التبرير

تخيّل معي هذا المشهد: مجرم يقف متّهمًا أمام قاضٍ نزيه ليلقى حكمه العادل. وتبدأ الإجراءات القانونيّة بسرد موظف المحكمة لقوانين وشرائع المملكة. وفيما كان المجرم يستمع إلى هذه الشرائع، بدأ في إدراك أنه مستحق أن يُدان، إذ يتبيّن له أنه قد انتهك كل قانون موجود في دستور المملكة. وبغض النظر عن التهمة الموجَّهة إليه، فهو كان متيقّنًا من أنه سيُوجَد مذنبًا. وهكذا، فحين التفت القاضي أخيرًا إليه وسأله ماذا لديه ليقول دفاعًا عن نفسه، وقف الرجل أمام القاضي، عاجزًا عن الكلام. وقف في رعبٍ صامتٍ، غير قادر على التفوّه بشيء دفاعًا عن نفسه.

الحاجة إلى التبرير: عامّة وماسّة

هذا هو المأزق القانونيّ اليائس الذي تصفه لنا الأصحاحات الافتتاحية لرسالة رومية. فإن البشريّة بأكملها تقف داخل قفص الاتهام. إذ الجميع — متديّنون وغير متديّنين، يهوداً وأمماً، مؤمنون وملحدون على حد سواء — لابد أن يُظهَروا أمام عرش الله للدينونة. فمقياس العدالة هو ناموس الله الكامل. وبهذا المقياس، يستحق الجميع أن يُدانوا: “إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ” (رومية ٣: ٢٣)، “لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ” (رومية ٣: ١٠؛ قارن مزمور ١٤: ٣).

ولذلك، فحين يُقرَأ الناموس، تصير كل وصية اتهامًا. وليس ما نقوله دفاعًا عن أنفسنا: “وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَقُولُهُ النَّامُوسُ فَهُوَ يُكَلِّمُ بِهِ الَّذِينَ فِي النَّامُوسِ، لِكَيْ يَسْتَدَّ كُلُّ فَمٍ، وَيَصِيرَ كُلُّ الْعَالَمِ تَحْتَ قِصَاصٍ مِنَ اللهِ. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ كُلُّ ذِي جَسَدٍ لاَ يَتَبَرَّرُ أَمَامَهُ. لأَنَّ بِالنَّامُوسِ مَعْرِفَةَ الْخَطِيَّةِ” (رومية ٣: ١٩-٢٠).

إن مشكلة البشريّة بمنتهى البساطة هي الخطيّة. فإننا خطاة مذنبون لا نستحق سوى غضب الله. كما أنه لا يوجد ما في وسعنا فعله كي نُخلِّص أنفسنا. إذ أن متطلبات بر الله لا يمكنها أن تخلصنا، بل هي فقط تديننا لعجزنا عن حفظها. ولذلك، فحين نقف أمام الله للمحاكمة، لا توجد أدنى فرصة أن نُقبل بناء على أي شيء فعلناه. فهذا ليس نوع المحاكمة الذي فيه نكون أبرياء حتى تثبت إدانتنا، بل هي محاكمة قد ثبتت فيها إدانتنا بالفعل، ولابد أن نظل مُدانين حتى يصدر حكم ببرنا.

وحين ندرك موقفنا القانونيّ الميؤوس منه، حينئذ فقط يمكننا أن نبدأ في فهم عقيدة التبرير الكتابيّة. ونجد مثالاً صارخًا على حالة الخاطئ الميؤوس منها في حياة دونالد سمارتو. فبينما كان سمارتو يدرس للحصول على وظيفة قس، طُلب منه أن يؤدّي دور أسقف في مسرحيّة دينيّة. وكي يساعده الدير الذي كان ينتمي إليه على تقمّص الدور، دبّر له أن يقترض رداء أسقف من الأسقفيّة. وقد كتب سمارتو في سيرته الذاتيّة هذا الكلام: “لقد كنت في شدة الحماس لهذا، وحين وصل الرداء، ذهبت إلى غرفتي، وأغلقت الباب، وأخرجت بحرص الرداء القرمزي، والوشاح، وغطاء الرأس من الحقيبة.”[1]

وإذ ارتدى سمارتو هذه الثياب كل ليلة قبل أن يؤدّي دوره، ازداد هوسه بها يوما بعد يوم:

بالرغم من أن العرض المسرحيّ كان يبدأ في الساعة الثامنة، إلا أني وجدت نفسي أرتدي الثياب في ساعة مبكرة يومًا فيوم. وكان الأمر يتطلّب مني حوالي نصف الساعة لإحكام وغلق جميع الأزرار، لكني بحلول الأيام الأخيرة من العرض المسرحيّ، كنت أرتدي الثياب منذ حوالي الساعة الثانية بعد الظهر، أي قبل بداية العرض بخمس ساعات. وكنت أختال جيئة وذهابًا أمام مرآة كاملة الطول، وفيما كنت أفعل هذا، كان يتملّكني شعور ما. كنت أقف لأطول وقت ممكن أنظر لصورتي في المرآة، وأعجبني ما رأيته… وانتابني شعور بأني كنت مقدسًا. ولم أفكر في كوني خاطئًا، بل شعرت بأن أعمالي كانت ترضي الله.[2]

ولكن تحطّمت ثقة سمارتو الزائفة في الوقت الذي رأى فيه حقيقة الشخص الذي كان تحت الملابس. وقد حدث هذا في أثناء مشاهدته لعرض سينمائي:

في أحداث الفيلم، دخل أسقف إلى المشهد. وإذ كان يرتدي ملابس كهنوتيّة رائعة مرصّعة بالأحجار الكريمة المتألّقة، خرج ببطء من خلف ستار. ولكن فيما كان يسير، هبّت عاصفة شديدة ومزّقت رداءه، فانفتح الرداء كاشفًا تحته عن هيكل عظمي متعفن.

في لحظة، فكرت قائلاً: هذا أنا… ولكني تجاهلت الفكرة في الحال… وقلت: “هذا ليس أنا!”… وأردت أن أنتزع صور هذا الفيلم من ذهني، لكن الأمر لم يُجدِ… وظللت أحاول أن أجبر نفسي على التحسن. ثم قلت لله: “دع هذا الشعور يفارقني، لست مرائيًا. ولست ممثلاً. أنا شخص صالح!” وظللت أفكر في جميع الأعمال الصالحة التي فعلتها… إلا أن هذه الأفكار لم تجلب لي أي عزاء.[3]

وحين نرى حقيقة خطايانا القاسية والمرة، حينئذ فقط نكون على استعداد فعلي للالتفات إلى الله لطلب المساعدة، وبالأخص، لأجل طلب غفران وبر يسوع المسيح. كما كتب جيمس بوكانان في كتابه الشهير عن التبرير: “ليس أفضل إعداد نقوم به لدراسة هذه العقيدة هو القدرة الفكريّة العظيمة، أو التعليم الأكاديميّ المكثَّف، بل ضمير متأثر بوعي سليم بحالتنا الحقيقيّة كخطاة في نظر الله”.[4]

مركزيّة التبرير: “مفصل”، و”أساس”، و”بند رئيسيّ”

بعد أن وصف الرسول بولس المأزق الذي نحن فيه بكل تفاصيله البائسة، أعلن عن علاج قانونيّ قد أصبح متاحًا: “وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ ظَهَرَ بِرُّ اللهِ بِدُونِ النَّامُوسِ” (رومية ٣: ٢١). تشير الكلمات “أما الآن” إلى تحوّل جوهريّ في مسار حديث بولس. والأكثر من ذلك، هي تُطلعنا أيضًا على نقطة التحوّل الكبرى في تاريخ الخلاص. فإننا حتى هذه المرحلة نقف في موقف إدانة. إذ يخبرنا الناموس الكامل لله بأننا لا يمكن أن نصير أبرياء أمام منصة القضاء الإلهيّة. وأما الآن، فقد ظهر بر من الله. إذ دبر الله لنا وسيلة لإصدار حكم ببراءتنا. أو كي نصيغ هذا بالمفردات الكتابيّة، لقد أتاح الله وسيلة بها نتبرر.

