الروح القدس

دعونا نكون صادقين مع أنفسنا، فإن من أكثر الأشياء الممتعة والمفرحة في الكريسماس هو تلقّي الهدايا. البعض يحصلون على القليل جدًا منها، والبعض الآخر يحصلون على الكثير جدًا. لكن الغالبيّة يحصلون على شيء ما. في العام الماضي، حصلت على بعض الكتب (يا لفرحي الشديد!)، وبعض الملابس (حسنًا، هذا جيد)، ولعبة الوي (كانت في الواقع لأبنائي)، وتمثال كاريكاتيري لجون كالفن (هدية لا تقدّر بثمن). وقد كانت هذه ككل غنيمة جيدة.

فكّر في أكثر هديّة مفضّلة لديك، ليست تلك التي تحصل عليها في الكريسماس فحسب، بل أفضل هديّة على الإطلاق. من الصعب أن تجد شيئًا يفوق خاتم الخطبة من جهة التأثير طويل المدى. لكن ماذا إن أخبرتك عن هديّة شكّلت عهدًا أكثر يقينًا وأكثر دوامًا من عهد الزواج؟ ربما يكون المال هو هديّتك المفضّلة، فعلى أيّة حال، يمكنك بالمال ممارسة السلطة على نحو كبير، وعمل الكثير من الأشياء الممتعة. لكن ماذا إن أخبرتك عن هديّة شكّلت قوّة أكثر تغييرًا للحياة، وشكّلت سلطة ونفوذًا أكثر تغييرًا للعالم، من الثروة والغنى؟ ربما تكون من النوع المرهف الحس، فتكون هداياك التي تعتز بها أكثر من كل شيء هي الصور القديمة التي تحصل عليها من أصدقائك وعائلتك. حسنًا. لكن ماذا إن أخبرتك عن هديّة شكّلت ما يفوق كونه صورة لمحبوبك، بل أمدتك بحضوره بذاته معك طوال الوقت؟

هذه الهدية هي إذن: هدية عهد، وقوة، وحضور. وقد حصل عليها الملايين في جميع أنحاء العالم. أو ينبغي أن أقول حصلوا عليه هو. إذ أن الهديّة، كما أعتقد أنك قد خمّنت، هي الروح القدس. لا توجد ممتلكات أخرى تفوق الروح القدس في القيمة، والفائدة، والديناميكيّة، والقوة، والمحبة، ذلك الروح الذي يسكن بداخل من ينتمون لله بالمسيح (١ كورنثوس ٣: ١٦).

الروح القدس في كل الكتاب المقدس:

إن الكلمة المرادفة لكلمة “روح” في اللغة العبريّة هي كلمة ruach، وفي اللغة اليونانيّة هي كلمة pneuma. استُخدمت الكلمة الأولى ما يقرب من تسعين مرة للتعبير عن الروح القدس في العهد القديم. أما الأخيرة فقد وردت أكثر من ٢٥٠ مرة كإشارة إلى الروح في العهد الجديد. كلا الكلمتين يمكن أن تشيرا أيضًا إلى الريح أو النفَس، لكن الفكرة العامة هي نفسها: فإن كلمتي ruach، وpneuma تعبّران عن طاقة، وحركة، وحياة، ونشاط. أمّا الروح القدس فهو ذلك الروح المميَّز، الذي ينتمي إلى الله. فهو قوة الله وحضوره وسط شعبه.[1]

هذا الروح القدس، بالرغم من كونه “واضحًا” بشكل أكبر في العهد الجديد، لكنه كان عاملاً أيضًا في العهد القديم. فهو كان موجودًا في الخلق، يرفّ على وجه المياه، على استعداد لترتيب وإكمال ما قصده الآب وخطّط له (تكوين ١: ٢). كما كان للروح القدس دور فعّال في الخروج (إشعياء ٦٤: ٧-١٤). وهو أيضًا الذي أعطى شعب الله مواهب لعمل الخدمة، مؤهلاً بصلئيل وأهوليآب ليس ببراعة فنيّة فحسب، بل أيضًا بقوة من الروح ليصنعا ما شبه السماء على الأرض (خروج ٣٥: ٣٠-٣٥). ونرى كثيرًا كيف حل الروح القدس في العهد القديم على أشخاص مثل بلعام، وجدعون، ويفتاح، وشمشون، وعزريا لإتمام مهام خاصة من إخبار أو فعل (عدد ٣٤: ٢؛ قضاة ٦: ٣٤؛ ١١: ٢٩؛ ١٣: ٢٥؛ ١٤: ٦، ١٩؛ ١٥: ١٤؛ ٢ أخبار الأيام ١٥: ١). كما كان من الممكن أيضًا أن يحل الروح على أشخاص لفترة معينة ثم يفارقهم، كما حدث مع شاول (١ صموئيل ١٦: ١٤)، وكما كان داود يخشى (مزمور ٥١: ١١).

لقد كان نشاط الروح في العهد القديم قويًا لكنه لم يكن مكتملاً على الإطلاق. ولهذا ليس من الغريب أن يتطلّع العهد القديم إلى عصر آتٍ للروح. وتوجد ثلاث نبوّات على وجه الخصوص تتنبّأ بمجد هذا اليوم الجديد: فإن يوئيل ٢: ٢٨-٣٢ يتطلّع إلى حلول الروح على كل شعب الله. كما يتوق حزقيال ٣٦: ٢٢-37: ١٤ إلى اليوم الذي فيه سيسكن الروح في شعب الله سكنى فرديّة وأبديّة. أيضًا يعد إشعياء ١١: ١-٥ بأن غصنًا ممسوحًا بالروح القدس من أصل يسّى سيأتي بيوم خلاص شعب إسرائيل. هذا هو عصر الروح الذي يتطلّع إليه العهد القديم: روح يشمل الجميع، وروح ساكن، ومخلّص مفوَّض من الروح. هذا الانسكاب تحقّق تحت بنود العهد الجديد (٢ كورنثوس ٣: ١-١١). فإننا نجد الروح ينسكب على كل بشر (أعمال الرسل ٢: ١٤-٢١)، ويسكن في جميع المؤمنين (رومية ٨: ٩)، ويفوّض المسيّا الممسوح بالروح، ويمجّده في خدمته الأرضيّة وعمله الخلاصي.

وتسلّط أسفار العهد الجديد الضوء على هذه النقطة الأخيرة أكثر مما نتخيّل. فإن الروح القدس قد فوّض الابن وأيده عبر كل مرحلة من مراحل خدمته. إذ ظلّل الروح القدس مريم في الحبل العذراوي (متى ١: ١٨، ٢٠؛ لوقا ١: ٣٥). كما حل الروح القدس على سمعان الشيخ حين تحدّث عن يسوع في الهيكل (لوقا ٢: ٢٥). واستقر الروح القدس على يسوع في معموديته (متى ٣: ١٦). ثم اقتاد الروح يسوع، الذي يقول لوقا أنه كان ممتلئًا من الروح القدس، إلى البرية ليجرَّب من الشيطان (متى ٤: ١؛ لوقا ٤: ١). وبعد التجربة، رجع يسوع إلى الجليل بقوة الروح (٤: ١٤)، وأعلن في المجمع أن روح السيد الرب عليه ليبشّر المساكين بالخبر السار (٤: ١٨).

أيضًا بالروح القدس أخرج يسوع الشياطين (متى ١٢: ٢٨). ويقول عبرانيين ٩: ١٤ إن المسيح قدّم نفسه كذبيحة لله بروح أزلي. ووفقًا لما جاء في رومية ١: ٤، تعيّن يسوع بقوة ابنًا لله بقيامته من الأموات بواسطة روح القداسة. وهكذا فمنذ الحبل بالمسيح، وحتى ميلاده، وطوال حياته، وخدمته، وموته، وقيامته، كان الروح عاملاً فيه ومن خلاله.

