيبِ نَارٍ”، وفي الكثير من المواضع الأخرى أيضًا. كما نقرأ في رؤيا يوحنا ١٩: ١٥ عن “‎مَعْصَرَةَ خَمْرِ سَخَطِ وَغَضَبِ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ”. هذه الكلمات مروِّعة بما يفوق الحد. لو قيل فقط “غضب الله”، لدلَّت الكلمات على شيء مروع ومخيف على نحو غير محدود، لكن قد قيل: “سخط وغضبِ الله [بحسب الترجمة الإنجليزية: “حمو (fierceness) غضب الله”]. سخط الله! حمو غضب يهوه! كَم يبدو هذا مروِّعًا! من يستطيع أن يشرَح أو يدرِك ما تحمله هذه التعبيرات من معنى! لكن ليس هذا فحسب، بل هو أيضًا “سخط وغضب الله القادر على كل شيء“. وكأن قدرة الله الكلية ستتجلَّى وتُستعلَن بقوة استثنائية فيما سيُلحقه سخطه وغضبه؛ وكأن القدرة الكلية ستستشيط، وتهتاج، وتمارَس، مثلما اعتاد البشر أن يُطلِقوا العنان لممارسة قوتهم في سخطهم وغضبهم الشديد. آه! أية عاقبة ستنتُج عن هذا! ماذا قد يحل بالديدان المسكينة التي ستقاسي هذا السخط! من ستتشدَّد سواعده؟ وأيَّ قلبٍ سيحتمل؟ إلى أيِّ عمق مروع، لا يُنطَق به، ولا يمكن إدراكه، من الشقاء والبؤس ستغوص فيه هذه المخلوقات المسكينة التي ستقاسيه!

فكِّروا معي في هذا، أنتم يا من تجلسون أمامي الآن، ولم تتجدَّدوا بعد. يدلِّل كون الله سيمارس حمو غضبه وسخطه على أنه سيُلحِق الغضب دون أدنى شفقة. فحين يبصر الله ما وصل إليه حالك من تفاقُم وخطورة لا توصف، وحين يرى عدم التكافؤ التام بين قوتك وعذابك، ويرى كم سُحقت نفسك المسكينة، وكم تغوص في الأعماق، إلى ظلام وقتام لا نهائي، لن يرقَّ لحالك أبدًا، ولن يكفَّ عن تنفيذ أحكام غضبه، بل ولن يخفِّف يده عنك. لن تجد لينًا ولا رحمة، ولن يكفَّ الله حينئذ رياحه العاتية عنك على الإطلاق. لن يضع اعتبارًا لخيرك وصالحك، ولن يتوخَّى الحذر لئلا تقاسي ألمًا زائدًا عن الحد من أية ناحية، فقط سيحرص على ألا تقاسي ألمًا يفوق مطالب العدالة الصارمة. لن يُكبَح عنك شيء في مراعاة لقوة تحمُّلك. “‎فَأَنَا أَيْضًا أُعَامِلُ بِالْغَضَبِ، لاَ تُشْفُقُ عَيْنِي وَلاَ أَعْفُو. وَإِنْ صَرَخُوا فِي أُذُنَيَّ بِصَوْتٍ عَال لاَ أَسْمَعُهُمْ” (حزقيال ٨: ١٨). يقف الله الآن على أهبة الاستعداد كي يشفق عليك. هوذا اليومَ يومُ رحمة، بإمكانك الآن أن تصرُخ ولك ما يشجعك، أنك ستنال رحمة. لكن حين يكون يوم الرحمة قد ولَّى ومضى، فإن صرخاتك المريرة والمكروبة، وصيحاتك، ستكون بلا جدوى. ستكون قد هلكتَ تمامًا، مطروحًا عن وجه الله، دون أدنى اعتبار لخيرك أو صالحك. لن يكون لك أيُّ نفع لدى الله، سوى بأن تقاسي الشقاء والبؤس. ولن تُصبِح لحياتك غايةٌ أخرى، بل ستصير إناءَ غضب مهيَّأ للهلاك، إناءٍ غير نافع سوى لأن يمتلئ عن آخره بالغضب. لن يخطر على بال الله على الإطلاق أن يشفق عليك حين تصرخ إليه، حتى أنه مكتوبٌ إنه “سيضحك ويشمت” (أمثال ١: ٢٥، ٢٦).