لا يقتصر الخلاص على التبرير بالإيمان. إلا أننا لابد أن نقول، دون أن نكون بهذا مغالين في تقدير أهمية هذه العقيدة، إنها تشغل مكانًا يقترب كثيرًا من مركز الإنجيل. فإن التبرير هو أحد الموضوعات الرئيسيّة المركزيّة في كلمة الله، وخاصة في العهد الجديد، حيث نجد مشتقات متنوعة من كلمة “يبرر” (dikaioo) أكثر من مائتي مرة.[5] ويعد انتشار هذه المفردات دليلاً يشير إلى أهميّة عقيدة التبرير في اللاهوت الكتابيّ.

وقد أقرّ العديد من اللاهوتيين في تاريخ الكنيسة المسيحيّة بمركزيّة عقيدة التبرير. فقد أطلق عليها جون كالفن “المفصل الرئيسيّ الذي يدور حوله الخلاص”.[6] أما المُصلِح البريطانيّ توماس كرانمر، فقد وصفها بأنها “الصخرة والأساس المتين للديانة المسيحيّة”.[7] وربما الوصف الأشهر على الإطلاق هو وصف مارتن لوثر، إذ دعا التبرير “البند الرئيسيّ للعقيدة المسيحيّة”، حتى أنه “إذا تهدّمت عقيدة التبرير، تهدّم معها كل شيء آخر”.[8] وسواء كان التبرير في اعتقادنا هو المفصل، أو الأساس، أو البند الرئيسيّ الذي يحدّد ثبات أو سقوط الخلاص، فإن لا رجاء في الخلاص بدونه. وقد قال لوثر في مناسبة أخرى إن هذه هي العقيدة التي “تلد كنيسة الله، وتطعمها، وتبنيها، وتحفظها، وتدافع عنها، ودونها لا يمكن لهذه الكنيسة أن توجد لساعة واحدة”.[9]

معنى التبرير: إصدار حكم براءة

يعد التبرير عقيدة مركزيّة بالنسبة للإنجيل المسيحيّ، لأنها تجيب عن السؤال الأساسيّ: “كيف يمكن لخاطئ أن يتبرّر أمام إله قدوس؟” ويكمن الجواب عن هذا في التعليم الكتابيّ عن التبرير، والذي يصيغه إقرار إيمان هيئة ائتلاف الإنجيل كما يلي:

نؤمن بأن المسيح، بطاعته وموته، قد سدّد دين جميع المتبررين كاملاً. فهو بذبيحته، تحمّل عنا العقوبة التي نستحقّها عن خطايانا، صانعًا عنّا إرضاءً ملائمًا، وحقيقيًا، وكاملاً لعدل الله. وبطاعته الكاملة أرضى مطالب بر الله عنّا، بما أن تلك الطاعة الكاملة توضع بالإيمان وحده في حساب جميع من يتّكلون على المسيح وحده لأجل قبول الله لهم.

تأتي حصيلة كلمات عقيدة التبرير من مصطلحات المحاكمات القضائيّة، حيث أن الفعل “يبرر” هو فعل تصريحيّ. أما كلمة “التبرير” في صورتها الإسميّة فهي كلمة قانونيّة تشير إلى الموقف القضائيّ للشخص. أما المصطلحات الكتابيّة التي تحيط بعقيدة التبرير فهي تنتمي في أصلها إلى العلاقات القانونيّة. فإن الفعل اليونانيّ dikaioo، والذي يعني “يبرّر”، هو في الأساس مصطلح قضائيّ “يشير في الأساس إلى إصدار حكم بالبراءة”.[10] فأن تُبرّر يعني أن تصدر حكمًا بالبراءة، أي أن تعلن براءة شخص ما، أو تعلن العفو القانونيّ. فإن التبرير هو التبرئة. فهو قرار يصدر من المحكمة يفيد بأن شخصًا ما هو في موقف سليم مع الله ومع ناموسه. فهي التصريح — قانونيًا — بأن المتهم غير مذنب بل بريء.

توجد وسيلة جيّدة لتعريف التبرير وهي تعريفه بالمقابلة مع النقيض: أي الإدانة. أن تدين هو أن تصدر حكمًا بأن شخصًا ما ليس بريئًا. فهو الحكم القضائيّ — بحسب القانون — بأنه مذنب. بالطبع ليس فعل الإدانة نفسه هو ما يجعل من شخص ما مذنبًا. بل أفعاله هي التي جعله مذنبًا، فهو يصير مذنبًا في اللحظة ذاتها التي ينتهك فيها القانون. ولذلك فحين يدان في النهاية، فإن كل ما تقوم به المحكمة فقط هو التصريح بما هو عليه بالفعل: أي أنه خاطئ مذنب.

أما التبرير فهو على النقيض من الإدانة. أن تُبرّر هو أن تصدر حكم براءة. وهكذا ففي التبرير، لا يُجعَل الشخص بارًا، بل يُصرَّح أنه بارًا. وهكذا، فإن التبرير ليس عملية ما، بل هو فعل. فهو ليس انتقال البر بالإيمان مضافًا إليه الأعمال والفرائض المقدسة، كما حاول بعض اللاهوتيين الادعاء، لكنه احتساب البر بالإيمان وحده.

ويمكن أن نبيّن المعنى الحقيقيّ للتبرير — الذي هو “إعلان الشخص بارًا قانونيًا”، وليس “جعل الشخص بارًا فعليًا” — من كلمة الله. على سبيل المثال، يقدم الكتاب المقدس في تثنية ٢٥: ١ التعليم الآتي: “إِذَا كَانَتْ خُصُومَةٌ بَيْنَ أُنَاسٍ وَتَقَدَّمُوا إِلَى الْقَضَاءِ لِيَقْضِيَ الْقُضَاةُ بَيْنَهُمْ، فَلْيُبَرِّرُوا الْبَارَّ [في اللغة الإنجليزية: فليبرّئوا البريء] وَيَحْكُمُوا عَلَى الْمُذْنِبِ”. فمن الواضح إذن أن القاضي لا يجعل هذا الشخص مذنبًا، بل ببساطة يصرح بكونه مذنبًا، وبهذا التصريح يحكم عليه بالعقوبة التي يستحقها. وقياسًا على هذا، فإن كلمة “يبرّئ” (والتي هي في أصل الفعل العبريّ hatsdiq، أي “يبرر”) تعني “تصريح بالبر”.

أو لنتناول أيضًا أمثال ١٧: ١٥ “مُبَرِّئُ الْمُذْنِبَ وَمُذَنِّبُ الْبَرِيءَ كِلاَهُمَا مَكْرَهَةُ الرَّبِّ”. هنا أيضًا تشير الكلمتان “مبرّئ” أو “مبرّر” (hatsdiq) بوضوح إلى تصريح قانونيّ. فمن خلال تعبير الله عن امتعاضه من تبرير المذنب، فهو لا يحاول منع أحد من تحويل المذنبين إلى مواطنين صالحين وشرفاء. فإن كان تبرير المذنبين يعني جعلهم أبرارًا، فإن الله بالتأكيد كان سيصدِّق عليه! لكن اعتراضه بالأحرى كان على التصريح ببراءة المذنب، والذي هو تصريح كاذب وبغيض.

وحين نذهب إلى العهد الجديد، نجد كلمة التبرير مستخدمة تقريبًا على النحو ذاته. فنظير العهد القديم، أن تُبرّر هو النقيض من أن تدين. ويتضح هذا، على سبيل المثال، من المقابلة التي يصنعها بولس بين خطية آدم وهبة المسيح: “لأَنَّ الْحُكْمَ مِنْ وَاحِدٍ لِلدَّيْنُونَةِ، وَأَمَّا الْهِبَةُ فَمِنْ جَرَّى خَطَايَا كَثِيرَةٍ لِلتَّبْرِيرِ” (رومية ٥: ١٦). وبالتالي، أن تُبرّر يعني أن تصرّح ببراءة متهم من تهمة ما. وفي سياق موضوع الخلاص، هو تصريح الله بقبول شخص ما أمامه، أي بأنه في موقف قانونيّ سليم قدّامه.