من هو الروح القدس؟

هو شخص:

إن الروح القدس شخص. فهو يحزن (أفسس ٤: ٣٠)، ويشفع (رومية ٨: ٢٦-٢٧)، ويشهد (يوحنا ١٦: ١٢-١٥)، ويتكلّم (مرقس ١٣: ١١)، ويخلق (تكوين ١: ٢؛ لوقا ١: ٣٥)، وله اهتمام وفكر (رومية ٨: ٢٧)، ويمكن التجديف عليه (مرقس ٣: ٢٨-٢٩).[2] (بالطبع يُقال أيضًا عن كلمة الله أنها “تشهد”، و”تتكلم”، ولا أحد يعتقد بأنها شخص، ومع ذلك فإن السياق في مثل هذه الحالات يُظهر أن هذا يعد تجسيدًا لكلمة الله، وهذا التجسيد يرمز في حقيقة الأمر إلى أن الله يتكلم ويشهد من خلال هذه الكلمة). وفي الحديث الوداعي ليسوع (يوحنا ١٤-١٦)، يعد بإرسال “باراقليط [parakletos] آخر” [والكلمة تمثل معاني مختلفة: “المعين”، و”المشير”، و”المؤيّد”]، أي الروح القدس، الذي هو خليفة يسوع في الخدمة الأرضيّة، ومن بعض النواحي بديل له. وعلى هذا النحو، لا يمكن لقوة غير عاقلة أو ما شابه ذلك أن تلائم وصف ما سيفعله الروح المتوارَث عن يسوع.

هو الله:

ليس الروح القدس مجرد شخص، لكنه شخص إلهي. يقدم لنا مزمور ١٣٩: ٧ لمحة عن وجوده في كل مكان. فهو “الروح الأزلي” (عبرانيين ٩: ١٤). كما يعد الكذب على الروح القدس مساويًا للكذب على الله (أعمال الرسل ٥: ٣-٤). أيضًا يستخدم بولس عبارة “هيكل الله” بالتبادل مع “هيكل الروح القدس”، مساويًا بهذا بين الإثنين (١ كورنثوس ٣: ١٦؛ ٦: ١٩).

متميز عن الآب وعن الابن:

يشترك الروح القدس في الجوهر نفسه مع الآب والابن، ومع ذلك فهو متميز عنهما (انظر متى ٢٨: ١٩؛ ١ كورنثوس ١٢: ٤-٦؛ ٢ كورنثوس ١: ٢١-٢٢؛ ١٣: ١٤؛ ١ بطرس ١: ٢). وببساطة شديدة، الروح القدس هو الله، لكنه ليس الآب وليس الابن، بل هو أقنوم إلهي مستقل.

وعلى الرغم من تمّيز الروح القدس عن الآب والابن، إلا أنه هو روح الله، وهو أيضًا روح المسيح (رومية ٨: ٩). فأن تقول إن “روح الله ساكن فيك”، أو إن “روح المسيح فيك”، أو إن “المسيح ساكن فيك”، فهذه ليست سوى ثلاث طرق نقول بها الشيء ذاته (رومية ٨: ١٠).[3] فإن الروح مرسَل من الآب (يوحنا ١٤: ٢٦)، ومن الابن أيضًا (١٦: ٧؛ ٢٠: ٢٢).[4] بل في الحقيقة، يوجد تداخل كبير بين هوية كل من الابن والروح حتى أن بولس استطاع أن يقول “الرَّبُّ فَهُوَ الرُّوحُ” (٢ كورنثوس ٣: ١٧-١٨).

هذا لا يعني أن الابن والروح هما واحد من حيث كينونتهما، لكنه يعني أن إرساليّتهما شديدة الالتحام حتى أنهما واحد في نشاطهما الفدائي المشترك. فإن يسوع هو الحق (يوحنا ١٤: ٦)، والروح يرشد التلاميذ إلى معرفة كل الحق (يوحنا ١٦: ١٣). أيضًا جاء يسوع ليشهد ويخبِّر عن الله الآب (يوحنا ١: ١٤-١٨)، ويأتي الروح ليشهد للمسيح (يوحنا ١٥: ٢٦). ولم يقبل العالم الخاطئ المسيح (يوحنا ١: ١١؛ ٥: ٤٣)، وأيضًا لن يقبل العالم الخاطئ الروح (يوحنا ١٤: ١٧). فإن الروح القدس بصورة مجيدة ليس سوى معزي آخر (يوحنا ١٤: ١٦)، فهو قوة وحضور المسيح القائم من الأموات والذي صعد عن الأرض.

عمل الروح القدس:

بعد أن تحدثنا عن “مَن” الخاصة بالروح القدس، نتجه الآن إلى الحديث عن “ما”، أي: “ما هو العمل الفعلي الذي يقوم به الروح القدس؟” فلأن الروح ليس واضحًا تمامًا في الكتاب المقدس، فإن لدينا الكثير لنقوله من جهة عمل الروح القدس، أكثر مما لدينا لنقوله عن أقنوم الروح القدس. فإن الطريقة المُثلى لمعرفة الروح هي بأن نفهم ونختبر تأثيراته. وقد قمت بتقسيم عمل الروح إلى سبعة أقسام: الروح القدس يبكّت، ويجدّد، وينفِّذ، ويمجّد، ويقدّس، ويؤهّل، ويَعِد.

الروح القدس يبكّت:

من الجدير الملاحظة أن نرى يسوع يقضى ساعاته المعدودة الأخيرة قبل موته يعلّم تلاميذه عن الثالوث. فمن بين كل شيء آخر كان يستطيع أن يقوله، شعر يسوع بضرورة أن يتحدّث عن وحدته مع الآب واتّحاده مع الروح القدس العتيد أن يأتي. فقد وعد يسوع بالروح القدس خمس مرات في حديث العليّة (يوحنا ١٤: ١٦-١٧، ٢٦؛ ١٥: ٢٦-٢٧؛ ١٦: ٤ب-١١، ١٢-١٥). وفي التصريح الرابع من تصريحات هذا الحديث تحدّث يسوع عن قوة تبكيت الروح:

لكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الْحَقَّ: إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي [الباراقليط]، وَلكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ. وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ: أَمَّا عَلَى خَطِيَّةٍ فَلأَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِي. وَأَمَّا عَلَى بِرّ فَلأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى أَبِي وَلاَ تَرَوْنَنِي أَيْضًا. وَأَمَّا عَلَى دَيْنُونَةٍ فَلأَنَّ رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ قَدْ دِينَ. (يوحنا ١٦: ٧-١١)

ويمكننا أن نفهم جيدًا أن التلاميذ في ذلك الوقت كانوا منزعجين بشدة من أن يسوع كان سيرحل عنهم (يوحنا ١٦: ٦). لكن يسوع طمأنهم بأن هذا كان خيرًا لهم، فإنه إن لم ينطلق، لن يأتيهم المعزي (البارقليط). ولم يكن هذا لأن الروح والابن لا يمكنهما أن يشغلا المكان ذاته، بل لأن الروح لم يكن ممكنًا أن يأتي إلا بعد موت الابن، وقيامته، وصعوده. فإن تأسيس ملكوت الله الذي بدأ من خلال المسيح، سيكتمل من خلال الروح، لكن هذا لن يحدث إلا بعد اكتمال عمل المسيح.

وهكذا إذن، فإن المفارقة هنا هي أن الكنيسة هي في حال أفضل لأن يسوع لم يعد موجودًا بالجسد. ففي القرن الأول، كان لابد لنا أن نذهب إلى فلسطين كي نكون مع يسوع. أما الآن، على الضفة الأخرى من يوم الخمسين، يمكن أن يكون المسيح موجودًا في كل مكان بروحه. ليس علينا أن نرتحل إلى إسرائيل كي نكون معه، أو أن نحيا في الجبال، أو نضيء شمعة كي نجده. فهناك ما يعد أفضل من السير معه أو رؤيته بعيوننا. فهو يمكنه أن يسكن فينا في أي مكان وفي أي زمان.

بالنسبة للتلاميذ، كان مجيء الروح خبرًا سارًا. فهو كان من شأنه أن يصير معينًا – ومعزيًا – ومؤيدًا لهم. أما بالنسبة للعالم، أي أولئك الغارقين في وحل الخطيّة، كان الروح من شأنه أن يمارس قوة تبكيت أو قوة فضح (انظر يوحنا ٣: ٢٠، حيث تستخدم الكلمة اليونانية elegcho نفسها التي استخدمت في هذا النص [المترجم: والتي ترجمت “تُوَبَّخ”]). فإن الروح القدس يقوم بدور كشاف ضوئي عملاق، يفضح شر العالم، ويدعو الناس في كل مكان إلى التوبة. فالأمر يبدو وكأن العالم جالس في عشاء رومانسي لطيف على ضوء الشموع، معتقدًا بأن كل شيء وردي، ثم فجأة، يضئ الروح الأنوار ليكشف عن حشرات تركض على الحوائط، وعن قمامة متناثرة على الأرض. فإننا لسنا صالحين كما نتخيل، وهذا يمكن أن يبرهن عليه الروح.