ما أرهب وأفظع تلك الكلمات التي نطق بها الإله العظيم في إشعياء ٦٣: ٣ “‎فَدُسْتُهُم بِغَضَبِي، وَوَطِئْتُهُمْ بِغَيْظِي. فَرُشَّ عَصِيرُهُمْ عَلَى ثِيَابِي، فَلَطَخْتُ كُلَّ مَلاَبِسِي”. ربما يستحيل علينا أن نتصور أنه توجد كلمات أكثر من هذه تحمل في طياتها مظاهر لهذه الأشياء الثلاثة جميعها: الازدراء، والبغضة، وحمو السخط. فإنك إن صرختَ إلى الله كي يشفق عليك، سيكون أبعد ما يكون عن أن يرقَّ لحالك في بؤسك هذا، أو يبدي من نحوك أدنى اكتراث أو تعاطفٍ، بل في المقابل، سيدوسك بقدميه. ومع أنه عالمٌ أنك لا تقوَى على تحمُّل ثقل القدرة الكلية التي تخطو فوقك، لن يعمل حسابًا لهذا، بل سيسحقك تحت قدميه دون رحمة، ناثرًا دماءك، جاعلًا إياها تتطاير، وتُرش على ثيابه، ملطِّخة كل ملابسه. فهو لن يكتفي بأن يبغضك، بل سيزدري بك أشدَّ ازدراء، وحينئذ لن يجد موضعًا يليق بك أفضل من أن توضع تحت قدميه، كي تداس كطين الأزقة.

٣- هذا الشقاء الذي أنت عرضة له هو ذلك الذي سيُلحقه الله بك كيما يُظهِر شدة غضب يهوه. فقد وضع الله في قلبه أن يُظهِر للملائكة وللبشر عِظم وروعة محبته، وكذا أيضًا هولَ غضبه. أحيانًا يفكِّر الحُكّام الأرضيون في أن يُظهِروا هول غضبهم، وهذا من خلال العقوبات الصارمة والشديدة التي يوقعونها بمن قد يغيطونهم ويثيرون غضبهم. فحين أراد نبوخذ نصر، ذلك الملك العاتي والمتجبِّر الذي كان متسلطًا على إمبراطورية الكلدانيين، أن يُظهِر غضبه الذي أثاره شدرخ وميشخ وعبد نغو، أمر بأن يُحمَّى الأتون المتَّقد سبع مرات أكثر من ذي قبل. دون شك، وصلت حرارة الأتون إلى أقصى درجة من الشراسة يستطيع فكر الإنسان أن يصل إليها. هكذا أيضًا يرغب الإله العظيم أن يُظهِر غضبه ويعظِّم جلاله المهيب وشدة قوته، من خلال الآلام الرهيبة والشديدة لأعدائه. “‎فَمَاذَا؟ إِنْ كَانَ اللهُ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُظْهِرَ غَضَبَهُ وَيُبَيِّنَ قُوَّتَهُ، احْتَمَلَ بِأَنَاةٍ كَثِيرَةٍ آنِيَةَ غَضَبٍ مُهَيَّأَةً لِلْهَلاَكِ” (رومية ٩: ٢٢). ونظرًا لكون هذا هو مخطَّط يهوه، وما عزم عليه، أن يُظهِر هول غضبه غير المكبوح، وسخطه وشراسته، فإنه حقًا سيتمِّمه. سيوجد شهود عيان يشهدون على حدثٍ مروعٍ سيتحقق ويَجري، حين ينهض الإله العظيم والغاضب، ليوقع نقمته المهيبة والمروِّعة على الخاطئ المسكين. وبينما يذوق هذا الشقي بالفعل وطأة وقوة سخطه غير المحدودين، عندئذ سيدعو الله الكون بأكمله لينظر الجلال المهيب والقوة العاتية التي ستتجلَّى في هذا. “‎وَتَصِيرُ الشُّعُوبُ وَقُودَ كِلْسٍ، أَشْوَاكًا مَقْطُوعَةً تُحْرَقُ بِالنَّارِ. اِسْمَعُوا أَيُّهَا الْبَعِيدُون مَا صَنَعْتُ، وَاعْرِفُوا أَيُّهَا الْقَرِيبُونَ بَطْشِي. ارْتَعَبَ فِي صِهْيَوْنَ الْخُطَاةُ. أَخَذَتِ الرِّعْدَةُ الْمُنَافِقِينَ…” (إشعياء ٣٣: ١٢-١٤).