لاحظ أن التبرير يتعدّى فكرة التبرئة. فأن تبُرّئ هو أن تُصرّح بأن شخصًا ما “غير مذنب”. أما في التبرير، فإن الله لا يتوقف عند حد تبرئة الخاطئ من جميع التهم الموجَّهة إليه، بل هو يُصرّح بكون الخاطئ بارًا إيجابيًا. فإن التبرير هو التصريح القضائيّ لله، بناء على حياة يسوع المسيح الكاملة وموته كذبيحة، والذي يُؤخَذ بالإيمان، بأن الخاطئ بار البر ذاته الذي لابنه الحبيب.

يعترض بعض اللاهوتيّين على هذا الكلام مشيرين إلى أنه يسلّط الضوء بشكل زائد عن الحد على الجوانب القضائيّة. فهم يعترضون على فكرة أن الصليب كان عمليّة نقل قانونيّة فيها أُجبر ضحيّة بريئة على تسديد العقوبة عن جرائم آخرين. إلا أن الكتاب المقدس يُعلِّم عن التبرير القضائيّ، ولأسباب وجيهة. ففي حين توجد عدة طرق لوصف نعمة الله الخلاصيّة، إلا أن الجانب القانونيّ الخاص بالتبرير يعد أساسيًا بالنسبة للإنجيل. وبما أن الله قاضٍ بقدر ما هو أب أيضًا، فإن موقفنا معه لابد أن يكون سليمًا. ويعد استبعاد الأساس القانونيّ لهذا الموقف السليم (أي التبرير) بمثابة جعل معرفة الله الخلاصيّة أمرًا مستحيلاً بالنسبة للخاطئ. والأسوأ من هذا، هو بمثابة أن تؤمن بإله محبته جائرة، يغفر لأناس دون أن يكون له أي حق في فعل هذا.

مصدر التبرير: نعمة الله المجانيّة

إن كان البر لازمًا للتبرير، فمن أين يأتي هذا البر؟ كما رأينا قبلاً، إن مشكلتنا تكمن في أننا لا نملك أي بر في أنفسنا. ما هو إذًا مصدر البر الذي يبرّر؟

إن مصدر تبريرنا هي نعمة الله المجانيّة. ويصيغ الرسول بولس هذا ببساطة شديدة: “مُتَبَرِّرِينَ مَجَّانًا بِنِعْمَتِهِ” (رومية ٣: ٢٤). ويقدّم إقرار إيمان هيئة ائتلاف الإنجيل جوابًا أكثر توسعًا كالآتي:

نظرًا لأن الآب قد بذل المسيح لأجلنا، ونظرًا لأن طاعة المسيح وعقوبته قد تم قبولها بديلاً عن طاعتنا وعقوبتنا، مجانًا وليس لأي شيء فينا، فإن هذا التبرير هو بالتالي بنعمة مجانيّة تمامًا، كي يتمجّد عدل الله التام وأيضًا نعمته الغنيّة في تبرير الخطاة.

أن نقول إننا متبرّرون بالنعمة فهذا يعني أن التبرير هو أكثر بكثير مما نستحق. فهو عمل من أعمال إحسان الله غير المستحَق. كما كتب توماس كرانمر في كتابه “Homily on Salvation” [أي: عظة عن الخلاص]: “لا يوجد إنسان يمكنه بأعماله أن يتبرر ويصير بارًا أمام الله، بل كل إنسان لابد بالضرورة أن يطلب برًا أو تبريرًا آخر، كي يُقبَل بين يدي الله”.[11] إن رسالة الإنجيل هي أن الله يقدّم هذا البر عطية للخطاة: “اَللهُ هُوَ الَّذِي يُبَرِّرُ” (رومية ٨: ٣٣).

هذا يأتي بنا إلى نقطة تعد محل نزاع في تفسير العهد الجديد. فإن عطية بر الله الذي يبرر قد جاءت مرتين في رومية ٣، في كل من العدد ٢١ (“وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ ظَهَرَ بِرُّ اللهِ [في الترجمة الإنجليزية NIV: “بر من الله”] بِدُونِ النَّامُوسِ، مَشْهُودًا لَهُ مِنَ النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءِ”)، والعدد ٢٢ (“بِرُّ اللهِ” [في الترجمة الإنجليزية NIV: “بر من الله”]). لكن في حقيقة الأمر، هذان العددان لا يتحدثان عن “بر من الله”، كما جاء في ترجمة NIV، بل عن “بر الله“.

هناك أكثر من طريقة لتفسير هذه العبارة. فربما تعبّر عبارة “بر الله” عن ما يطلق عليه علماء اللغة “مضاف إليه الملكيّة”. ونجد مثالاً على هذا في عبارة “شعب الله”، حيث ينتمي هذا الشعب موضوع الحديث إلى الله، ويعد الله هو الشخص الذي إليه ينتمون. وهكذا فربما تعني عبارة “بر الله” ببساطة البر الذي يملكه الله، والذي ينتمي إليه، ويظهره في الخلاص. ونجد هذه الفكرة أيضًا في مزمور ٩٨: ٢ “أَعْلَنَ الرَّبُّ خَلاَصَهُ. لِعُيُونِ الأُمَمِ كَشَفَ بِرَّهُ”.

لكن مع ذلك يوجد احتمال آخر. فعبارة “بر الله” قد تدل على المصدر الذي يأتي منه هذا البر، وهو ما يطلق عليه علماء اللغة “مضاف إليه المصدر”. ونجد مثالاً على هذا في عبارة “موسيقى بتهوفن”، حيث أن مصدر الموسيقى موضوع الحديث هو بتهوفن. فإن كان “بر الله” هو مضاف ومضاف إليه بمعنى المصدر، فإن الله حينئذ سيكون هو مصدر البر. ويتضح أن هذا هو التفسير الذي تفضله ترجمة NIV، حين مكتوب “بر من الله”. وبناء على هذا، يكون الله هو أصل ومصدر البر الذي يغدقه على الخطاة.

أي تفسير هو التفسير الصحيح؟ هل ينتمي البر لله، أم يأتي كعطية من عند الله؟ بالتأكيد كلا التصريحين صحيحان. فإن البر ينتمي لله باعتباره أحد صفاته الرئيسيّة، كما جاء بالفعل في الخاتمة القوية لحديث بولس في رومية 3 حيث قال إن الله بينما يبرّر الخطاة، من جميع الشعوب، فهو لا يزال يحتفظ ببره! ففي التبرير “[يظهر الله] بِرِّهِ فِي الزَّمَانِ الْحَاضِرِ، لِيَكُونَ بَارًّا وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ الإِيمَانِ بِيَسُوعَ” (رومية ٣: ٢٦).

ومع ذلك، فإن بر الله هو أيضًا “ذلك البر الذي يطالبه بره بأن يطالب به”،[12] والذي يقدّمه بالنعمة عطيّة لكل من يؤمن. وهكذا، فإن لنا بر من الله — بر لا يملكه الله ويُظهره فحسب، بل أيضًا يغدقه. فإن القضية المطروحة في التبرير لا تقتصر على إن كان الله بارًا أم لا، بل إن كان من الممكن أن نوجد نحن أبرارًا أم لا. ويبدو أن بولس يزيل جميع الشكوك بشأن هذا في العدد ٢٠، حيث يصل إلى الخاتمة المرعبة بأن “كُلُّ ذِي جَسَدٍ لاَ يَتَبَرَّرُ أَمَامَهُ”.

ثم في عدد ٢١، يعلن بولس الخبر السار بأنه يمكن أن يُصرّح لنا أننا أبراراً أمام الله، ليس ببرنا الذاتيّ، بل بالبر الذي يأتي من الله. ويؤكد عدد ٢٢ على هذا التفسير، إذ يبيّن بوضوح أن بر الله يأتي “إِلَى كُلِّ … الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ”. كما يوجد المزيد من التأكيد على هذا في رومية ٥: ١٧، الذي يتحدث عمّن ينالون فيض نعمة الله، وعطية البر.