يقول يسوع إن الروح يبكّت العالم على ثلاثة أشياء على وجه الخصوص:[5]

  • على خطية، لأن هذا العالم لا يؤمن بيسوع. فإن كل خطية هي في جوهرها عدم إيمان. ولا توجد علامة على عدم الإيمان أفضل (أو ربما نقول أسوأ؟) من رفض الاعتراف بهوية يسوع.
  • على بر، لأن يسوع ذهب إلى الآب. فإن العالم يستهويه برّه الشخصي الافتراضي (إشعياء 64: 6)، بينما لابد أن يستهويه يسوع. فإننا نريد أن نحدّد هويّة يسوع ونتخذ قرارًا بشأن ما قد حقّقه بالفعل. لكن صعوده إلى السماء كافٍ لإثبات هويته باعتباره الابن القدوس لله، الواحد مع الآب.
  • على دينونة، لأن رئيس هذا العالم قد دين. هذا هو أكثر دليل إدانة يمكن للروح أن يقدّمه ضد اليهود: فهم قد قتلوا الشخص الخطأ، ويعبدون الآن الملك الخطأ. لكن الروح سيأتي ويشهد عن المسيح المُقام حتى يتسنّى لهم أن يروا أن من يتبعونه قد هُزم، وأن من قتلوه برهن على غلبته. فإن الضربة التي وُجِّهت لإبليس على الصليب كانت نذيرًا بالهزيمة الأخيرة التي تنتظره وتنتظر أبناءه الروحيّين. ربما مازال إبليس يستطيع أن ينبح ويعض، لكنه مربوط بحبل قصير في الحظيرة.

وقد وقع التتميم المبدئي لهذا الوعد الثلاثي في يوم الخمسين (أعمال الرسل ٢: ٢٢-٢٤، ٣٧)، إلا أن عمل التبكيت الذي يقوم به الروح مستمر أينما وجدت خطية ينبغي كشفها وغفرانها. إن تبكيت الروح هو العنصر الأول في التجديد. فإن الله الروح القدس لابد أن يُوقظ فينا وعيًا بأنانيتنا، وبغضنا للتقوى، وعدم اكتراثنا بالمسيح. وقد دون جوناثان إدواردز ملاحظته قائلاً:

إن الروح العامل يحوّل أذهان البشر عن أباطيل العالم، ويشغلهم باهتمام عميق بالسعادة الأبديّة، ويدفعهم لطلب خلاصهم بصدق، مقنعًا إياهم ببشاعة وروع الخطيّة، وبحالهم المذنب والبائس بالطبيعة. فهو يوقظ ضمائر البشر، ويجعلهم أكثر حساسيّة تجاه بشاعة غضب الله، ويخلق بداخلهم رغبة عظيمة، وحرصًا، وسعيًا صادقًا لنوال رضاه.[6]

حين يكون الروح عاملاً، فإننا لن نتوقف عند الخجل من إخفاقاتنا، أو الندم على أخطائنا، لكننا سنرى خطايانا من حيث علاقتها بالله، فنختبر ما شعر به داود حين صرخ: “إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْتُ، وَالشَّرَّ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ صَنَعْتُ” (مزمور ٥١: ٤). لا يوجد إنسان واعٍ يصير مؤمنًا دون أن يرى خطيته في ضوء عمل تبكيت الروح، معتبرًا إياها تعديًا ضد الله القدير.

الروح القدس يجدّد:

النص النموذجي الذي يتحدّث عن التجديد هو يوحنا ٣، الذي فيه يتحدّث يسوع مع نيقوديموس، الذي كان فرّيسيًا ورئيسًا لليهود (عدد ١). وبخلاف الكثير من الفريسيين الآخرين في الأناجيل، بدا نيقوديموس باحثًا أمينًا، لكنه كان جبانًا بعض الشيء. فهو لا يبدو أنه يضمر العداء ليسوع. لكنّه في حقيقة الأمر يعطي انطباعًا بكونه رجلاً متدينًا أمينًا مهتمًا حقًا بالتعلّم من يسوع. لكن توجد مشكلة واحدة ضخمة بشأن نيقوديموس: أنه لم يكن مولودًا من فوق. فهو يقر بأن يسوع معلم أتى من الله. ويؤكد على أنه قد صنع آيات بقوة الله (عدد ٢)، لكن هذا لم يكن كافيًا. فقد قال له يسوع في هذا الشأن: “لا يهمّني أنك ترى الآيات بعينيك. بل أريدك أن تختبر الآية في قلبك”.[7]

وبالتالي، فإن نيقوديموس، مثلنا جميعًا، كان لابد أن يُولد ثانية (يوحنا ٣: ٣). وبكلمات أخرى، إننا لابد أن نُولد من الماء والروح (عدد ٥). وكان ينبغي على نيقوديموس أن يكون ملمًا بهذه الصورة غير المعتادة، لأنها مشتقة من العهد القديم (انظر 3: 10). فبلا شك، كان نص حزقيال 36 هو ما كان يدور في ذهن يسوع، وخاصة في إشاراته إلى الماء والروح (حزقيال ٣٦: ٢٥، ٢٧). ففي نبوة حزقيال، يشير الماء إلى التطهير، ويشير سكنى الروح إلى نوال قلب جديد (٣٦: ٢٥-٢٦). وهكذا، فإن يسوع في يوحنا ٣ لم يكن يتحدّث عن فريضة المعموديّة بل عن العمل الخارق للطبيعة الذي يزيل صبغة الخطيّة ويخلقنا من جديد.[8]

هذا هو ما يعنيه الكتاب المقدس بالولادة الجديدة، أو التحوّل، أو التجديد، أو الولادة الثانية. فإن التحوّل يُجرى بداخلنا بواسطة الروح القدس. ويطلق عليه تيطس ٣: ٥ “غُسْلِ الْمِيلاَدِ الثَّانِي وَتَجْدِيدِ الرُّوحِ الْقُدُسِ”. فكما أن الريح (pneuma) تهب حيث تشاء، هكذا أيضًا كل من وُلد من الروح (pneuma). فإن الله الروح القدس لابد أن يجتاح قلبنا، ويوقظ وعينا بنجاسة وشر الخطية، وبصدق كلمة الله، وبقيمة المسيح الثمينة.

لم يكن من الممكن أن يكون يسوع أكثر وضوحًا من هذا: فلا حياة روحيّة مسيحيّة دون عمل تجديد الروح. فهو يمكِّننا من فهم أمور الله، وتمييزها روحيًا (١ كورنثوس ٢: ١٢-١٤). ويهبنا التوبة للحياة (أعمال الرسل ١١: ١٨). ويسكب محبة الله في قلوبنا (رومية ٥: ٥). ويمكِّننا من أن نؤمن بمواعيد الله (يوحنا ١: ١٢-١٣). ويقول يسوع في يوحنا ٦: ٦٥ “لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يُعْطَ مِنْ أَبِي”.

وكيف يأتي المختارون إلى الله؟ “اَلرُّوحُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي. أَمَّا الْجَسَدُ فَلاَ يُفِيدُ شَيْئًا. اَلْكَلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ” (يوحنا ٦: ٦٣). وبالتالي فإننا نؤمن بالابن بواسطة تعيين الآب وعطية الروح القدس. وهكذا، فإن الإيمان نفسه عطية، عطية تُمنِح عند التجديد حين نُولد ثانية بعمل الروح من خلال كلمة الله (١ بطرس ١: ٢٣-٢٥).

الروح القدس ينفِّذ:

فكّر في كل ما حقّقه المسيح. فقد حفظ جميع متطلبات الناموس التعليميّة والعقابيّة. إذ أخذ جسدًا بشريًا وأرضى العدل الإلهي. وقد غلب الموت، والخطية، والشيطان. وكونه المسيّا الحافظ للعهد، حصل لشعبه على كل بركة روحيّة (أفسس ١: ٣). فإن يسوع المسيح هو الحكمة، والبر، والقداسة، والفداء (١ كورنثوس ١: ٣٠).