هكذا سيحدث معكم أيضًا، يا من لم تُقبِلوا بعد إلى الإيمان، إن بقيتم على هذا الحال. فإن القدرة، والجلال، والهول غير المحدودين للإله كلي القدرة ستتعظم فيكم، وفي الشدة التي لا توصف للعذابات التي ستُلحَق بكم. فإنكم ستتعذبون في حضرة الملائكة القديسين، وأمام وجه الخروف. وحين تدخلون بالفعل إلى حالة الألم والمعاناة هذه، سيتقدَّم سكان السماء المجيدون لينظروا المشهد المهيب، كيما يدركوا ماهية غضب القدير وبطشه. ثم بعد أن يروا هذا ويدركوه، سيخرّون ويعظِّمون تلك القدرة العظيمة وذلك الجلال العظيم. “‎وَيَكُونُ مِنْ هِلاَل إِلَى هِلاَل وَمِنْ سَبْتٍ إِلَى سَبْتٍ، أَنَّ كُلَّ ذِي جَسَدٍ يَأْتِي لِيَسْجُدَ أَمَامِي، قَالَ الرَّبُّ. وَيَخْرُجُونَ وَيَرَوْنَ جُثَثَ النَّاسِ الَّذِينَ عَصَوْا عَلَيَّ، لأَنَّ دُودَهُمْ لاَ يَمُوتُ وَنَارَهُمْ لاَ تُطْفَأُ، وَيَكُونُونَ رَذَالَةً لِكُلِّ ذِي جَسَدٍ” (إشعياء ٦٦: ٢٣، ٢٤).

٤- هذا الغضب هو غضب أبدي. سيكون أمرًا مروِّعًا أن تقاسي سخط الإله القدير وغضبه لحظة واحدة من الزمان؛ لكن في المقابل سيتحتم عليك أن تقاسيه إلى الأبد. لن ينتهي هذا الشقاء الرهيب الاستثنائي. حين تتطلَّع إلى المستقبل، سترى أمامك أبدية طويلة ممتدة، زمانًا غير محدود، ممَّا سيُجهِز على أفكارك ويبتلعها، ويُدهِش نفسك. وحتمًا سيتملكك اليأس المطلق من أن تحظى بأية نجاة، أو ترى أية نهاية، أو أيَّ تخفيف لوطأة هذا، أو راحة على الإطلاق. ستَعلَم على وجه اليقين أنك حتمًا ستُبلى وتستنزف لدهورٍ طويلة، لملايين وملايين من الدهور، في صراع ونزاع مع هذه النقمة العاتية عديمة الرحمة. ثم بعد كل هذا، وبعد أن تَمضي عليك بالفعل دهور كثيرة وأنت على هذا الحال، ستعلم أن كل هذا ما هو إلا نقطة في بحر ما تبقَّى. فإن عقوبتك حقًا لا نهائية وغير محدودة. آه، من يستطيع أن يعبِّر عن حالة نفس تمرُّ في هذه الظروف! كل ما يمكننا أن نقوله عن هذا لا يقدِّم سوى صورة واهنة وباهتة للغاية عنه. فهو شيء لا يُنطَق به ولا يُسبَر غوره، إذ “مَن يعرِف قوة غضبك؟”