وهكذا، فإن البر لا يقتصر على كونه صفة يُظهرها الله، بل هو عطية يمنحها ويوزّعها. ودعونا هنا نستخدم عبارة لا تُنسى قالها جون ستوت، بأن التبرير هو “وسيلة الله البارة لتبرير غير الأبرار”.[13]

فإنه إن صُرّح لنا أننا نتبرر بناء على عطية، فلابد وأن مصدر تبريرنا إذن هو نعمة الله. إذ النعمة هي: عطيّة مجانيّة من الله لخطاة غير مستحقين على الإطلاق. هذه هي عطيّة البر التي كانت في ذهن بولس حين شهد لأهل فيلبي عن رغبته في أن “يوجد فيهِ، وَلَيْسَ لِي بِرِّي الَّذِي مِنَ النَّامُوسِ، بَلِ الَّذِي بِإِيمَانِ الْمَسِيحِ، الْبِرُّ الَّذِي مِنَ اللهِ بِالإِيمَانِ” (فيلبي ٣: ٩؛ قارن عبرانيين ١١: ٧).

هذا هو أيضًا ما قصده مارتن لوثر حين تحدّث عن “بر دخيل”. فبما أنه لا يوجد فينا بر، فإننا لا يمكن أن نتبرّر سوى من خلال بر يأتي من خارجنا. هذا البر هو بر الله الشخصيّ، الذي يهبه لنا بالإيمان بيسوع المسيح.

أساس التبرير: حياة يسوع الكاملة وموته كذبيحة

على أي أساس قانونيّ يهب الله عطيّة برّه؟ يعلّمنا الكتاب المقدس بأن الله “يُبَرِّرُ الْفَاجِرَ” (رومية ٤: ٥). لكن إن كنّا بالفعل فجّارًا، فكيف يمكن أن يصرّح الله بكوننا شيئًا على خلاف حقيقتنا؟ وكيف له أن يبرّر الفاجر دون أن يُعتبَر هو نفسه فاجرًا؟ فمن الجور أن يتغاضى إله بار عن خطيّة أو يلتمس لها عذرًا. وهكذا، فإن كان الله ينوي تبرير الخطاة، فلابد أن يكون لديه أساس شرعيّ قضائيّ لهذا. كما كتب جون ستوت: “ليس التبرير كلمة مرادفة للعفو العام”،

الذي هو في حقيقة الأمر عفو دون أساس قانونيّ، أي هو غفران يتغاضى — بل وينسى — الفعل الخاطئ ويرفض تقديمه للعدالة. لا، بل التبرير هو فعل عدل، عدل منعِم… فحين يبرّر الله الخطاة، فهو لا يصرّح بصلاح أشخاص أشرار، ولا يقول إنهم ليسوا خطاة على أية حال. بل هو يصرّح بكونهم أبرارًا قانونيًا، خالين من أي مسئوليّة قانونيّة تجاه القانون المكسور، لأنه هو نفسه في ابنه قد حمل العقوبة الواجبة عن كسرهم لهذا القانون.[14]

كيف إذن يحافظ الله على برّه بينما في الوقت ذاته يبرّر الفاجر؟ الإجابة على هذه المُعضلة اللاهوتيّة هي أن الله يبرّر الخطاة بناءً على حياة يسوع المسيح الكاملة وموته كذبيحة. فأن نقول إن يسوع عاش حياة كاملة فهذا يعني أنه حفظ ناموس الله كاملاً، دون أن يقترف تعديًا واحدًا صغيرًا على الإطلاق. كما هو مكتوب في التصريح العقائديّ لهيئة ائتلاف الإنجيل عن “فداء المسيح”: “هو أطاع أباه السماويّ طاعة كاملة”. وهذا تماشيًا مع كلمة الله التي تقول: “الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً” (١ بطرس ٢: ٢٢). فقد عاش يسوع الحياة البارّة التي يطالب بها الله.

علاوة على ذلك، حين نقبل يسوع بالإيمان، يُحسَب لنا بره، وكأننا نحن أنفسنا قد عشنا تلك الحياة البارّة التي يطالب بها الله. ونقتبس في هذا أيضًا من إقرار إيمان هيئة ائتلاف الإنجيل: “لقد أوفى [يسوع] من خلال طاعته الكاملة مطالب بر الله عنّا، إذ تُحسَب هذه الطاعة الكاملة بالإيمان وحده لجميع من يتّكلون على المسيح وحده لأجل قبول الله لهم”.

وبفضل حياة يسوع الكاملة هذه، حين مات على الصليب، قدم ذبيحة كاملة عن خطايانا. وهذا أيضًا يعد جزءًا من أساس تبريرنا: فإننا “مُتَبَرِّرِينَ مَجَّانًا بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ” (رومية ٣: ٢٤-٢٥). فمن خلال دم يسوع أي حياته، كفل تبريرنا. كما يستكمل بولس حديثه في رومية ٥: ٩ قائلاً: “نَحْنُ مُتَبَرِّرُونَ الآنَ بِدَمِهِ”. فلا تبرير بدون صلب. وهكذا فإن الإنجيل يرسّخ أساس عطيّة البر الخلاصيّ في الموت الأليم ليسوع المسيح. كما كتب جون ستوت:

إن عمل الله الخلاصيّ قد تحقّق من خلال سفك الدم، أي من خلال ذبيحة المسيح البدليّة… فكان موت يسوع هو الذبيحة الكفاريّة التي بسببها حوّل الله غضبه عنّا، والفدية التي بها افتدينا، وإدانة البرئ كيما يتبرّر المذنب، وجَعْل مَن لم يعرف خطيّة خطيّة لأجلنا.[15]

تناولنا فيما سبق الاختبار الصادم الذي مر به دون سمارتو حين اكتشف أن تحت ثياب برّه الخارجيّة الفاخرة يوجد هيكل عظمي من الخطية. لكن لنا في هذه القصة بقيّة. فحين عاد سمارتو إلى ديره في تلك الليلة، خاض صراعًا كي يبرّر نفسه أمام الله. فظل يحاول أن يخبر نفسه بأنه صالح بما يكفي لله. وإذ خرج للتجوّل في حقول الذرة المحيطة بالمكان في ضوء القمر، سرعان ما غطّت القمر غيوم، وتحوّلت الليلة إلى ظلام حالك. وفيما كان سمارتو يتعثّر في الظلام، وكان قلبه يخفق بشدة، صرخ إلى الله قائلاً: “أخبرني بأني أفعل الصواب. أخبرني بأن كل ما أفعله يرضيك. تحدّث إليَّ بوضوح!”

وحين كاد يسقط في اليأس التام، سمع سمارتو صوت همهمة غريبة فمشى صوبها. ومد يده في الظلام فلمس قطعة خشب صلبة. ولم يكن هذا سوى عمود أسلاك الهواتف. لكن حين نظر سمارتو إلى أعلى، بدأت الغيوم في الانقشاع شيئًا فشيئًا، واستطاع أن يرى العارضة التي تثبتت عليها أسلاك وخطوط الهواتف. وهناك ارتسم أمامه في ضوء القمر ظل على هيئة صليب. وهكذا كان دون سمارتو يقف عند أسفل الصليب، إن جاز القول، راجيًا من يسوع أن يخلّصه. وإليك ما كتبه سمارتو عن هذا اللقاء له مع يسوع ومع الصليب:

الآن صرت أعلم، صرت أعلم حقًا، أن المسيح قد مات عنّي. كانت هذه المعرفة مقترنة بالإعلان الأهم عن كوني خاطئًا، وكوني لست ذلك الشخص الصالح كما كنت أعتقد منذ لحظات. وفي الحال احتضنت عمود الهواتف وشرعت في البكاء. ربما بقيت محتضنًا تلك القطعة الخشبيّة لحوالي الساعة. إذ استطعت تخيّل يسوع مسمَّرًا إلى هذا العمود، والدم يقطر من جراحه. وشعرت وكأن الدم كان يسيل فوقي، مطهرًا إيّاي من خطاياي ومن عدم استحقاقي.[16]

ما حصل عليه دون سمارتو في هذا اللقاء الدراميّ هو في واقع الأمر ما يحصل عليه كل تائب عند الصليب: الذبيحة الدمويّة المطهرة التي تكفّر عن الخطايا وتبرر الخطاة أمام الله.