الاتحاد بالمسيح. لكن كيف يصير لنا كل ما حقّقه المسيح؟ هذا سؤال لم يفكر فيه غالبيتنا. ويسأل جون كالفن قائلاً:

كيف لنا أن نحصل على تلك المزايا التي أغدقها الآب على ابنه الوحيد، ليس لأجل استعمال المسيح الشخصي، بل كي يغني بها البشر المساكين والمحتاجين؟ لابد أن نفهم أولاً أنه طالما ظل المسيح خارجنا، وطالما نحن منفصلون عنه، فإن كل ما قاساه وعمله لأجل خلاص الجنس البشري يظل بلا جدوى وبلا قيمة بالنسبة لنا.[9]

وهكذا كيف نشترك نحن في مزايا المسيح؟ إليك جواب كالفن: “الروح القدس هو الرباط الذي بواسطته يوحّدنا المسيح بشكل فعّال معه”.[10]

في رومية ٨: ٩-١١، يناقش بولس هذا الموضوع بصورة مشابهة. فحين يسكن الروح فينا، يصير لنا روح المسيح (عدد ١٠)، وإن كان الروح فينا، فإن لنا حياة في يسوع المسيح (عدد ١١). باختصار، حين يكون الروح لك، فإن المسيح لك؛ وحين يكون المسيح لك، فإن الروح لك. فإن الروح القدس يوحدنا بالمسيح، لأن الروح هو روح المسيح. فهو روح التبني، الذي يجعلنا أبناء لله الآب، عن طريق ربطنا بالمسيح أخينا (رومية ٨: ١٥؛ غلاطية ٤: ٦؛ عبرانيين ٢: ١٧). فإن الله، بالروح، قد مزق ملابس فريق “آدم الأول” من علينا وأدرجنا ضمن فريق “آدم الثاني”.

نحن لا نفكّر كثيرًا في هذا الجانب من الفداء، إلا أن جون مَري يقول إن ذلك الاتّحاد مع المسيح هو “الحق المركزي لعقيدة الخلاص بأكملها”.[11] فإن اتّحادنا بالمسيح أمر محوري للغاية حتى أن بولس يستخدم عبارة “في المسيح” حوالي ١٦٠ مرة.[12] فإن التبرير، والمصالحة، والفداء، والتبنّي، والتقديس، والتمجيد، جميع هذه هي لنا بسبب اتّحادنا بالمسيح. فإن المسيح فينا بالروح، على نحو فوق طبيعي يسمو في غموض يفوق حدود المكان، وهذا حتى يتسنّى لنا أن نكون في شركة مع المسيح ونشترك في جميع مزاياه.

معموديّة الروح القدس باعتبارها اتّحادًا لنا بالمسيح. هناك نص آخر جدير بذكر خاص هنا: “لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضًا اعْتَمَدْنَا إِلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ، يَهُودًا كُنَّا أَمْ يُونَانِيِّينَ، عَبِيدًا أَمْ أَحْرَارًا، وَجَمِيعُنَا سُقِينَا رُوحًا وَاحِدًا” (١ كورنثوس ١٢: ١٣). يوجد جدل مستمر بين المؤمنين بشأن معنى هذا العدد. هل هذه المعموديّة هي شيء يختبره جميع المؤمنين، أم هي بركة خاصة ينالها فقط بعض المؤمنين؟ الإجابة على هذا السؤال مباشرة وواضحة تمامًا.

فقد وردت عبارة “المعمودية في/بـ/بواسطة الروح” (en pneumati) سبع مرّات في العهد الجديد. أربع مرّات منها في الأناجيل، حيث يتنبّأ يوحنا المعمدان بأن الرب يسوع سيعمّد بالروح القدس (متى ٣: ١١؛ مرقس ١: ٨؛ لوقا ٣: ١٦؛ يوحنا ١: ٣٣). أما المرّة الخامسة فقد جاءت في أعمال الرسل ١: ٥، حيث يلمِّح يسوع إلى نبوّة يوحنا. والمرّة السادسة كانت في أعمال الرسل ١١: ١٦، حين يتذكّر بطرس كلمات يسوع التي قالها قبل صعوده في أعمال الرسل ١: ٥. وهكذا فإن جميع الإشارات الستة إلى المعموديّة في/بـ/بواسطة الروح تتطلّع إلى المستقبل أو تعود إلى الماضي للشيء ذاته: سكيب الروح في يوم الخمسين.

أما النص السابع، وهو ١ كورنثوس ١٢: ١٣، فهو نص فريد لأنه لا يشير إلى يوم الخمسين على نحو مباشر (فإن أهل كورنثوس وبولس لم يتواجدوا في أورشليم كي يعتمّدوا بالروح). ولهذا السبب إذن، علَّم بعض المؤمنين بأن هذا النص يتحدّث عن اختبار بركة ثاني، يلي اختبار التجديد، ويتمتّع به فقط بعض المؤمنين. إلا أن هذا التفسير بشأن بركة ثانية لا يجدي نفعًا. إذ أول كل شيء، يقول النص إن الجميع اعتمدوا بالروح والجميع سقيوا الروح.

أيًا كان ما يقصده بولس، فمن الواضح أنه يفترض هنا أن الجميع في كورنثوس قد اختبروه. علاوة على ذلك، وبحسب السياق، ليس من الممكن أن يكون بولس يتحدّث عن بركة ثانية فريدة يختبرها فقط بعض المؤمنين. إذ أنه بعد أن سلّط الضوء على تنوّع المواهب في الجسد، يحوّل بولس انتباهه إلى الوحدة المشتركة بين مؤمني كورنثوس. فربما جميعهم لهم مواهب مختلفة، إلا أنهم جميعًا قد اعتمدوا بروح واحد.

وهكذا فإن معموديّة الروح القدس هي شيء قد اختبره بالفعل كل مؤمن، لأن كل مؤمن قد وُلد ثانية، واتّحد بالمسيح من خلال سكنى الروح القدس. فإن معموديّة الروح ليست إلا اتّحادنا بالمسيح. فإن الروح عينه الذي انسكب أولاً في يوم الخمسين، يسكن الآن في كل مؤمن، موحّدًا إيّاه بالمسيح وغارسًا إيّاه في جميع مزاياه.

اسمح لي أن أضرب مثلاً بسيطًا ومألوفًا: فإن معموديّة الروح تشبه ذلك السيل الرائع من طبقة الطلاء البرّاق التي تسيل فوق كعك الدونات المقرمش المغطّى بالكريمة، وتستمر في النزول حتى إلى حافة الطبق. فإن كل كعكة تحصل على هذا الطلاء، وكل كعكة تستحقه. هكذا أيضًا، يعمّدنا يسوع بالروح كي نعرف قوته ونغتسل في بركاته. أو هكذا يوجز جون ستوت الأمر: “معموديّة الروح القدس هي بركة خاصة (أي تتحقّق فقط في العهد الجديد)، وبركة أوليّة (أي تُعطى عند التجديد)، وبركة عامة (أي تنسكب على كل مؤمن حقيقي)”.[13]

الروح القدس يمجّد:

قد تعتقد من هذا العنوان الفرعي أني سأستكمل هنا شرح “ترتيب الخلاص”، وأفسّر كيف يقود الروح القدس المؤمن إلى التمجيد النهائي. لكن ليس هذا ما أقصده هنا، لأن هذا ليس ما تحدّث يسوع عنه في العليّة. ففي وعد يسوع الخامس عن الروح القدس، تحدث عن نوع مختلف من التمجيد:

وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ، لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ. ذَاكَ يُمَجِّدُنِي، لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ. كُلُّ مَا لِلآبِ هُوَ لِي. لِهذَا قُلْتُ إِنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ. (يوحنا ١٦: ١٣-١٥)

ما لدينا هنا هي كلمات يسوع الأخيرة عن الروح القدس. وما الذي سلّط الضوء عليه إذن فيما كان يقترب إلى الصليب سوى عمل الروح القدس المركزي في تمجيد المسيح، والذي كثيرًا ما يتم إهماله؟ فقد تحدّث يسوع على نحو مباشر للغاية إلى الاثنا عشر عن العمل الذي سيقوم به الروح في الأيام التالية للإعلان لهم عن المجد الكامل للمسيح (يوحنا ٧: ٣٩). لكن على نحو فرعي داخل هذا الحديث، يتعلق وعد المسيح أيضًا بعمل الروح لتمجيد المسيح في قلوبنا من خلال الحق الذي كان التلاميذ على وشك أن يعاينوه. هذا النص هام للغاية لأنه يساعدنا على تجنب خطأين شائعين.

الخطأ الأول هو أن نضع الروح في منافسة مع كلمة الله. لكن وعد يسوع لا يمت بأيّة صلة لإرشاد الروح القدس لي عن من أتزوج أو أيّة وظيفة أُقبل عليها. فلم يكن هذا ما دار في ذهن المسيح حين قال إن الروح “يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ” (يوحنا ١٦: ١٣). بل كان يسوع يتحدّث إلى التلاميذ (عدد ١٢). وهم من كانوا سينالون الإرشاد إلى “جميع الحق”.