ما أبشع وأسوأ حالة من يتهدَّدهم يوميًا وفي كل ساعة خطر هذا الغضب الشديد وهذا الشقاء اللا نهائي! لكن تلك هي الحالة المؤسفة والتعسة لكل نفس في هذه الكنيسة لم تولَد ثانية، مهما تحلَّت بالأخلاق الحميدة، ومهما كانت مدقِّقة، أو متعقلة، أو متديِّنة. ليتكَ تنتبه إلى هذا، سواء كنتَ شابًا أو شيخًا! فإننا منطقيًا نعتقد أن كثيرين في هذه الكنيسة، ممن يسمعون الآن هذه العظة، سيصيرون بالفعل موضوع هذا الشقاء عينه إلى الأبد. لسنا نعلَم مَن هم، أو أين يجلسون، أو الأفكار التي تراودهم الآن. ربما هم الآن مطمئنون، يسمَعون كل هذا دون أن ينتابهم أدنى قلق أو انزعاجٍ، إذ يداهنون أنفسهم بأنهم بعيدون عن هذا، واعدين أنفسهم بالإفلات. إن علِمنا اليوم أنه يوجد شخصٌ واحدٌ، واحدٌ فقط لاغير، في هذه الكنيسة بأكملها، سيقع تحت طائلة هذا الشقاء، أية فظاعة سيشكِّلها تفكيرنا في هذا! ولو علمنا مَن هو، أيَّة فظاعة ستقع أعيننها عليها! حتمًا سترفع بقية الكنيسة صرخة مرة وكئيبة لأجله! لكن، يا للحسرة! لن يقع تحت طائلة هذا الشقاء واحدٌ فحسب، بل رُبَّ من سيتذكرون هذه العظة في الجحيم. وسيكون شيئًا يدعو للعجب ألا يذهب البعض من الموجودين الآن إلى الجحيم خلال فترة قصيرة، بل قبل نهاية هذا العام. ولا عجبَ أن البعض، مَّمن يجلسون الآن، في مقاعد هذه الكنيسة، ممَّن ينعمون بصحة جيدة، هادئين وآمنين، ربما يصبحون هناك قبل أن تشرق شمس الغد. فإن من يلبَثون منكم إلى النهاية في حالتهم الطبيعية، والذين ربما ظلوا خارج الجحيم لأطول فترة ممكنة، ربما يصيرون هناك خلال فترة قصيرة! فإن هلاكَكم لا ينعس، بل سيأتيكم في سرعة البرق، وعلى أغلب الظن سيباغت كثيرين منكم. يوجد ما يدعوكم أن تتعجَّبوا من أنكم لستم الآن بالفعل في الجحيم. دون شك، هذا حال بعض مَن رأيتموهم وعرفتموهم قبلًا، ممَّن لم يستحقوا الجحيم أكثر ممَّا تستحقونه، وربما بدا أنهم على الأرجح سيبقون على قيد الحياة إلى الآن، كما أنتم أيضًا. لكن قد فارقهم الآن كلُّ أمل أو رجاء، وهم يصرخون في شقاء مفرط ويأس مطبق. لكن هوذا أنتَ اليوم في أرض الأحياء وفي بيت الله، وأمامك فرصة لتنال الخلاص. ماذا قد تُعطِي تلك النفوس المسكينة المدانة التي انقطع رجاؤها كي تتاح لها فرصة حياة ليوم واحد كتلك التي تتمتع بها الآن؟

أمامكم الآن فرصة فريدة. هوذا يومٌ فتح فيه المسيح باب الرحمة على مصراعيه، ويقف داعيًا وصائحًا بأعلى صوته الخطاة المساكين. هوذا يومٌ يندفع فيه كثيرون أفواجًا إليه، ويغتصبون أنفسهم إلى ملكوت الله. يأتي كثيرون يوميًا من المشارق، والمغارب، ومن الشمال، والجنوب. كثيرون كانوا مؤخَّرًا في هذه الحالة البائسة عينها التي أنتم فيها اليوم، وهم الآن في سعادة وهناء، وقد امتلأت قلوبهم بالمحبة تجاه من أحبهم، وقد غسَّلهم من خطاياهم بدمه، يفتخرون على رجاء مجد الله. يا لفظاعة أن يُعبَر عنكم في يوم كهذا! أن تبصروا كثيرين يحتفلون ويبتهجون، بينما أنتم تذبُلون وتهلِكون! أن تعاينوا كثيرين يفرحون وينشدون ببهجة القلب، بينما لديكم ما يدعوكم إلى أن تنوحوا وتنتحبوا حزنًا وضيقًا! كيف تستريحون لحظة واحدة وأنتم على هذا الحال؟ أليست نفوسكم ثمينة بقدر نفوس أهل مدينة سافيلد الذين يندفعون أفواجًا إلى المسيح يومًا بعد يومٍ؟