بر التبرير: احتساب ثلاثيّ

حين مات يسوع على الصليب، عُومل كمجرم مدان. فقد كان الرومان يدخرون عقوبة الصلب لأحط فئات البشر على الإطلاق — للخونة، والقتلة، والمخربين الأدنياء. لكن يسوع لم يكن خائنًا أو قاتلاً، بل في حقيقة الأمر، وكما رأينا، هو لم يعمل خطية واحدة (انظر عبرانيين ٤: ١٥). ومع ذلك فقد سمح الله بأن يُصلَب كي يرفع عنّا خطايانا. ولكي نستخدم اصطلاحًا تقنيًا، نقول إن الله احتسب خطايانا على المسيح. فأن تحتسب هو أن تضع شيئًا في حساب شخص ما، وهذه هي بالتحديد الكيفية التي بها صرنا خطاة في المقام الأول: فقد وضعت خطية آدم في حسابنا الشخصيّ (انظر رومية ٥: ١٢-١٩). ومن خلال احتساب خطية آدم علينا، حسبنا نحن أنفسنا خطاة.

ومما يبعث على الفرح هو أنه يوجد احتساب ثانٍ، وهو احتساب خطايانا على يسوع المسيح. فقد كان يسوع بارًا برًا كاملاً، ومع ذلك مات ميتة خاطئ. كيف لله أن يسمح بحدوث هذا؟ لابد أن الإجابة تتعلق بالاحتساب. فقد رفع الله خطايانا ووضعها في حساب المسيح، كما وعد تمامًا على فم عبده إشعياء: “وَعَبْدِي الْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا” (إشعياء ٥٣: ١١). وبمجرد احتساب خطايانا على المسيح على هذا النحو، أُدين وحُكم عليه بالموت، ليس لأجل خطاياه الشخصيّة، بل لأجل خطايانا نحن. لقد حُسب يسوع فوق الصليب فاجرًا. ونظرًا لأنه كان يحمل ذنب خطايانا، فقد أدان الله خطايانا في جسده (انظر رومية ٨: ٣)، كما هو مكتوب: “لأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ” (٢ كورنثوس ٥: ٢١). وأيضًا: “فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ الْخَطَايَا، الْبَارُّ مِنْ أَجْلِ الأَثَمَةِ” (١ بطرس ٣: ١٨).

إلا أن موت المسيح لم يكن نهاية القصة. بل يذكر الكتاب المقدس أيضًا احتسابًا ثالثًا: “لأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ” (٢ كورنثوس ٥: ٢١). فإن كان يلزم أن نتبرّر، فلا يكفي أن تُحتسب خطايانا على المسيح، بل لابد أيضًا أن يُحتسب برّه لنا. حينئذ، وحينئذ فقط، يمكن أن يُصرَّح ببرّنا. وهذا هو ما فعله الله تمامًا. وهكذا فقد وُهبنا برًا من الله، احتُسِبَ لنا بناء على حياة المسيح الكاملة وموته كذبيحة عنّا.

ربما يكون من المفيد هنا أن نميّز بين البر الإيجابيّ والبر السلبيّ. فقد أظهر يسوع برّه الإيجابيّ من خلال إتمامه لوصايا الناموس، وأظهر أيضًا برّه السلبيّ من خلال تسديده لعقوبة الخطية. فقد أطاع المسيح ناموس الله عنّا (بر إيجابيّ)، وقاسى أيضًا عقوبة عصياننا (بر سلبيّ).

ويعد البر الإيجابيّ والبر السلبيّ جانبين مختلفين لبر يسوع المسيح الواحد الكامل والتام، فكلاهما لازمان للتبرير الكامل. فكي يصدر حكم “غير مذنب” بشأننا، يلزم أن نحصل على بر المسيح السلبيّ من خلال موته الكفاريّ. أما كي نُحسَب أبرارًا بصورة إيجابيّة، فإننا نحتاج أيضًا أن يُوضَع بر المسيح الإيجابيّ في حسابنا الشخصيّ. وبالتالي، ليس موته الكفاريّ وحده هو الذي يخلصنا، بل أيضًا حياة طاعته.

لا يعد احتساب البر هذا “حيلة قانونيّة” [المترجم: هذا المصطلح يعني افتراض أمر مخالف للواقع يترتب عليه تغيير حكم القانون دون تغيير نصه، أو الاستناد إلى واقعة كاذبة حتى ينطبق حكم القانون على حالة لم يكن ينطبق عليها من قبل]، كما زعم البعض، بل هو حقيقة قانونيّة مُؤسّسة على صلتنا الروحيّة الحقيقيّة بيسوع المسيح. فإن التبرير، مثله مثل أي فائدة أخرى من فوائد الخلاص، ينبع من اتحادنا بالمسيح. فإن يسوع هو برّنا (١ كورنثوس ١: ٣٠)، ولهذا ففي اشتراكنا فيه نُحسَب نحن أبرارًا. كما قال كالفن: “بما أن المسيح قد صار لنا، فهو يجعلنا شركاء معه في الهبات التي أُغدقت عليه. ولذلك فإننا لسنا نتطلّع إليه خارج أنفسنا من مبعدة حتى يُحتَسَب برّه لنا، بل نحن نلبس المسيح، كما أننا مغروسون في جسده — وباختصار، هو يتنازل ليجعلنا واحدًا معه. ولهذا السبب نفتخر، لأن لنا شركة بر معه”.[17]

وهكذا يعتمد الخلاص على عمليّة احتساب ثلاثية: أولاً، بسقوط آدم، احتُسبت الخطية على الجنس البشريّ؛ وثانيًا، بالتوبة، تُحتسب خطية المؤمن على المسيح؛ وثالثًا، بالإيمان، يُحتسب بر المسيح إلى الخاطئ المؤمن. ويوجز بولس كل هذا في رومية 5، حيث كتب:

فَإِذًا كَمَا بِخَطِيَّةٍ وَاحِدَةٍ صَارَ الْحُكْمُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ لِلدَّيْنُونَةِ، هكَذَا بِبِرّ وَاحِدٍ صَارَتِ الْهِبَةُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، لِتَبْرِيرِ الْحَيَاةِ. لأَنَّهُ كَمَا بِمَعْصِيَةِ الإِنْسَانِ الْوَاحِدِ جُعِلَ الْكَثِيرُونَ خُطَاةً، هكَذَا أَيْضًا بِإِطَاعَةِ الْوَاحِدِ سَيُجْعَلُ الْكَثِيرُونَ أَبْرَارًا. (رومية ٥: ١٨-١٩)

فإن عمليّة احتساب البر الذي يبرر يستعيد البر الذي فقدته البشريّة بالخطيّة الأصليّة. ومن الرائع أن نقول إن هذا البر يتم استرجاعه دون اقتراف أي جور في حق بر الله الشخصيّ. فقد تعامل الله في عدل مع خطايانا بإنزال العقوبة عليها في شخص المسيح المصلوب. كما أنه تعامل في عدل معنا بالتصريح بأننا أبرار في المسيح. وقد حقّق الله عمل التبرير هذا بالصليب “لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي الزَّمَانِ الْحَاضِرِ، لِيَكُونَ بَارًّا وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ الإِيمَانِ بِيَسُوعَ” (رومية ٣: ٢٦).

وهكذا فإن تبرير الخطاة يعد أيضًا تبريرًا أو تبرئة لله. ففي التبرير، يبرهن الله على عدله من خلال التعامل بعدل وبرحمة أيضًا مع الخطاة من خلال الصليب. فقد أُبرمت صفقة: إذ احتسبت خطايانا على المسيح، فأُدين هو، واحتُسب برّه لنا، فتبرّرنا نحن.

وسيلة التبرير: الإيمان بالمسيح

لقد قمنا سابقًا بتعريف التبرير. والآن وصلنا إلى مرحلة يمكننا فيها إثراء فهمنا قليلاً بالمزيد من التأمل اللاهوتيّ:

التبرير يعني تغييرًا دائمًا في موقفنا القضائيّ مع الله، وبه نُعفى من تهمة الإدانة، وبواسطته أيضًا يغفر الله جميع خطايانا بناء على عمل يسوع المسيح المكتمل. فإن موقفنا القضائيّ مع الله بدون المسيح هو موقف إدانة، فإننا نقف مُدانين بسبب خطايانا، كل من الخطيّة الأصليّة والخطايا الفعليّة. وحين نتبرّر، يتغيّر هذا الموقف القضائيّ مع الله من الإدانة إلى التبرئة.[18]

يقدم لنا دليل أسئلة وأجوبة ويستمنستر المُوجَز تعريفًا أكثر اختصارًا: “يعد التبرير عملاً لنعمة الله المجانيّة، حيث من خلاله يصفح الله عن جميع خطايانا، ويقبلنا أبرارًا في نظره، فقط لأجل بر المسيح الذي احُتسب لنا، والذي نلناه بالإيمان وحده” (الإجابة رقم ٣٣).