لم يكن “جميع الحق” هذا الذي كانوا عتيدين أن يأخذوه هو الحق المختص بكل ذرة من المعرفة في الكون، بدءًا من المعرفة عن الانفجارات النجميّة الضخمة (supernova)، وحتى المعرفة عن الحمض النووي. لكن هذا “الحق” يشير إلى الحق الكامل عن كل ما يتعلّق بيسوع المسيح، الطريق، والحق، والحياة. فإن الروح سينير الأمور الآتية (يوحنا ١٦: ١٣)، ليس من جهة تنبؤية، بل لأنه كان من شأنه أن يكشف معنى ودلالة الأحداث التي كانت عتيدة أن تأتي، وهي موت يسوع، وقيامته، وارتفاعه. فإن الروح، متحدّثًا بالنيابة عن الآب والابن، سيعين الرسل على تذكّر ما قاله يسوع، وعلى فهم المعنى الحقيقي لمن هو يسوع وما الذي حقّقه (يوحنا ١٤: ٢٦).

هذا يعني أن الروح هو المسئول عن الحقائق التي بشّر بها الرسل، والتي بدورها تم تدوينها فيما نطلق عليه الآن أسفار العهد الجديد. فإننا نثق في الكتاب المقدس، لأن الرسل، ومن كانوا تحت مظلة سلطانهم، كتبوه بإعلان من الروح. فإن الكتاب المقدس هو كتاب الروح القدس. إذ الروح هو من أوحى بالعهد القديم، كما يفترض الرسل (أعمال الرسل ٤: ٢٥؛ ٢٨: ٢٥؛ عبرانيين ٣: ٧؛ ٢ بطرس ١: ٢١)، وأوحى أيضًا بالعهد الجديد، كما وعد يسوع بشكل غير مباشر في يوحنا ١٦.

وبالتالي، فإننا لا يمكننا أن نترك أي مجال لأولئك، كالمرمونيين، الذين يتجادلون لصالح استمرار الإعلان الذي يضيف إلى المحتوى العقيدي للعهد الجديد. كما لا يمكننا أن نوافق على الافتراض الذي يفترضه اللاهوتيّون الليبراليّون كثيرًا بأن الالتزام بدقة هكذا بالمكتوب ما هو إلا إهانة للروح القدس. فإن الكلمة والروح هما معًا دون انفصال. فإننا نسمع من الروح حين نفحص الأسفار المقدّسة. وفي فحصنا للأسفار المقدّسة، لابد أن نصلي لنحصل على استنارة من الروح.

الخطأ الثاني الذي يمكن لهذا النص أن يساعدنا على تجنّب الوقوع فيه هو خطأ وضع الروح في منافسة مع المسيح. فإن الروح القدس هو روح خادم. فهو يتكلّم فقط بما يسمع به (يوحنا ١٦: ١٣). ويعلن ما قد أُعطي له، فإن مهمته هي تمجيد آخر (عدد ١٤). فإن الثلاثة أقانيم في الثالوث جميعهم هم الله بالكامل، ومع ذلك ففي التدبير الإلهي، يُعرِّف الابن بالآب، ويمجّد الروح الابن. حقًا من المؤسف تجاهل الروح القدس، والتغاضي عن الدور الفعّال الذي يلعبه في حياتنا. لكن لابد ألا نعتقد مع هذا أننا إن ركّزنا على المسيح فهذا يعد أمرًا زائدا عن الحد. فإن الروح لا يتألّم حين نثبت اهتمامنا على المسيح.

فإن التهلل بالمسيح هو دليل على عمل الروح! إذ أن بؤرة تركيز الكنيسة ليس على الحمامة بل على الصليب، وهذا أيضًا ما يريده الروح نفسه. كما يقول جي. آي. باكر: “إن رسالة الروح لنا لم تكن قط: ’انظروا إلي، واصغوا إلي، وتعالوا إلي، واعرفوني‘، لكنها لطالما كانت: ’انظروا إليه، وشاهدوا مجده، واصغوا إليه، واسمعوا كلمته، واذهبوا إليه، وخذوا حياة، اعرفوه، وذوقوا هبة الفرح والسلام التي يعطيها لكم‘”.[14]

كل هذه القضية بشأن عمل الروح في إعلان وتمجيد الابن هي سبب الخطأ الرهيب الذي نجده في أفكار بعض المؤمنين غير المعروفين. فأنا أتذكّر أستاذًا في الجامعة كان يتجادل في أنه مادام الله صاحب سيادة، ومادام الروح يهبّ حيث يشاء، فإن الروح يمكنه إذن أن يكون عاملاً في الخلاص في جميع الأديان، محدثًا الولادة الثانية في أناس، وضامًا إيّاهم إلى المسيح، دون أن يعلموا بهذا. فهو كان يؤمن بأن البشر يمكنهم أن يخلصوا في المسيح دون أن يسمعوا عن المسيح أو دون أن يجاهروا بإيمانهم به. هذه الطريقة “الشموليّة” في التفكير شائعة، حتى أن سي. إس. لويس المحبوب كان يعتنقها:

يوجد أناس لا يقبلون العقيدة المسيحيّة الكاملة عن المسيح، لكنه مع هذا يجتذبهم إليه بقوة شديدة، حتى أنهم يصيرون له على نحو عميق لا يدركونه هم أنفسهم. فيوجد أناس في ديانات أخرى ينقادون من خلال تأثير إلهي سري للتركيز على تلك الجوانب من ديانتهم التي تتفق مع المسيحيّة، وبهذا هم ينتمون للمسيح دون أن يعلموا. على سبيل المثال، ربما ينقاد بوذي عن حسن نية للتركيز أكثر فأكثر على التعليم البوذي عن الرحمة، مع ترك التعليم البوذي في نقاط وجوانب أخرى في الخلفيّة (على الرغم من أنه قد لايزال يقول إنه يؤمن بها).[15]

لقد حصلت على استفادة في أحيان كثيرة من لويس، لكن تفكيره بهذا الشكل يعد بمثابة سوء فهم لإرساليّة الروح في يوم الخمسين وفي عصر الخمسين. فإن عمل الروح القدس هو أن يمجّد المسيح بأن يأخذ مما له — أي من تعليمه، ومن الحق المختص بموته وقيامته — ويخبر به. فإن الروح لا يعمل بشكل عشوائي دون وضع إعلان المسيح نصب عينيه. بل يمكننا القول إن أهم عمل للروح القدس هو أن يمجّد المسيح، وهو لا يفعل هذا بمعزل عن تسليط الضوء أمام المختارين على المسيح كي يروه ويتذوّقوه.

الروح القدس يقدّس:

تقدم لنا التحية الافتتاحيّة لرسالة بطرس الأولى مثالاً واضحًا عن الطبيعة الثالوثيّة للخلاص. فإن “المختارين المتغربين” قد اُختيروا بمقتضى علم الله الآب السابق، في تقديس الروح، كي يتسنى لهم أن يطيعوا يسوع المسيح ويُرَشّوا بدمه (١ بطرس ١: ٢). فإن الروح القدس يقدّس من خلال وسيلتين. أولاً، هو يفرزنا في المسيح كي نتطهّر بدمه. ثانيًا، هو يعمل فينا كي نتمكّن من أن نطيع يسوع المسيح. ومن خلال تقديس الروح نُعطَى مكانة جديدة، وتُغرَس فينا قوة جديدة.

عادة ما يكون العنصر الثاني، أي القوة الجديدة، هو ما نفكّر فيه حين نناقش موضوع التقديس. وعلى الرغم من كون التقديس أمرًا مكانيًا أيضًا، إلا أنه كمصطلح لاهوتي عادة يشير إلى تقديسنا التدريجيّ، أي الوسيلة التي من خلالها يعمل الله فينا لأجل مسرّته، فيما نتمّم نحن خلاصنا بخوف ورعدة (فيلبي ٢: ١٢-١٣). أو كما هو مكتوب في رومية ٨: ٩-١٣، أننا لم نعد في الجسد بل في الروح (المكانة)، ولهذا فإننا بالروح ينبغي أن نميت أعمال الجسد (القوة).