ألا يوجد كثيرون هنا ممَّن طالت أعمارهم في هذا العالم، وليسوا إلى هذا اليوم مولودين ثانية؟ أجنبيين عن رعويَّة إسرائيل، ومنذ أن وُلدوا في هذا العالم، كان شغلهم الشاغل أن يذخروا لأنفسهم غضبًا في يوم الغضب؟ آه، أيها السادة، الحالة شديدة الخطورة على نحو خاصٍ. فإن ذنبكم وقساوة قلوبكم فائقان. ألا ترون آخرين كثيرين في مثل عمركم يفارقون هذه الحياة، دون أن يستفيدوا من التدبير الحالي الرائع والفريد لرحمة الله؟ يلزمكم أن تفكِّروا في أنفسكم، وأن تستيقظوا من نومِكم. لن يسعكم أن تحتملوا سخط وغضب هذا الإله غير المحدود. أما أنتم، أيها الشباب والشابات، هل ستُهمِلون هذا الوقت الثمين الذي تتمتعون به الآن، بينما يجحد كثيرون آخرون ويرفضون أباطيل الشباب، مندفعين أفواجًا إلى المسيح؟ أمامكم الآن فرصة فريدة ومذهلة، إن تجاهلتموها، سرعان ما سيشبه حالكم حال أولئك الذين أنفقوا أيام الشباب الثمينة على الخطية، ثم وصلوا الآن إلى لحظة الموت المخيف عميان ومتقسِّين.

وأنتم أيها الأطفال غير المؤمنين، ألا تعلمون أنك تهبطون بأرجلكم إلى الجحيم، كي تقاسوا الغضب المروِّع لذلك الإله، الغاضب عليكم الآن نهارًا وليلًا؟ هل ستقنَعون بأن تظلوا أبناء إبليس، بينما يقبِل كثيرون آخرون على الأرض إلى الإيمان، صائرين الأبناء السعداء والقديسين لملك الملوك؟

ليستمع الآن كل مَن ليسَوا في المسيح، أولئك المعلَّقين فوق فوهة الجحيم — سواء كنتم رجالًا أو نساءً، شيوخًا، أو في منتصف العمر، أو شبابًا، أو أحداثًا — إلى النداءات المُدوية لكلمة الله وعمل عنايته. فإن سنة الرب المقبولة هذه، أي ذلك اليوم الذي سيصير يوم رحمة وخلاص للبعض، حتمًا سيكون يوم نقمة مشهود لآخرين. فإن قلوب البشر تتقسَّى، وذنبهم يتزايد ويتصاعد سريعًا في يومٍ كهذا، إن أهملوا نفوسهم. ولا خطر أشدُّ من أن يسلَّم هؤلاء لقساوة قلوبهم وعمى أذهانهم. يبدو أنَّ الله يجمع الآن في عجالة مختاريه من جميع أركان الأرض. وعلى الأرجح سيُقبِل القسم الأكبر ممَّن قد يخلُصون يومًا إلى الإيمان في غضون وقت قصير، وسيُشبه الأمر يوم الانسكاب العظيم للروح القدس على اليهود في أيام الرسل. فإن المختارين سينالون الخلاص، والباقون سيتقسّون وستُعمى عيونهم. إن كان هذا حالك، فإنك حين ترى زمان انسكاب روح الله هذا، ستلعن إلى الأبد هذا اليوم، بل واليوم الذي ولدت فيه، وستتمنى لو وافتك المنية وذهبت إلى الجحيم قبل أن تعاينه. ممَّا لا شك أنَّ اليوم، كما كان في أيام يوحنا المعمدان، قد وُضعت الفأس — على نحو استثنائي وفائق — على أصل الشجر، فكلُّ شجرة لاتصنعُ ثمرًا جيدًا تُقطَع وتُلقى في النار.

ولهذا، ليستيقظ الآن من نومهم كلُّ من ليسوا في المسيح، ويهربوا من الغضب الآتي. فإن غضب الإله القدير يحلِّق الآن دون شكٍّ فوق رؤوس قسم كبير من هذه الكنيسة. ليهرب جميعُكم من سدوم: “اهْرُبْ لِحَيَاتِكَ. لاَ تَنْظُرْ إِلَى وَرَائِكَ، وَلاَ تَقِفْ فِي كُلِّ الدَّائِرَةِ. اهْرُبْ إِلَى الْجَبَلِ لِئَلاَّ تَهْلِكَ”.

طُبعت هذه العظة باللغة العربية في كتاب “خطاة في قبضة إله غاضب” لچوناثان إدواردز ضمن سلسلة الكلاسيكيات المسيحية، المحرر العام الدكتور سامي فوزي، وتم نشرها على موقع ائتلاف الإنجيل بإذن خاص من المحرر العام.

شارك مع أصدقائك