تعد العبارة الأخيرة في هذا التعريف عبارة أساسيّة وجوهريّة لأنها تعرّف الإيمان بكونه الأداة الوحيدة للتبرير. فقد جاءت كلمة الإيمان ست مرات على الأقل في رومية 3: “بِرُّ اللهِ بِالإِيمَانِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ إِلَى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ” (رومية ٣: ٢٢). “الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ” (رومية ٣: ٢٥). وفي عدد ٢٦ يوصف الله بأنه “َيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ الإِيمَانِ بِيَسُوعَ”. وفي عدد ٢٧ يقتصر الافتخار على مبدأ الإيمان وحده: “إِذًا نَحْسِبُ أَنَّ الإِنْسَانَ يَتَبَرَّرُ بِالإِيمَانِ بِدُونِ أَعْمَالِ النَّامُوسِ” (رومية ٣: ٢٨؛ قارن ٥: ١). وهكذا، فإن ما يسلّط هذا النص الضوء عليه مرة تلو الأخرى هو شيء جوهريّ في رسالة الإنجيل: أننا نتبرر بالإيمان.

أحيانًا يتساءل الناس عمّا ينبغي أن يعملوا ليبرّروا أنفسهم أمام الله. والإجابة هي أنه لا يوجد ما يمكننا أن نفعله سوى أن نؤمن. وهذا هو وجه الاختلاف بين المسيحيّة وأيّة ديانة أخرى، بل وأيّة محاولة بشريّة للبلوغ إلى البر. ومن بين جميع أوجه الاختلاف، يعد هذا الاختلاف في الأساس هو الاختلاف الذي يصعب على غير المؤمنين فهمه تمامًا: ألا يوجد ما يمكننا فعله كي نجعل من أنفسنا صالحين بما يكفي لله؟

ونجد مثالاً صارخًا على ثقة البشريّة التي في غير محلّها في الأعمال لأجل التبرير في النقش الذي كُتب على ضريح قبر يعود للقرن الأول:

هنا ترقد ريجينا… وهي ستحيا ثانية، وترجع إلى النور، إذ تستطيع أن ترجو في يقين حقيقيّ أن تقوم للحياة التي وُعد بها المستحقون والأتقياء. إذ أنها استحقّت أن تمتلك منزلاً في الأرض المقدسة. فإن يقينك مصدره تقواك، وطهارة حياتك، ومحبتك للآخرين، وحفظك للناموس، وإخلاصك في زواجك الذي كان ثمينًا بالنسبة لك. ولأجل هذه الأعمال جميعها، فإن رجاءك في المستقبل يصير مكفولاً لك.[19]

هذا النقش عن ريجينا هو مثال نموذجيّ خاصة بالنسبة للمتديّنين. فهو يفترض أن أعمال البر هي أفضل ضمان، بل وهي الضمان الوحيد لوصول شخص ما إلى السماء. ومع ذلك، فإن أي شخص يأمل في نوال قبول من الله بحفظه للناموس قد سقط في ناموسيّة مدمّرة للنفس. وقد أثار مارتن لوثر هذه الفكرة بأسلوبه الاستفزازي المعتاد حين قال إن اعتقادنا بأننا يمكن أن نستحق النعمة بأعمالنا هو حقًا طريقة “لمحاولة استرضاء الله بالخطايا”.[20]

وحين أوضح يسوع لتلاميذه الوسيلة الصحيحة للتبرير، كان حريصًا على التمييز بين الإيمان والطاعة. فقد سأله التلاميذ: “مَاذَا نَفْعَلُ حَتَّى نَعْمَلَ أَعْمَالَ اللهِ؟”، فأجابهم يسوع: “هذَا هُوَ عَمَلُ اللهِ: أَنْ تُؤْمِنُوا بِالَّذِي هُوَ أَرْسَلَهُ” (يوحنا ٦: ٢٨-٢٩). وطرح سجّان فيلبي السؤال نفسه على الرسول بولس: “مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ أَفْعَلَ لِكَيْ أَخْلُصَ؟”، فأجابه بولس الإجابة ذاتها التي أجاب بها يسوع: “آمِنْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ” (أعمال الرسل ١٦: ٣٠-٣١). بكلمات أخرى، لا يوجد ما يمكننا أن نفعله كي نبرّر أنفسنا أمام الله. بل البر الوحيد المقبول لديه يأتي “بِدُونِ النَّامُوسِ” (رومية ٣: ٢١).

وهكذا الشيء الوحيد الذي يمكننا فعله هو أن نؤمن بيسوع المسيح لأجل خلاصنا. فإن وضعنا ثقتنا فيه وفي عمله التبريري على الصليب، فحينئذ سيصدر الله حكمًا بأننا أبرار. فإننا مقبولون لدى الله، ليس بحفظنا لناموسه، بل بثقتنا في الإنسان الوحيد الذي حفظه على الإطلاق — أي يسوع المسيح.

ونجد مثالاً رائعًا يصوّر الفارق بين التبرير بالأعمال والتبرير بالإيمان في اختبار اهتداء مارتن لوثر. ففي الأيام التي كان لا يزال فيها هذا اللاهوتيّ الشهير راهبًا، استهوته بشكل كبير آية من سفر حبقوق النبي، اقتبسها الرسول بولس في رسالته إلى أهل غلاطية، وهي: “الْبَارَّ بِالإِيمَانِ يَحْيَا” (غلاطية ٣: ١١؛ قارن حبقوق ٢: ٤).

وقد اصطدم لوثر بهذه الآية حين كان في دير ارفرت، بالرغم من عدم تأكده في البداية من معناها. ثم لاحقًا اجتاز في فترة مظلمة من المرض والاكتئاب، وفي أثنائها تصوّر أنه ماكث تحت غضب الله. وحين كان لوثر يرقد في سريره في إيطاليا، خاشيًا من أنه كان يقترب من الموت، وجد نفسه يكرر هذه الكلمات مرة تلو الأخرى: “البار بالإيمان يحيا. البار بالإيمان يحيا”.

وحمدًا للرب، تعافى لوثر. وبعد ذلك بفترة وجيزة، ذهب إلى روما، حيث زار كنيسة القديس يوحنا اللاتراني. وكان البابا قد وعد بمنح صك غفران للخطايا لأي سائح يتسلّق درج الكنيسة، الذي كان يزعم أنه جاء من دار ولاية بيلاطس البنطي. وبما أن السائحين كانوا يصدّقون أن هذا الدرج كان مصبوغًا بدم المسيح نفسه، فقد كانوا يصعدون الدرج منطرحين على ركبهم، متوقفين بين الحين والآخر للصلاة وتقبيل الدرج المقدس.