على الرغم من وجوب أن نبذل اجتهادًا كي ننمو في التقوى (٢ بطرس ١: ٥)، لكن الروح أيضًا يشدّدنا تشديدًا تامًا. فإن الكتاب المقدس ليس إعلانًا دعائيًا إخباريًا بخس الثمن يخبرنا أن نتغير، ثم يؤدّي دور قائد فريق التشجيع المتحمّس قائلاً: “يمكنك أن تفعل هذا!” لكننا قد تغيّرنا بالفعل. وقد صرنا بالفعل خليقة جديدة في المسيح (٢ كورنثوس ٥: ١٧)، وصارت لنا قوة جديدة عاملة لتأييدنا في الإنسان الباطن (أفسس ٣: ١٦)، مثمرة فينا ثمار الإنجيل بالروح (غلاطية ٥: ٢٢-٢٣). ويتوقّع الكتاب المقدس أنه، إذ يسكن فينا الله بالروح، فإننا يمكننا بهذا الروح عينه أن نبدأ في الاشتراك في الصفات التي تميّز الله نفسه (٢ بطرس ١: ٤). بالطبع لازالت هناك حرب محتدمة بداخلنا. لكن مع الروح يمكن أن يحدث التقدم الحقيقي والغلبة الحقيقيّة. فإن العهد الجديد لا يطلب منا سوى أن نكون من نحن عليه بالفعل.

كيف إذن يؤيّدنا الروح بالتحديد لأجل النمو في التقوى؟ فكّر مرة أخرى في صورة النور البلاغيّة. فإن الروح القدس، كما رأينا فيما سبق، هو كالنور الذي يسطع في مواضعنا المظلمة، كاشفًا وفاضحًا خطايانا، ومقتادًا إيّانا إلى التوبة. كما أن الروح أيضًا هو سراج يضيء كلمة الله، معلّمًا بالحق، ومعلنًا إيّاه باعتباره شيئًا ثمينًا (١ كورنثوس ٢: ٦-١٦). وكما نرى في يوحنا ١٦، يلقي الروح بالضوء على المسيح حتى نتمكّن من رؤية مجده وجماله، فنتغيّر بموجب هذا.

هذه هي الحُجّة المذهلة التي يقولها بولس في ٢ كورنثوس ٣: ١٨ “وَنَحْنُ جَمِيعًا نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا في مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ”. فكما تغيّر وجه موسى حين نظر مجد الرب فوق جبل سيناء، هكذا أيضًا سنتغير نحن حين ننظر مجد الله في وجه يسوع المسيح. عدا أننا لن نحصل على مجرد وجه ساطع تغيّر لونه، لكننا سننمو أكثر فأكثر إلى صورة ذاك الذي نراه. فإننا نصير على شاكلة من ننظره.

تحب زوجتي كثيرًا مشاهدة مباريات التزلج على الجليد. إذ تستهويها البراعة الفنيّة والجمال الذي تراه فيها. كما تستمتع أيضًا بمقالات المديح التي تُكتَب عن هؤلاء الفتيات. أما أنا فأجدها مثيرة للغثيان. لكن لابد أن أقر بأنه من المثير للانتباه أن ترى ما يمكن أن تفعلنه هؤلاء. أتخيّل أن معظمهن نشأن على مشاهدة مباريات التزلج على الجليد. وربما تعجّبن من حركات الدوران الخلفيّة، وقفزة أكسل المزدوجة، والقفزة الثلاثيّة. وأنا على يقين من أن الكثيرات منهن قد أصابهن الانبهار كفتيات صغيرات بكريستي ياماجوتشي أو ميشيل كوان. وبما فكّرن هكذا: “أريد أن افعل هذا، هذا مذهل ورائع! هذا لا يصدق! كيف لي أن أكون مثلها؟” بالطبع يتطلّب الأمر الكثير من التمرين كي تكون متزلجًا على الجليد على مستوى عالمي، وهكذا أيضًا يتطلّب التقديس بذل الجهد من جانبنا. لكن الجهد في الحالتين يأخذ إلهامه وحافزه من المجد، ويتشكل وفقًا له. فإن رؤية التألّق والجلال هي رؤية مغيّرة من تلقاء نفسها.

ولهذا فحين يكون الروح عاملاً فينا لتقديسنا — بكشفه عن الخطية، وإعلانه للحق، وإعلانه عن مجد المسيح — ثم نحول نحن وجوهنا عنه، فهذا يعد إهانة بالغة. يشير الكتاب المقدس إلى هذا على أنه مقاومة (أعمال الرسل ٧: ٥١)، أو إطفاء (١ تسالونيكي ٥: ١٩)، أو إحزان للروح القدس (أفسس ٤: ٣٠). ربما تكون هناك بعض الفروق الدقيقة بين الثلاث كلمات، لكنها جميعها تتحدّث عن مواقف لا نقبل فيها عمل الروح في حياتنا. فحين نرفض ما لابد أن تقوله كلمة الله لنا، وحين نحوّل أعيننا عن فضح الروح لخطايانا، وحين كمؤمنين نقول شيئًا ونفعل شيئًا آخر، فإننا نخطئ بهذا في حق الروح.[16]

الروح القدس يؤهّل:

لا يقتصر عمل الروح القدس على تشديدنا فحسب كي نحيا حياة مشابهة للمسيح، لكنّه أيضًا يؤهّلنا لخدمة على شاكلة خدمة المسيح. وتعد كلمة “الملء” وسيلة لوصف عمل التأهيل هذا. فإن الروح يملأ بالجرأة، والشجاعة، والحكمة، والإيمان، والفرح (أعمال الرسل ٦: ٣؛ ١١: ٢٤؛ ١٣: ٥٢). وعلى الرغم من كون الروح يسكن في داخلنا، إلا أنه مع هذا يستطيع أن يملأنا بدرجة أكبر أو أقل، كما أن البالون يمكن أن يكون ممتلئًا بالهواء، وإن نفخت فيه، يتمدد ويمتلئ أكثر. ربما يجعلك امتلاؤك بالروح شخصًا عاطفيًا أو لا، وربما يجعلك عفويًا أو لا. لكنّك كلما اشتركت في العبادة، والشكر، والخضوع الحقيقي، حينئذ يمكنك أن تتأكد من أن هذا هو الروح الذي يملأك (أفسس ٥: ١٨-٢١).

المواهب الروحيّة. تعد كلمة “موهبة” وسيلة أخرى للحديث عن عمل الروح التأهيلي. فإن كلمة “موهبة” (charisma) هي كلمة مرنة.[17] وبشكل عام، تعد الموهبة ببساطة هي استعلان وإظهار نعمة الله في شعبه ومن خلالهم.[18] في ١ كورنثوس ١٢: ٤-٦، تعد الموهبة شيئًا يعادل الخدمة أو النشاط. ولم يُقصَد من قوائم المواهب الرئيسيّة في العهد الجديد أن تكون وصافووصفًا شاملاً متكاملاً لعمل تأهيل الروح (انظر رومية ١٢: ٦-٨؛ ١ كورنثوس ١٢: ٨-١٠، ٢٨؛ أفسس ٤: ١١)، لكن هذه القوائم متداخلة فيما بينها، وغير محدّدة، وموسميّة عرضيّة في طبيعتها. فإن بولس كان يقول ببساطة: “إن الكنيسة مكوَّنة من جميع أصناف البشر الذين يعملون كافة أنواع الأعمال بواسطة يد الله. على سبيل المثال…”. بمعنى آخر، أينما ظهرت نعمة الله بوضوح في شعبه لأجل المنفعة، فهناك نرى المواهب الروحيّة عاملة.

ليس الغرض من المواهب الروحيّة الإبهار، أو حتى الإمداد باختبار شخصي قوي. لكن استعلان الروح هو للمنفعة ولبناء الكنيسة (١ كورنثوس ١٢: ٧؛ ١٤: ١٢، ٢٦). فإن المواهب موجودة لأجل الخدمة والوعظ لمنفعة جسد المسيح.

علاوة على ذلك، يقسّم الروح القدس المواهب لكل واحد بمفرده كما يشاء (١٢: ١١). لا يبدو الأمر وكأن الروح القدس ملأ شاحنة ضخمة بالمواهب، ثم قام بإفراغها وتوزيعها عشوائيًا على شعب الله. فهو لم يوزّع المواهب بأن وضعنا في كابينة الأموال [المترجم: هذه لعبة فيها يدخل أحدهم داخل كابينة هاتف وتتطاير الأوراق المالية من حوله وهو يحاول الإمساك بأكبر عدد ممكن] مع تطاير المواهب الروحيّة من حولنا (وقد يحصل شاب مسكين على موهبة الإدارة). كلا، فقد قسم الروح القدس المواهب بعناية وبصورة شخصيّة. فإن كل شخص لديه مواهب من الروح للخدمة. وهذا يعني أننا نستطيع أن نخدم. ويعني أيضًا أننا لابد أن نخدم. وسواء كانت هذه الخدمة داخل جدران الكنيسة أم خارجها، لكن لابد أن يعمل كل منا لأجل المنفعة. فإن الكنيسة ليست كالذهاب للسينما، بل هي بالأكثر تشبه التجنّد في جيش. فعلى كل جندي أن يعمل الدور الخاص به، لكن من غير الملائم أن يلتهم جندي الفيشار بينما يحارب زملاؤه من الجنود في الخنادق.