وتستكمل قصة لوثر على لسان ابنه (من مخطوطة محفوظة في مكتبة مدينة رودولستادت): “وفيما كان يتلو صلواته فوق درج الكنيسة اللاترانيّة، قفزت كلمات حبقوق النبي على نحو فجائي إلى ذهنه: “البار بالإيمان يحيا”. وعند ذلك، توقف عن الصلاة ورجع إلى ويتنبرج، واتخذ هذا العدد أساسًا لكل عقيدته”. ولم يعد لوثر بعد هذا يؤمن بأن هناك ما في وسعه أن يفعله لاسترضاء الله، وابتدأ بدلاً من هذا يحيا بالإيمان بابن الله. ثم بعد وقت لاحق، قال الآتي:

قبل أن تضيء هذه الكلمات ذهني، كنت أبغض الله، وكنت في خصومة معه… لكن حين أدركت بروح الله هذه الكلمات: “البار بالإيمان يحيا!” “البار بالإيمان يحيا!”، حينئذ شعرت بأني ولدت ثانية وصرت إنسانًا جديدًا، فقد دخلت من الأبواب المفتوحة إلى فردوس الله عينه.[21]

حين يقول الكتاب المقدس إننا قد تبرّرنا “بالإيمان” أو “بواسطة الإيمان”، فهو بهذا يؤكد على أن الإيمان هو أداة تبريرنا، أي هو القناة التي من خلالها ننال بر يسوع المسيح. وبحسب كلمات جي. آي. باكر، فإن الإيمان هو “اليد الفارغة الممدودة التي تنال البر بنوالها المسيح”.[22] وبالمثل أيضًا، عرّف جي. سي. رايل الإيمان الحقيقيّ بأنه:

الإمساك بيد مخلّص، والاستناد على ذراع زوج، وتناول دواء طبيب. فهو [الإيمان] لا يصطحب معه للمسيح سوى نفسًا خاطئة. ولا يقدّم شيئًا، أو يساهم بشيء، أو يسدّد ثمن شيء، أو يفعل أيّ شيء. بل فقط يأخذ، وينال، ويقبل، ويمسك، ويغتنم عطية التبرير المجيدة التي يغدقها المسيح عليه.[23]

هذا يعني إذًا بكل تأكيد أن الإيمان نفسه (أو حتى عقيدة التبرير بالإيمان) ليس هو ما يخلّصنا. بل المسيح هو من يخلّصنا، مع كون الإيمان وسيلة من خلالها نمتلك المسيح. كما قال كالفن: “مَن يتبرّر بالإيمان هو مَن، إذ أُقصي من بر الأعمال، يحكم قبضته على بر المسيح بواسطة الإيمان، وإذ يلبس هذا البر، يظهر أمام الله ليس كخاطئ بل كإنسان بار.[24]

بالرغم من أن رومية 3 لا يقول إن التبرير هو “بالإيمان وحده” (على الأقل بكلمات صريحة)، إلا أن هذا ما يلمّح إليه النص ضمنيًا، وخاصة في ختامه: “فَأَيْنَ الافْتِخَارُ؟ قَدِ انْتَفَى. بِأَيِّ نَامُوسٍ؟ أَبِنَامُوسِ الأَعْمَالِ؟ كَلاَّ. بَلْ بِنَامُوسِ الإِيمَانِ. إِذًا نَحْسِبُ أَنَّ الإِنْسَانَ يَتَبَرَّرُ بِالإِيمَانِ بِدُونِ أَعْمَالِ النَّامُوسِ” (رومية ٣: ٢٧-٢٨؛ قارن غلاطية ٢: ١٦).

فإن كنا نتبرّر بالأعمال، أو حتى بالإيمان والأعمال معًا، فإن الخلاص حينئذ يصبح شيئًا يمكننا الافتخار به (انظر أفسس ٢: ٩). ولكننا رأينا بالفعل أن لا أحد على الإطلاق سيتمكّن من الافتخار بوصوله إلى السماء بناء على استحقاقاته. فإننا نتبرّر بناء على حياة يسوع المسيح الكاملة، وموته كذبيحة، ولا يوجد ما يلزم فعله أكثر من هذا سوى أن نؤمن. ونقتبس الآتي من إقرار إيمان هيئة ائتلاف الإنجيل: “نؤمن بأن الله يبرّر ويقدّس من يؤمنون بيسوع بالنعمة”.

غاية التبرير: أعمال صالحة لمجد الله

يعتقد البعض أن الرسول يعقوب ناقض عقيدة التبرير بالإيمان وحده. فإنه يؤكد على أيّة حال على أن “بِالأَعْمَالِ يَتَبَرَّرُ الإِنْسَانُ، لاَ بِالإِيمَانِ وَحْدَهُ” (يعقوب ٢: ٢٤). لكن ما يقوله يعقوب حقًا هو شيء من هذا القبيل: “إن ما يُبرهن على أن شخصًا ما قد تبرّر هو أعماله وليس إيمانه فحسب”. فعلى خلاف بولس الذي كان في حاجة إلى مقاومة الفكرة الشائعة بأن الخطاة يمكنهم أن يخلصوا بالأعمال الصالحة، كان يعقوب يحارب الفهم المغلوط بأن المؤمنين بإمكانهم الاستغناء تمامًا عن الأعمال. ولكي نوضّح الفرق بينهما بمفردات لاهوتيّة، نقول إن بولس كان يتعامل مع أناس أرادوا جعل التقديس جزءًا من أساس تبريرهم، بينما كان يعقوب يتعامل مع أناس أرادوا أن يتبرّروا دون أن يتقدّسوا!

بالنسبة ليعقوب وبولس على حد سواء، كانت كلمة “يبرّر” تعني “التصريح ببر”. لكن الفارق هو أنه في حالة بولس الله هو من يصرّح ببر المؤمن، بينما في حالة يعقوب الأعمال هي التي تصرّح ببره بأن تبرهن على حقيقة وأصالة إيمانه. وبكل تأكيد كان كلا الرسولين سيتّفقان مع كلمات كالفن بأن “الإيمان وحده هو الذي يبرّر، ومع ذلك فإن هذا الإيمان الذي يبرّر لا يثبت وحده”.[25] فإن الإيمان والأعمال معًا لا ينتجان التبرير (الإيمان + الأعمال << التبرير)، لكن الإيمان يبرّر فينتج الأعمال الصالحة (الإيمان << التبرير + الأعمال).

ولكي نعبّر عن هذا بطريقة أخرى نقول إن الإيمان الذي وحده يبرّر هو إيمان عامل. وهذا يفسّر سبب اختتام هيئة ائتلاف الإنجيل لتصريحها عن التبرير بهذه الكلمات: “نؤمن بأن غيرة وحماسًا من نحو الطاعة الشخصيّة والعامة تنبع من هذا التبرير المجاني”. فإن عقيدة التبرير الكتابيّة الصحيحة ليست على النقيض من الأعمال الصالحة بل في حقيقة الأمر هي تنتجها. فإن تبريرنا متصل بصورة حيويّة بتقديسنا.

فمن جهة التبرير، يعد عمل المسيح وأعمالنا على طرفي النقيض. كما يقول بولس في رسالة غلاطية: “الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ، بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ” (غلاطية ٢: ١٦). وهكذا فإن التبرير يأتي بالإيمان وليس بالأعمال: “وَأَمَّا الَّذِي لاَ يَعْمَلُ، وَلكِنْ يُؤْمِنُ بِالَّذِي يُبَرِّرُ الْفَاجِرَ، فَإِيمَانُهُ يُحْسَبُ لَهُ بِرًّا” (رومية ٤: ٥). فمن جهة التبرير، يضع الكتاب المقدس الإيمان والأعمال في طرفي النقيض. فإن كان التبرير بالإيمان، إذن فهو ليس بالأعمال. ومع إقصاء الكتاب المقدس للأعمال بهذا الشكل، فهو يقول فعليًا إن التبرير هو بالإيمان وحده. وإن لم يكن التبرير بالأعمال، فلابد وأنه إذن بالإيمان وحده.

وهناك سبب هام لعمل هذه المقابلة بين الإيمان والأعمال، وهو سبب يساعدنا على فهم وإدراك غاية تبريرنا في خطة الله. فإن كان التبرير يأتي بالإيمان وحده، فحينئذ تكفل وسيلة التبرير الكتابيّة أن يعود كل المجد إلى الله وحده. فإن كنّا نتبرّر بعمل يسوع الخلاصي وليس بعملنا نحن، فحينئذ كل التسبيح والحمد لأجل خلاصنا يُوجَّه إلى الله وليس إلينا. وهكذا فإن غاية التبرير — كأي جانب آخر من جوانب الإنجيل — هي مجد الله.