المواهب المثيرة للجدل. سيكون تقصيرًا مني أن أتحدّث عن المواهب الروحيّة دون أن أقول شيئًا عن الجدال الدائر حول “المواهب المعجزيّة”. فمن جانب، يوجد مؤيدو توقّف المواهب (cessationists)، الذين يدَّعون أن بعض المواهب كالتكلّم بالألسنة والتنبّؤ قد توقّفت بعد عصر الرسل. وهم يؤكدون على الآتي:

  • كانت الحاجة إلى المواهب المعجزيّة فقط لتكون آيات تعطي مصداقيّة لأجل التأسيس الأول للإنجيل وللكنيسة.
  • تقول ١ كورنثوس ١٣: ٨-١٠ بأن النبوّات، والألسنة، والعلم ستبطل “متى جاء الكامل”. وهناك أقليّة من مؤيدي توقف المواهب المعجزيّة يؤكدون بأن “الكامل” قد جاء بالفعل مع اكتمال الكتاب المقدس.
  • المواهب الإعلانيّة كالألسنة والنبوّة تحط من شأن سلطان وكفايّة الكتاب المقدّس.
  • المواهب المعجزيّة التي نراها اليوم ليست مشابهة لتلك التي كانت تُمارَس في العهد الجديد.

من الجانب الآخر، يوجد مؤيدو استمراريّة المواهب المعجزيّة (continuationists)، الذين يدَّعون أن جميع المواهب لازالت متاحة اليوم، وحُجتهم هي كالتالي:

  • مع غياب أي كلمة واضحة تثبت النقيض، فإننا لابد أن نفترض أن جميع المواهب لازالت فعّالة ولابد أن نَجِدَّ في طلبها (١ كورنثوس ١٤: ١).
  • “الكامل” في ١ كورنثوس ١٣ يشير إلى المجيء الثاني للمسيح، وليس لاكتمال الأسفار القانونيّة (ولابد من أن نشير إلى أن الكثير من مؤيدي توقف المواهب المعجزيّة يقبلون هذا التفسير أيضًا لكنهم يستخلصون منه استنتاجات مختلفة).
  • المواهب الإعلانيّة لا تملك السلطان ذاته الذي للكتاب المقدس. بل لابد من امتحانها باستمرار.
  • سواء كانت المواهب مطابقة لتلك التي كانت في القرن الأول أو لا، فلابد أن نرحب بعمل الروح في وسطنا.

أعتقد أن كلا الجانبين قد وصلا إلى إدراك أنهما يتّفقان في أشياء تفوق ما كانوا يعتقدون من قبل، فهم يتّفقون على الآتي:

  • كل إعلان لابد أن يُمتحَن في ضوء الكتاب المقدس.
  • لا يوجد ما يمكن أن يُضاف إلى الكتاب المقدس.
  • من غير الحكمة أن ندَّعي نوالنا لكلمات شخصيّة من الرب لأجل شخص آخر.
  • لابد أن نكون منفتحين لعمل الروح بطرق غير معتادة، سواء أطلق على هذا اسم “النبوة”، أو “الاستنارة”، أو أي شيء آخر.

أحد العلامات المشجعة في العالم الإنجيلي هي أن مؤيدي توقّف المواهب ومؤيدي استمراريّتها استطاعوا الاشتراك والعبادة معًا في السنوات الأخيرة، مدركين جيدًا أن القواسم المشتركة فيما بينهم في الإنجيل أعظم بكثير من القضايا التي تفرّقهم فيما يخص المواهب الروحيّة.

الروح القدس يعد:

في أفسس ١: ٣، يبدأ بولس انفجاره المجيد في التسبيح، مسبّحًا على البركات التي لنا في المسيح يسوع. هذا الحفل الموسيقي للبركات يصل إلى ذروته بالحديث عن ختم الروح: “الَّذِي فِيهِ أَيْضًا أَنْتُمْ، إِذْ سَمِعْتُمْ كَلِمَةَ الْحَقِّ، إِنْجِيلَ خَلاَصِكُمُ، الَّذِي فِيهِ أَيْضًا إِذْ آمَنْتُمْ خُتِمْتُمْ بِرُوحِ الْمَوْعِدِ الْقُدُّوسِ، الَّذِي هُوَ عُرْبُونُ مِيرَاثِنَا، لِفِدَاءِ الْمُقْتَنَى، لِمَدْحِ مَجْدِهِ” (أفسس ١: ١٣-١٤).

الختم. ما الذي يعنيه أن نُختَم بروح الموعد القدوس؟ ربما تبدو اللغة غامضة بالنسبة لنا، لكنها على الأرجح لم تكن كذلك بالنسبة لمؤمني أفسس. فقد كان الختم في العالم القديم يقوم بثلاثة أشياء: ١) يثبت أصالة الشيء — مثل رسالة مختومة بختم الملك الرسمي المثبَّت عليها بالشمع. ٢) يؤمِّن— مثل الختم الحديدي الذي يوضع كعلامة على الماشية لحمايتها من اللصوص. ٣) يشير إلى الملكيّة — مثل ذلك النقش الباهظ الثمن الذي يعد بصمة أدبيّة في الصفحة الافتتاحيّة للكتب. ولهذا يستخدم بولس صورة الختم ليوحي بهذه الأفكار عينها.

فإن ختم الروح يثبت أصالتنا نحن كمؤمنين حقيقيين، ويؤمّن سلامتنا الأبديّة، ويضع علينا علامة باعتبارنا ملكيّة خاصة بالله. وكأن الله أخذ نقشه الروحي وختمنا كخاصته.

على الرغم من أن بعض المؤمنين سيخالفونني الرأي، لكني أعتقد وأؤمن بأن ختم الروح يقع عند التجديد. كما يقول بيتر أوبريان: “يعد الختم عند قراء هذا النص إشارة إلى النوال الفعلي للروح. فإننا نجد فيه رابطة بولسيّة بين استماع رسالة الإنجيل، والإيمان بها، ونوال الروح، وتعد هذه عناصر هامة لعمل التجديد.”[19]

في هذه الآيات الكتابيّة، تقوم الترجمة الإنجليزية ESV بترجمة اسم الفاعل المبهم بكلمة “when” (حين). فإننا حين سمعنا الكلمة وآمنا، خُتمنا. هذه الأشياء — أي الإيمان والختم — قد حدثت في الوقت ذاته، ولهذا استطاع بولس كتابة الرسالة لأهل أفسس من مسافة بعيدة وهو متيقّن من أنهم جميعًا قد خُتموا بالفعل بروح الموعد القدوس. فإن الختم هو عمل موضوعي تم فينا بالتزامن مع التجديد وسكنى الروح القدس.

لكن ليس لأن هذا العمل موضوعي، فهذا يعني أننا لا يمكننا أن نختبره ذاتيًا. بل لابد أن نصلي كي نختبر انسكاب محبة الله في قلوبنا (رومية ٥: ٥). فعلينا أن نرجو لا أن نعرف فحسب أن الروح هو ضماننا، بل أن نشعر في أعماقنا بالخبر السار الذي يفيد بأنه عربون ميراثنا (٢ كورنثوس ٥: ٥؛ أفسس ٤: ٣٠). فإن ختم الروح موجود بالفعل حتى في غياب اليقين الكامل بالخلاص، كما أن ارتفاع قدمين من الجليد يظل متماسكًا بالفعل حتى حين نعتقد أن الارتفاع لا يزيد عن بوصتين. لكن يا له من شعور أفضل أن نتزلج بحرية فوق بركة ماء، مطمئنّين ومتيقّنين بأننا بعيدون عن الخطر.

إن ختم روح الموعد القدّوس، الذي يحفظنا سالمين إلى يوم الفداء الأخير، هو عطية يمتلكها كل مؤمن، والقصد أن يتمتّع بها كل مؤمن (أفسس ١: ١٨). فإن الروح يشبه خاتم الخطبة الذي به يقول الله: “هذا الوعد هو مجرد البداية، لا يمكنك أن تتخيل كم سأباركك، فهناك وليمة عرس لن تصدّقها عتيدة أن تأتي إليك. لكني قد أعطيتك روحي كيما تؤمن بأنها عتيدة أن تأتي”.