المستفيدون من التبرير: بشر مثلنا

أحد أروع التأكيدات على عقيدة التبرير الكتابيّة على الإطلاق نجدها في دليل أسئلة وأجوبة هيدلبرج، الذي جاء به هذا السؤال: “كيف تكون بارًا أمام الله؟ (السؤال رقم ٦٠). والإجابة هي كما يلي:

فقط بالإيمان الحقيقي بيسوع المسيح. فبالرغم من واقع شكاية ضميري عليَّ بأني قد أخطأت بشكل مؤسف ضد جميع وصايا الله، ولم أحفظ أيًّا منها، وبأني لازلت ميّالاً تجاه كل ما هو شرير، إلا أن الله مع ذلك، ودون أي استحقاق في ذاتي، بدافع نعمة خالصة، يهبني فوائد ومزايا كفارة المسيح الكاملة، مُحتسبًا لي برّه وقداسته وكأنّي لم أرتكب قط خطيّة واحدة، أو لم أكن يومًا خاطئًا، وكأنّي أنا نفسي قد أتممت كل الطاعة التي أتمّها المسيح عنّي، وهذا فقط إن قبلت مثل هذا الإحسان بقلب مؤمن.

لاحظ أن هذا الدليل يتحدّث عن التبرير بضمير المتكلم. وهذا يوجّهنا إلى حقيقة هامة: إن كان التبرير هو بالإيمان، فإننا لابد أن نؤمن نحن أنفسنا بيسوع المسيح — إيمانًا شخصيًا وفرديًا — كي نتبرّر. فإن التبرير لا يقتصر على كونه مبدأ عامًا يختص بوسيلة الخلاص، بل هو دعوة للقيام بتعهّد إيمان شخصي أمام المسيح، إذ بدون المسيح مصيرنا الدينونة. بل ويحذّرنا الكتاب المقدس بأن “الَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ [بالفعل]، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاسْمِ ابْنِ اللهِ الْوَحِيدِ” (يوحنا ٣: ١٨). ومع ذلك يعدنا العدد نفسه بأن “اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ”. فإن أردنا إذن أن نتبرّر ولا ندان، فلابد لنا أن نؤمن بيسوع المسيح.

أما بالنسبة لمن يؤمنون بالفعل، فإن حكم الله النهائي — “بار إلى الأبد” — قد صار بالفعل حقيقة اختباريّة حياتيّة. فإن كلمة الله تقول: “فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ” (رومية ٥: ١). فقد تم الفصل بالفعل في موقفنا القانوني، ولا يمكن أن نصير يومًا غير مبررين. إذ قد صرنا الآن وإلى الأبد مقبولين لدى الله، لمجد الله. وسيؤكد يوم الدينونة ما قد أعلنه الله بالفعل: “لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ” (رومية ٨: ١).

ومن الرجال الذين اختبروا فرحة الإيمان الذي يبرّر كان الشاعر ويليام كوبر. فقد عانى كوبر طويلاً من مرض الاكتئاب، ومكث لبعض الوقت في مشفى للأمراض العقليّة حيث كان الوضع مروعًا وبغيضًا. وعلى الرغم من كل عذابه الجسدي والنفسي، إلا أن أشد آلامه قسوة كانت آلامه الروحيّة، إذ كان يحسب نفسه خاطئًا مدانًا. لكن جاء اليوم الذي فيه وجد كوبر علاجه القانوني في رسالة التبرير بالإيمان الخلاصيّة. وفيما يلي القصة التي رواها بنفسه:

لقد حل الآن زمن البهجة الذي كان من شأنه أن يسقط أغلالي ويفتح أمامي بابًا واسعًا إلى رحمة الله المجانيّة في المسيح يسوع. في ذلك اليوم طرحت نفسي على كرسي بجوار النافذة، وحين رأيت كتابًا مقدسًا هناك، غامرت مرة أخرى باللجوء إليه لأحصل على تعزية وإرشاد. وكانت الأعداد الأولى التي وقع نظري عليها هي في الإصحاح الثالث من رسالة رومية: “مُتَبَرِّرِينَ مَجَّانًا بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ”. وفي الحال حلّت عليَّ قوة كي أؤمن، فسطعت أشعة شمس البر كاملة عليَّ. ورأيت كفاية الكفارة التي صنعها، والصفح عني في دمه، ورأيت ملء وكمال تبريره. وفي لحظة آمنت وقبلت الإنجيل.[26]

إن عطية البر هذه متاحة لكل من يؤمن ويقبل الإنجيل. فإن الله، بنعمته المجانيّة، يقدّم تبريرًا كاملاً وتامًا على أساس عمل يسوع المسيح الكفاري. وكل من له إيمان بيسوع المسيح سيتبرّر إلى الأبد أمام منصة عدل الله الأبدي.

للمزيد من الاطلاع:

Buchanan, James. The Doctrine of Justification. Reprint, Grand Rapids, MI: Baker, 1955.

Carson, D. A., ed. Right with God: Justification in the Bible and the World. Exeter: Paternoster, Grand Rapids, MI: Baker, 1992.

Piper, John. The Future of Justification: A Response to N. T. Wright. Wheaton. IL: Crossway, 2007.

Sproul, R. C. Faith Alone: The Evangelical Doctrine of Justification. Grand Rapids, MI: Baker, 1995.

Vickers, Brian. Jesus’ Blood and Righteousness: Paul’s Theology of Imputation. Wheaton, IL: Crossway, 2006.

[1] Donald Smarto, Pursued: A True Story of Crime, Faith, and Family (Downers Grove, IL: InterVarsity, 1990), 105.

[2] Ibid., 105–6.

[3] Ibid., 119–20.

[4] James Buchanan, The Doctrine of Justification (1867; repr., Grand Rapids, MI: Baker, 1955), 222.

[5] Leon Morris, The Apostolic Preaching of the Cross, 3rd ed. (Grand Rapids, MI: Eerdmans, 1965), 151.

[6] John Calvin, Institutes of the Christian Religion, Library of Christian Classics 20-21, ed. John T. Mcneill; trans. Ford Lewis Battles (Philadelphia: Westminster, 1960), 3.11.1.

[7] Thomas Cranmer, “Sermon on Salvation,” in First Book of Homilies (1547; repr. London: SPCK, 1914), 25–26.

[8] Martin Luther, What Luther Says: A Practical In-Home Anthology for the Active Christian, ed. Ewald M. Plass (St. Louis, MO: Concordia, 1959), 705, 715.

[9] Ibid., 704.

[10] Morris, Apostolic Preaching of the Cross, 260.

[11] Thomas Cranmer, quoted in Edmund P. Clowney, “The Biblical Doctrine of Justification by Faith,” in Right with God: Justification in the Bible and the World, ed. D. A. Carson (Exeter: Paternoster, 1992), 17.

[12] Thomas Chalmers, quoted in Donald Grey Bamhouse, The Invisible War (Grand Rapids, MI: Zondervan, 1965), 116.

[13] John R. W. Stott, The Cross of Christ (Downers Grove, IL: InterVarsity, 1986), 190.

[14] Ibid., 190.

[15] Ibid., 202.

[16] Smarto, Pursued, 122.

[17] Calvin, Institutes, 3.11.10.

[18] Anthony A. Hoekema, Saved by Grace (Grand Rapids, MI: Eerdmans, 1989), 178.

[19] Pieter W. Van Der Horst, “Jewish Funerary Inscriptions,” Biblical Archaeology Review 18:5 (1992): 55.

[20] Martin Luther, Lectures on Galatians, Luther’s Works, ed. And trans. Jaroslav Pelikan (St. Louis, MO: Concordia, 1963), 26:126.

[21] Martin Luther, quoted in James Montgomery Boice, The Minor Prophets: An Expositional Commentary, 2 vols. (Grand Rapids, MI: Kregel, 1996), 2: 91–92.

[22] “Justification,” in Evangelical Dictionary of Theology, 2nd ed., ed. Walter A. Elwell (Grand Rapids, MI: Baker, 2001), 646.

[23] J. C. Ryle, Justified!, Home Truths, Second Series (London: S. W. Partridge, 1854–71), 12.

[24] Calvin, Institutes, 3.11.2.

[25] John Calvin, “Antidote to the Canons of the Council of Trent,” in Tracts and Treatises in Defence of the Reformed Faith, trans. Henry Beveridge (1851; repr., Grand Rapids, MI: Eerdmans, 1958), 3:152.

[26] William Cowper, quoted in James Montgomery Boice, Romans, 4 vols. (Grand Rapids, MI: Baker, 1991), 1:372.

شارك مع أصدقائك