هلمَّ اقرع. ماذا ينبغي أن نفعل بكل هذا الحق عن شخص الروح القدس وعمله؟ لدى يسوع بعض النصائح المفيدة لنا. لكن، أولاً، لنستمع إلى هذه القصة.

حدث هذا في باكر يوم سبت، فقط في السابعة صباحًا. وهذا يعني أننا إن كنا في الشتاء، وإن كنت تقطن حيث أقطن أنا، فإن الشمس لا تزال في مهدها نائمة. وإذ دفعك جوعك، ولم يوقفك الظلام، شرعت في عمل فطائر محلاة، فأخذت بعض الدقيق والقليل من الزيت، ثم توجهت إلى الثلاجة لتجلب بيضة. فإن كل ما تحتاجه هو بيضة واحدة كي تشبع جوعك وتشبع عائلتك أيضًا. لكن للأسف الشديد، لم تجد بيضًا.

حينئذ تذهب سريعًا إلى منزل جيرانك وتطرق الباب بحذر. وبعد دقيقة من الصمت انفتح الباب فتحة صغيرة.

“ماذا تريد؟ نحن في صباح السبت، والأطفال جميعهم نائمون. وأنا أيضًا لابد أن أكون الآن نائمًا في سريري”.

فترد أنت: أتأسف على هذا الإزعاج، لكني فقط أحتاج إلى بيضة واحدة”.

“اذهب الآن وعد ثانية في التاسعة والنصف”.

لكن فيما تعترض الباب بقدميك، توسلّت مرة أخرى قائلاً: “أرجوك، يمكنني أن أرى ثلاجتك من هنا. لن يتطلّب منك الأمر أكثر من عشر ثواني. فقط بيضة واحدة. ثم يمكنك العودة بعدها إلى النوم”. وبالتأكيد، مع القليل من المثابرة والإصرار، تحصل على بيضتك، وتحصل عائلتك على الفطائر.

لقد قصّ يسوع قصة مثل هذه في يوم ما. وإليك ما قاله في نهايتها:

وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: اسْأَلُوا تُعْطَوْا، اُطْلُبُوا تَجِدُوا، اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ.  فَمَنْ مِنْكُمْ، وَهُوَ أَبٌ، يَسْأَلُهُ ابْنُهُ خُبْزًا، أَفَيُعْطِيهِ حَجَرًا؟ أَوْ سَمَكَةً، أَفَيُعْطِيهِ حَيَّةً بَدَلَ السَّمَكَةِ؟ أَوْ إِذَا سَأَلَهُ بَيْضَةً، أَفَيُعْطِيهِ عَقْرَبًا؟ فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ الآبُ الَّذِي مِنَ السَّمَاءِ، يُعْطِي الرُّوحَ الْقُدُسَ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ؟ (لوقا ١١: ٩-١٣)

إن أباك السماوي يحبك أكثر مما تحب أنت عائلتك. لم يحدث قط أن تلقّى أحد أطفالنا الصغار في صباح الكريسماس علبة حيات، لأننا، وإن كنا أشرارًا، لكننا نحب أن نعطي أولادنا وأحفادنا هدايا جيدة. فكم بالحري إذن يتلذذ الله بإعطائنا مواهب جيدة؟

ولهذا، هلمَّ اقرع. اطلب منه أفضل موهبة على الإطلاق. اطلب منه المزيد من حضور الروح القدس في حياتك. اطلب من الله أن يملأ كنيستك بقوة الروح. ألا ترغب في المزيد من المسيح، المزيد من التوبة، والمزيد من التقوى في حياتك؟ ألا ترغب في أن تزداد كنيستك في المحبة، والأمانة، والشجاعة، وفي إكرام الله؟ ألا تبغي ملئًا أفضل وأكثر؟

كل ما علينا فعله هو أن نسأل. فإن يسوع نفسه يعد باستجابة مرضيّة. اسأل الروح القدس وسيُعطَى لك، اطلب تجد، اقرع يُفتَح لك الباب.

 

[1] Sinclair B. Ferguson, The Holy Spirit (Downers Grove, IL: InterVarsity, 1996), 21.

[2] لقد تم اختيار هذه القائمة من كتاب

Robert Letham, The Holy Trinity: In Scripture, History, Theology, and Worship (Phillipsburg, NJ: P&R, 2004), 60–61.

[3] Ferguson, Holy Spirit, 37.

[4]  في حين يعلّم الكتاب المقدس بوضوح بأن الروح القدس قد أُرسل من الآب والابن، لكن هناك وضوح أقل فيما يخص إن كان الروح منبثقًا أزليًا من الآب والابن على حد سواء أم لا. ووفقًا للنسخة الأقدم من قانون إيمان نيقيّة — القسطنطينيّة (عام ٣٨٩ م)، الروح القدس “منبثق من الآب”. ومن المعروف أن كلمة “والابن” (filioque) قد أُضيفت في مجمع توليدو في عام ٥٨٩ م، مما أدى إلى حدوث انشقاق بين كنيسة الشرق وكنيسة الغرب. وقد كان الجدل الذي نشأ عن هذا سياسيًا في جزء منه، ولاهوتيًا في جزء آخر، وسوء تفاهم في جزء آخر. ويلائم التقليد الغربي جيدًا التركيز الكتابيّ على عمل الروح في إعادة خلقنا على صورة المسيح، ويحمينا ضد أفكار عن الخلاص التي تضع عمل الروح في المركز بمعزل عن المسيح. لكن أولئك المناصرين لكلمة filioque (مثلي أنا) لابد مع ذلك أن يستمعوا جيدًا إلى المخاوف الشرقيّة.

See Letham, Holy Trinity, 201–20.

[5] See D.A. Carson, The Gospel according to John (Grand rapids, MI: Eerdmans, 1991), 534–39.

[6] Jonathan Edwards, “The Distinguishing Marks of a Work of the Spirit of God,” in Jonathan Edwards on Revival (1741; repr., Edinburgh: banner of Truth, 1995), 121.

[7] See John Piper, Finally Alive (Ross-shire, Scotland: Christian Focus, 2009), 30–31.

[8] Ibid., 39–42.

[9] John Calvin, Institutes of the Christian Religion, ed. John T. McNeil; trans. Ford Lewis Battles (Philadelphia: Westminster, 1960), 3.1.1.

[10] Ibid.

[11] John Murray, Redemption, Accomplished and Applied (Grand rapids, MI: Eerdmans, 1955), 161.

[12] According to Ferguson, Holy Spirit, 100.

[13] John Stott, Baptism and Fullness: The Work of the Holy Spirit Today (Downers Grove, IL: InterVarsity, 1975), 43.

[14] J.I. Packer, Keep in Step with the Spirit: Finding Fullness in Our Walk with God (Grand rapids, MI: baker, 2005), 57.

[15] C.S. Lewis, Mere Christianity (1943; repr., New York: Touchstone, 1996), 178.

[16] See Graham Cole, Engaging with the Holy Spirit: Real Questions, Practical Answers (Wheaton, IL: Crossway, 2007), 49, 81, 97.

[17] انظر رومية ١: ١١؛ ٥: ١٥-١٦؛ ٦: ٢٣؛ ١١: ٢٩؛ ٢ كورنثوس ١: ١١؛ عبرانيين ٢: ٤.

[18] يتفق الكاريزماتيون وغير الكاريزماتيين على هذه النقطة.

See Wayne Grudem, Systematic Theology: An Introduction to Biblical Doctrine (Grand rapids, MI: Zondervan, 1994), 1016; Richard B. Gaffin, Perspectives on Pentecost: New Testament Teaching on the Gifts of the Holy Spirit (Phillipsburg, NJ: P&R, 1979), 47.

[19] Peter T. O’Brien, The Letter to the Ephesians (Grand rapids, MI: Eerdmans, 1999), 120.

شارك مع أصدقائك

كيفين ديونج

كيفين ديونج حاصل على درجة الدكتوراة في فلسفة اللاهوت من جامعة ليستر. وهو راعي كنيسة كرايست كوفننت بولاية نورث كارولينا، كما شغل في الماضي منصب رئيس مجلس إدارة ائتلاف الإنجيل، ويعمل كأستاذ اللاهوت النظامي في كليّة اللاهوت المُصلح، بمدينة شارلوت.